كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الحرب في أوكرانيا.. البشرية أمام مأزقها
لا شك أن الحرب الدائرة في أوكرانيا، هي حدث كبير لن يعود بعده العالم كما كان عليه من قبل. تمامًا كانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990م، أو اندلاع الحرب العالمية بنسختيها الأولى والثانية. مع هذه الحرب سوف تختلط الأوراق وتتغير التوازنات والأولويات الإستراتيجية والسياسية، كما تتغير قواعد اللعب بين الفاعلين على المسرح، أكانوا كبارًا أم صغارًا. بهذا المعنى لا أحد سينجو من التأثر بالحدث الذي يفسد الحسابات، ويحمل على إعادة النظر بعدة التفكير وأدوات التحليل.
بوتين: أوهامه وعُقده
لا مبالغة في القول: إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو صنيعة الحدث الذي تمثل بسقوط الاتحاد السوفييتي، إذ كان يراه بمنزلة كارثة بالنسبة إلى الإمبراطورية الروسية بوجهيها الجيوسياسي والثقافي الهوياتي. ولذا فهو صاحب ذاكرة جريحة أو هوية موتورة، ومن هذا شأنه تحركه مشاعر الحقد وإرادة الانتقام. هكذا بدأ يفكر بوتين، منذ أتيح له الاستيلاء على السلطة قبل عقدين، لكي يفاجئ اليوم الأميركيين والأوربيين، ويشهد على جهلهم وسذاجتهم، هم الذين احتفلوا يومئذ بالنصر على الاتحاد السوفييتي، وظنوا أنه لن تقوم لروسيا قائمة بعد الانهيار الكبير. والطريقة التي يفكر فيها بوتين تصنعها جملة أوهام وعُقد لا تنتج إلا ما أنتجته من الموت والدمار.
أول تلك الأوهام هي اعتقاده أن أوكرانيا لا تشكل دولة أو بلدًا، وإنما هي جزء من روسيا أو صنيعتها. ولكن الأحداث بيّنت أن أوكرانيا هي بلد له كيانه وهويته وشخصيته المميزة. صحيح أن لها وجهًا تتماهى به مع روسيا، ولكنّ لها وجوهًا أخرى تتماهى بها مع جيرانها الأخريات، وبخاصة بولونيا. وهو ما يعني أن لأوكرانيا هوية مركبة ومتعددة. وهذا شأن روسيا، بل هذا شأن كل هوية مجتمعية أو ثقافية تتشكل وتتخلق أو تبنى بتفاعل وتشابك جملة من العناصر والروافد أو من المحن والتجارب.
لذا لا وجود لهوية صافية، كما يحسب أهل العقل الأصولي القومي أو الديني. من هذا المنظور تعتبر حرب بوتين على أوكرانيا بمنزلة استضعاف لها كدولة لا تضاهيها بالقوة والحجم أو الوزن. وهكذا فإن محرك بوتين في إستراتيجيته، كلاعبٍ كبير، هو شهوة التوسع وإرادة الانتقام. إنه يثأر من الدول الغربية التي أسهمت في تحطيم الإمبراطورية التي أقامها الروس، لاستعمار جيرانهم باسم الماركسية اللينينية والعقيدة الاشتراكية.
ثانيًا: من المفارقات التي تثيرها مسألة المماهاة بين روسيا وأوكرانيا، على مستوى الهوية الثقافية، هو أن بوتين القوي يخشى من جارته الصغيرة، ليس لأنها تريد الانضمام إلى حلف الناتو، ولا لأنها تجنح نحو النازية، إذ هو ليس مثال الديمقراطية والليبرالية، فضلًا عن كونه يقف على رأس دولة نووية. فالأولى أن يخشى منه الآخرون.
ثمة سبب آخر يتستّر عليه بوتين في شنه الحرب على أوكرانيا. ذلك أن الروس الذين يعيشون تحت قبضة القيصر الجديد، أخذوا يتشبهون بـأقربائهم وجيرانهم، الذين نجحوا حيث فشل هو، في التحول نحو الديمقراطية وفي تحسين مستوى عيشهم. بهذا المعنى فبوتين يخدع نفسه، بقدر ما يشهد على هشاشته، هو الذي يخشى على سلطته لا على روسيا.
ثالث الأوهام التي تعشش في عقل بوتين: زعمُه أن روسيا ليست بلدًا غربيًّا على النمط الليبرالي والنظام الديمقراطي التعددي. يدعمه في هذا الاعتقاد ويوسوس له، شيطانه الفيلسوف ألكسندر دوغين، صاحب النظرية القائلة: إن روسيا لم تكن ديمقراطية أو غربية، بل كانت على الدوام قيصرية أرثوذكسية، حتى في العهد الشيوعي. وهذه النظرية هي عقيدة يحسن بوتين ترجمتها إلى إستراتيجية قاتلة.
نحن هنا إزاء خدعة، بل أكذوبة تدحضها الوقائع؛ ذلك أن روسيا قد تحولت إلى بلد غربي منذ بطرس الأكبر، كما تشهد الإبداعات في الآداب والفنون وفي غير مجال من مجالات الثقافات الحديثة. ثمة واقعة أخرى ساطعة في هذا الخصوص، ولكن الجاهل أو المتعصب لا يرى وسط الرؤية. فالاتحاد السوفييتي، بفلسفته الجدلية ومنظومته الاشتراكية، تمكن من التحول إلى دولة كبرى تنافس الولايات المتحدة على زعامة العالم واقتسامه، بأفكاره ونظرياته، التي لا تمتّ بِصِلة إلى الشرق الأرثوذكسي؛ لأن مصدرها هو الفلسفة الألمانية لدى هيغل وماركس وإنغلز.
نحن إزاء أكذوبة يكررها ويعزف على وترها زعماء روسيا والصين وبعض رؤساء الدول العربية والإسلامية. إنهم ينكرون غربيتهم بداعي التمسك بثوابتهم والحفاظ على هويتهم وقيمهم، فيما هم غربيون في كل شيء: في أسباب معاشهم وأساليب حياتهم، في أدواتهم وأسلحتهم، في علومهم ونظرياتهم، في ثوراتهم السياسية والاقتصادية والرقمية. فقط عندما يتعلق الأمر بقيم الديمقراطية والتعددية وتداول السلطة، يصبحون شرقيين محافظين، أو شعبويين عنصريين؛ لكي يُحكموا قبضتهم ويمارسوا سلطتهم بلا قيد أو شرط، وبلا حسيب أو رقيب.
رابعًا- لطالما أعرب بوتين عن حسرته لسقوط الاتحاد السوفييتي. هنا أيضًا يحاول الرئيس الروسي ممارسة الخداع فيما يخص علاقته بهويته كسوفييتي. لقد تحدث من موقع الضحية، لكي يخفي كونه يتحدث من موقع الجلاد. والوقائع صارخة في هذا الخصوص: ففي العصر السوفييتي كان التعامل، بمنطق الهيمنة والاستعباد، من جانب الشقيقة الكبرى روسيا، مع دول الاتحاد الروسي كأوكرانيا أو مع دول المنظومة الاشتراكية كتشيكوسلوفاكيا.
كانت تجربة مريرة وفاشلة في ميدان العلاقات بين الأشقاء، مع أن أكثرية تلك البلدان تنتمي إلى العالم الأرثوذكسي. وهو ما يعني أن الخلاف لا علاقة له بثنائية الشرق والغرب ولا بصراع الحضارات، وإنما أساسه هو الخلاف بين نمطين من التفكير أو نهجين في التعامل مع الجيران والأشقاء أو مع النظراء والأنداد: عقل يعترف بالآخر ويحسن التعامل معه بمنطق الحوار والمداولة أو الشراكة والمبادلة، مقابل عقل يتعامل مع المختلف، القريب أو البعيد، بمنطق الإقصاء والصدام والعداء.
خامسًا- لا أنهي حديثي عن القيصر، دون التطرق إلى مواقف بعض المثقفين والإعلاميين العرب، ممن يروجون لمحور المقاومة والممانعة. ومنهم من أطلق على القيصر، الذي شارك في تدمير مدينة حلب، لقب أبو علي. ولا تفسير عندي لمماهاة المثقف مع الدكتاتور، سوى كوننا نعشق رموز الاستبداد، فيما ندعي عشق الحرية.
هذا ما قلته بعد رحيل فيديل كاسترو، الذي قاد ثورة لتحرير الشعب الكوبي، وكانت النتيجة أنه قبض على السلطة لعقود طويلة، ولما شعر بدنو أجله لم يجد سوى شقيقه راوول لتسليمه السلطة، بعد أن حول كوبا إلى ملكية خاصة له يتصرف فيها كما يشاء. يومها تساءل بعض المثقفين العرب عن السر الكامن في شخصية كاسترو الجذابة. فكان جوابي: السر هو جهلنا بأنفسنا وبأننا من عبدة الطغاة.
ثمة مثال صارخ في هذا الخصوص: فنحن في لبنان كنا قبيل انفجار الحرب الأهلية عام 1975م، منخرطين في مشروعات لتغيير النظام، الذي كان يتيح لنا حرية التفكير والتعبير أو الاحتجاج والتظاهر، وهو ما كان يحسدنا عليه الآخرون من عرب وغير عرب. مما يعني أن مطلوبنا لم يكن الديمقراطية أو المزيد من الحرية، التي كانت فائضة في لبنان، لأن المحرك كان الاستبداد، وإلا كيف نفسر أن شعارات الحرية ترجمت ضدها. لعلنا لا نزال على النهج نفسه، ولم نبدّل تبديلًا.
أميركا ومشكلتها
إن نقد بوتين بالكشف عن ادعاءاته وأوهامه، لا يعطي المصداقية للغربيين والأميركيين. فهؤلاء ليسوا ملائكة، وإنما هم أصحاب مصالح ومآرب، كما أن لهم أيضًا أساطيرهم وأوهامهم وأخطاءهم. نحن إزاء وجهين للعملة نفسها: الغطرسة الإمبريالية مقابل الأصولية القومية والدكتاتورية الشعبوية. والحرب في أوكرانيا، بتداعياتها وآثارها على المستوى العالمي، هي نتيجة التواطؤ بين المعسكرين المتصارعين: روسيا مع حلفائها وأتباعها، وحلف الناتو بقيادة أميركا. من هذه الوجهة تُعدّ أميركا دولة متواطئة، لا مصداقية لها في ادعائها زعامة العالم والدفاع عن أنظمته الديمقراطية. والمتواطئ هو من يسهم في صنع أو خدمة أعدائه، كما تشهد سياسات أميركا ومواقفها التي تفاجئ حلفاءها بالدرجة الأولى.
بهذا المعنى، فبوتين هو صنيعة أميركا، كما هي صنيعته في الوقت نفسه. إنه تواطؤ الأضداد على صناعة الخراب. والشاهد الأبرز هو أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قد تم التعامل مع روسيا، كما تم التعامل مع ألمانيا غداة انتهاء الحرب العالمية الأولى، بمنطق الاستبعاد والاستقواء والإذلال. الأمر الذي أفضى بالألمان إلى إعادة بناء قوتهم، لشن الحرب العالمية الثانية على سبيل الثأر والانتقام. وهذا ما يفعله بوتين الآن. إنه يثأر من المعسكر الغربي الذي تعامل مع روسيا كدولة مهزومة، ضعيفة، هامشية، ومتخلفة.
هذا مع أن روسيا ككتلة بشرية ودولة أو إمبراطورية لا يستهان بها. وكان المفكر الفرنسي ألكسي دو توكفيل قد رأى بنفاذ حدسه، منذ القرن التاسع عشر، أن السيطرة في المستقبل ستكون لأميركا وروسيا، لا لأوربا. ومن المفارقات الصارخة، في هذا الخصوص، أن الروس لم يدافعوا عن النظام السوفييتي؛ ذلك أنهم رأوا في سقوطه فرصة لهم، لكي يتحرروا من إرهابه ورعبه، ويعيشوا في بلدهم، أسوة بالبلدان الغربية، في دولة المواطنة والقوانين التي تحترم فيها الحريات الديمقراطية.
ولكن الأميركيين قد تعاموا عن هذه الحقيقة الساطعة، وظلوا يعاملون روسيا كمعسكر مضاد، بلغة الإقصاء والاستضعاف أو الإذلال، وهو الأمر الذي قدّم لبوتين الذريعة لكي يلعب على الحس الديني أو الجُرح القومي، لترجمة مشروعه الإمبراطوري، فتصرف مرة كبَطْرك أرثوذكسي، وأخرى كزعيم شعبوي. وها هو يطل اليوم، عبر الشاشة، ببدلته الغربية الأنيقة، كفاتح عسكري همجي، فيغزو جارته أوكرانيا ويجتاح مدنها لتخريب عمرانها.
وهكذا فقد حسبت أميركا نفسها، بعد سقوط جدار برلين، زعيمة العالم والقطب الأوحد لإدارة الشأن الكوكبي. ومن يرى نفسه بهذا المنظار يتعامل مع بقية الدول، حتى لو كانوا حلفاء، بلغة فوقية أحادية تنضح استعلاء وغطرسة. صحيح أن أميركا قد أسهمت، بمشروع مارشال، في إنعاش القارة القديمة ونهوضها بعد الحرب العالمية، ولكنها لم تعاملها كندة أو كشريكة، بل كتابعة أو قارة عجوز، أو كساحة لحلف الناتو لمحاصرة روسيا. هذا ما جعل، الرئيس الفرنسي شارل ديغول يعترض، كأوربي، على سياسة أميركا ويحاول انتهاج سياسة مستقلة ومغايرة.
وما عانته أوربا، من سياسة أميركا، عاناه حلفاؤها العرب أضعافًا مضاعفة، من حيث إن هذه السياسة كانت تعود بالفائدة على إيران، وبالضرر الفادح على العرب، في كل القضايا والمشكلات، باستثناء الملف النووي الذي كان وحده مدار الصراع بين أميركا وإيران. هكذا جرت الأمور في كل العهود، وبخاصة في عهد أوباما. ويبدو أن بايدن يسير على نهجه. هذه السياسة الأميركية الملغمة، التي تقوم على التغاضي والسكوت أو التواطؤ، الخفي أو المعلن، هي التي جعلت أصحاب الأمر في طهران، ينجحون تحت نظر الولايات المتحدة ورعاية هيئة الأمم المتحدة في الاستيلاء على خمسة بلدان عربية، ليعملوا على زعزعة استقرارها وتهديد أمنها وتدمير مؤسساتها، بفضل خمسة جيوش يملكونها، كما يتباهون ويصرحون، في لبنان وسوريا والعراق واليمن وقطاع غزة.
العنصرية الأوربية
من مساوئ هذه الحرب، أنها ولَّدت تلك الموجة العنصرية التي تجتاح البلدان الأوربية ضد الثقافة الروسية. وهذه العنصرية تبلغ ذروتها في محاولات منع الروس المشاركة في الأنشطة الأوربية التي تقام في مجالات الأدب والفن والرياضة. والأدهى، إذا صحّت الأخبار، هو أن يعامل التلميذ الروسي، الذي يقيم أهله في بلد أوربي، بمنطق العداء بوصفه صورة مصغرة عن بوتين. يا لها من فضيحة تشهد على الجهل والغباء أو الحمق والسخف! أولًا: لأن مشاعر العداء ضد روسيا تصب في مصلحة بوتين قاهر الشعب الروسي. ثانيًا: إذا كان لروسيا أن تعيد بناء نفسها، كدولة ديمقراطية، فإنها مسؤولية الشعب الروسي بالدرجة الأولى. ثالثًا: لأن الثقافة الروسية هي ثقافة أوربية تتعارض مع الأيديولوجيا الحديدية التي حكم بها روسيا وتحكم بأهلها قياصرةُ الاشتراكية وبطاركةُ الماركسية. بهذا المعنى فعداء الأوربي للثقافة الروسية هو عداء لأوربا كمساحة تداولية ليبرالية.
ترويض الوحش البشري
ما أخلص إليه في قراءتي، هو أن البشرية قد دخلت في العصر الرقمي، عصر الاعتماد المتبادل، حيث تتشابك المصالح وتتداخل المصاير، كما تشهد الأزمات الصحية والبيئية أو السياسية والأمنية، فضلًا عن المشكلات الثقافية والمجتمعية. وما دام الكل يعتمد على الكل، سواء أكان فردًا أم جماعة أم دولة، فلا عودة إلى الوراء، كما يستعجل الذين قرؤوا الحدث الأوكراني بوصفه نهاية العولمة، تمامًا كما استعجل الذين قرأوا من قبل على هذا النحو الحدث الكوروني.
نشهد منذ مدة عولمة الهويات والخبرات والابتكارات. وإذا كان ثمة درس يستخلص، مما يفاجئ ويصدم من الأزمات والمعضلات، فهو المراجعة النقدية، بحيث لا يطغى بُعد على سائر الأبعاد كما يفكر ويعمل ذوو العقل الأحادي. فالمنجز الرقمي قد فتح إمكانيات هائلة أمام البشر للمعرفة والعمل، للفهم والتشخيص، أو للتدبير والتحسين، عبر تبادل العلامات والرموز والشيفرات والصور والنصوص. ولكن ذلك لا يعني أنه يمكن لنا أن نعيش على الأثير، فنحن كائنات نقيم في أجسادنا، وهي تحتاج إلى الأغذية والطاقة كما تحتاج إلى طرق الإمداد والتنقل على الأرض. ولهذا لا مناص من مراعاة قواعد التوازن والتكامل أو التضامن والتبادل فيما نُنتج ونستهلك.
والوجه الآخر لما يمكن استخلاصه هو أنه ما عاد يجدي إدارة الشأن الكوكبي بالعدة القديمة. لا بالأحلاف العسكرية ولا بمضاعفة ميزانيات التسلح. وبالطبع لا تُعالج بمنطق الاحتكار والانفراد أو بإرادة التفوق والتسلط أو بلغة الصدام والعداء، كما يفكر ويعمل أصحاب المشروعات الأصولية والإستراتيجيات الإمبريالية، أو أصحاب الأنظمة الدكتاتورية والحركات الشعبوية، ممن يحولون الهويات والأفكار إلى متاريس رمزية أو إلى معسكرات أيديولوجية. فذلك لا ينتج إلا ما نشكو منه: إثارة المخاوف وزرع الأحقاد لكي نحصد ما نحصده من العنف الأعمى والفاحش.
بهذا المعنى نحن نتجاوز أزمة الصراع بين الأيديولوجيات والأحلاف والمعسكرات، فالأزمة على المستوى الوجودي هي مشكلة الإنسان مع نفسه بالدرجة الأولى، هو الذي تفاجئه دومًا بربريته، لكي تضع العالم أمام مأزقه، بانتظار حرب أو كارثة أو فضيحة. والمأزق يعني أننا نصنع النماذج التي ندعي محاربتها، أو نعالج المشكلات لكي تزداد تعقيدًا واستعصاءً؛ لذا ترانا نسخّر طاقتنا الفكرية لأهوائنا ونزواتنا، لجشعنا وتكالبنا، لعنصريتنا وحروبنا، لكي نعود إلى نقطة الصفر على المستوى الحضاري والمدني، مثلما تفاجئنا الحرب الهمجية في أوكرانيا بمواكب القتلى وقوافل المهجرين، وهو الأمر الذي يضطرنا إلى القيام بأعمال الترميم وإعادة التربية والتأهيل، لترويض الوحش داخلنا، بابتكار الجديد من القيم والمفاهيم أو القواعد والأساليب. والعلاقة بالقيم ليست ثابتة كما نحسب، وإنما هي صناعة دائمة، ذلك أن الإنسان لا يتقي أو يتواضع، ولا يعترف بمساوئه أو بحمقه وجنونه، لكي يتعقل أو يتبصر ويتدبر، إلا على وقع الدمار المتبادل الذي تولده المخاطر والأهوال والكوارث على اختلاف أنواعها.
هذا ما فعلته أوربا بعد حروبها العالمية: التخلي عن منطق الحرب للاشتغال بلغة الاعتراف والشراكة. ولكن ها هي الحرب تعود من حيث لا أحد يحتسب لتوقظ الجميع من سباتهم. والخروج من المأزق يقتضي العمل من أجل أن تنخرط روسيا في أوربا وتصبح جزءًا منها، بحيث تقرأ المجريات والتحولات والأزمات، بمفردات الفكر المركب والعقل التداولي والبعد المتعدد والهوية العابرة، بمرتكزاتها الوطنية ونطاقها الإقليمي ومداها العالمي. من غير ذلك لا نصنع سوى تسويات هشة أو ثنائيات مفخخة تنتظر ساعة الانفجار.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق