كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أرض الأحياء في المكان الدلموني ومقابره المائية
في أرض الأحياء كما غلغامش، شدّتهم الحياة إلى أبدية الخلود، فكانوا الباحثين دومًا عن خلودهم، مُدلّلين أطفالهم وزوجاتهم، ملؤوا كروشهم بالأكل، وشربوا من ماء الحياة ما يكفي لجعل أيامهم راقصة وزاهية. غواصون لم تكن محارتهم غير لؤلؤة مستقرة في أعماق بحارهم القريبة، ولم تبتعد كتلك العشبة الأبدية. غوايتهم لؤلؤة تتراقص في سَحر الليل، وأفعاهم أنثى تتلظى في سرير الشتاء المُشتعل باحتراقهم، يُشعلون الغناء بفوانيسهم، ويتراقصون حبًّا في نجمة الصبح الغائبة.
لكنهم في أرض الأحياء، نعم أرض الأحياء البعيدة عن غلغامش، وخلود لم يبحثوا عنه بموت أو طوفان، وأنكيدو لم يكن مُسجى بينهم، حين باغتهم إعصار ليلي ليرميهم بعيدًا عن زوجاتهم.
ملّاحون بشعاع الشمس المُشرقة بأعينهم، حتى كأنهم من يبعث الشمس من زرقة الماء؛ أورشنابي ملاح فُلكٍ ماهر في اصطياد الموج، أورثهم حِكمته البحرية لاجتياز الصّعاب، ولم يأتمنهم على مَردياته، وألواح الميّ السبعة؛ وأتونابشتم سيدهم الحكيم وغواص البِحار الأزلي في أرض الأحياء، أرضهم.
تُرى لِمَ اختارَ أسلافي سكنهم في خاصرة البحر؟
مثنيّةٌ أرضهم، كقوس رُمح مشدود في وجه الشمس، وغصن سلام ينحني في ضوء القمر.
قربهم نامت سلالات وتناسلت، ومقابر مائية شُيّدتْ فوق مياه ضحلة، وأرخبيلات تباعدت في الحروب، وتدانت في الفرح.
إلى أيّ السلالات ينتمون؟
احتاروا في تشييد بيوتهم، حين اهتدوا إلى بقعةٍ حملت روائحهم، ولم تكن الأختام المدفونة واللقى، وقطع فخاريات محروقة ومتكسرة غير مفاتيح لكنوز أسلافهم البعيدين في تحولاتهم وأسفارهم بين البِحار، ولم تكن تلك المقبرة المائية، إلّا واحدة من المقابر المتناثرة داخل جزيرة تنام في حضن البحر، وتستفيق على صباحات متبدّلة.
عابرة بلون وجوه وأناس وبشر
أحبار، قديسون، رهبان، وراهبات. مطران، أبرشية، ومشمّسون. مهرّبون، تجار، غزاة، وباحثون عن كنوز وأمجاد. هاربون من قسوة بلادهم وولاتهم وملوكهم وقبائلهم وعشائرهم، أو توّاقون لخلودٍ أبديّ سطّرته ألواح وكتب منزلة ووصايا آلهات.
هل دُفنتْ تلك المدوّنات والألواح في القبور المتناثرة؟
حمورابي أيضًا تاق لكنوز أسلافه، حين فاضت مراكبه بحمولاتها ولم تغرق، وهي تحمل الموتى والكنوز والحلي والأثواب والفخاريات والجرار، وتتوارى عن الأعين. هذا هو سرُّ المدافن التي لم يعرفْ سرّ غيابها أو تغيّبِها عن الناس، ولو بطرفة الحكايات، وهي تتناقل أو تُلاك على الألسن.
الأسلاف وهم يتنقلون في عرض البحر بأشرعتهم، لم يأبهوا لهذه الأسرار التي باتت قرب أنفاسهم، حتى أرجلهم وهي تطأ أرضًا حسبوها محروقة بلون رمادها، أو بيوتات قديمة لمذابح ديانات أيضًا مرّت قرب بيوتهم وهم يشيّدونها بغناء ومرح، ورقصات تتمايل بها الأجساد، وأكف وزغاريد بأجساد البنات، ويعبثون بفخاريات تتناقلها كفوفهم أو في حضن أحفادهم، يرمونها في عرض البحر سابحة كأسماكٍ على صفحة الماء.
فلنُشيّد منازلنا هنا: صاح كبيرهم!
هذه البقعة، نحن.
لتكن مباركة خطواتك يا نساءنا، يا أمهاتنا ويا زوجاتنا. ليجلل الرّب العزيز تعبكم بهذه الشمس، وهي تحرق سحنات وجوهكم كي تزداد اسمرارًا.
هذه البقعة المُنحنية على هيئة قوس هي «فنيتنا»، وهي مقامنا وطيب إقامتنا، فليَهُم الجميع إلى ربط سفننا وقواربنا باليابسة، وإنزال الأطفال والنساء والأكل والفرش وما بقي من زادنا ومحارنا ولؤلئنا النفيس.
شُيّدت المنازل متلاصقة ببعضها. منازل بسيطة صُنعتْ من جريد النخيل، وخيوط اللّيف المفتولة أسموها «المختوم»، سهلة البناء والحمل والتنقل، جاورتهم سفنهم وجاورهم البحر بموجه وزرقته، حيث مبتغاهم الأزلي. من بعيدٍ تتراقص النوارس وتحط على «دقل» سفنهم. تغسل أشرعتهم بياض الزبد وتلوّنه بنيل «بندرهم»، وهم يرسونَ مراكبهم بأدعيةٍ حفظوها بالوراثة عن آباءٍ وأجدادٍ بعدتْ بهم المسافات والأزمنة، وتعددت وتبدلتْ بهم الحكايات وهم يتناقلونها من بحر إلى يابسة، إلى بنادر ومرافئ ودوحاتٍ. أشعلوا بها نجومًا وثريات لسماواتٍ وبحار زرقاء، تسامرتْ بمواويلهم وحكاياتهم وهم يتوارون في الغَبيب.
من خلفهم تتراقص غابات من خوص النخيل، تتمايل بحمام الدّوح وتغريد البلابل.
صوت المياه وهي تتناهى إلى أسماعهم قبل الجسد، توهنُ العطش المتربص بملوحة البحر، وشياطين الجوع وهي تتراقص على شفاه يابسة حد التشقق.
بحركة من أصبعه وهو يشير إلى حدود المنازل والبيوت التي ستشيّد متراصة ومتقاربة حدّ اللّهاث، وهم يغطّون في النوم بنصف إغماضة، حين يفترشون الرمل ويلتحفون السماء.
هنا ستكون البقعة التي ستشهد تحولاتهم الجديدة، حتى نسلهم حين يتكاثرون، تكون الحكايات سرّ أبوّتهم وهم يرمّزونها لأحفادهم بكثرة الغواية في سرّ تناسلهم وغناهم وفقرهم، وتبدّل الألقاب والأسماء، حتى أعدائهم وهم يصفونهم بازدراءاتٍ بعيدةٍ عن النميمة والتشهير، تلك عادة يتوارثها الأحفاد في تنقلاتهم ورحلاتهم أو في تبدل مهنهم وصنعتهم وطرق عيشهم. ذاك منعطف آخر يزلزل أرض الأحياء التي أسميتها هنا، تيمنًا بأرض الخلود الأبدي، أو بأرض المقابر المائية المنسية في المدونات.
المكان تكثر به التلال، متغاوية على مشهد البحر كجذع ملكة تبرز مفاتنها بخيلاء التعفف والشبق المخفي تحت دلال الترف والجوع، إذ ينهش الجسد بلسعات أطرافه بنسمات الفجر، وهو يودع صمت السواد بردائه. الحكايات تتناقل أو تنقل لهم عن أقوام مرّوا أو أقاموا قرب الماء، شيّدوا المعابد، وتركوا القبور، تركوا عاداتهم وصلواتهم، فتناسلت بين الناس، وتغلغلت في قيامهم وقعودهم، حتى في طرق أكلهم وشربهم، وممارسات عباداتهم..
ربما هنا –وهو يشير إلى القبور أو التلال المحروقة- صاح بهم كبيرهم، دفنوا موتاهم وكنوزهم، هم من يُسَموا بالسومريين أو البابليين، هذا ما سمعته من أجدادي وأسلافي، قرب الماء كان يطيب لهم المقام، هؤلاء من أتوا من العراق الذي تتوقون بالذهاب إليه كلما جاد لكم البحر من خيراته ورزقه بعد انتهاء موسم الغوص.
بهذا الوصف المقتضب كانت فاتحة ليلتهم الأولى، في مكان شدّوا به أوتار الحبال، وهم يبرّجون خطوط الطول والعرض لأساسات بيوتاتهم، وقد صبغوها بدماء الدّيكة المذبوحة والمتعفرة بدمائها؛ كي يحلّوا أرضًا ويبيحوها، فتطأ أقدامهم مُباركة خطوهم.
منذ أن ضلّ هذا السّرد خطوه أو أثر أسلافه، وأنا أحاول جاهدًا لاصطياد تلك اللّحظات الهاربة من المُخيّلة البعيدة، لهذا الوصف الذي يتعثر بغبشةٍ من أزمانه المنسية. أسميته بأرض الأحياء أو الأحلام، وهي تسمية أيضًا مغبشة لِما تاقت له أرض الأحلام أو الأحياء أو دلمون الخلود. وأعرف أن أسلافي هم أيضًا ممّن ورثوا تلك الحكمة البحرية من حكيمهم الأول «أتونابشتم»، أو من مُنح الخلود بعد الطوفان في أرضهم المباركة. وأعرف أن مهنة الغوص، أو تلك المهنة الأزلية، هي مهنتهم، وهم يورثونها لأحفادهم، وأن عشبة الخلود ليست بتلك العشبة التي تدور حولها الحكاية الخالدة في الملحمة الغلغامشية. إنما هي «اللؤلؤة» النائمة في محارتها التي تنام في حضن بحرهم الطاهر. ولولا تلك المُخيلة ودورانها في فلك «أورشنابي» الملاح الذي سافر بعيدًا بهداية الكواكب والنجوم، والمرديات السبعة بقدسية الماء، وما صاغته الحكاية والحكمة التي صرخت بها «سيدوري» سيدة الحانة وكاهنتها في وجه «غلغامش» التائه قربَ حانتها، وهو يبحث عن هدايةٍ وحيرةٍ للوصول إلى أرض أسلافي؛ للبحث عن خلوده:
إلى أين تمضي يا غلغامش؟
إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها
أرض الأحياء، هي أرض أسلافي وما حملوه من جينات مكانهم. وما وصفته في كتابةٍ بأنه المقبرة الدلمونية، أو ما أسماه صديقي الكاتب العراقي والقاص «علي السوداني»: بالمقبرة المائية. حينَ وصفت له المكان المُتخيّل في الكتابات العراقية التي تتناول الوصف وتنشد بمخيلة الأدباء أو من كتبوا «ملحمة غلغامش» وهم يتوقون بالسفر إلى أرض الأحياء، أرض أسلافي. أتعثر كثيرًا في المشي، أو في الوصف، أو حتى بالمسك بأول خيطٍ من خيوط الفجر، وهو يفتح باب الأفق من الوعي البكر، لتلك المناحات العاشورية في طفولة قماطي، وأنا أنزعه أو أقطع رباطه الملفوف على جسدي الغرّ؛ لأتذكر الشيخ الآتي من العراق، ليحط ّفي بيتنا المتواضع والمبني من سعف النخيل، ويجلس بين فيّها ونسمات البحر الرطبة. أسمع الأناشيد بوجعها، وأحزانها، وسواد ليلها الدفين، وتلك الحسرات المتباعدة، وجرّات الوجع من خيوط نحيبها. هذا ما أدركته لاحقًا في قراءاتي الأولى من روايات «غائب طعمة فرمان» في النخلة والجيران، وخمسة أصوات. قبل أن أقرأ العراق القديم لجورج دو، أو حتى القراءات المتأخرة لمحمد خضير وبصرياته، أو مصاطب الآلهة لمحمود جنداري. كل ما تشكل للمكان الذي أعيش فيه وبه، يفتح لي هذه النافذة الشمالية على سعة سماواتها حتى وإن غابت نجومها. كل هذا الأفق سافر بي بعيدًا، وتغرّب بي في قراءةٍ ربما هي أيضًا غائرة في الأديم. تاقت روحي إلى تتبع «نابونيد» وهو يشيّد معابده وأسواقه في تيماء ودومة الجندل ويثرب وفدك وخيبر، ويفتح أبواب التجارة مُتغربًا عن بابل التي طُرد منها.
جاورت قصر عشتار ومعبدها، وتتبعت كل أثرٍ وكتابةٍ لمكانٍ وجزيرةٍ تتناثر قبورها قرب الماء، وهم يتغنون بفينيقيتها العابرة، وكمن يتناسى تلك النسمات العذبة برافدينيتها الأولى، ألبسوها ثوب ملوكيتها الفينيقية، ونشروا عباءة بابليتها كشراعٍ على صارية السفن الفينيقية ببيارق حمراء. أتذكر الإنشاد بصوت «ملّايات» المآتم العاشورائية في أرض دلمون، وأسمع صوت أرجلهم، وهم يضربون الأرض بصرخات خافتة من صدورهم، حين اهتديت في قراءاتي «للأكجيتو» بأيامه العشرة في أعياد النوروز. تلك الأعياد التي توارت الآن من «روزنامة» طفولتي، ورقصات بين فتياتٍ حُدّث ونساء طافحات بشهوة الرقص والغناء، وتلصص عين الطفولة بين الصدور ونهرها.
تلك الأعياد التي تنشد بها «ملاية» دلمون في الأينوما إيليش، قرب معابد بابل وشوارعها. ذلك الإنشاد الدلموني هو من يشد خيط الحزن الذي لم ينقطع، وبقي كما عشبة الخلود أو لؤلؤته النائمة في بحر دلمون الصافي، أو دفن بين قبوره المتناثرة ومقابره المائية. تلك الأسرار التي خلّدت هذا المكان الطاهر، وخلّدت كتابتها وألواحها، وبيوتها التي شُيّدت بألواح الملح، وموانئها، وهي تُودع سفنها وملّاحيها، وهم يحملون الهدايا والبخور والتوابل والأردية الحريرية لبلاد ما بين النهرين ومعابدها.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
ما اجمل هذا الوصف الباهي. هو رحلة ضبابية حالمة في زورق التاريخ المجهول. تاريخ تراكم فوقه النفط وسلب زرقته الخلابة وروحه النائمة على نسمات البحري. رائعة تلك اللؤلؤة الأنيقة التي وصفتها. أتنقل بالذاكرة بين فيئها وحرها تارة على رمال السيف الناصعة البياض وحينا تحت ظل نخلة من غرس جدي. واعود الى صفحة البحر أخوض في المنادي والعب الهول واتقاسم الفرحة مع النسيم ثم اقفز مرة اخرى الى “تلال” الرمل الداكنة أتأمل أخاديد التاريخ التي حفرها باهتة على وجه هذه الأرض ، ارض الأحياء.
ما أروعك يا سيدي. دمت ودام قلمك الأنيق.
نص باذخ الجمال والدهشة او لنقل هو نص آخر من خوابي حسن دعبل .
كأن انعكاس الوجوه على صفحة الشط ، يشير الى انعكاس الشجن المؤبد بعد ان بدل جلجامش وجهته فخدع المؤرخين والبلدانيين الذين قالوا فيه ما ليس له .
وانت تقرأ هذه المناحة الصوفية ، سيرك جسدك فتتعب فتنهض لكمال المعنى ولذة الندب فتخر ثانية على أسك الأول
آهٍ يا شقيق الوجع يا حسن
هل حرثنا ارضها مرة فازهرت وصارت ليلة بعيدة؟
ام هي ما زالت تلبط ببقيا حيلها وحيلتها في سكراب الذاكرة ؟!