كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المخطوطات العربية-اليهودية.. كيف يمكن استعادتها بالتحقيق والدراسة؟
إن المخطوطات العربية- العبرية، أي تلك التي دوّنها وألَّفها اليهود الذين كانوا يعيشون في الأقاليم التي تُعرف اليوم بالوطن العربي، جزء من ثقافة الأمة العربية الوارثة والحاضنة لها. وتكتب هذه اللغة بالعربية ولهجاتها المختلفة بالرسم الآرامي، أو بالحرف الذي تستخدمه اللغة العبرية المعاصرة. وتعرف بالأدبيات الإسرائيلية بالعربية- اليهودية والأجنبية بالعربية الوسيطة (Middle Arabic).
في البداية استخدم اليهود حركات اللغة العربية ومع تطور النحو والصرف العبريين في القرن العاشر، وفقًا للقلم الطبراني، تحولت كتابة الحركات إلى التي تم اعتمادها في اللغة العبرية. وفي القرن العشرين، في خضم المشروع الصهيوني، حاول بعض اللغويين اليهود اعتبارها لغة مستقلة عن العربية فبنوا لها منهجًا في النحو والصرف والكتابة أقرب إلى اللغة العبرية. لكن من يجيد اللغتين العربية والعبرية يكتشف أنها فذلكات لا تصمد أمام مناهج نقد اللغات، ليدرك الباحث أنه أمام لغة عربية سواء كانت معيارية صرفية أو يتخللها بعض اللهجات الدارجة. ويمكن القول: إن محاولتهم تندرج في بناء سردية يهودية منفصلة عن حضارة المنطقة والشعوب الذين ينتمون إليهم في الواقع.
يمكن القول: إن الأشهر والأهم في هذا الموضوع هو الجنرال الدكتور يهوشُوع بلاو (1919- 2020م) الذي كرس جهده الفكري في هذا الموضوع ونشر فيه عشرات المقالات والكتب بالعبرية والإنجليزية. وقد كان (بلاو) مترجمًا للسادات في أثناء زيارته القدس سنة 1977م.
نشأتها وتاريخها
بعد الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، حلت اللغة العربية تدريجيًّا مكان الآرامية، كلغة اليهود المنطوقة والمكتوبة في الأراضي المفتوحة من بابل (العراق) إلى المغرب العربي. وفي القرن التاسع تحولت العربية إلى اللغة الرسمية في البلدان والأقاليم الإسلامية والعربية «وتغلغلت أيضًا في أقدس أركان الثقافة اليهودية: الشريعة اليهودية والتفسير المِقرائي [التوراتي] وحتى قواعد اللغة العبرية»(١). ومع انتقال مراكز الثقل السياسي والثقافي في هذه الأقاليم انتقلت مراكز ثقل العربية- العبرية إليها، بداية إلى بغداد (بابل في تلك الأدبيات) في القرن العاشر، ثم إلى الأندلس في نهاية القرن الثالث والرابع عشر الميلادي- حال موضوعات الثقافة العربية.
في نصف القرن الأخير تكشف للعلماء والباحثين في العربية- العبرية أنها نشأت في سياقين متوازيين ومختلفين في الوقت نفسه، وهما الطريقة الصوتية التي اعتمدت الكتابة حسبما تلفظ الكلمات في اللغة الدارجة واختفت الكتابة فيها في القرن العاشر؛ والطريقة المعيارية وفقًا للقواعد النحوية والصرفية العربية التي سيطرت على الكتابة اليهودية حتى منتصف القرن التاسع عشر وبداية الصراع اليهودي- العربي.
يرى اليهود لغتهم مقدسة ولها مكانتها الدينية الخاصة بينهم (مثل المسلمين)، وكان يحظر عليهم استخدام كلماتها، مصطلحاتها وأحرفها لغير الشؤون الدينية؛ لذا يُطرح السؤال لماذا استقبل اليهودُ العربيةَ، وإن كانت شقيقة للعبرانية القديمة من حيث جذور الكلمات والمبنى الصرفي لها؟ عن هذه الأسباب يقدم الباحثون اليهود أسباب عدة وهي: ظاهرة تبني لغة أجنبية كلغة ثقافية جديدة لم تكن غريبة على اليهود وغيرهم من الطوائف الدينية والإثنيات المختلفة مثل انتقالهم من الآشورية إلى الآرامية ثم العبرية. استخدم القُراء، الذي انسحبوا من اليهودية الرسمية (الحاخامية)، اللغة العربية، وقد استلزم الجدال معهم استخدام اللغة العربية؛ رغبة من فقهاء اليهود وأحبارهم في التواصل مع قواعدهم الشعبية باللغة التي يجيدونها وهي اللغة العربية، وتثبيت اليهودية الحاخامية بين جميع اليهود مقابل النزعات الأخرى الانفصالية كالقرائين(٢).
هذه الأسباب عامة جدًّا وغير مقنعة كفاية لانتقال اليهود من الكتابة بلغتهم المقدسة إلى لغة مقدسة أخرى ألا وهي العربية؛ لذا يمكننا إضافة ما يأتي: شكل نشوء الإسلام وانتشاره بين الجماعات والأقوام المختلفة تحديًا خاصًّا لليهودية واليهود الذين اعتقدوا أن الإسلام تطور من اليهودية، أو أنه نسخة جديدة منها، فبدؤوا يعتنقون الإسلام جماعات ووحدانًا، أشهرهم كعب الأحبار؛ لذا لم يكن أمام فقائهم وأحبارهم إلا استعارة المنظومة المعرفية الدينية الإسلامية (وكأنها يهودية) لثنيهم عن اعتناق الدين الجديد.
ومن يطلّ اليوم إطلالة بانورامية على العائلات العربية في بعض الأقطار العربية يجد عائلات مسلمة ومسيحية ويهودية لا تزال تعترف بأن جذورها في دين آخر مثل شواط في تونس، عدس في حلب والعراق ولبنان ومصر وفلسطين، مطر والقيام وأبو عياش في فلسطين، أبو العافية في فلسطين ومصر.. والقائمة طويلة. فالحالة الدينية الطائفية كانت سائلة في المجتمعات العربية التي تدين بالإسلام ولم تستقر إلا بفعل الاستعمار الحديث في القرن التاسع عشر والعشرين الذي استخدم الطوائفية بيادق له. كما يمكننا إضافة سبب آخر ألا وهو عجز اللغة العبرية (الدينية) التي تحتوي على 22 حرفًا مقابل 28 حرفًا في العربية وافتقار معجم الأولى لكلمات ومصطلحات ومفاهيم الحياة المتطورة خارج محددات اليهودية مثل الأدب الدنيوي والعلوم الأخرى. كتب اليهود نحو 90% من إنتاجهم المذكور حتى القرن التاسع عشر بالعربية- العبرية(٣).
موضوعات المخطوطات العربية-العبرية
تزخر دوائر المحفوظات والمتاحف والمكتبات العامة والشخصية، في العالم بالمدونات العربية- العبرية الخاصة بالفترة التي نتحدث عنها. سواء كانت هذه المدونات مجرد مخطوطات مهملة، أو امتدت إليها أيدي بعض الدارسين بالتحقيق أو النقل إلى الحرف العربي. ومع ذلك فما زال سوادها الأعظم حبيس العربية- العبرية، أي لا يزال مكتوبًا بالأحرف العبرية، كما أشرت. وعليه يتوجب كشفها بالتحقيق والبحث والنشر والترجمة من لغتها الأصلية كجزء من لملمة وتجميع تاريخ وحضارة الأمة التي باتت قيد التجزئة والتشتيت عند كثيرين من أبنائها وأعدائها.
يسود الاعتقاد أن هذه المخطوطات ذات طابع ديني يهودي صرف، إلا أن هذا الاعتقاد يجانب الصواب، إذا راجعنا فهرسها مراجعة ولو بسيطة. صحيح أن الديني يشكل قوامها لكن مع الزمن انخرط اليهود في مجتمعاتهم العربية وكتبوا بهذه اللغة مواضيع دنيوية أخرى. ومن أهم هذه المدونات- الأدبيات نذكر كلًّا من «ترجمة التوراة» لسعاديا جاؤون بن يوسف الفيومي (القرن العاشر)، التي حققها وشرحها بمنهج أكاديمي رصين إدريس أعبيزة سنة 2010م. أما الحاخام ينطوب بن حاييم الكوهين فقد نقلها إلى العربية سنة 2015م في نسخة محدودة جدًّا لاستخدام المؤمنين والباحثين ممن تجاوزوا إشكالية الترجمة.
يمكن القول: إن قراءة هذا الكتاب ودراسته يعطينا فكرة واضحة جدًّا للخلاف والاختلافات ليس بين ترجمات الطوائف المسيحية فقط، بل الاختلاف بين اليهودية والمسيحية في صيغة لا يعرفها غالبية الباحثين في هذا الحقل، حيث ابتعد المترجم إلى درجة القطيعة مع المفاهيم المسيحية، لكنه استخدم واستعار مفاهيم إسلامية عديدة. كذلك وضع الفقيه اليهودي موسى بن ميمون (القرن الثاني عشر) كلًّا من كتاب «دلالة الحائرين» بالعربية- العبرية وهو الكتاب الأهم في اللاهوت اليهودي الذي لا يزال يحظى بمكانة بالغة في الفكر اليهودي. أتمه في المدة بين عامي 1186م و1190م. وهو المؤلف الوحيد الذي دونه بالعربية- العبرية والعربية لغة وأحرفًا. يعتقد حسين أتاي -الذي حقق هذا الكتاب في عام 1993م- أن ابن ميمون قد تأثر فيه كثيرًا بالفارابي وابن سينا والمعتزلة(٤). أما (يئير شيفمان) فيقول: إن ابن ميمون اقتبس وتأثر في «الدلالة» بثلاثة على التوالي: أرسطو، وابن رشد وابن سينا(٥).
كما وضع ابن ميمون المبادئ الثلاث عشرة التي جعل منها أساس الدين اليهودي وأركان الإيمان فيه، فصاغها على غرار أصول الإيمان في الإسلام، وأدرج فيها بعض أصول الإيمان الإسلامية، مما لم يكن معروفًا في اليهودية من قبل، وفيها يحاجج المسيحية والإسلام عن طريق منهج أبي حامد الغزالي. يمكن القول: إنه غزالي المنهج والنهج؛ فهو الذي أدخل وحدانية الله إلى اليهودية حيث إن اليهودية التناخية متعددة الآلهة. «الرمبام [ابن ميمون] هو الشخصية الأعظم في معرفة الله الدينية- الإيمانية في اليهودية منذ الآباء والأنبياء وصاعدًا؛ هذه عظمته، وهذا سر خصوصيته».
من هذه الناحية يجب القول: إن «مكانته الخاصة في تاريخ اليهودية لا تتقرر كفيلسوف بل كمؤمن كبير، فإيمانه يتجلى في عبادة الله [الواحد]»(٦). لولا ابن ميمون واستخدامه علم الكلام الإسلامي لتطوير اليهودية لما بقيت الأخيرة على قيد الحياة كما هي اليوم(٧). كما وضع أبو الوليد مروان بن جناح- ويسمى بالعبرية «الحاخام يوحنا» (990- 1055م)، الذي كان متبحرًا في نظرية سيبويه النحوية- كتبًا عدة في النحو، مثل: اللُّمَع، رسائل الرفاق ورسائل التشوير(٨)، التي تعد مقدمات وأسس قواعد اللغة العبرية التي لا تزال تُستخدم إلى يومنا الراهن. كما وضع بعض منهم تآليف في الأدب العربي. مثلًا وضع الشاعر والمُنظر العربي- اليهودي موسى بن عزرا (1060- 1139م) كتاب «المحاضرة والمذاكرة» عن فلسفة الشعر الذي اعتبر أهم كتاب عن فلسفة الشعر بعد «كتاب الشعر» لأفلاطون.
انقاذ مدونات عربية من الضياع
كما قاموا بنقل بعض المدونات العربية (الصرفة) إلى العربية- العبرية، وهو ما حافظ على العديد من المدونات العربية من الضياع كما فعلوا مع بعض مدونات ابن رشد فنقلوها إلى العربية- العبرية وحافظوا عليها عندما اشتد عداء النظام ومثقفيه له. كان الباحث التونسي عبدالقادر بن شهيدة قد استعادها باللغة العربية بعد أن بذل جهودًا جبارة في فهم النص العربي- العبري وقيامه بترجمة بعض المصطلحات التي كتبها اليهود باللغة العبرية(٩).
وهناك آلاف القصائد الشعرية ذات الطابع الديني. ويمكن القول: إن هذه المخطوطات تحتوي على شعر دنيوي في الغزل والمديح والفروسية والخمر وما إلى ذلك من مواضيع؛ لأن اليهودية، التي عاش اليهود ضمن التزامها العقائدي والشرعي، لا تبيح الكتابة في هذه الموضوعات. كما لم يكن اليهود أصحاب سلطة زمنية عالية لها فرسانها وخيلها ليكتبوا عنها.
تكشف لنا هذه المدونات معارفَ وموضوعات نجهلها، ومن شأنها أن تضيء لنا بعض البقع والزوايا، في حياة اليهود وفكرهم، مثلًا تشرح لنا «الرسالة اليمنية»، لابن ميمون، عن موقف الموحدين من اليهود في المغرب العربي. وهو الأمر الذي من شأنه أن يسهم في تطور هذا الفرع من البحث، ويعطينا فكرة أقرب إلى الصواب عن واقع اليهود (وغيرهم) وعلاقة الدولة والأنظمة العربية- الإسلامية في ذلك الوقت بالمكونات الدينية الأخرى التي عاشت في ظلالها وتحت سقف الثقافة وديانة الدولة الإسلامية.
تنويه: حَقّق كاتب هذا المقال «الرسالة اليمنية» لابن ميمون ونشرها سنة 2018م. كما أنه حَقّق 25 رسالة أخرى لابن ميمون، وحَقّق «قصة مجادلة الأسقف رحمة الله عليه»، وقصيدة أخرى بالعربية- العبرية باللهجة التونسية تُتلى في أثناء زيارة الرابي فرجي شواط في مدينة تستور التونسية في شهر نيسان من كل عام. هذه النصوص تبحث عن ناشر.
هوامش:
(١) هوفكينس، سيمون (2019م)- «العربية اليهودية القديمة في الكتابة الصوتية- جوهرها وأهميتها»- في رسالة: مجمع اللغة العبرية، عدد 41 (ص 10- 17).
(٢) تا-شيمع، يسرءل (1975م)- «عربية يهودية»- في دائرة المعارف العبرية، ج 17 (ص 195- 196).
(٣) ماندل، يونتان (2020م)- لغة خارج مكانها: الاستشراق، المخابرات واللغة العربية في إسرائيل- تل أبيب: الكيبوتس الموحد (ص 23).
(٤) ابن ميمون، موسى (1993م)– دلالة الحائرين – تحقيق ودراسة حسين أتاي – القاهرة : مكتبة الثقافة الدينية (مقدمة أتاي ص xxviii).
(٥) شيفمان، يئير (1995م)- «عن الرابي موسى بن ميمون وابن سينا»- في تربيتس: فصلية لشؤون اليهودية/ مجلة 4- القدس: معهد الدراسات اليهودية (ص 523- 534).
(٦) لايبوبوفيتس، يشعياهو (1991م)- إيمان الرمبام- تل أبيب: راديو الجيش، الجامعة المذاعة- (ص 11). بإمكان المهتمين والمهتمات بهذه الجزئية العودة إلى مقدمة الرسالة اليمنية (ص 32- 37).
(٧) ابن ميمون، موسى (2018م)- الرسالة اليمنية- تقديم وتحقيق أحمد أشقر- عمان: المعهد الملكي لحوار الأديان (المقدمة ص 13-51).
(٨) صفية، وحيد (2013م)- «التأثير العربي في الفكر اللغوي ليهود الأندلس (كتاب «اللمع » أنموذجًا)»- داخل مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها، فصلية محكمة، العدد الثالث عشر، ربيع ١٣٩٢ه.ش/٢٠١٣م (ص 64- 85).
(٩) بن شهيدة، عبدالقادر (1999م)- «في الإبانة عن سبب وجود مخطوطات عربية اللفظ وعبرية الحرف»- في ابن رشد، فيلسوف الشرق والغرب في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته- أبوظبي: المجمع الثقافي، 1999م- ج. 2، (ص 247-265).
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
0 تعليق