كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أمبرتو إيكو وتاريخ القبح
في عام 2004م نشر إيكو كتاب «تاريخ الجمال»، وألحقه في عام 2007م بـ«تاريخ القبح». ويتساءل في مقدمة الكتاب الأول عن ماهية الجمال والفن والذائقة والموضة. ويأخذ قراءه إلى دراسة مفصلة عن أهم الأعمال الفنية في الثقافة الغربية (فينوس ميلو، مسوخ جيروم بوش، سيدات بوتيشيلي، عاريات مانيه…)؛ وينقلنا من صور الجمال الإغريقي والروماني مرورًا بالعصر الوسيط وعصر النهضة، ووصولًا إلى العصور الحديثة التي زخرت بالتيارات الفنية المتباينة، ولا سيما في القرن العشرين.
ولاستكمال المشهد، لم يترك إيكو كتاب «تاريخ الجمال» يتيمًا، فألحقه بـ«تاريخ القبح». ولأن الكتابين يزخران باللوحات الملونة، لم يُقْدِم أي ناشر عربي حتى الآن على ترجمتهما ونشرهما؛ لأنهما كناية عن ألبومين مكلِفين ونفيسين يحللان مقولتي الجمال والقبح عبر العصور.
وفي عام 2007م صدر كتاب «تاريخ القبح» عن دار فلاماريون الباريسية بترجمة مريم بو زهر (التي ترجمت معظم كتب إيكو إلى الفرنسية) نقلًا من الطبعة الفنية التي أصدرتها دار بومبياني في ميلانو. فأتى الكتاب في453 صفحة تجمع بين التحليل والتعليق على اللوحات والمنمنمات والتماثيل. يقول إيكو في مقدمة كتابه: «قدم الفلاسفة والفنانون، في كل قرن، تعريفات خاصة بالجمال، ومكنت شهاداتهم من بناء تاريخ للأفكار الجمالية عبر العصور. ويختلف الأمر مع القبح؛ إذ عُرف القبح في غالب الأحيان على أنه يتعارض مع الجمال، ولكن دون أن تكرس له دراسات معمقة، فاقتصرت على بعض الشذرات الهامشية. فإذا استند تاريخ الجمال على شهادات نظرية (تُستشف منها ذائقة حقبة بعينها)، يجب على تاريخ القبح أن يجد وثائقه خصوصًا في التصورات البصرية أو الكلامية لأشياء أو لأشخاص اعتبرَت «قبيحة» أو اعتبروا «قُبَحاء» (ص 8).
وتقتصر مادة الكتاب، كما أكد إيكو، على الحضارة الغربية فقط، وهذا لا يشتمل الحضارات الإفريقية والهندية والصينية واليابانية والبابلية. ويصر إيكو منذ البداية على أن مفاهيم القبح والجمال تتغير عبر العصور، وهي بالتالي نسبية. ويستشهد بعبارة فولتير القائلة: «اسألوا العلجوم عن الجمال والجميل الأكبر يجيبكم أنهما يتمثلان في العلجومة ذات العينين المستديرتين والبارزتين، وذات الشدق العريض المسطح والبطن الأصفر والظهر البني» (كتاب «القاموس الفلسفي»). ورأى هيغل في كتابه «علم الجمال» أن قسطاس الجمال يختلف بين الصيني والزنجي والأوربي. ويرى نيتشه أن معيار القبح والجمال يخضع لنموذج نوعي في المحصلة، فيتناقض الجميل والقبيح. فهل يتعارض تاريخ الجمال فعلًا مع تاريخ القبح؟ لقد لاحظ داروين في كتابه «التعبير عن الانفعالات لدى الإنسان والحيوانات» أن ما يثير التقزز في حضارة ما، لا يثيره حكمًا في حضارة أخرى.
ويتوقف إيكو مليًّا عند القبح في الحضارة الكلاسيكية. فلو لم تكن هيلانة (زوجة مينيلاوس) باهرة الجمال، لما اختطفها باريس، ولما نشبت حرب طروادة. ويستشهد بنصوص كبرى مقتبسة من أعمال أفلاطون وأرسطو وماركوس أوريليوس، وطبعًا بهوميروس في الإلياذة والأوديسة. ثم ينتقل إيكو إلى صلة القبح بآلام المسيح وبالموت والاستشهاد، ويخوض في مسألة التشويه من الزاوية اللاهوتية، ويؤكد مسألةَ التعذيب والموت، من خلال منحوتات ولوحات فنية، ولا سيما لوحة «انتصار الموت» (1562) لبروغل.
قبح من عالم آخر
وينتقل من ثم إلى القبح المتمثل بالجحيم والشيطان والأخرويات كما تصورتها الكتب المقدسة، وبعض الأعمال الأدبية والفنية، ولا سيما «الكوميديا الإلهية» لدانتي (الجحيم) وكتب المعراج الإسلامية دون أن ينسى صورة جهنم المعاصرة، كما عبر عنها كتاب «الباب الموصد» لجان بول سارتر مثلًا. ويركز على صورة إبليس، كما تظهر في الكتب المقدسة وفي سير القديسين وفي اللوحات الفنية (سالفادور روزا، سالفادور دالي، جيروم بوش…).
ويكرس إيكو الفصل الرابع من كتابه للمسوخ والغيلان والأقزام والأعاجيب والغرائب. فيتوقف عند صورة اللوياثان كما وردت في سفر أيوب. وفيه يشدد على جماليات الشطط والشناعة وعلى فصائل الغيلان وتوصيفاتها المتخيلة وعلى الأقاليم العجيبة التي تقطنها وعلى الكتاب الذين تكلموا عنها (جوناثان سويفت: «رحلات غوليفر»، ماركو بولو: «كتاب الأعاجيب»،…)، وعلى الشخصيات العجيبة والغريبة (دراكولا، فرانكنشتاين)، وعلى الأعضاء الغريبة لهؤلاء الغيلان (فأحادي القرن مثلًا له جسم فرس وذيل أسد وقرن وحيد في وسط جبهته، والسيرينات في الأوديسة يجمعن بين أجسام النساء في الأعلى وأذناب الأسماك في الأسفل ويتمتعن بأصوات رخيمة ومص دماء البحارة، والساتيرات هي كائنات تشبه البشر والتيوس ولها آذان طويلة وقرون جبهية وأذناب طويلة وأعضاء جنسية متضخمة وتعيش في الغابات وتعزف على المزمار لتجذب المسافرين كي تنال منهم).
وانطلاقًا من المبالغة الشطحية يتوقف إيكو، في الفصل الخامس، عند روايتي رابليه «غرغنتوا» و«بانتاغرويل»، إذ ورد أن غارغانتوا العملاق حين وُلد طالب بالشراب، وكان على أبيه أن يُحضر سبعة عشر ألفًا وتسع مئة بقرة لإرضاعه يوميًّا، وكان يتبول على حذائه ويتبرز في قميصه ويحتاج إلى كميات هائلة من الطعام ليتغذى.
وينتقل إيكو من ثم إلى تحليل فن الكاريكاتير المعاصر القائم على المبالغة والتشويه؛ فيتوقف عند بعض فناني الكاريكاتير من أمثال كانتان ميتسيس (القرن السادس عشر) وجون هاميلتون، وأونوريه دومييه، وجورج غروس، وتوليو بيريكولي.
ويحلل من ثم قبح المرأة في العصور القديمة وفي فن الباروك. وتذهلنا هنا لوحة اختارها إيكو، وهي للفنان الألماني هانس بالدون غرين، وعنوانها «الأعمار الثلاثة للمرأة والموت» (1540م). وفيها يحمل الموت ساعة رملية تحدد نهاية عجوز مستهلكة. واختار أيضًا لوحة أخرى مشهورة للفنان البلجيكي كونيتين ماتسيس عنوانها «العجوز الفظة» (1535-1530م) وتُصور عجوزًا أرستقراطية دميمة تزين رأسها الأصلع بقبعة ذات قرنين زهريين فاخرين، وتتعارض مع بشاعة الوجه وتهالك الجذع والصدر وتشوهاتهما.
وينقلنا من ثم إلى صور الشيطان في العالم الحديث: في «الكوميديا الإلهية»، وفي «الفردوس المفقود» (1667م) لجون ميلتون، وفي مسرحية «فاوست» (الصيغة الأولى) لغوته، وفي «الإخوة كارامازوف» لدستويفسكي، وفي رواية «الدكتور فاوستوس» لتوماس مان. ويتوقف عند ظاهرة «أبلسة الآخر» ولا سيما العدو والخصم. وهنا تظهر الصور الكاريكاتيرية المنددة برجال الدين وبالشيوعية والنازية والرأسمالية والعنصرية.
وينتقل في الفصل الخامس إلى ظاهرة «السحر والأبلسة والسادية» التي يستهلها بلوحة مشهورة لفرانشيسكو غويا عنوانها «يوم سبت الساحرات» (8-1797م). ويعير إيكو اهتمامًا خاصًّا بشغف الضراوة المتمثلة في رهط الهراطقة وعبادة الشيطان وطقوس التعذيب والشنق [راجع قصيدة «توشيحة المشنوقين» للشاعر الفرنسي الانعتاقي فرانسوا فيون (1431-1463م)].
ويتوقف عند الماركيز دو ساد وظاهرة السادية في الأدب الحديث وفي التحليل النفسي. ويستشهد بنص من روايته «جزيرة اليوم السابق»، وبقصة «القط الأسود» لإدغار آلان بو، وبمقطع من رواية «في قلب الظلام» لجوزيف كونراد، وبفِلْم بازوليني عنوانه: «سالو أو 120 يومًا لسادوم» (1975م).
ويكرس إيكو فصلًا كاملًا عن ظاهرة الإمساخ والتشويه التي غذت مخيلة الفنانين والكتاب، ويستشهد مثلًا بلوحة «درس في التشريح» (1632م) لرامبرانت، ولوحة «جائزة التوحش» (1750م) لويليام هوغارت، و«الطاعون» (آخر القرن 17) للفنان غوتانو زومبو. ويتوقف عند ظاهرة القبح لدى الرومانسيين مع تمثال «عقاب لاووكون» (القرن الأول ق.م.) الذي حلله الفيلسوف الألماني ليسينغ رابطًا بين الألم والدمامة. واهتمت الرومانسية خاصة بظاهرة الحزين والمخيف والمريع، وربطتها بتيار «الرواية القوطية» التي ركزت على القلاع والأديار المهدمة المهجورة، وعلى الدهاليز المرعبة، والجرائم الدموية، وظهورات الشياطين والأشباح والأرواح، وعلى الجثث المتفسخة.
وراح الرومانسيون يَنشدون البطل الوبيل والمتخفي والدميم الذي يثير القلق والرعب حوله، والمتمثل بفِلْم «شبح الأوبرا» (1925م) للمخرج روبيرت جوليان عن رواية غاستون لورو، ورواية «الحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد» (1885م) لروبرت ستيفنسون، إضافة إلى سلسلة روايات وأفلام فانتوماس. وظهرت كذلك مجموعة من الأعمال التي تركز على الدمامة والبؤس مثل «صورة دوريان غراي» (1891م) لأوسكار وايلد، وشخصية كازيمودو في رواية «أحدب نوتردام» (1831م) لفيكتور هوغو التي اهتمت بعالم القاع، وطبعًا شخصية فرانكنشتاين التي ما زالت تُغْرم مخرجي السينما. ويذكر جان بول سارتر في كتابه الجميل «الكلمات» (1964م) معاناته الشخصية في طفولته ومراهقته من حَوَل عينيه وشناعة شكله الذي كان يسخر منه التلاميذ، ولكنه تأقلم مع حالته ومتن شخصيته.
جماليات القبح
وترتبط الدمامة أحيانًا بالغرابة والعجائبية، كما في قصة «بينوكيو» (1883م) لكارلو كولودي، و«حكايات بيرو» (1697م)، و«حكايات غريم» (1812-1822م)، وقصص مصاصي الدماء في القصور المهجورة، وقصص القرينات وقصص الإمساخات كما في «التحول» لكافكا. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين انتشرت النصوص التي تتكلم عن السكارى والعاهرات والمتسكعين ودُور البغاء وعالم الليل. وفي الفصل الثالث عشر يتكلم إيكو عن الطليعية وانتصار القبح، فوضع الفنان مارسيل دوشان شاربين للجوكندا، وانتشرت بيانات الدادائية والمستقبلية والسوريالية وشاعت شتى أنواع المستهجنات والغرابات، وانتشرت مقولات التقزز والقرف، وشاعت جمالياتها مع فنانين كبار من وزن بيكاسو ودالي وبول كلي وفرنسيس بيكابيا وألبِرتو مارتيني. وراح بعضهم يتكلم عن جماليات المخلفات والقاذورات والفوضى، وصار القبح ظاهرة اجتماعية تبلورت في فن الكيتش والقص واللصق، والانبهار بالذائقة المنحطة والمبتذلة والقذرة والناشزة وبالالتباس الجنسي.
كما حصلت قفزة في الموسيقا الحديثة (الجاز خاصة) والفن التشكيلي، حصل تحول كبير في الذائقة الجمالية إبّان القرن العشرين. فظهر شغف بالمستهجن وبموضة البونك punk، بالحلي البلاستيكية الرخيصة وبالدبابيس والمشابك. وتأثرًا بفِلْم «كلب أندلسي» للمخرج السوريالي لويس بونويل راح سينمائيو الموجة الجديدة يبحثون عن الغرائبي والصادم والمبتذل الذي يعبر عن تمزق الإنسان وتشتته في القرن العشرين.
أراد أمبرتو إيكو، بأسلوب ساخر ومماحك، أن يقول في هذا الكتاب النفيس: إن معايير الجمال والقبح ليست ثابتة، شأنها شأن الموضة، وتتغير حسب المجتمعات والثقافات. لقد لعب الإغريق دورًا في التعبير عن الـ«كالوس» [الجميل] والـ«كاكوس» [الدميم]، وهزل في العصر الوسيط، ثم عاد ونشط في عصر النهضة الذي، مع ذلك، راح يطرح مقاييس أخرى لهما، تأثرت بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي حركها عصر التنوير والثورة الفرنسية التي انفتحت آفاقها على المدارس والتيارات المنعتقة من القيود الكهنوتية والأكاديمية. فأطل القرن التاسع عشر بشكوكه وتوجساته وراح يبحث عن منابع جديدة مثلها لوتريامون ورامبو والدادائيون والسورياليون والتكعيبيون فتخلخلت معايير الجمال الكلاسيكي وهيمنت الثورات المعرفية الأربع الكبرى (الألسنية والتحليلية النفسية والمعلوماتية والاتصالات)، فقلبت المعطيات الثابتة، وفتحت آفاقًا جديدة على مقولتي الجمال والقبح، كما نظر إليهما أمبرتو إيكو.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق