المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

جائزة العويس الثقافية

ترسخ نفسها جائزة تقديرية لكل الأدبـاء والمفكريـن العرب

بواسطة | مايو 1, 2022 | جوائز

تتحول جائزة العويس الثقافية دورة تلو أخرى جائزة تقديرية عربية مرموقة، يتوج بها الفائزون الذين قدموا منجزًا إبداعيًّا وفكريًّا لافتًا. فهي لم تعد مجرد جائزة يمكن لأي صاحب تجربة مميزة الفوز بها، كما أن النزاهة التي أضحت أحد عناوينها الأساسية، وآلية التقدم وسير أعمال اللجان فيها، كل ذلك جعل من الفوز بها اعترافًا عربيًّا بهذا الكاتب أو تلك المؤسسة، ممن يحالفهم الحظ ويفوزون بالجائزة. من مميزات جائزة العويس أنها تمنح على المنجز الأدبي والفكري وعلى المثابرة في تعميق التجربة وإثرائها، وليس على كتاب واحد. ففي كل دورة يفوز بالجائزة قامات أدبية وفكرية ونقدية ومؤسسات، لا يوجد من يطعن في أحقيتهم الجائزة، كما لن يثار السجال حول نزاهة لجنة التحكيم وانحيازاتها الشخصية.

ولئن كانت الجائزة اكتسبت المصداقية ومكانتها الرفيعة حين فاز بها شخصيات قدمت أعمالًا مهمة وراسخة، فإن الشخصيات نفسها التي تفوز بها تصبح مكرسة أكثر في وجدان القارئ وفي تاريخ الأدب والفكر، وتحقق لهم، على الأقل من خلال شقها المادي الكبير، أمنيات ربما لم يستطيعوا تحقيقها، مثل الأمان وتوفير مناخ لمواصلة الكتابة، بعيدًا من إلحاح متطلبات العيش الأساسية.

في دورتها السابعة عشرة (مارس 2022م) كرمت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية فائزين جددًا أثروا الحياة الثقافية والفكرية بعشرات الكتب المهمة في مختلف المجالات، وسط حضور ثقافي وأدبي وإعلامي وجماهيري كبير في قاعة الراشدية بفندق موفنبيك غراند بدبي. حيث كرم عضو مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية عبدالغفار حسين وبحضور رئيس وأعضاء مجلس الأمناء، كلًّا من الشاعر إلياس لحود، والروائي نبيل سليمان، والناقد عبدالملك مرتاض، والمفكر أحمد زايد، ومنتدى أصيلة، متمثلًا في شخص أمينها العام محمد بن عيسى.

في الحفلة عرض فِلْم وثائقي عن الجائزة، وتلته كلمة رئيس مجلس أمناء المؤسسة الدكتور أنور محمد قرقاش، الذي أكد أن الاحتفاء بنخبة من المبدعين إنما هو احتفاء بالعطاء والإبداع والموهبة وتكريم لشخصيات قدمت كثيرًا في مجالات الثقافة والفكر والعلم. وقال: «نلتقي اليوم وقد عادت الروح إلى نشاطاتنا بعد جائحة كورونا، وها نحن نشهد مرحلة التعافي بفضل الجهود الكبيرة التي بُذلت لتعود الحياة إلى طبيعتها ونشاطها في كافة القطاعات»، مضيفًا أن الجائزة أكدت «دورها الريادي في الرعاية والاهتمام بالمبدعين والمثقفين؛ لذلك سعت دائمًا نحوهم أينما كانوا، وعليه نرحب بفوز كل من الشاعر إلياس لحود والروائي نبيل سليمان والناقد عبدالملك مرتاض والمفكر أحمد زايد، كما نعتز باختيار مؤسسة منتدى أصيلة لجائزة الإنجاز الثقافي والعلمي، ممثلة معنا هذه الليلة بشخص أمينها العام الأخ والصديق محمد بن عيسى». ولفت أنور قرقاش إلى أن مؤسسة العويس الثقافية دأبت «على مواكبة النشاط الإبداعي العربي؛ منطلقين من قيم راسخة في مجتمعنا، قيم متوارثة من الآباء المؤسسين، الذين رأوا في الثقافة عاملًا حيويًّا لبناء المجتمع وتنميته وفتح آفاق واسعة له من النهضة والتطور»، مستذكرًا مآثر الراحل سلطان بن علي العويس «الذي قدم نموذجًا نعتز به لرجل الأعمال المثقف والمُدرك لأهمية الثقافة والفكر وضرورة دعم المبدعين والمتميزين، فقد كان -رحمه الله- نِعم المثل والقدوة لرجال الأعمال وللقطاع الخاص وحَفْزهم على إثراء الحركة الثقافية والفكرية لا على مستوى الإمارات فقط بل على مستوى المنطقة».

ثم ألقى أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، المؤسسة الفائزة بجائزة الإنجاز الثقافي والعلمي، محمد بن عيسى كلمة نيابة عن الفائزين، مما جاء فيها: «تطورت في الإمارات في غضون العقود الماضية، منظومة فاعلة للنهوض بالفكر والثقافة بمختلف تجلياتهما، تعدى إشعاعها حدود الوطن، حيث فسحت الدولة، فضلًا عن إمكاناتها، المجال للخواص الغيورين على الثقافة، لينفقوا عليها مما رزقهم الله من ثروة. هكذا تكاملت الأدوار الخاصة والعمومية، ما انعكس إيجابًا وبسرعة على الحقل الثقافي الوطني». الناقدة والأكاديمية والروائية شهلا العجيلي عضو لجنة التحكيم، قرأت تقرير اللجنة الذي ضم حيثيات منح الجائزة لكل فائز في حقول الجائزة المختلفة:

الشعرِ: إلياس لحود

مُنح الجائزة لمَا تتمتّعُ به تجربتهُ من ثراءٍ عريضٍ على مدى أكثرَ من نصفِ قرنٍ، ولتميّز مشروعهِ الشّعريّ من خلالِ تناولهِ لمختلِف القضايا الذّاتيّة والوطنيّة والإنسانيّة، بأُسلوب شعريّ مُتطوّر وتشكيلِ هندسيّ بنائيّ أعطى له حُضورًا مُتميّزًا في التجربةِ الشعريةِ المعاصرةِ. كما تبرُز في نُصوصهِ تقنيات متعددة في اللغةِ والصورةِ والدلالة والانزياحِ والترميزِ وغيرها من الظواهر، في تفكيكِ المألوف، وتشريحِ البنى اللّغويّة إلى وحداتٍ ذاتِ مساحاتٍ دلاليّةٍ وشعوريّةٍ واسعةٍ.

الرواية: نبيل سليمان

منح الجائزة لما تميّزت به تجربته الإبداعية من تنوّع وثراءٍ، وقد عبرَتْ تجربتهُ تاريخَ الثقافةِ الأدبيةِ العربيةِ لمُدةٍ قاربت ستةَ العقود وعَبَّرَتْ عنها في مختلفِ مفاصلِها الجماليةِ والسياسيةِ والأيديولوجية، كمَا أنها عكستْ مناخاتِ تطور تجربةِ الكتابةِ السرديةِ العربيةِ بشكلٍ واضح. وسليمان كاتب متجدد ومثابر، يعملُ باستمرارٍ على تجاوزِ تجربتهِ الروائيةِ من نصّ إلى آخر، ويُعدّ من الأسماءِ الأكثرِ عطاءً من حيثُ الحُضور المتواصل دون انقِطاع.

الدراساتِ الأدبيةِ والنقدِ: عبدالملك مرتاض

مُنح الجائزة لمَا تتمتعُ به مؤلفاته من عمقٍ وشمولٍ غطّت حُقولًا عدة في الدراساتِ الأدبيةِ؛ فمنها ما يُعالجُ ألوانًا من الأدبِ الشعبي، وما يغطي دراسةَ الأدبِ العربي القديم، وتحليله التفكيكي المتميز لحكايةٍ من حكاياتِ ألف ليلة وليلة. وما يتعلق بالأدبِ العربي الحديث، شعرًا ونثرًا. وقدَّم عددًا كبيرًا من الأعمالِ المتميزةِ في نظريةِ النقدِ. وسعى في كتاباتهِ إلى تأصيلِ المفاهيمِ النقديةِ ومتابعتها تاريخيًّا ومعرفيًّا، وطوّر قاموسًا أدبيًّا قادرًا على توفيرِ المفرداتِ الرشيقةِ في المقارباتِ النقديةِ والنهوضِ بالأدواتِ التي يحتاجها النقادُ الشبابُ في تحليلِ الخطابِ في إطار حراكٍ ثقافي عربي واعد.

الدراساتِ الإنسانيةِ والمستقبليةِ: أحمد زايد

أحد أبرز عُلماءِ الاجتماعِ المعاصرين، وهو من القِلّة الذين أسّسوا مدرسةً مصريةً عربيةً في علمِ الاجتماع تُعنى بفهمِ المشروعِ الحداثي ونقدِ الذات. وقد تسلّح بأدواتٍ التحليل السوسيولوجي، والاجتماع السياسي، من أجل بلورة رؤى ومساهماتٍ جادةٍ في إطار المدرسة العربية لعلم الاجتماع. وانشغلَ بتجديدِ الخطاب الديني، وبقضايا الطبقة الوسطى من خلال تقديمهِ قراءةً واعيةً لمفهومِ رأس المال الاجتماعي.

الإنجاز الثقافي والعلمي: منتدى أصيلة

أكد بيان مجلس الأمناء بشأن الفائز بجائزة الإنجاز الثقافي والعلمي، الذي تلته عضو مجلس الأمناء فاطمة الصايغ أن لـ«مؤسسةِ منتدى أصيلة»: دورها الاستثنائي لتحقيقِ أهدافٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وتنمويةٍ نابعةٍ من عُمقِ القيمِ الحضارية للثقافة الحرة التي تنتهج الحوارَ مع الآخرِ سبيلًا لتعزيزِ الثقافةِ العربيةِ حول العالم، ولنشرِ فكرةِ التقبُّلِ والتسامُحِ لفهم الحضاراتِ الأُخرى، كما يؤكدُ المجلسُ دورَ هذه المؤسسةِ الهادف إلى مدِّ يدِ المعرفةِ ونشرِ العلمِ وتقديمِ المنحِ الدراسيةِ والرعايةِ الاجتماعيةِ من أجلِ إسعادِ الآخرين ومساعدتهم لعيش حُرٍّ كريم.

وقد حصل كل فائز على مبلغ 120 ألف دولار أميركي وعلى ميدالية ذهبية حملت على وجهها الأول اسم الفائز، وعلى الوجه الآخر شعار الجائزة وهي مصنوعة من الذهب النقي 22 قيراطًا، ودرع كريستالية فاخرة فضلًا عن شهادة فنية قيمة مكتوبة بخط يد عربي منوع بين الكوفي المربع والديواني والنسخ والديواني الجلي تشتمل مفردات الفوز. وتوشح الفائزون بوشاح الإمارات. كما عرضت على هامش الاحتفال لوحات الفائزين التي رسمت بريشة أمهر الفنانين وعرضت مؤسسة العويس مجموعة كبيرة من إصداراتها التي قدمت
مجانًا للجمهور.

يذكر أن الجائزة التي بلغ عدد الفائزين بها في مجمل دوراتها 101 فائز، وعدد محكميها 184 محكمًا، و84 استشاريًّا؛ تمثل واحدة من أرسخ الجوائز العربية حضورًا وأكثرها حرصًا على الشفافية والنزاهة واعتمادًا على المعايير العلمية الدقيقة، وفي هذه الدورة السابعة عشرة بلغ العدد الإجمالي للمرشحين في جميع حقولها 1847 مرشحًا منهم 321 مرشحًا في حقل الشعر، و480 مرشحًا في حقل القصة والرواية والمسرحية، و285 مرشحًا في حقل الدراسات الأدبية والنقد، و480 مرشحًا في الدراسات الإنسانية والمستقبلية، و265 مرشحًا في حقل الإنجاز الثقافي والعلمي.


أحمد‭ ‬زايد‭ :‬‭ ‬الرياضيات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬وليس‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع

حصل عالم الاجتماع المصري الدكتور أحمد زايد على العديد من الجوائز، من بينها جائزة الدولة التقديرية، وجائزة الدولة للتفوق، وكرمه الرئيس المصري بتعيينه عضوًا في مجلس الشيوخ المصري، لكن حصوله على جائزة العويس هذا العام كانت له أهمية خاصة لديه، فقد استقبلها بفرحة عارمة؛ إذ إنه كان يتصور أن ما قدمه من إنجازات وأطروحات مهمة في علم الاجتماع لم ينظر إليها بشكل كافٍ، بل إنه رُشِّحَ لجائزة النيل خمس مرات متتالية، لكن اسمه لم يدرج حتى على القائمة القصيرة لها، ربما لصغر سنه حسبما يقول، وربما رغبة في الاستبعاد والتهميش، ومن ثم كان لفوزه بهذه الجائزة الأثر النفسي الكبير لديه، وبخاصة أنه فقد في العامين الأخيرين كثيرًا من الأعزاء والأحباء، بعضهم بسبب كورونا التي اجتاحت العالم، وبعضهم بسبب السرطان الذي لا يرحم.

كان زايد قد حصل على الليسانس في علم الاجتماع عام 1972م، وعلى الماجستير عام 1976م، وعلى الدكتوراه عام 1981م، وعلى الأستاذية عام 1991م، وعمل عميدًا لكلية الآداب جامعة القاهرة عام 2004م، وخلال عمله في مجال علم الاجتماع قدم العديد من الأطروحات والأفكار المهمة التي أجملها في «أهم الأفكار التي طرحتها على الجانب النظري أننا لا بد أن نستملك الأفكار الغربية، ويكون في ذهننا الخصوصية المصرية، وقد قدمت نموذجًا لهذا في دراستي عن الخصوصية التاريخية للمجتمع المصري، كما طرحت فكرة الحداثة البرانية، فحين دخلت الحداثة إلى عالمنا العربي كانت بشكل قسري وانتقائي واستهلاكي، وكونت نوعًا ثالثًا من الحداثة أسميته بتناقضات الحداثة التي عطلت كل إمكانيات الديمقراطية والحرية لدينا».

كما أوضح زايد أنه انشغل بتطوير نظريته عن النخب السياسية، تلك التي ظهرت في التاريخ المصري الحديث مع محمد علي، مبرزًا خصائصها وآليات عملها، وكيفية تطورها مع الاستعمار ومن بعده، وكيف ارتبطت بما يعرف بالنخبة المركزية، ومن ثم فهي دوائر تتجمع حول المركز، بعضها ساكن وكثير منها مهرول، وقد نشأت هذه النخب في ظل الحداثة، لكنها سرعان ما اكتسبت صفات غير حداثية مثل القبلية والعائلية والذكورية، وقد دفع بإحدى طالباته لاختبار هذه الفرضية في رسالة دكتوراه عن حزب الوفد، وكانت النتائج صادقة تمامًا. وقال زايد: إنه الآن منشغل بإنتاج ثلاثة كتب؛ أحدها عن كيفية بناء دولة في مجتمع ما بعد الخطر الفائق، وهي إحدى الأطروحات التي عمل عليها قديمًا، وكتبها في مقال بمجلة الديمقراطية، لكنه الآن يُطوّرها في كتاب، فالعالم كله يعيش حالة الخطر الفائق، ولعل جائحة كورونا والحرب على أوكرانيا أوضح مثال على ذلك.

آفاق جديدة

أما عن أهمية علم الاجتماع والتحديات التي تواجهه، فقد ذهب إلى أن علم الاجتماع واحد من العلوم المهمة في رسم سياسات الدولة في عالم الخطر الفائق، ثم استدرك قائلًا: «لكن هذا لا يعني أن علم الاجتماع هو العلم الوحيد أو الأول، فما يخلق التقدم الحقيقي في المجتمع هما علما الفيزياء والرياضيات، فهما اللذان يصنعان الابتكار، وهما أساس العلم؛ لذا لا بد أن نهتم بدراسة العلوم الطبيعية، وأن تكون فكرة العلم مغروسة في الوجدان، فأغلب الكليات العلمية فشلت في ذلك، والدليل أن كثيرًا من المتطرفين من بين أبناء هذه الكليات، بما يعني أن العلم لم ينغرس في وجدانهم بشكل عميق، والابتكار لا يأتي من العلوم الإنسانية ولكن من العلوم الطبيعية، ولا بد من التوسع في تعليمها بشكل إنساني وليس ماديًّا جافًّا».

وعن النصائح التي يقدمها لطلاب الدكتوراه لديه، قال: إنه لم يعد لديه غير طالبتين يشرف عليهما، ولم يعد راغبًا في المزيد، وإنه طيلة الوقت كان يسعى لطرح أفكار مختلفة على طلابه كي يدرسوها، فقد اعتاد على ذلك مع بحوثه ودراساته «أنا من ضمن من فتحوا آفاقًا جديدة في البحث، حيث قدمت عددًا من الدراسات عن العنف في الحياة اليومية، والعنف في المدارس، وقدمت دراسات مبكرة عن الخطاب الديني، وعن الجسد وتمثيلاته، ودراسات أخرى عن منظومات القيم في المجتمع، ودائمًا أختار لتلامذتي أفكارًا لم تكن مطروحة من قبل، فلديَّ طالبة الآن تدرس في الدكتوراه قوة المكان، وهو موضوع مهم وغير معتاد، أما الطالبة الثانية فتدرس فنون المقاومة الجديدة».

وعن النصائح التي يمكن أن يقدمها للطلاب الراغبين في دراسة علم الاجتماع كي يتمكنوا من اللحاق بسوق العمل المناسب، قال: «أنا لا أحب أن يقاس العلم بسوق العمل، فطلاب قسم الاجتماع حين يتخرجون لا يعملون إلا في المراكز البحثية، وهي قليلة، لكنني سأكتب في هذا الاتجاه، فلمَ لا يوجد بالفعل مركز بحثي في كل مصنع أو شركة، مهمته قياس رأي الجمهور حول المنتج، والتنبؤ بالمخاطر التي قد تواجه المصنع، فالمواد التي يدرسها الطلاب تؤهلهم لذلك، لكن المشكلة دائمًا في قبولهم ضمن المنظومة الإدارية للعمل».


إلياس‭ ‬لحود‭:‬ تحوّلات‭ ‬التجربة‭ ‬الواحدة

بهاء‭ ‬إيعالي ‬كاتب‭ ‬لبناني

قد تكون فكرة تصنيف أجيال الشعراء اللبنانيين المعاصرين أمرًا في غاية السهولة، فقد تعاقب على الشعر اللبناني المعاصر ستة أجيال بدءًا من جيل مجلّة شعر وصولًا إلى يومنا هذا. لكنّ المصنِّف سيلاحظُ أنّ ثمّة جيلًا من هذه الأجيال، وهو جيل شعراء السبعينيات، قد عرف ما يمكن تسميته «الانقسام»؛ إذ انقسم بين فريقين تنازعا حداثة القصيدة اللبنانية، فريقٌ اختطّ شعراؤه لأنفسهم تجربة قصيدة النثر وناضلوا لتكون ركيزة الحداثة مشتغلين على تطويرها وتجديدها أمثال بول شاوول وعباس بيضون وعقل العويط ووديع سعادة، وفريقٌ عرف شعراؤه باسم شعراء الجنوب؛ إذ جمعهم همّ الجنوب اللبناني المحتل واتجهوا أكثر نحو التجديد في الكلاسيكية الشعرية مثل: محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، ومحمد العبدالله، وجوزيف حرب وغيرهم.

من بين هؤلاء يأتي الشاعر إلياس لحود بتجربةٍ قد لا تكون مغايرةً كثيرًا لتجارب مجايليه، بل يصحّ القول إنه لم يبتعد من بيئتهم طيلة حياته تقريبًا وإن كان قد اختطّ لنفسه مسارًا خاصًّا إلى حدّ ما، فابن بلدة جديدة مرجعيون الجنوبية المولود عام 1942م، والحائز مؤخّرًا على جائزة سلطان العويس، كان قد قصد بيروت في شبابه وأسس رفقة حسن وعصام العبدالله وجوزيف حرب وغيرهم «جماعة شعراء الجنوب» التي أصدرت أولى بواكيرها الشعريّة المشتركة تحت عنوان «كل الجهات جنوب». أمّا أولى أعماله الشعريّة الخاصّة فكانت مجموعة «على دروب الخريف» التي صدرت عام 1962م، ومن بعدها امتدّت مسيرته الشعريّة زهاء نصف قرنٍ صدرتْ له خلالها عشرات المجموعات بالعربيّة الفصحى وبالمحكيّة اللبنانيّة، التي كان آخرها «قصائد الشرفة» الصادرة عام 2014م، ومن قبلها طُبعت أعماله الشعريّة الكاملة في 4 مجلّداتٍ عام 2012م.

عوالمُ مختلفة

ما يمكن ملاحظته في شعر صاحب «شمس لبقيّة السهرة» هو أنّه لم يعطِ تجربته بعدًا أحاديًّا دأب فيما بعد على تطويره، بل اشتغل على أن يعطي دائمًا ما هو مغايرٌ ومختلف، فهو الذي بدأ كلاسيكيًّا واتّجه على دفعاتٍ إلى ما بعد الحداثة، وهو الذي بدأ حالمًا هائمًا بالطبيعة وانتقل بعدها بشكلٍ مفاجئٍ نحو الولوج في هموم العالم مكرّسًا له سخريةً واضحةً بمنزلة معايناتٍ لواقعٍ أسود… وهكذا ظلّ ينتقل عبر أطراف واحة الشعر تاركًا في كل ناحيةٍ منها أثرًا، ففي ديوانه الأول «على دروب الخريف» لجأ لتصوير عالمه الريفي الخاص بنبرةٍ رومانسيةٍ تغذيها غنائية حالمة… لنجد صوته صارخًا وهادرًا في معايشته لواقع عالمٍ منقسمٍ وممتلئٍ بالصراعات في ديوان «ركاميّات الصديق توما». أو راسمًا بشعره مشاهد يوميةٍ إنسانيةٍ عبر تصاوير موظفًا بداخلها تقنياتٌ رؤيوية بعيدة من أسلوب المفارقة المبتذل.

كلها تجارب شاء لحّود ألا يوحّد مساراتها بقدر ما أرادها متنوّعة ومختلفة الثيمات، وهو ما أعطى لتجربته غنى واسعًا. ما ينطبق على شعر لحود المكتوب بالعربية الفصحى ينطبق أيضًا على شعره المكتوب بالمحكية اللبنانية، فرئيس تحرير مجلة «كتاباتٌ معاصرة» أصدر خلال حياته أربع مجموعات شعرية بالعامية اللبنانية؛ ثلاثٌ منها جمعت تحت عنوان دواوين العشاق وهي: عقد فرسان – براويز قصص – جسمك عرس، التي صدرت بكاملها عام 1997م، ومن بعدها صدرت له مجموعة أخرى عام 2010م بعنوان ولد ختيار.

وهو يعدّ من الشعراء الذين عملوا على تطوير المحكية وإدخالها في الشعر، أي أن النص لم يعد أبيات زجلٍ بقدر ما بات من الممكن تسميته بقصيدة، وهو التطوير الذي دعاه محمد علي شمس الدين في مقدمته لـدواوين العشاق بـ«الحداثة المحكية». فحداثة لحود خاصةٌ به؛ إذ تتجه قصائده دائمًا نحو الإدهاش الصوري، فيما يعملُ لغويًّا على توليدِ «لغةٍ داخل لغة» وهذا ما يمكن ملاحظته في أعمال أنتونان أرتو الشعرية أيضًا، بل لا يتوانى عن استخدام بعض المفردات الفصيحة القحّة بداخل النص إلا أنه يجعل منها محكيةً صرفةٍ «منغمسة في لحم اللهجة العامية ودمها» على حدّ تعبير شمس الدين نفسه، وهذا ما يجعل النص وكأنه منحوتٌ في الصخر ويؤسّس للغةٍ جديدةٍ خاصةٍ في الشعر، صحيحٌ أنّه لا يحدث شرخًا صريحًا وهائلًا للغاية بينه وبين التراث، ولكنه يذهب به نحو تحويرٍ ونحتٍ متطرّفٍ وخطير.

حضورٌ بحاجةٍ للمزيد من الإضاءة

إن هذا التنوع والتغاير الدائم في شعر لحود، الذي اختاره بنفسه، ربما كان سببًا نوعًا ما في عدم تحوّله لمرجعيةٍ شعريةٍ بالنسبة للأجيال التي جاءت من بعده، فهو ليس ذاك الشاعر الذي ارتبط شعره بالجنوب اللبناني وظل وفيًّا للكلاسيكية المحدثة على غرار شمس الدين وشوقي بزيع، وليس أحد رواد الحداثة التي نظّرت لقصيدة النثر وكرستها في الشعر اللبناني كعباس بيضون وبول شاوول، وأيضًا ليس ذا صولات وجولاتٍ في الشعر المحكي اللبناني الزجلي أمثال موسى زغيب وزغلول الدامور، أو حتى قامة شعرية مغنّاة بأصوات المغنين أمثال الأخوين رحباني وميشيل طراد… بل إن تجربته الطويلة هي شيءٌ من كل هذا، كتب بالفصحى والعامية، كان كلاسيكيًّا ونزح نحو ما بعد الحداثة. وبالتالي ربما لا يستطاع الركون إلى تجربته من منظورٍ واحدٍ فقط، ولا يمكن أن تكون مرجعية تخص نوعًا أو شكلًا واحدًا، بل هو مرجعية شعرية شاملة إلى حد ما لو جاز قول ذلك. ومع هذا لم يحظ بما حظي به مجايلوه في نظرة الشعراء بمختلف أجيالهم، ولكن من الإجحاف الإنكار بأن صاحب «مراثي بازوليني» هو أحد أبرز الشعراء اللبنانيين الذين يحظون بالاهتمام من مختلف الأجيال الأدبية اللبنانية، وله حضوره شبه الدائم في الدراسات الأكاديمية المعنية بالشعر اللبناني المعاصر.

قد لا نستطيع القول: إن حصوله مؤخّرًا على جائزة سلطان العويس هو بمنزلة اعترافٍ متأخّرٍ بقيمة تجربة لحّود، فالشاعر المتعفّف عن الجوائز الأدبية هو قيمةٌ ثابتةٌ في شعره وكل الجوائز والتكريمات لن ترفع من شأنه المرفوع أصلًا، ولكن نستطيع القول: إن هذه الجائزة التي تمنح عن مجمل أعمال الأديب كانت ضرورية لشيءٍ واحد، ألا وهو تحريك المياه شبه الراكدة حول اسم شاعرٍ ظل على الدوام متفرّدًا بتجربته التي لا تماثلها أخرى.


طوفان‭ ‬المعنى‭ ‬وتحولاته في‭ ‬‮ «تحولات‭ ‬الإنسان‭ ‬الذهبي‮»‬ لنبيل‭ ‬سليمان

دعد‭ ‬ديب ‬كاتبة‭ ‬سورية

كدأب الشعراء، في العهود الماضية، على معارضة قصيدة بقصيدة، في محاكاة النصوص الخالدة، يأتي نبيل سليمان، في روايته «تحولات الإنسان الذهبي» -الصادرة من دار خطوط وظلال لعام 2022م- ليعارض الرواية الأولى في التاريخ الإنساني «تحولات الحمار الذهبي» للوكيوس أبوليوس. الحمار هو الأصل في نص سليمان وقد تحول إلى كائن بشري في حياة أخرى، في تورية مضمرة تحول الإنسان من الحالة الوحشية إلى الأنسنة. الرواية فانتازيا سردية تظهر فيها الذاكرة الحمارية على شكل التماعات وتناصات وذكريات غامضة من حياة سابقة.

يرصد الروائي إمكانياته الثقافية في جمع وملاحقة ومتابعة كل نشاط أو تظاهرة احتفالية أو ثقافية تتعلق بالحمير. ومع صدمة القارئ واندهاشه بمقاصد صاحب «مدارات الشرق»، يمضي متنقلًا عبر جغرافيا الأمكنة راصدًا ما قيل وما سيقال عن توأمه الذي تجسد بلبوس حمار في حياة سابقة، وهو ما يشعره بتواشج روحي غريب معه. في بانوراما التجوال يحط به الرحال في تركيا مرورًا بالأراضي السورية المحتلة -أنطاكية، لواء إسكندرونة- موثقًا لانتمائها السوري، ومعيدًا إياها إلى الذاكرة مناقضًا العقليات والقوى المصرة على طمس هويتها وإنكار تاريخها. بعدها يمضي إلى الكويت والمغرب العربي للاحتفاء بالمزيد من التفاصيل عن أنواع الحمير وأوصافها ومهرجاناتها وطبائعها.

بين السيرة الحَمِيرية والسيرة البشرية تنتقل حمولات العمل المعرفية والفكرية والتاريخية ضمن أسلوب التداعي الحر في التنقل عبر الزمن وعبر الحيوات المتعاقبة. إضافة إلى تجاوز البرزخ الفاصل بين الحياة والموت، عبر ظهور الشخصيات التي عرفها في طفولته وفي حاضره كفلاشات تومض بالذاكرة وتختزل ذكرى أو حدثًا أو موقفًا فكريًّا أو سياسيًّا أو تاريخيًّا شكلت معلمًا بارزًا في الوجدان الجمعي واستطاع تمريرها عبر تهويمات وهلوسات الذاكرة.

سيرة مزدوجة

في داخله شخصيتان واحدة طبيعية والأخرى شخصية الحمار، وارث كل ما كتب عنه في مجموع الأدب. وقد استحضرها عبر تداعيات حضور صنوه الحماري في هيئة ما، مما يذكره بحدث مفصلي أو حبيبة أو حالة غدر تنصل منها، أو نكوص عن فعل أقعده الجبن عنه. في رؤية ما بعد حداثية للتقطيع السردي للمواقف والأحداث وفي مشهدية تتقدم في الزمن وتتأخر، وفق حالة التداعي الذهني للبطل ونده المنتمي إلى حياة أخرى، يتناوب السرد بين وعيين وزمنين متنقلًا بين الواقع والمتخيل الحلمي أو التهويمي، بين البشري والحميري، وبين المعقول واللامعقول، وبين التاريخي والافتراضي، مما يلقي بحمل تشكيل اللوحة النهائية للعمل على عاتق القارئ اللبيب ليعيد رسم تفاصيل المشهد في ذهنه. وثمة إضافة سردية إذ يسرف سليمان في إكمال وتتمة حكاية ما في الحواشي مادًّا أذرع السرد لتحتل أماكن غير معتادة؛ ليذهب بالقارئ في تفاصيل التفاصيل في لعبة سردية مبتكرة.

وفي استعراض السارد للخط السيري لغرامياته يوجه الأضواء للأنساق الثقافية المجتمعية السائدة. ففي قريته نيبالين، ومع باكورة عشقه الأول «زلفى»، يوضح بساطة المجتمع الريفي وتلقائيته. يعرج أيضًا على مجتمع العشائر في الرقة حيث ضحية العشق؛ دماء «أريام» على بلاط شرف القبيلة وتيتم طفلتها الحاملة لوصمة العار التي ورثتها عن أمها.

بالتوازي تظهر نماذج الأنثى الأخرى المستقلة ماديًّا واجتماعيًّا: تولاي، إيسون؛ ظبية؛ منصورة، أسيل. نساء يمتلكن حرية العقل والجسد والسفر الذي تتيحه القوة المادية والمعنوية والمستوى التعليمي للمرأة بالإضافة لحاضنة اجتماعية راقية ومتفهمة. هذا كله لم يمنع من إبراز نرجسية الذكورية الشرقية في مجموع النساء المحيطة والراغبة بالبطل.

الحمير في السرد

يحق أن نتساءل: لماذا اختار الكاتب الحمار ليكون بطلًا ظليًّا لنصه؟! هل لكونه يشابه المواطن العربي الذي يتحمل إلى ما لا نهاية؟ ألأنه الصبور الجلود على المشقة والجهد الجسيم؟ أم للسخرية السوداء من الحمار الضحية حمال الهموم الذي أنعموا عليه بلقب الشهيد؟ احتمالات تتوافق مع أكثر من فهم ورمز لهذا الخيار.

بالاتكاء على الحمار كحامل للتدفق السردي يؤكد سليمان أن العمل السردي اجتهاد معرفي له كل الصلاحية بمد أذرعه إلى سائر القضايا. وبسرد يزاوج بين السيرة الذاتية والمذكرات والرسائل والتخييل الروائي، جامعًا مزيجًا من الحكايات والقصص والأساطير والأغاني والأهازيج، يركز على أبرز الشخصيات السياسية الفاعلة والمؤثرة وأهم المفاصل التاريخية التي مرت على المنطقة، وليس آخرها الربيع العربي وأحداث الزلزال السوري الذي تعرض بيته في أثنائه للاعتداء والتخريب.

يستحضر صاحب «تاريخ العيون المطفأة»، بجهد موسوعي، الأعمال الأدبية التي تتناول موضوع الحمار. ولا أعتقد أن ثمة عملًا ذا صلة أغفل عن ذكره: من عزيز نسين إلى مؤنس الرزاز وأحمد رجب إلى حمار سعيد الفلسطيني لإميل حبيبي، والحمار في قصائد سليم بركات، و«حمار من الشرق» لمحمود السعدني. ويحضر ثرفانتس مع دون كيشوت وحمار صاحبه سانشو. كما يستذكر الروائي حوارياته حول الموضوع مع الطيب صالح.

يتنقل نبيل سليمان من عنوان إلى آخر عبر رؤية موسوعية تخدم فكرته بلسان المتكلم السارد والراوي العليم المستقل، وبلسان تولاي (القمر والشمس) العاشقة والمعشوقة في رسائلها لكارم، وبلسان منصورة، وأخرى بلسان «الحمار الروائي».  هذا التنوع في الأصوات أضاء دواخل الشخصيات وأبان أفكارها وانشغالاتها وتاريخها. وقد عمد لأسلوب الرسائل المتبادلة ليجمع المزيد من الأخبار والسير وفق رؤية كل بيئة أو مكان قيض له أن يزوره أو أن يسمع عنه. كما اتبع أسلوب العثور على كتابات مجهولة لأبيه مخبأة في مجلد عتيق. ولكنه عمد إلى إدغامها بالعوالم الماورائية لتأتي متناغمة مع ذلك التجاور بين الخيال والواقع. كما لا يغيب قاموس الفن التشكيلي عن فهرس مجموعته الحمارية، فيحضر محمود سعيد مع لوحاته ومارك شاغال وآدم سينيكا، ليطعم معماره الروائي بفنون التشكيل ومعانيه، ويسترجع أركيلوجيا الحفريات الآثارية والرسوم الصخرية للحمار في اليمن قبل أكثر من ثلاثين ألف سنة. نبيل سليمان الذي حاز مؤخرًا جائزة العويس الثقافية، يكلل تاريخًا لا يستهان بزخمه وحضوره الفاعل في الساحة الأدبية العربية. وبعد أكثر من اثنتين وعشرين رواية وعدد أكبر من الدراسات النقدية ما زال في جَعْبته كثير ليدهشنا ويمتعنا.


عن‭ ‬تجربتي‭ ‬في‭ ‬التحكيم في‭ ‬جائزة‭ ‬العويس‭ ‬الثقافية

شهلا‭ ‬العجيلي ‬أكاديمية‭ ‬وروائية‭ ‬أردنية

بقيت عملية التحكيم طوال سنة ويزيد فردية، وأعني أنها كانت مواجهة بيني وبين نصوص كتّاب عرب كبار، قصصية وروائية ومسرحية، وكانت توجيهات الإدارة الهاتفية والمكتوبة تؤكد في كل مرة، أنه ليس ثمة أية سلطة على الاختيارات سوى سلطة النص، التي تعني أدبيته. في هذه المواجهة مع نصوص عشرات الكتّاب، كان تواصل الإدارة الدوري هو الصلة الوحيدة بيني وبين الجائزة، لا أعرف من هم المحكّمون الآخرون، وليس لديَّ أية فكرة عن تخصصاتهم، أو معارفهم، أو أسمائهم، لكن أعرف هوية جائزة سلطان بن علي العويس خلال سبع عشرة دورة من تاريخها المشرّف طبعًا.

يوضع النظام الداخلي للجائزة بين يدي المحكّم، وتوضح آلية التحكيم، ويُضاء على نقاطها المفصلية، ويشار إلى الموعد النهائي لإرسال التقارير، وبعدها يكون الاجتماع بين المحكّمين والإدارة وأعضاء من مجلس الأمناء. كان لديَّ معرفة جيدة جدًّا بتجربة المرشحين جميعًا وبفضاءاتهم الجمالية والمعرفية، نتيجة تخصصي الأكاديمي في الأدب العربي الحديث، ومتابعتي للمنجز القصصي والروائي والمسرحي العربي، لكن ذلك لم يكن موضوعيًّا لوضع ترشيحاتي، فلا يمكن أن يكون للمحكّم في جائزة كبيرة ترشيحات أولية من غير قراءة كل نصّ مدرج في قائمة كل كاتب من الكتّاب المرشحين، وهنا تبدأ رحلة نقدية شاقة جدًّا وممتعة، ستتحوّل إلى عمل يومي من القراءة وتدوين الملحوظات النقدية، تمهيدًا لوضع التقرير النهائي، حتى يتمكّن المحكّم من أن يكون جاهزًا للمداولات في الموعد المحدد.

لا يكفي، من وجهة نظري، أن تكون على معرفة بنص أو ببضعة نصوص لكل كاتب، يجب أن تقرأ كل شيء، وأن تكتب عن كل نصّ، وأن تقوّم كل تجربة بأدوات النقد التي يمليها المنهج العلمي في التعامل مع النص، وبذلك سيكتشف المحكّم نصوصًا عربية مذهلة يستغرب كيف غابت عن تاريخ النقد أو تاريخ الجوائز! سنجد نصوصًا فريدة كان من حقها الفوز في الجوائز التي تعتمد النصّ الواحد، لكن حينما تأتي إلى جمّاع التجربة ستواجه بالتفاوت في النصوص ومدى فنيتها، وهذا أمر طبيعي في مسيرة تجربة الكاتب الواحد، كما أنك قد تواجه بحالة نكوصيّة لبعض التجارب إذ تتفوق النصوص الأولى بشرطها الفني والإبداع على ما تلاها، ويمكن أن تكتشف كتّابًا سأسمّيهم أصحاب الواحدة، إذ يكون من بين مجمل نصوصهم نص متميز بشكل مدهش، في حين تكون بقية النصوص مرهقة، مفككة، وكأنها صدرت عن آخر، وهكذا…

ملحوظتان نقديتان

لا بد من الإشارة إلى ملحوظتين نقديتين عامتين عزّزتا رؤيتي في التعامل مع السرد العربي تحديدًا، يجب أن تؤخذا في الحسبان عند الوقوف على أية تجربة إبداعية أو نقدية:

الأولى، ليس كل سرد مهما علا كعب صاحبه نتيجة الاستمرارية في الكتابة، أو النجومية، أو الحضور الأيديولوجي، هو حالة فنية نوعية؛ إذ للقصة القصيرة نظريتها وشروطها، وكذلك للرواية نظريتها وشروطها، مهما بلغت الحالة التجريبية في أي منهما.

الثانية، على الشعراء الذين ينتقلون من حقل الشعر إلى حقل السرد أن يتركوا رؤيتهم الشعرية عند الباب، فموقف الشاعر من العالم مختلف تمامًا عن موقف الروائي، واختلاف اللغة اختلاف منبثق من هذا الموقف وليس سابقًا أو منفصلًا.

يشكّل كل نصّ مواجهة جمالية ومعرفية مع المحكّم، وهي بالنسبة لي، بوصفي أكاديمية ومحكّمة في جوائز مرموقة منذ وقت طويل، حالة تعليمية تعلّمية، مثل الدخول إلى قاعة المحاضرات؛ إذ تدخل بفكرة، وتخرج بعشرات الأفكار نتيجة الحوارات والنقاشات، ولعل المفصل الذي يستطيع الأكاديمي التحكّم به أكثر من غيره هو إقصاء المزاج والهوى، وتغليب الموضوعية النقدية، وهو مركب صعب، وبناء عليه لا يمكن استثناء أي نصّ أو هجره إلى غيره قبل إتمامه للكتابة عنه بشكل وافٍ، بحيث أتمكّن من طرحه نموذجًا يدعم تجربة المرشّح أو يضعها في موضع الأخذ والرد. صارت لديَّ شخصيًّا مدوّنة نقدية هائلة لنصوص لم يمكّنني الوقت أو الظرف من قراءتها، ولا سيما النصوص الأولى لبعض الكتّاب العرب الذين كتبوا منذ سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، لكنهم عرفوا في الإطار الثقافي العربي من نصوصهم المتأخرة.

لا بدّ من أن أعرّج على تجربتي في التحكيم في جائزة سلطان العويس من زاوية أخرى وهي كوني كاتبة روائية وقاصة، فلا بد لهذا الوقت الذي قضيته في القراءة، والتفكير، والتمحيص في تجارب الآخرين، ولغاتهم وأساليبهم من أن يعلّمني الكثير الكثير، لكنني أحتاج وقتًا آخر لتمثّل هذه التجارب أو الفراغ منها، فأعود إلى نفسي، على مبدأ ذلك الناقد الذي قال للشاعر بعد أن طلب إليه حفظ مئة ألف بيت من شعر العرب: «اذهب، فانسها!».

تجربة ليست يسيرة

ليست تجربة التحكيم يسيرة، حتى لو كان المحكّم يمتلك شروط الناقد الجاد والعارف؛ لأن التحكيم في الجوائز لن يبقى حالة فردية، وستكون اللحظة الحاسمة بلقاء الزملاء المحكّمين الذين يرجعون إلى مدارس معرفية مختلفة، حيث ستكون تجاربهم مع النصوص لا شك مختلفة؛ إذ لكل شيخ طريقته، فكانت لحظة لقائي بالمحكّمين الآخرين تحديًا آخر، فقد عرفتهم أساتذة جادّين، وكانت جدالاتي معهم مدعاة للفخر، ولم يكن طريق المداولات ممهّدًا، فكلٌّ لديه قائمة مرشّحيه، وستفتح الملفّات لكلّ نصّ من النصوص، لكنّ جلسات النقاش جرت في فضاء علميّ مريح، لا تتدخّل فيه إدارة الجائزة، أو أي من منسقيها، رغم أنهم حاضرون منصتون. ومهما طالت المداولات، والتفنيدات، والشروحات، فلا بد من الخروج بنتيجة، وهذه النتيجة قد تكون بالإجماع، وقد تكون توافقية؛ لذلك لا تأتي نتائج الجوائز مطابقة لرؤية المحكّمين جميعهم معًا، لكن المهم في الأمر هو أن يكون كل محكّم قد قال كلمته، ودوّن مراجعاته المنبثقة من تجربته التاريخية المبنية على معارف فنية وقيمية بحُرّيّة تامة، من غير أن تتحكّم به أية سلطة سوى سلطة النص كما تشير أعراف الجائزة.


جائزة‭ ‬العويس وإدارة‭ ‬عبدالإله‭ ‬عبدالقادر

طالب‭ ‬الرفاعي ‬روائي‭ ‬كويتي

كنتُ ولم أزل أردد: «أي جائزة هي مشروع خيرٍ، للإبداع والمبدع وجمهور التلقي». وإذا ما أُخذ في الحسبان الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية الصعبة التي تعيشها أوطاننا العربية. والوضع الأكثر صعوبة ومرارة الذي يعيشه المبدع والمثقف العربي، فإن الوقوف إلى جانبها إنما هو فعل ضرورة، وفرض «عين» على المقتدر، سواء كان مؤسسة حكومية، أو مؤسسة أهلية، أو مجموعة أفراد، أو فردًا بعينه!

إن تقدير المفكّر والمبدع العربي، عبر جائزة ما إنما يعبّر عن تقدير الجنس الأدبي، مثلما هو تقدير لعموم المبدعين، وكذلك الناشر العربي، وجمهور القراءة. وهكذا فإن الجائزة بقدر ما هي مشروع طليعي فكري ثقافي، هي مشروع اجتماعي يخصّ شرائح كثيرة، تتصل بالفكر والكتابة وسوق الكتاب، وفي القلب من درس الثقافة والمثاقفة. لقد حظيت جائزة سلطان بن علي العويس الإماراتية منذ تأسيسها في عام 1987م، باتفاق بين المبدعين والمثقفين العرب، على كونها جائزة رصينة، وجائزة حفرت لنفسها مكانة رفيعة، وأنها محل احترام وتقدير بين مختلف شرائح المفكرين والمبدعين والمثقفين العرب. وبخاصة أن على رأسها صديقًا عزيزًا يتابع شؤونها باهتمام وحرص ومحبة هو الأستاذ عبدالحميد أحمد.

لقد انعقدت صلة طيبة بين اسم جائزة العويس، وعمل الأستاذ عبدالإله عبدالقادر (- 1940م) الذي رحل عن بلده العراق، واستقر في الإمارات منذ عام 1980م، وتنقل بين مهام ثقافية كثيرة، حتى ساهم مع مجموعة من أدباء الإمارات في تأسيس جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، وأصبح عضوًا في أول أمانة لها، وأمينًا عامًّا مساعدًا لشؤونها الإدارية، وفي تاريخ 1/7/1994م عين مديرًا تنفيذيًّا لها.

قد يظن بعضٌ أن العمل في إدارة أي جائزة عربية أمر سهل، لكن واقع الحال، أن المسؤولية عن إدارة جائزة ثقافية كبيرة، إنما هو عملية معقّدة وسيرٌ في حقل ألغام. ففي ساحة ثقافية تعجّ بمئات المبدعين العرب، الذين دفع ويدفع بعضهم عمره ثمنًا كي يكون ويبقى كاتبًا، وهي تعج من جهة أخرى بالشللية والنميمة والحسد، ونبذ ومحاربة الآخر، والقيل والقال، فإنه من الصعب جدًّا إقناع وإرضاء جموع «المبدعين» بقرارات أي جائزة، وبحيادها ونزاهة لجان تحكيمها. لكن القائمين على جائزة سلطان العويس: السادة مجلس الأمناء، والسيد أمينها العام الكاتب عبد الحميد أحمد، ومعهم الأستاذ عبدالإله عبدالقادر نجحوا في هذه المهمة، نجاحًا كبيرًا، وحققوا احترامًا عجزت عن تحقيقه جوائز عربية كثيرة!

كتابتي عن حال الجائزة العربية، يأتي من كوني في حقل الكتابة والنشر منذ منتصف السبعينيات، وأنني شاركت وأسست أكثر من جائزة محلية وعربية، وكذلك رأست وشاركت في تحكيم أكثر من جائزة، كما أن أعمالي الروائية رُشِّحت لأكثر من جائزة. ومن هنا أقول: إن أحد أهم العناصر التي تساعد مسؤول الجائزة العربية على إدارة عمله، أن يكون كاتبًا عارفًا بعناصر الكتابة الإبداعية، وعارفًا أيضًا بعوالم الوسط الثقافي. وأن تكون له علاقات إنسانية طيبة بزملائه المفكرين والكتّاب والمثقفين على طول وعرض أقطار الوطن العربي. ومؤكد هذا متحقق في شخص الأستاذ عبدالحميد أحمد، وهو عينه ما ساعد الأستاذ عبدالإله عبدالقادر على الإمساك بزمام الشؤون الإدارية لجائزة العويس، وقيادة خطواتها نحو نجاحات تُحسب للجائزة.

فتح أبواب روحه للعطاء

عبدالإله عبدالقادر، جاء إلى الإمارات من التدريس، وجاء من الكتابة المسرحية، وجاء من العمل الثقافي، وجاء من التأليف والكتب. وأخيرًا، جاء من الألم والخيبة، ألم مَن أُجبِرَ على تَرْكِ وطنه الأم، وخيبة مَن أُبعِدَ مِن هوى رُوحِه! جاء إلى الإمارات باحثًا عن ملجأ، وفاتحًا أبواب روحه للعطاء علَّه يحقق ذاته، ويثبت نفسه في تربة عربية جديدة رحّبت به، واحتضنت عطاءاته.

بدأ عبدالإله حياته في العمل الثقافي الإماراتي، حين عيّنه الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، مديرًا فنيًّا لمسرح الشارقة الوطني للمدة (1984– 1987م)، وهو ما جعله على قرب من الأدباء الإماراتيين وأهّله لأن يكون مديرًا لاتحاد كتّاب وأدباء الإمارات للمدة (1988-1994م)، وعلى امتداد هذه المدة كتب في الجرائد الإماراتية مئات المقالات مما قرّبه من نبض الساحة الثقافية الإماراتية، وعجنه بطين دروبها، كما عمل في تحرير أكثر من إصدار إماراتي من بينها: مجلة «شؤون أدبية»، ومجلة «دراسات»، حتى استقرت سفينته على ميناء جائزة سلطان العويس. لقد كرّمت الإمارات العربية المتحدة الأستاذ عبدالإله عبدالقادر في أكثر من مناسبة، وأكثر من مجال، وما هذا إلا دليل تقديرٍ لما قام به. وهو دليل الدور الريادي والإنساني والثقافي الذي يفعله المفكر والمبدع والمثقف العربي لأخيه العربي. ففي طول وعرض بلدان الخليج، يوجد أمثال عبدالإله كثير، من الكتّاب والأدباء والمثقفين، الذين قذف بهم موج الألم والغربة للقدوم إلى بلدان الأمن والأمان، ليحطّوا رحال حياتهم وأسرهم، ويقدّموا من عصارة فكرهم وخبراتهم ما يُضيء الساحات الإبداعية والأدبية والثقافية بمزيد من ضوء الفن والثقافة الإنسانيين الأجمل.

أزعم أن للصديق عبدالإله عبدالقادر ذكريات في الإمارات، ومع الإماراتيين أكثر بكثير مما له في وطنه وبين أهله في «بصرته» وفي «عراقه». هي لحظة العمر تنقضي دون النظر إلينا، تبقى ماشية في دربها، وليس لنا منها إلا ما تُبقيه في دواخل أرواحنا وذكرياتنا.

أخي عبدالإله، لك تحية إجلال وتقدير على جهد خصصت به الإمارات والإماراتيين لكنه تعدّاهم إلينا في الخليج والوطن العربي! متّعك الله بالعمر المديد.. آمين.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *