كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مرايا السرد المتعددة في «حفرة إلى السماء» لعبدالله آل عياف
يقوم استقراء البنية الدلالية في رواية «حفرة إلى السماء»- (دار رشم السعودية ومسكلياني تونس)، للكاتب السعودي عبدالله آل عياف- على تحليل المعنى الذي يطرحه المضمون الحكائي وتعيين التناظرات والتعارضات المتعددة التي يقدمها في معانيه المحورية؛ حيث هناك محور جوهري ترتكز إليه بنية الرواية ككل، يؤدي فيه المكان دورًا رئيسًا، إنه قرية (مجهرة)، حيث تجتمع الأضداد والمفارقات عبر شخصيات أهلها. يصفها أحد شخوص الرواية قائلًا: «لكل قرية مجنونها إلا مجهرة، كلها مجانين». فهل ينطبق هذا الوصف حقًّا على أهالي مجهرة؟
تبدو القصص والأساطير ساكنة في تلك القرية، كما تسكن عادةً الحكايات السحرية في القرى البعيدة من المدن، تلك الموصولة مع العالم الخارجي بجماعة من الرائحين والغادين إليها، حاملين الحكايا عما وراء البحر والنهر والمدن البعيدة التي تسكنها النساء الفاتنات. وبدا غياب التمثيل الكياني المضاد لمدينة بعينها في مقابل مجهرة، أن جعل الصراع الدائر يتكثف في النص مكانيًّا داخل القرية، وبين أهلها، فبين الأزقة، والأبواب، مع الأصوات والروائح تختبئ الحكايات، وكأن الأفراح والأتراح في مجهرة لا تعدو إلا أن تكون دخانًا ممتدًّا يمزج بين الحقيقة والسراب.
بنية النص الروائي، مضمونًا
اختار الكاتب أن يفتتح روايته، التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» 2021م، مع لعبة سردية مشوقة. تبدأ الرواية مع الفصل الأول «مغادرة ووصول» بجملة: «أمام رجال مجهرة، وآخرين قدموا من القرى المجاورة، كان على تيماء أن تختار: إما أن تتعرى هي أو أن يتعرى والدها الشيخ الكبير». يتابع القارئ تيماء، التي تحمل صفات نفسية تختلف عن سائر نساء البلدة، «تنظر إلى السماء دائمًا»، ولا تنكسر أمام أحد، ويظل السؤال حاضرًا: ما الذي أجبرها على التعري؟ مشهد غامض لا يتكشف مغزاه كله إلا عند وصول القارئ للصفحة «120»؛ إذ تعتمد الرواية على التقطيع السردي ضمن الفصل الواحد، إلى جانب لعبة المرايا المستخدمة مع الشخصيات كلها، فتعكس كل شخصية حكايتها وحكايات أخرى تتقاطع معها كاشفة رؤيتها للمكان والزمان والشخوص.
يتجلى التناقض المبثوث منذ الصفحة الأولى في ثنائية الولادة والموت، وفي توظيف هذه الثنائية بتحولها إلى عملة واحدة بوجهين. موت الجد سالم ودفنه، وولادة حفيده غيث في مقبرته، يمثلان الحدث الأكثر عمقًا ومحورية في النص؛ لأننا سوف نجد له انعكاسات أخرى في حياة الأبطال جميعهم في علائقهم المختلفة مع الواقع وفيما بينهم. وليس لنا إلا أن نضع أي شخصية ضمن هذا التوزيع الأولي الدال على هذه الثنائية، ثم تفنيد ماهية دورها في الحكاية لنجد لها تناظرًا واضحًا مع المعطى الرئيس. لو أخذنا مثلًا نموذجيًّا على ما نسوقه فإنه كفيل بالكشف عن هذا التناظر الدلالي:
تيماء: ينفتح النص مع تيماء ابنة الشيخ سالم، التي تعود من زيارة صديقتها سوير لتجد والدها ميتًا والرجال يقومون بدفنه، تندفع تيماء إلى المقبرة هاجمة على كفن والدها، فتداهمها آلام الولادة فتضع ابنها غيث على تراب القبر.
سوير: وإن كانت تمثل عنصر الحياة والاستقرار عبر البيت وإنجاب الأبناء، فإن زوجها «فرج»، في ميله إلى الرحيل والتنقل، ثم نهايتهما معًا على قارعة الطريق، يعطي ذلك الشكل الحاد لحضور الموت، الذي يوقفه وجود فاطمة ابنة سوير في عهدة تيماء، ورمزية استمرارها في الحياة، بل منحها دورًا محوريًّا في السرد.
حمود: ترسم تجربة حمود مع معاناة الانتقال، مخاض التحول والولادة من جديد، يغادر مجهرة نحو البحار، يصير البدوي النوخذة، تشكل هذه التجربة بكل ما فيها مرحلة ثانية من اختيارات الأبطال للمراوحة في المغادرة والعودة (الولادة والموت)، دون اكتمال التجربة لسبب أو لآخر، يضطر حمود، طافي، أن يرجع لمجهرة طوعًا، ويموت فيها.
غيث ابن تيماء: يمكن عدّه المجسّد الواقعي لصراع الموت والحياة، ليس بسبب ولادته في المقبرة فقط، ولا لأنه أوشك على الغرق وهو غلام، بل لأنه ظل مسكونًا بالموت والمجهول والأسئلة المعلقة بلا إجابات، تمنى امتهان العمل داخل القبور، يتبسط في قربه منها ولا يشعر بالخوف، كما لو أنه ألفها منذ لحظة ميلاده على أرضها.
هكذا يمكننا أخذ أي شخصية في النص، وتحليل بنيتها الحكائية ووظيفتها ضمن المعطى الدلالي الرئيس، حيث يمكن فهم مواقعها وتصرفاتها وتحولاتها في إطار الهيكل الكلي للرواية.
مرايا السرد
تكونت الرواية من اثني عشر فصلًا، وفي كل فصل عنوان يشير إلى مضمونه، حسب الشخصيات الرئيسة التي يمنحها الكاتب حق سرد حكاياتها؛ إذ يرتكز النص على وصل بؤرة السرد بالشخصيات، وهو ما جعل من كل شخصية تُشكل مُكملًا أساسيًّا لسرد الأخرى. هذا بالتوازي مع استخدام لعبة الإيهام السردي في تأجيل كشف محورية بعض الشخصيات ودلالاتها (حمود، فاطمة، غيث)؛ إذ يمثل حمود الشخص المتمرد على كل قوانين مجهرة، مغادرًا نحو العالم البعيد، ماضيًا بين البر والبحر بحثًا عن ذاته، أما فاطمة ابنة سوير فيتكشف في الفصل الأخير أنها من تقوم بعملية السرد والكتابة عن مجهرة التي تغيرت كثيرًا وأصبحت مدينة يُقيم فيها خليط من العمال الأجانب. أما غيث فقد أراد الكاتب عبره تقديم نموذج الصبي المختلف عن أقرانه، الذي يطرح أسئلة مغايرة مثل: «أين يذهب الدخان؟ هل للشيطان وجه مثلنا؟ ما لون الماء؟ كم عدد النجوم؟».
في المقابل ثمة شخصيات نمطية مثل (الشيخ عيسى)، الذي يجسد الشيخ النموذجي الذي يعالج أهل القرية بالطب العربي القديم عبر الأعشاب والكي والأدعية والتمائم. وعلى الرغم من سلوكه الذي يوحي بالعدل وميله لإنصاف الضعفاء إلا أنه في اللحظات الحاسمة يعود لانحيازاته القبلية والشخصية، وهذا يتجلى حين يرفض أن يمنح غيثًا السلطة على المقبرة لأنه لا ينتمي لآل صميح. يقول: «ما راح أكون الرجل اللي طلعت في وقته المقبرة والقيام على أمورها من آل صميح وراحت لآل جبر». ص 194.
الطبيعة الكونية
تحضر العناصر الكونية الأربعة (الماء، النار، التراب، الهواء)، وتتجسد تأثيراتها في حكايات سكان مجهرة، ويكون لها البطولة في قبضها على مجريات الحياة، أو في وضع ختم النهاية لحيوات الشخوص. إن طبيعة النفس الإنسانية تتداخل مع الطبيعة الكونية وفي حال تناغمها يحل التوازن في مَعِيش الإنسان، فيما يؤدي اختلالها إلى شتى ضروب الأهواء والانهيارات.
يضع الكاتب وجوهًا متناقضة بعضها مقابل بعض في تحدٍّ سافر للحقيقة الغائبة، التي تظل مبهمة وغامضة، مثلًا: إذا كان الأستاذ ظافر، المدرس الغريب الذي يحل بالقرية يمثل صوت العقل الحاض على العلم والمعرفة، فإن احتراقه وموته بنيران باغتته وهو يصبغ غرفة المكتبة، يعبر عن تلقي العقل لهزيمة واضحة بشكل عبثي جدًّا. وتظل شخصية ظافر محاطة بالغموض منذ البداية حتى النهاية، حتى حين يُبَلَّغ والده بموته، لا يأخذ جثة ابنه المحترق، بل يطلب منهم دفنه في مجهرة. فهل كان ظافر يتلقى العقاب على فعلة ما؟ هل كان منبوذًا لإيمانه بالعقل؟ لتحريضه على العلم، أم لأسباب أخرى لم تتبدَّ جهرًا؟
أما البحر ورمزية الماء، فيوجد لحضوره تمثلات عدة، بدءًا من الصلة بين القرية والساحل الذي يجتذب أبناءها، فيغويهم بنسائه الفاتنات، كما حدث مع «فرج»، أو أنه يجذبهم إليه ويحولهم إلى نوخذة (حمود)، الذي غاب عن قريته لأكثر من خمسين عيدًا. وحين عاد إليها، وفي لحظة وصوله، يتقاطع مصيره مع الصبي (غيث) الذي أراد تعلم السباحة فألقى بنفسه إلى ماء النباعة، الذي جذبه عميقًا، وكاد يغرق لولا أن أنقذه حمود الملقب بطافي لأنه نجا من كل أهوال البحار. وللمفارقة نكتشف أن طافي كان نزوله للماء ذاك هو الأول في حياته، فلا هو وصل إلى قاع البحر كما قيل عنه، ولا أمسكته الجنية من كعب قدميه كما شاعت الحكايا. طافي عاش حياته كلها على ظهر السفينة، لم يبلل ثوبه بالماء، وهنا تكمن المفارقة. لنقرأ: «وحده النوخذة الجيد لا يحتاج إلى تعلم السباحة. هل ستصدق أيها الصبي العجيب أن أول نزولٍ لي تحت الماء كان بسببك!» ص227.
تبدو مقولة: «من التراب وإليه نعود»، متجسدة في انفتاح الرواية مع الفصل الأول «مغادرة ووصول». وإذا كان البشر جميعًا أتوا إلى الحياة من طريق واحد هو رحم الأم، فإن لحظة القدوم تلك تختلف في موضعها من شخص لآخر. أراد آل عياف لضم الحياة بالموت في اختياره أن يولد الصبي غيث على تراب مقبرة جده سالم، مفارقة عجيبة أخرى سوف تظل تسم حياته كلها، فلا انجذابه للماء، ولا رغبته في السفر بعيدًا نزع من داخله ارتباطه بالمقبرة، وإحصاءه عدد القبور فيها، وتآخيه مع أمواتها وقبورها وحنوه عليهم.
الحضور النسوي
يمثل الحضور النسوي في الرواية، تجربة وعي جديد، وولادة جديدة، حيث تبدأ الأحداث مع تيماء، وتنتهي مع فاطمة ابنة سوير. ويحمل هذا الحضور في طياته اضطراب العلاقة مع الآخر (الرجل). يتجلى هذا بداية مع شخصية تيماء وارتباك علاقتها مع غيث ابنها؛ إذ على الرغم من كونه ابنها الوحيد، فإن صِلَتها به تظل مشوبة بسوء الفهم الذي يصل إلى الشك بجوهر الحب بينهما. لكن قوة الحضور النسوي عند تيماء تتمثل في انتهاء مهنتها في الحياكة، لتحل مكانها زراعة النخل في أرضها «مبروكة»، ومنح كل نخلة اسم شخصية في النص، وفي صراعها مع رجال القرية؛ كي تتمكن من الحصول على الماء، بعد أن حبسوا الماء عن أرضها. ارتباك العلاقة مع الآخر في حياة تيماء يتمثل أيضًا مع زوجها الذي يكاد يغيب حضوره، بعد أن اختار الرحيل عن القرية، أيضًا في اشتباك مشاعرها المتناقضة نحو الشيخ عيسى.
لعل في اختيار الكاتب وضع النهاية على لسان فاطمة إشارة للدور الحيوي الذي لعبته المرأة في استكمال الدورات الحياتية في تشكل الوعي. وإن كانت الراوية (فاطمة) تتقدم في هذا الموقف لتحيل القارئ إلى أحد خيارين: إما أن يعُدّ نفسه متلقيًا وحسب، أو عنصرًا فاعلًا ومتخيلًا لما جرى في مجهرة، وفي كل القرى الأخرى التي مسّتها الحضارة مسًّا كبيرًا فأعادت تشكيل بنيتها. إذ يكفي أن نقرأ في الصفحات الأخيرة من الرواية قول فاطمة: «تعلمت من أمي أن الأحزان تتوالى، ومن أبي أن الفرح ينتصر أخيرًا، ومن تيماء ألا أنحني أمام أحد أو لشيء… سمعت أن مجهرة تغيرت كثيرًا بعدي… كل شيء تغير إلا نخلتي، وعندما تعطي مجهرة لنخلتي اسمًا آخر سترحل ذكراي أنا أيضًا. ووحدها مجهرة ستبقى؛ لأنها تنسى».
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق