كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
ثلاث شموس حمراء
انطلقت السَّريَّة، وعلى رأسِها القائدُ العامُّ تِلَر. كانت فَرَسُهُ البيضاء تتبختر في هواء الصباح المُنعِش، وتُحَمحِمُ من لحظةٍ لأخرى، مُهيَّجةً تمامًا. وعلى الرغم أنَّ ضوء النهارِ لم يَكن قد اكتمل بعدُ، فإنَّ القائد العام كان يتبين كلَّ جزءٍ من المَمرِّ بوضوح، مُندهشًا منه. كان يأمل في أن يبدو بمظهرٍ لائقٍ شادًّا كَتِفيْهِ الاثنتَيْنِ. كان قصيرَ القامة، وكان هذا هو حزنه الذي يَكتمه داخله. كذلك كان يحاول أن يُعوِّض هذا النقصَ بجُرأته ورشاقتِه. كان عليه أن يُقرَّ بهذا النقص، بلا نتيجة إطلاقًا.
فكَّرَ في الهاربِ مِن الجيش، الهاربُ الذي كان عليه أن يُنفّذ فيه حُكمَ الإعدام. كانت أعصابُ الرَّجل قد ارتخت، وكان هذا شيئًا عَصيًّا على الإدراك. مِن جهةٍ أخرى، لم تتمكن التحرياتُ من التثبّتِ من دوافعِ حركته. لقد أحزنه الرجلُ في الحقيقة. ثم إنه كان يكرهُ القيادة. غير أنه لم يَتسنَّ له أن يرفضَ الإمساكَ به. إضافةً إلى هذا لم يُبالِ بمعرفة مَن ذاك الذي أصدر الأوامر بالحكم عليه بالإعدام. نحن لا نستطيع أن نفعل له أي شيء. «على القضاء أن يكون مُستعدًّا دائمًا»، قالها القائد العام لنفسه همسًا وهو يتأرجحُ فوقَ مقعده.
كانت السماءُ شاحبةً، لكنها صافيةٌ. نهارٌ شِتويٌّ باردٌ وجميلٌ أَعلنَ عن قُدومِه. بينما كانت الريحُ تَهُبُّ بعُنفٍ؛ وهو مَا جعلَ القائدَ العامَّ ينتفضُ. لكن الذي تمالَكَ نفسه في الحال شدَّ عضلاته ونظر أمامه مباشرةً. كان يمتلكُ عينينِ زرقاوين براقتين، أكثرُ عينين جميلتين في الجيشِ، قالت ذلكَ امرأةٌ عاشقةٌ ذاتَ يومٍ.
على جانبيه كانت تسيرُ أحصنةُ المُرشدِ بِلشِل والطبيب العسكريِّ زُومَر. شخصان ثقيلا الظلِّ. انتصف عمراهما. كانا يمكثان مُكومين فوق مقعديهما، تكاد رأس كل منهما تغوصِ فيما بين كتفيهِ، ويحجبها عنقه الناتئ من معطفه. لم يَفُق الطبيب بعدُ من الأَرقِ كُلّيّة. فيما كان المرشدُ ذو الطبعٍ العبوسٍ مُنزويًا داخل تفكيره، كعادتهِ في مِثلِ هذه الأحوالِ. يلحقُ بهما مِن خلفهما طابورٌ يصطحبُ الرجلَ المقبوضَ عليهِ. كان المَمَرُّ المكشوفُ يبدو وكأنّه لن ينتهي. كانت هناك ريحٌ نَشِطةٌ تئزُّ وتُلهبُ أُذنيّ القائدِ العام.
كان هذا يقتضي أن يُقاسي الموتَ بَردًا. لكن، ربما نتمسكُ قليلًا آنذاكَ بالحياةِ. ربما نتعلَّقُ بها أكثر من خلالِ صبيحةِ صيفٍ مُتألقةٍ.
أزمعَ القائدُ العامُ كي يُهدّئ سريرته أن يختارَ الافتراضَ الثاني. ثم انتهى به الأمرُ إلى طَردِ هذه الفكرة وبَدأ مُستخدمًا عقله في تقدير أمواله. كان هذا حين راحت فَرَسُه تَخبُّ. حاولَ أن يَشُدَّ لجامَها، لكنه لم يستطع أن يمسكَ به، فراحت تركضُ بسرعةٍ متزايدةٍ، حتى إنَّ حوافرها تكاد لا تلمسُ الأرض. سَمع صوتًا كرنينِ زجاجٍ خفيفٍ فوقَ أرضٍ مُتجمدةٍ وأغمضَ عينيهِ. حينئذٍ عثَر عليهما في حقلِ إطلاق النار، مَذهولًا وهو يَرى سَريّتَهُ التي كانت تنتظره هناك. كانَ المرشدُ والطبيبُ العسكريُّ يَنظرانِ إليهِ نظرةَ تأنيبٍ، كما لو كانا ينتظرانه مُنذ الأزَلِ في هواء الصباحِ النديّ. مُرتبكًا، قلِقًا، تساءلَ القائدُ العامُ عمَّا اقترفهُ مِن خطأ. أخيرًا، كان كلُّ شيء في حالةِ استعدادٍ قُصوى.
أعطى المرشدُ الإعفاءَ للرجلِ المحكومِ عليه، ثم عاد إلى مكانهِ مرة أخرى. كان الرجلُ ينظرُ إلى السماء بعدمِ اكتراثٍ، أو بالأحرى كانَ يتلفّتُ ناحيةَ السماءِ لأنه، بالطبع، كان لا يستطيعُ أن يرى أيَّ شيء من خلال عُصابةِ الرأسِ البيضاء.
جلسَ جنودُ الصفِ الأول على رُكَبِهم مُهيّئين بنادقهم لإطلاقِ النار. تنحنحَ وأشار. لكن لم يُسمع أيُّ صوتٍ لعيارٍ ناريٍّ. ثارت البنادقُ غضبًا، فيما راح الرجالُ يسألونه بنظراتهم. وهو مُرتبكٌ، أرادَ أن يُكررَ الأمرَ بإطلاقِ النارِ لحظةَ أن انتابتهُ حالةُ دُوارٍ. ثم سقطَ أرضًا. في تلك اللحظةِ سَمع الطبيبُ البُمباشيُّ يقولُ وهو يَميل عليهِ: «لقد مات!».
عَقِبَ مجهوداتٍ ضخمةٍ نجحَ في أن يفتحَ عينيهِ. رأى مجموعته تتوارى على ظهور الأحصنة داخل الممر، على رأسها الفرسُ البيضاءُ التي يمتطيها القائدُ العام تلر، الذي كان يتأرجحُ وهو فوقَ مقعدهِ. بعدَ ذلك غَضَّ طرفهُ. استندَ بظهرهِ على أحد الأعمدة، ثمَّةَ دمٌ وردي اللونِ ينزفُ مِن ثُقبٍ في صدره. إذن…! فكَّرَ القائدُ العامُّ. لقد أطلقوا النارَ عليَّ، عن طريق الخطأ. لكن، كيف أستطيعُ أن أكونَ جالسًا في هذه اللحظة على ظهر جوادي وأعود إلى المنزل كأنَّ شيئاً لم يكن؟
استغرق في تفكيره. كل هذه الحكاية لا يمكن إلا أن تكونَ خطأً. تذكَّرَ مسرحيةً شاهدها حديثًا جَرى فيها كلُّ شيء كذلك بطريقةٍ مُستبعدةٍ تمامًا. «لا بد من وَقفِ عَرضِ هذه المسرحية!»، قالها عابسَ الوجهِ.
انتابهُ شعورٌ بأنَّهُ كان وحيدًا. ليس هنالكَ مِن حولهِ سوى الجليدِ. في الأفق رأى جبالاً يُغطّيها الجليدُ وسُحبًا عملاقةً مِن الجليدِ تجمَّعت أعلى رأسهِ. بعض النُّدَفِ البيضاء الهائلة هبطت عليهِ. سوف تتكسر، قالها القائد العام لنفسه بكل خشيةٍ. لكنَّ النُّدَفَ الجليديةَ كانت قد حطَّت فوق وجههِ بخفّةٍ. مِن خلال بلّورها الدقيق جدًّا رأى ثلاثَ شموسٍ حمراء اللونِ في السماءِ، وثبُتَ له أنه في غمرةِ نهايةِ العالمِ. طمأنه هذا الشعور أيّما اطمئنان. الآن لم يعد ثمة شيء لا مَعقول ولا مُبهمًا. لقد فَسَّرَت الشموسُ الثلاثُ التي في السماء كل شيء.
هكذا، مُمدَّدًا ومُتأمّلًا المشهدَ الذي عُرض أمامه، شَعَرَ بأنه مُقتنع بفضولٍ كبير. نُدَفٌ أخرى نزلت عليه من دون انقطاع. كانت تَمُرُّ أمام الشموسِ، ثمَّ حطَّت على وجهه. آلمَهُ لمعانُها في عينيهِ، لكنه لم يُرِد أن يكفَّ عن النظرِ إليها. لو أني أمسكتُ بالقليل منها الآن، كان يفكر، لتعلّمتُ كيفَ أُحسُّ بكل الأشياء. لم يكن يعرف في الحقيقة ما الذي يريدُ أن يتعلَّمهُ، لكنه كان يشتهي بإلحاحٍ هذه المعرفة. كان يرغبُ فيها بكل روحه. كان هذا وقتما استمع إلى الموسيقا. التفتَ حوله فلم يَرَ شيئًا آخر سوى الجليد. أخيرًا أدركَ أنَّ الموسيقا قادمةً من الشموس. ملأ قبضةَ يده من الجليد وبدأ مُتعجلًا في حشوِ الثقب الموجود في صدره. لكنه أخطأ في فعلِ هذا؛ لأن الجليد يذوبُ في الماء المُثلج الذي يَجري داخل أوردته. لقد لَسَعه البردُ كجمرةٍ مُلتهبة. عابرة كُدرة بيضاء انقضَّت الشموسُ الثلاثُ عليه. أفاقَ القائدُ العامُّ وهو في حالة اختناق. شعر بأنَّ شيئًا ما يتمزّقُ داخل صدره. راحت عيناه تبحثان عن ضوء السراج الأصفر الصغير، لكنهما لم تعثُرا سوى على الظلمات.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق