كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
ليالي
أتأمل وجهه المليء بالتجاعيد، وأنا أعطيه طقم الأسنان الجديد، وأقول في توجس:
الشتاء قاسٍ هذا العام!
يتنهد وهو يقول:
نعم.. أشعر بعظمي يؤلمني.
ضحكتُ:
كبرنا يا خطاب!
فيرد الضحكة بضحكة أعلى:
لا.. أنا ما زلت شديدًا وصبيًّا!
* * *
فرد قدميه أمامي، فضغطت على أنبوبة المرهم، ووزعته على العروق النافرة وأخذت أدعك حتى سرى الدفء في يدي وتخدرت عيناه:
عليّ لم يأتِ منذ أسبوعين؟
هززت رأسي وتحسست الشعرات القليلة المتناثرة على قدميه، فتأكدت أن الجلد قد تشرب المرهم. أضرب يده وهي تمتد لتأخذ أصابع الكفتة التي انتهيت من تحميرها، يدور يرقص في الصالة الواسعة، ومحمود يطبل على غطاء الحلة، فأتذمر وأعلن أنني لن أطبخ ولن أفعل أي شيء:
هات حماتك تطبخ بدلًا مني.
لا يوجد مثل طعم أكلك يا ست الحبايب!
تفر الدموع من عيني:
أخيرًا تذكرت أمك!
بينما يُقبل هو يدي ومحمود يتشاجر مع زينب كي تطبخ بدلًا مني.
أرفع عيني إلى صورة زفاف عليّ المعلقة على الحائط وأراه يشبه أباه كثيرًا.
أولاده عندهم امتحان.. ربنا معاهم.
أقولها وأنا أسحب الشراب الصوف من تحت المخدة وأدفس قدمه فيه.
طيب.. أعطني دواء السكر.
* * *
أضحك على الولد حسين كلما تزحلق على الدرابزين الحديد الطويل للكشك الذي أجلس فيه، وهو يقول:
سأشتاق إليك يا أبا محمود!
القطارات لا تنقطع من محطة «الفرز» بشبرا، صفيرها كأنه نذير لا يكف عن العويل، وأنا أجلس بالبذلة الزرقاء ذات الأزرار الصفراء أرقب تحركاتها، وأمسك في يدي ورقة المعاش، وأفكر في زراعة قراطين البلد، بينما ينتابني دوار وأنا أنظر لتقاطعات قضبان السكة الحديد، فأهوي على السلالم تحتضنني يد حسين، يرفع طبيب الهيئة عينيه عن الأوراق ويقول:
عندك سُكَّر.
* * *
أتناول الأقراص من على البوفية المكدس بالأشياء، أناوله أياها يبلعها وهو يبسمل، أتذكر دواء الضغط، فأبتلع الأقراص، ثم أتمدد على السرير وأعطيه قدمي:
دورك.
أتذكر شقة شبرا الصغيرة، وولادة زينب، كانت «الداية» تصرخ:
العيل نازل برجله.. استُر يا رب!
وأمي تحوقل وتصر على خروج الداية من الحجرة، بينما تجلس الداية فوق بطني كي ينزلق المولود، ولم أصدق عندما سمعت بكاء زينب، لفتها أمي بشال أبيض وقالت ضاحكة:
بنت مثل القمر.. ربنا يجعل أيامها بيضاء.
* * *
آخذ أنبوبة المرهم من يدها وأضغط عليها وأبدأ في دعك قدميها الهزيلتين. تزغرد أمي وتوزع الشربات، وأبي يتلقى التهاني، ويهتف كلما سأله أحد عن شهادتي:
دبلوم الصناعة، وسيعمل بالسكة الحديد.
اكتشفتها عندما ضحكت، فقط عندما رنت ضحكة خفيفة مغردة مسحوبة في نهايتها بالهمس، وبصت بصة واحدة تجاهي، فوقع من يدي قرطاس البلح السماني وانفرط على تراب الطريق.
قالت أمي:
هذه حُسنية بنت بيومي جارنا الجديد.
أتأملها في فستانها الأبيض المضموم على جسدها، وتاج من الفل الطبيعي يعلو شعرها، أضم يدها في يدي:
معيشتي صعبة، كل يوم في بلد!
فتهز رأسها وترخي جفنيها:
تتقضى بإذن الله.
فأضمها وأنا أحل ضفيرتها الطويلة الحالكة السواد.
* * *
في كل المرات التي جلست في مناسبات عائلية، كنت أنطلق في الحديث، وأوجه من أمامي لبعض التفاصيل، ولكن عندما جاء فتحي مع أبيه لخطبة زينب، كنت تائهًا كأنني في عرض البحر وحدي، ولم أستطع أن أتخيل خلو البيت من شقاوة زينب وحنانها.
قلبي يُحدثني أن ليلى ولدت، حلمت بالأمس ببيضة في برج الحمام!
أقولها وأنا أسحب الشراب الصوف من تحت المخدة، وأدفس قدمها فيه.
لا.. زينب قالت لي: إنها ستلد مع دخول الصيف.
أصعد فوق السرير، وأتمدد بينما تنزل هي تتسند على البوفيه:
هاتي معكِ كوب مياه.
* * *
أتعكز على البوفيه والكرسي، وآتيه بكوب الماء الذي يرتعش من يد إلى يد.
زعق عليّ من وراء الشباك:
الحكومة.. الحكومة.
وجرى بسرعة إلى الحجرة الداخلية كي يبحث عن كتاب يمسكه، بينما يدور محمود حول نفسه وفي يده سيجارة مشتعلة، فأشير إلى المطبخ، وأنا أمسك الحمامة الصغيرة وأسقيها من فمي. أعرف عندما يدخل سيسأل عن أكل الحمام والذرة العويجة التي اشتراها بالأمس له، يدفع الباب الخشبي ويدخل في بذلته الزرقاء والأزرار الصفراء اللامعة. عندها يكون محمود واقفًا أمام الثلاجة يشرب حتى يداري رائحة السجائر، ثم يرفع يده، ويقول:
تمام يا حكومة، المذاكرة تمام.
فأضحك، ينظر لي معاتبًا وهو يخلع بذلته، أشرق فتشرق معي الحمامة الصغيرة التي أسقيها، بينما تضحك زينب عندما يدغدغ الحمام يدها، وهي تنثر له الذرة العويجة على أرضية المنور.
أبحث عن اللزقة على البوفيه، فتتعثر يدي في خطابات محمود فأفضها، كروت ملونة من بلدان مختلفة، وكلمات قليلة متناثرة، صورته مع زوجته الشقراء جالسين على شط نهر صغير، صورة أولاده وهم صغار ولأول مرة ألاحظ أن ابنته تشبهني.. أُخرجُ اللزقة من العلبة الكرتون فيرفع جلبابه، ألصقها في منتصف الظهر، وأشد جلبابه وأفرد البطانية.
* * *
تأملتها وهي ترتدي فستان الفرح، وشعرها منسدل على كتفيها، ففرت دمعة مسحتها بباطن يدي وقلت لزينب:
بخري ابنتك.
تضحك ليلى وتقول:
بخور إيه يا تيته! أنا مسافرة أميركا.
أزعق في البنات من حولي:
ارفعن لها شعرها بالبنس، وأنتِ ضعي لها التاج، عيني الشمال بترف!
لكني في النهاية أبتسم وأنا أُلوّح لها في المطار.
* * *
ننزلق تحت البطَّانية، يخلع نَظَّارته وأخلع نَظَّارتي، وككل يوم يُشَبّكُ يده في يدي، وأُشَبّكُ يدي في يده كي يطمئن كل منا لدفء الآخر.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق