كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الكِلِيم التونسي وبناء مفهوم «اللوحة الجاهز»
يمثل هذا المقال محاولة في إمكانية طرح إنشائيات مختلفة للعمل التشكيلي، وذلك من خلال فرضية تتناول اللوحة من وجهات نظر مختلفة. وقد اخترنا هنا أن تكون اللوحة المعتمدة لهذا الطرح لوحة لبول كلي، هذا الرسام الذي نهل من المورث التونسي، وكانت له طريقته الخاصة في وضع الألوان، على شاكلة طبقات، فكانت لوحة بول كلي في ذاتها «محملًا» لإنشائيات مختلفة. وعنوان هذه اللوحة هو «في أسلوب القيروان» وهي منجزة سنة 1914م.
سنحاول في مرحلة موالية، وانطلاقًا من المرجعية التي استند إليها بول كلي، بناء مفهوم اللوحة الجاهز. ونعني بالمرجعية هنا ما استند إليه بول كلي من الموروث التونسي لتتشكل أعماله مناظِرة في الرؤية العامة على مستوى الشكل واللون تُعيدنا إلى أصلها كما تُعيدنا لوحة بول كلي المعنونة «النار في المساء» والمنجزة سنة 1929م إلى «الكِلِيم»(١). وذلك بهدف التأسيس لرؤية جديدة للوحة بإخراجها من الانغلاق وتراجعها أمام كل محدثات الفن المعاصر في نظرة ارتدادية وإعادة الاعتبار لأبعادها الثنائية التي تختص بها. وأيضًا قد تكون قادرة على استيعاب كل تحديات الفن المعاصر والمحافظة على مكانتها وقدرتها على بناء إشكالياتها اليوم من دون التخلي عن مميزاتها وخاصياتها. بل على العكس من خلال دعمها لإمكانياتها من الداخل وتطويرها في ظل الرهانات الكبرى التي تواجهها اليوم، وذلك بتطوير ذاتها بذاتها ومن صميم جوهرها، أي أن تصير اللوحة بذاتها معاصرة شكلًا ومضمونًا.
روح اللوحة وتعدد المنظورات
ومعنى «اللوحة الجاهز» هنا أي أن يصير هذا المفهوم في تحققه مكونًا من مكونات اللوحة، وهكذا تنهل اللوحة من ذاتها فلا تخرج عن شكلها وتصير معاصرة في حركة ارتدادية نحو الما-قبل اللوحة الذي هو اللوحة ذاتها ونقصد هنا باللوحة ذاتها اللوحة المرجع «لوحة بول كلي». ليس الفن، في نظر بول كلي، فعلًا أو فكرة أو مادة وروح فحسب وإنما هو علاوة على ذلك مسار وصيرورة ينبغي دائمًا الوقوف على أهميتها، لا بوصفها خاصية الأثر الفني فقط، بل بوصفها أيضًا قانون الوجود ذاته «… والأثر الفني هو كذلك وفي المقام الأول مسار ونشوء بحيث لا يمكن تمثله كمجرد نتاج»(٢) وهكذا يمكن القول: إن الفكرة ومسار التشكيل مقومات جوهرية محددة للأثر وللتجربة التشكيلية، وهو ما يجعل الوقوف عندها أمرًا أساسيًّا لا مناص منه.
إن سعينا لمساءلة إنشائيات مختلفة للعمل التشكيلي هو في الحقيقة يمثل مرحلة أولى أو تهيئة أرضية عمل لبناء مفهوم «اللوحة» الجاهز انطلاقًا من لوحة بول كلي المعنونة «في أسلوب القيروان». مثلت هذه اللوحة وحدة قائمة بذاتها تمامًا كما أن العضوية بنية مستقلة ولها وجودها الخاص. إن هذه اللوحة متنوعة بتنوع الناظرين إليها وهي في كل مرة لوحة مختلفة باختلاف المتلقي. ولكن هذا التنوع والاختلاف بَدَهيّ وهو لا يُحرِجُ اللوحة ولا يهدد بنسف وحدتها؛ وذلك لأن اختلاف هذه الإمكانات باختلاف الناظرين قائم في اللوحة وهو الذي يحقق وحدتها كأثر فني منفتح على المعنى كمجال للتأويل.
إن طرح إنشائيات جديدة للوحة تمثل فرضية عمل، فاللوحة لا تنفي إمكان التنوع كاختلاف فعلي وحقيقي. إن إعادة تشكيل لوحة بول كلي «في أسلوب القيروان» من منظور الأسلوب التقني والرؤية الفنية يؤدي بالضرورة إلى تنويع اللوحة وإلى تشكيلها تشكيلات مختلفة ومتغايرة. غير أن هذا التنوع لا يلغي وحدة اللوحة ولا ينفيها؛ وذلك لأن في اللوحة شيئًا ما لا يمكن تجاوزه، وإن تعددت المنظورات واختلفت، ويتمثل هذا «الشيء» في روح اللوحة ذاته وفي جوهر تكوينها. ففِيمَ يتمثل هذا الروح وما حقيقة هذا الجوهر؟
قد يذهب بنا الظن إلى أن روح اللوحة إنما هو جماليتها ذاتها بمعنى ما تحقق فيها من توافق وتناغم في الشكل واللون والقيم الضوئية، وليس هذا الظن باطلًا وإنما هو ظن مشروع، ولكن الأمر الذي ينبغي الانتباه إليه إنما هو دلالة «الجمالية» عند بول كلي ذاته. فالجمالية لا تعني عنده التوافق والتناغم المطلق، وهي لا تعني الثبات والاكتمال، «فالسلام على الأرض ليس إلا توقفًا عرضيًّا لحركة المادة، فالأخذ بهذا الثبات والتوقف عنده (بوصفه حالة انسجام وتناغم) كواقع أولي ليس إلا وهم»(٣).
حركة اللوحة وصيرورتها
هكذا فإن الفني في الفن هو الحركة ذاتها، «فالأثر الفني ينشأ من الحركة، بل هو ذاته حركة مُثبتة وهو يدرك في الحركة»(٤)؛ فالحركة بوصفها صيرورة ومسارًا منتجًا هي الجوهري وهي تقع فوق الوجود وأعلى منه(٥). وبهذا المعنى يمكن القول: إن «العرضي يميل اليوم إلى أن يحتل مقام الجوهري»(٦). إن الفني في الفن هو إذن حركة التشكيل ذاتها وهو المسار الإنشائي الذي تنشأ من داخله صيرورة اللوحة. ففِيمَ تمثّلت الحركة والصيرورة التي عنها نشأت اللوحة «في أسلوب القيروان»؟
لا تتعلق هذه الحركة الإنشائية بلحظة الإقبال على إنجاز الأثر وإنما تتعلق بلحظة سابقة عنها هي لحظة الإثارة والاعتمال الوجداني الذي يحرك الفنان ويدفعه إلى مباشرة الفعل(٧). وتتمثل هذه الحركة الوجدانية في تأثر بول كلي بجمالية بعض المدن التونسية وبجمالية المنتوج الفلكلوري (الكِلِيم) ويمكننا عَدّ هذه الجمالية تمثيلًا للمرجعية الدلالية التي تستند إليها لوحة «في أسلوب القيروان».
وهكذا مثلت هذه المرجعية رُوح اللوحة وحركتها، وبالتالي ما لا يمكن تجاوزه أو إلغاؤه وإن تنوعت الأساليب والرؤى المشتغلة على اللوحة. فوحدة اللوحة كامنة إذن في هذه المرجعية الدلالية وفي كيفية تأثر بول كلي بها. ولكن إلى أي مدى يمكن استنطاق هذه المرجعية بحيث تتحول من مجرد خلفية دلالية أو مجرد حقيقة كامنة إلى لوحة قائمة بذاتها؟ إن الاشتغال على لوحة بول كلي أظهر حقيقة هذه المرجعية، فهي غير قابلة للاختزال، كما لا يمكن إلغاؤها، بحيث لم يؤدِّ هذا الاشتغال إلى تجاوز اللوحة وإنما أدى إلى مصالحتها مع أصلها الذي انبثقت عنه. فبدا لنا أن الاستعادة الفعلية للمرجعية الدلالية (الكِلِيم أساسًا) على مستوى اختيار الحامل واختيار النغمية اللونية أمرًا لا مناص منه. وهكذا تَأكّد لدينا أن هذه المرجعية (الكِلِيم) قابلة لأن تكون هي ذاتها لوحة إذا ما أفرغناها من بُعدها الاستهلاكي الأداتي.
سعينا في البدء إلى تصور حوار يدور بيننا وبين بول كلي. وليس هذا الحوار المتصور حوارًا مقاليًّا وإنما هو حوار إنشائي يقوم على أساس مقاربة وإعادة تشكيل لوحة بول كلي بأسلوبنا الخاص. ويتمثل الهدف من إجراء هذا الحوار الإنشائي في الوقوف على الإمكانيات الكامنة في هذه اللوحة وعلى الانفتاحات الممكن اختبارها فيها. ويتمثل أيضًا في الكشف عن الجوهري في هذه اللوحة، أي عما يحافظ باستمرار على وحدتها وإن تعددت المقاربات الأسلوبية واختلفت الرؤى. ولعل تنوع هذه المقاربات الإنشائية وتمايزها واختلافها يؤدي أيضًا إلى إظهار الثراء الدلالي لهذه اللوحة وإلى استنطاق عمق التجربة التشكيلية. وإن هذه الإنشائيات المختلفة للوحة لتؤسس في الحقيقة إلى التأويل الفعلي والفهم الحي النابض بالمعنى المادي.
إعادة تشكيل المنجز
هكذا ومن خلال الكشف عن المرجعية التي تستند إليها اللوحة، والوقوف على أهمية هذه المرجعية في تحديد وحدة اللوحة، تأكد لدينا إذن أن العودة الفعلية إلى هذه المرجعية (الكِلِيم أساسًا) وذلك على مستوى الحامل وعلى مستوى النغمية اللونية أمر مشروع ووجيه. وهنا تحديدًا يمكننا الحديث عن مفهوم «اللوحة» الجاهز. وإن اشتغالنا على «الكِلِيم» لهو إعادة تشكيل «المتشكل»، وهذا هو معنى «المتشكل الجاهز» أو «اللوحة» الجاهز، وليس من معنى لإعادة هذا التشكيل إلا إذا كان إحياءً فعليًّا لجمالية «الكِلِيم»، لا على نحو محض وإنما بالنظر إلى اللوحة المنجزة. إن حدود هذا العمل ناشئة من طبيعة الفكرة الموجهة للعمل، وهي راجعة في الأساس إلى أن هذا العمل كان موجهًا وواعيًا بذاته إلى حد ما. وهكذا يمكن القول: إن في هذا العمل التقاءً مباشرًا بين العناصر التشكيلية وبين «إشكالية» ترسم الفضاء وتضع الحدود في آنٍ. ولعل «الفن المحض يفترض التلاقي المرئي بين رُوح المضمون وبين تعبيرية عناصر الشكل»(٨).
سنتلقى هذه اللوحة -«اللوحة» الجاهز- المتمثلة في لوحة بول كلي بطريقتنا، حيث سنستند إلى المرجعية الدلالية، وسنحاول من خلال الإنشائيات المختلفة للعمل التشكيلي التأسيس لمفهوم اللوحة الجاهز، حيث يمكن اعتماد اللوحة هنا كجاهز يُستَغَلُّ لبناء اللوحة، فتصير اللوحة هي التي تبني اللوحة، بمعنى أن تصير اللوحة مادة خام يمكن الاشتغال عليها وتطويعها. وإن هذه الازدواجية في وظيفة اللوحة كمؤسس للعمل التشكيلي وكعمل تشكيلي قائم بذاته ليجعلنا نقف أمام ثراء معنى ومفهوم اللوحة الجاهز وبخاصة مع الفن اليوم الذي نريد معه إعادة الاعتبار للوحة.
إن المرجعية الدلالية تُعَدّ كجوهر لا كمجرد خلفية. ونشير هنا إلى أن التعامل مع الكِلِيم لم يكن بقصد التنويع في الحامل أو بقصد الاستعادة والاسترجاع، وإنما بقصد العودة الإنشائية لنقطة انطلاق المسار التشكيلي الذي نشأت عنه لوحة بول كلي في «أسلوب القيروان» فكان الإنشاء الجديد.
وإن كان ليس من المؤكد أن هذه اللوحة قد استلهمت فعليًّا من جمالية «الكِلِيم»، فإن إرجاعها إلى هذه المرجعية عمل تأويلي يستثمر الإمكان ذاته؛ إذ يمكننا أن نجد بين هذه اللوحة وبين الكِلِيم علاقة دلالية ما، وإن تناولنا لهذه اللوحة واشتغالنا عليها بهذه الكيفية يستند إلى هذه الفرضية التأويلية. وهي فرضية مشروعة إذا ما نظرنا إلى تجربة بول كلي نظرة عامة، وإذا ما أعدنا النظر في الأسلوب الذي اعتمده كلي في إنجاز لوحته «في أسلوب القيروان». كما أن هذه العودة إلى هذه المرجعية الدلالية تُمثل استعادة إنشائية للأصل الذي صدرت منه اللوحة، وليس تجاوزًا لها. وهو أمر ذو أهمية قصوى لإغناء إشكالية «الإنشائيات المتعددة للعمل الفني والتأسيس لمفهوم اللوحة الجاهز» وإثرائها بدلالات أخرى.
حاولنا في بادئ الأمر أن نتتبع بعض الألوان المطابقة للألوان الموجودة في الكِلِيم، فكنا كمن يلاطف هذا المنسوج المتشكل لتقبل الألوان. وقد مكنتنا هذه التجربة من الاستفادة من الإمكانيات التشكيلية التي يحتويها الكِلِيم، كما مكنتنا من الكشف عن الثراء الدلالي للوحة بول كلي، وذلك في إطار العودة بهذه اللوحة إلى أصلها المرجعي. ويمكن القول: إن هذه التجربة قد كشفت أيضًا عن الثراء الرمزي للكِلِيم، من جهة ما هو منتوج حِرَفِيّ لا يخلو من لمسة فنية ومن ذوق تلقائي حي ومباشر، جعَلَنا ندرك جمالية الكِلِيم في نغميته اللونية. فبدا لنا أن الكِلِيم قابل لأن يكون هو ذاته لوحة قائمة، وتُعَدّ مرحلة الرفع من قيمة الكِلِيم جماليًّا مرحلة تجاوز حقيقية، تجعلنا ننظر إلى لوحة بول كلي من منظور آخر لا يخلو من حوار بما يفترضه الحوار من تفاهم حينًا ومن خصومة حينًا آخر.
هوامش:
(١) الكلِيم: هو منسوج من التراث التونسي يفترش أرضًا للجلوس عليه.
(٢) بول كلي: نظرية الفن الحديث.ص 38.
(٣) ن. م. ص 37.
(٤) ن. م. ص 38.
(٥) ن. م. ص. 61.
(٦) ن. م. ص39.
(٧) يميز بول كلي في الأثر الفني بين ثلاث حركات: حركة الإثارة الحاصلة فيما قبل الإقبال على العمل، والحركة الفعلية المتجهة نحو الأثر، والحركة المتجهة نحو المتلقي؛ انظر: ن. م. ص 59-60.
(٨) ن. م. ص34.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية
ولد الفنان التشكيلي سعد يكن في مدينة حلب 1950م في حي الفرافرة، من أسرة تركية الأصل. شارك في أكثر من مئة معرض جماعي في...
0 تعليق