لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
المشهد الثقافي المغربي بائس في المغرب… ومتوهج في المشرق!
الثقافة هي في الأساس تكوين الإنسان، ونشر المعرفة البشرية وبناء الدولة. وبلا شك، فإنها وسيلة خلاص الدول التي تطمح إلى التقدم. ولكن من يجب أن يقوم بدور «نقل الثقافة»؟ من المؤكد أن الدولة هي المسؤولة بسياساتها الثقافية ووسائلها التنفيذية من أجهزة ومؤسسات، ولكن هل الثقافة حقًّا من الضروريات الأساسية للحياة البشرية؟ إن التخلي عن دور الثقافة في بناء المجتمع والطموح إلى فكر مستنير يفتح الباب على مصراعيه أمام الأفكار الظلامية والعدمية وبالتالي الاضمحلال.
وما يمكن ملاحظته اليوم في المغرب تهميش المجتمع المغربي للمثقفين وإنتاجهم الثقافي الحقيقي، في المقابل ينصرف الاهتمام إلى الثقافة الترفيهية والسياحية، التي تجد عوامل مساعدة من المؤسسات الرسمية والفاعلين في قطاع الإنتاج الثقافي الذين ينجحون في تمرير وتكريس مجموعة من أنواع التصورات الكاذبة والأفكار الخاطئة. ومن هنا كانت هجرة المثقفين المغاربة بكثافة إلى أوربا وتحديدًا إلى فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وهولاندا وإيطاليا، بل وتوطينهم لثقافتهم ولغتهم ثقافة ولغة أخرى ساقتهم مباشرة إلى نوع من التغريب والاغتراب، لكن لحسن حظهم أن منجزهم الأدبي والفكري لاقى نجاحًا وإقبالًا وجوائز مهمة بوّأتهم تدريجيًّا مكانة مرموقة في جغرافية الأدب العالمي. ونذكر من الرعيل الأول الذي حط الرحال في أوربا خلال السبعينيات من القرن الماضي: مصطفى النيسابوري، والطاهر بن جلون، وإدريس الشرايبي، وعبداللطيف اللعبي وغيرهم، ومن الرعيل الجديد الذي أصبحت أقلامهم تنطق اللغات جميعها، نذكر فؤاد العروي، وعبدالله الطايع، وفؤاد الساخي، وليلى العلمي، وحفيظ بوعزة وغيرهم.
إذا كانت هجرة المثقفين إلى أوربا حديثة وجاءت خلال الاستعمار أو بعده، فإن رحلة المثقفين إلى بلاد المشرق، متغلغلة في جذور التاريخ، ونجد صداها في كتابات المغاربة قديمًا وحديثًا. هجرة الأقلام المغربية إلى المشرق ليست حديثة العهد، كما ذكرنا، لكن حضورها بالأمس واليوم وتوهجها بكثافة عددية ونوعية وحصولها على جوائز مهمة، يطرح أكثر من سؤال عن سبب هذه الهجرة الحديثة. عدد من الكتاب تناولوا هذه الإشكالية في تحقيق لـ«الفيصل».
أصوات تنتقد
يقول القاص أبو يوسف طه: «من الواضح أن التقاطبات الحزبية، واختلاف المنظور، والاسترفاد مما هو سائد في الثقافات الغربية من منازع فكرية، وأيديولوجيات، وطّأ لصراعات حادة في المجال الثقافي الذي ينضفر في جدائل مع المجال السياسي؛ ما أنشأ دوائر مغلقة (نتذكر هنا ثنائيات الشيخ والمريد، والفقيه والعامي، والزعيم والتابع، ثم الطائفة والزاوية إلخ. وهذه تستبد بلاوعي منتسبي حتى المؤسسات الحديثة)، ووضحت اصطفافات المعارضة والموالاة، وبحكم التطورات الخارجية، تباينت المواقف، وهو ما انعكس سلبًا على تماسك الوضع الثقافي (مع غياب فعال لمبادئ وأسس الحوار) حيث بتنا نسمع مفردات من مثل الإقصاء، والتهميش، … إلخ».
ويتطرق أبو يوسف طه إلى دور اتحاد كتاب المغرب الذي لعب، ضمن هذا الفضاء المتشنج، «دورًا رياديًّا لبلورة اتجاه ثقافي إيجابي، واكبته صحف ومجلات. لم تكن هذه الجوانب وحدها هي المؤثرة، فهناك جوانب ذات تأثير نفسي، تتلخص في جنوح بعض الأفراد إلى تأكيد وضعهم الاعتباري بالسير فوق أجساد غيرهم، ومن باب الإيضاح الإشارة إلى تباين حوافز المنتسبين إلى المجال الثقافي بين ذاتية صرف، وذات طابع رسالي (الاشتغال على مشروع). في يقيني أن الأعطاب تنحصر وتتجلى في قاعدة الهرم ووسطه، وتتسم بالفجاجة والابتذال. وهنا بؤرة البؤس الثقافي. بينما لا يمكن نكران الصراع بين التوجهات والأفكار، ونشدان الهيمنة على الحقل الثقافي وتوجيهه، وهو واقع يستوعب الأفراد ويتخطاهم. وتحضرني واقعة الولي عبدالعزيز التباع الذي حسم خلافه مع غريمه الولي رحال الكوشي قائلًا: «لا يمكن لثعبانين أن يسكنا في جحر واحد» مما حدا بهذا الأخير إلى مغادرة مراكش مُكرهًا نحو أحواز السراغنة – زمران، وإقامة رباطه هناك. وهو الأمر نفسه الجاري بأوجه متعددة الآن، وهو ما يحول دون حظو مثقفينا، في الحقيقة والجوهر، بما يجب من احتفاء خالص. وإذا رأينا احتفاء بالأموات منهم، فإنما وفق قاعدة غريبة (الميت لا يشكل منافسًا).
ويرى طه أن الصورة ليست قاتمة بالمطلق، «نحن أمام رجة قوية في القيم، وأمام سيادة البراغماتية، وأمام تداخل وتشابك القضايا والمسارات، ومع ذلك، وباتساع التواصل بات الفساد والإفساد يرتد على مقترفيه، وما حضور الإنتاج الثقافي المغربي الوازن في المشرق العربي وبأجناسه المختلفة، ومن خلال الترجمة أيضًا، إلا دلالة اعتراف بتميزه، وخصوصيته النوعية؛ لأنه يحمل اجتهادًا، ونكهة. إن انفتاح منتجي الخيرات الرمزية من المغاربة على اللغات والثقافات يتبدى فيما ينتجون، ومع مرور الوقت، وعودة الاتزان إلى الحياة الثقافية، ووضوح المرامي الحقيقية للفعل الثقافي، وتطور الحاضنة الثقافية، ستبقى النصوص متكلمة على الدوام بصرف النظر عما أحاط بها، وبأصحابها من تعويق».
الإحساس بالدونية
أما المترجم والأديب مراد الخطيبي فيرى أن المتتبع والمهتم بالشأن الثقافي المغربي «يستشعر غياب سياسة ثقافية واضحة المعالم من لدن الدولة المغربية. تزداد خيبته ويعظم الإحساس لديه بالدونية والتهميش عندما يتم الاهتمام بمجالات أخرى لا تنتج إلا الرداءة، ولا تحقق إلا إفساد الذوق والتفاهة». ويقول: إن المثقف أصبح «معزولًا ومنبوذًا ولا تتحدث عنه الدولة إلا عندما يموت أو ينخر المرض جسمه. هذا ناهيك عن أعماله التي يطالها النسيان إلا من قراء حقيقيين وباحثين يعيدون النبش في مخطوطاته ويخلقون تواصلًا متجددًا معها.
وغالبا ما يتم اختزال الجانب الثقافي من طرف الدولة بكل أجهزتها، وكذا من بعض وسائل الإعلام في الفن، وحبذا لو كان فنًّا جميلًا ويحمل كل المقومات الفنية والجمالية المتعارف عليها. هو فقط شكل من أشكال التزييف وتكريس ثقافة الرداءة. وخير توصيف لهذه الحقيقة هو قلة البرامج التلفازية المخصصة للثقافة الجادة بالمقارنة مع البرامج المكرسة للرداءة». ويلفت الخطيبي إلى دور الأحزاب، «الأحزاب، وهنا أتكلم عن الأحزاب الحقيقية مع الأسف، تراجع دورها التاريخي، وأصبح الشأن الثقافي لا يحتل المكانة الأساسية ضمن برامجها. ويبقى في غالب الأحيان عنوانًا عامًّا وفضفاضًا لا يحمل رؤية إستراتيجية، ولا يضع آليات علمية لتنفيذه. أكثر من ذلك تحس بأنه برنامج انتخابي تنسخه أغلب الأحزاب فقط لتأكيد حضور الشأن الثقافي ضمن برنامجها الأيديولوجي. مع الأسف تنازلت غالبية الأحزاب عن دور المثقف الحقيقي المتمثل في الكاتب والشاعر والفيلسوف والفنان التشكيلي والمفكر وغيرهم، وانزاحت نحو استقطاب أصحاب المال من أجل «انتصار انتخابي» مؤقت ما انعكس ذلك سلبًا في الأخير على المثقف ولكن على الحزب بدرجة أكبر. أمام هذا الوضع أصبح الكاتب مثلًا منبوذًا لا يحضر لقاءاته إلا القلة، وأصبح الكتاب قابعًا في رفوف المكتبات».
ويؤكد الخطيبي أن المغرب يزخر بأسماء لامعة في مجالات الفكر والأدب والترجمة والفلسفة وغيرها «ولا يلتفت إليها بل ويطالها نسيان غير مفهوم، بينما يتم تكريمها في المشرق، ويتم التنويه بها وبأعمالها في مختلف المحافل الثقافية والعلمية التي تحضرها. أكثر من ذلك بعض المغاربة يحصدون جوائز مهمة عن جدارة واستحقاق؛ لأن هذه الدول تؤمن بثقافة الاعتراف، وتولي أهمية خاصة للجانب الثقافي، وتشجع المجتهد. وفي المغرب لا نتذكر رموزنا الفكرية والأدبية إلا عندما يواريهم التراب مع الأسف».
على حين عدّ الشاعر جمال الموساوي أن البؤس الثقافي «الذي يرين على واقعنا جزء من البؤس المجتمعي العام. لنقل إن البؤسَ وجه من أوجه المزاج العام لهذا المجتمع الشكاء البكاء. بهذا نكون إزاء صورة نمطية تلقي بالمسؤولية دائمًا على الآخرين. الآخرون الذين يفترض أن يشكلوا ذلك «الجمهور» الذي يحلم به المثقف وتسعى الثقافة (في مفهوم ضيق) لاستقطابه، كما تفعل مجالات أخرى مثل كرة القدم. والحال أن المشتغل بالثقافة إذ يصدر هذا النوع من الأحكام، فهو يتهرب من نصيبه من المسؤولية فيما آل إليه المشهد من ابتذال. إن الابتذال هنا، ليس حكمًا على الإنتاج الثقافي، بل توصيفًا لوضعية المشهد الثقافي العام، الذي من سماته اختفاء السؤال النقدي الذي يتطلب جهدًا فكريًّا خلاقًا والاكتفاء بالجاهز. لهذا مثلًا تحصل أغنية رديئة على إقبال «فظيع»، وتكتفي رواية أو أي كتاب أدبي أو فكري ببيع بضع عشرات من النسخ».
ويقول الموساوي: إن المشهد الثقافي «أصبح مليئًا بالنفاق، وبمظاهر التزلف، وأحيانًا بنوع من الناس الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة كاملة، وأنهم وحدهم الحاملون لمفاتيح المستقبل، وهذا لا يختلف عما لدى الكثير من الناس والجماعات السياسية والدينية والعرقية حيث لا مجال لطرح الأسئلة. إنه في هذا الأمر لا يكاد يختلف من يأتيه اعتراف من المشرق، أو يحاول أن يكرس نفسه انطلاقًا من موقعه هنا. لنتأمل المشهد ونعدد بعض الظواهر التي باتت لصيقة به، وتضفي عليه مسحة بئيسة. هناك تقريبًا في كل مدينة مهرجان ثقافي وأحيانًا أكثر بين الشعر والقصة والسينما والمسرح والموسيقا وغير ذلك من الأنشطة الثقافية، وهذه الكثرة ليست بالضرورة علامة صحية. ثم هناك أمر قريب من هذا، وهو غزارة في الإنتاج من الكتب والكتابات (دون مقارنة مع الآخرين)، لكن ليس هناك تطور مماثل في حجم القراءة وعدد القراء، فيظل هذا الإنتاج كاسدًا، بمساعدة ظروف محيطة، منها غياب إعلام ثقافي حقيقي بالرغم من الجهد الذي يبذله الأصدقاء المشرفون على الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية، ومنها كذلك تراجع دور بعض المؤسسات كاتحاد الكتاب الذي غرق في أزمة نتيجة تضخم في بعض «الأنوات» وغلبة الطموحات الشخصية على العمل الثقافي لهذه المؤسسة».
ويرى الموساوي أنه لتحقيق هذه الآمال وإعادة إحياء الثقافة المغربية داخليًّا «لا بد من النظر إلى الشأن الثقافي نظرة واضحة، وأن يتم تقبل الثقافة كجزء لا يتجزأ من حياته، فهو على المستوى الباطني (لا يمتلكها ولا يستخدمها بحكمة) وعلى المستوى الخارجي ( الثقافة ليس لها وجود فعليّ واضح في حياته اليومية(. في الحالة الأخيرة، فإن المواطن المغربي لديه ميل لإعفاء نفسه من تعقيدات الأمور، وأن يصبح متفرجًا على محيطه وبيئته المباشرة، دون السعي إلى تعميق وعيه الثقافي وتوسيع مداركه المعرفية، وهذا ما دفع مجموعة من المثقفين المغاربة إلى العزوف عن الحراك الثقافي الداخلي. والانخراط في الحراك الثقافي الخارجي. أعتقد أن الوقت حان لإعداد ميثاق ثقافي وتأسيس مجلس أعلى للثقافة يدبر المجال الثقافي ويرسم الإستراتيجيات، ويضع البرامج ويمهد للتواصل والتفاعل بين المثقفين فيما بينهم داخل المغرب الذي يشهد فيه المثقفون انغلاقًا وانكماشًا، وبالمقابل هناك تفاعل مع المثقفين في الخارج خصوصًا مع المشرق؛ إذ نلاحظ حضورًا حيويًّا وانفتاحًا وتألقًا يتوج بجوائز ومكاسب ثقافية مهمة. كما ينبغي تفعيل دور وزارة الثقافة، التي لا تتحمل مسؤوليتها في خلق دينامية ثقافية؛ إذ تنحصر أنشطتها في الإشراف على بعض الأنشطة؛ كمعرض الكتاب، أو رعاية بعض الندوات أو المهرجانات دون السعي إلى إنتاج ثقافة والبحث عن أسباب إنتاج ثقافي».
—————————————————–
سعيد يقطين : واقعنا الثقافي تفككت أوصاله
حساسيات تكونت في أوج الصراع الأيديولوجي
متى يمكن أن تظهر الإمكانيات والطاقات في بلد ما؟ الجواب بسيط: عندما يكون المناخ الذي تعيش فيه سليمًا، ومشجعًا. ولكن عندما تنتفي هذه البيئة، فإن من يعمل على البحث عن تلك الطاقات والإمكانيات سيعثر عليها في المكان الذي لا يعترف بخصوصيتها. وينطبق هذا بصورة كبيرة على ما يجري في بلدنا ومكوناته الإعلامية والثقافية. إنهم يبحثون عن الطاقات والإمكانيات خارج فضائهم الخاص غير ملتفتين إلى ما يتحقق داخل مجالهم. وما يصدق في هذا المضمار على المؤسسات المختلفة، يسري مع الأفراد. وكل ما تسمعه عن «ثقافة الاعتراف» و«المصالحة مع الذات» ليس سوى لغو يوظف لأغراض ذاتية ومكاسب خاصة. إن واقعنا الثقافي لا تزال تُفكك أوصاله، تقاليد وحساسيات تكونت في أوج الصراع السياسي والأيديولوجي لحقبة ما بعد الاستقلال.
ورغم تغير الظروف والشروط نسبيًّا لا تزال تلك الذهنية التي هي وريث تلك الحساسيات هي السائدة والمتحكمة. لذلك لا غرو أن نرى تقييم الأعمال والأفراد تحكمه العلاقات والولاءات والانتماءات، وأخيرًا الانتهازية. وكلما كان تقدير العطاءات مؤسسًا على مثل هذه الأحكام والمواقف، يكون البحث في الخارج أو من داخل الحلقة، مع العمل على إقصاء وإلغاء من لا ينخرط في تلك العلاقات أو لا يقيم لها وزنًا.
بالنسبة إلي لا يغيظني هذا الواقع من وسائل الإعلام، ولا من المؤسسات الثقافية، ولا من بعض الزملاء. بل إني لا أفكر فيه ولا أهتم به. أشتغل وأعمل، لأني أعدّ هذا قدري الذي اخترته عن وعي، ولا تهمني ردود الأفعال، ولا أبحث عن موقع ولا كرسي. وحتى في خضم انخراطي في العمل السياسي والثقافي لم تكن وراء ذلك أي رغبة في تحصيل منفعة أو الحصول على مكاسب معينة. وعندما أنشر كتابًا جديدًا، لا أرغب في تعليق ملصق عنه في ردهات الكلية، ولا أخبر به أحدًا من الناس. لقد انتهى عملي بإصدار الكتاب، أو نشر المقال، وعليه أن يبحث عن موقعه بنفسه. وعندما يلقى ما أكتب الترحيب في كل الوطن العربي، ومن لدن الصادقين من المغاربة، أعدّ ذلك خير عزاء. ولكن مع ذلك، يحزّ في نفسي أحيانًا، أن أرى زامر الحي المغربي لا يطرب. وأقصد هنا كتابًا ومفكرين وفنانين آخرين غيري.
ناقد
—————————————————–
شعيب حليفي: نحن نعيش بؤسًا متعددًا
مفارقات المشهد الثقافي المغربي هي من مفارقات المجتمع وما يحياه من تقلبات اجتماعية واقتصادية وسياسية. وأعتقد أن الثقافة المغربية عرفت صدمة قوية لا يزال أثرها جليًّا وسلبيًّا بشكل من الأشكال حينما شعر المثقفون بأن بعض أحلامهم بالتغيير، التي هي أحلام المجتمع، ستتحقق مع تجربة التناوب في المغرب، والتي يمكن أن تكون قد نجحت نسبيًّا على المستوى السياسي، ولكنها فشلت ثقافيًّا، وأفرزت بالتزامن مع ثورة معلوماتية وسيادة ثقافة البذخ والواجهة والجوائز ثقافات أخرى ومثقفين آخرين، كما تحولت الثقافة من فعل نضالي، بحكم وضعنا وحقيقتنا، إلى فعل اقتصادي أفرز نخبة من المثقفين «الخبراء» في مجالات الخطاب عامة، والبقية الباقية بقيت في مربعها «الطاهر» وسط أسوار تعلو يومًا بعد يوم، وتخفي بصيص تلك الأحلام.. فلا يجدون للقفز نحو تلك الأحلام إلا زانة مكسورة تزيد الوضع صعوبة.
إننا فعلًا نعيش حالات من التحول ومن التعايش مع ما استجد وما يستجد للإفاقة من الصدمة إفاقة صحية. فنحن نعيش بؤسًا متعددًا في ابتعاد المثقف من دوره التاريخيّ إنْ على المستوى الفعلي في الواقع أو فيما يُكتب من زخارف تقزم المعرفة والتخييل القادر على محاورتنا وتفكيك عَطبنا. وفي السياق ذاته، نحن جزء من عالمنا العربي الذي يسبقنا في انتصاراته وانتكاساته. فها نحن أمام تزايد هجرة المثقفين الجامعيين إلى الجامعات العربية والأوربية مما يُفرغ جامعاتنا ويهددها. والحال أن طلبتنا في أمسّ الحاجة إليهم لتطوير البحث العملي والبيداغوجي. كما بات العديد من دور النشر العربية متخصصًا في اقتناص التأليفات المغربية في شتى الأبواب. أتساءل بصيغة أخرى: هل كل هذا سلبي أم أنه مرحلة سيأتي ما بعدها؟ فما يقلقني اليوم هو استسلام المثقف المغربي وانعدام حماسه لأحلامه وأحلام الذين يكتب بأصواتهم.
ناقد وروائي
المنشورات ذات الصلة
سردية الصحراء… حفاظ على الهوية أم بحث عن الغرائبي والمدهش؟
ظلت الصحراء العربية مرتكزًا رئيسًا في الثقافة العربية لسنوات بعيدة، ربما لأن المنطقة العربية تقع في واحدة من أكبر...
الكتابة الذاتية بين عالمين وسيلة للخلاص أم انتقام من الماضي وإدانة للذات؟
تعد رواية «الخبز الحافي» من أشهر الروايات العربية المعتمدة على السيرة الذاتية للكاتب المغربي محمد شكري التي يحكي فيها...
في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات
في مناسبة عام الشعر العربي، مبادرة وزارة الثقافة السعودية، تستطلع «الفيصل» آراء عدد من الشعراء العرب، حول راهن الشعر...
الوضع الثقافي في المغرب بحاجة فعلا إلى تصحيح وإعادة نظر، ولا يمكن إنكار بعض المجهودات التي تقوم بها الدولة أو وزارة الثقافة لكن أكثرها في غير الاتجاه الصحيح والمفيد لتنمية الثقافة احقيقية في المجتمع كله لأن أكثرها يذهب في أكثره إلى مجالات قد تكون مطلوبة لكنها تأخذ أكثر من حقها وحظها مثل المهراجانات والحفلات والمناسبات وغيرها بينما ثقافة الإبداع الحقيقي والفكر العميق المفيد لا تحظى إلا بالقليل وكثير ذلك القليل يتخطف بطريقة الممالات والمحسوبيات والارتجالات ، وكم من إنتاجات رفيعة وكتب أصيلة وأبحاث أكاديمية قيمة هي حبيسة الرفوف ولا ترى النور لأن المطابع الخاصة تأكلها أكلا لما، ومطابع الدولة تنتقي غث المقربين وترفض سمين المبعدين ،ولذا فقد الاتجأ بعض الكتاب والباحثين إلى الغرب أو إلى الشرق حيث تطبع كتبهم وإنتاجاتهم ولكنها تضيع في مهب الاحتكارات والانتهازيات فلا يستفيد اصحابها إلا من النزر اليسير ولا تستفيد منها الثقافة المغربية إلا بقدر ما يهرب منها وكأنها سلع ممنوعة ، وأما المجتمع المغربي فهو سادر في أميته الثقافية وفي انشغالاته، وقد بعد العهد بالزعامات المثقفة التي كانت تقود الأحزاب والسياسات والأفكار وتغار على الثقافة فتجعلها من أولى الولويات ، وصار يتولى أمر الشأن السياسي والحزبي والاجنماعي من لا يبالي بالثقافة ولا يهتم بها أو لها لأنه ليس من ذويها فلا يعرف فهمها ولا نفعها ولا ضرورتها وقد يكون من ذوي الأموال فقط؛ وهكذا تضيع الثقافة والحق والمثقف الأصيل بين صراعات مغلوطة وبرامج زائفة وقدرات معطلة.
يبدوأن المثقفين المتدخلين مستاؤون من راهنية الوضع الثقافي بالمغرب…متفقين على أن المشرق يعطي أهمية للمثقفين المغاربة الذين تهمشهم بلادهم…كما نلاحظ سخطا على المؤسسات التي من المفروض الاهتمام بالوضع الثقافي….لا نختلف حول هذا التشخيص…المؤسف طبعا…لكن ما هو البديل؟…هل هو اللجوء إلى المشرق؟ كما يمكن فهم ذلك بشكل تلميحي؟؟…ألا يمكن التفكير في خلق نواة غير مؤسساتية كما حدث مع اتحاد كتاب المغرب في بداياته مع الاستفادة من تجربته…ومحاولة تقريب الكتاب من الشعب باختراق الأماكن الشعبية وتأطيرها ثقافيا بعيدا عن الأحزاب التي أبانت عن ضعفها في هذا الميدان وإفلاسها سياسيا…لأنه بهذه اطريقة نخرج المثقف من برجه العالي…وأمراضه الأنانيةن ونجعله خادما وليس سيدا للكتاب…والفكر والمعرفة…لأنه مع الأسف كل الكتاب ينتشون ببريق شهرتهم…وعن قصد أو غير قصد يتقوقعون حول أنفسهم…في انتظار التكريمات من المتزلفين وأصحاب المصالح السياسية…عوض أن يشمروا على سواعدهم ويدخلوا غمار البيداغوجية والتربية الثقافية من خلال الأندية أو الجمعيات أو المقاهي الأدبية التي اصبحت تؤثر على المشهد الثقافي بغض النظر عن السلبيات…هكذا نخلق للكاتب قراء ونخلق نقادا وكتابا أيضا….أما إذا انتظرنا الدولة من غير تقديم أو فرض بديل…فلن تقوم إلا بما تقوم به…ولن تغير من سياستها…ولو تناوبت عليها كل الأطياف….تحياتي….