كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
تأملات في «قاهرة» يحيى حقي
لا يحتاج كاتب بقيمة يحيى حقي (1905- 1992م) إلى تعريف بجهوده في خدمة الأدب العربي الحديث والمعاصر، ولا يكاد تعبير «الكاتب الرائد» ينطبق على أحد سواه؛ فهو واحد من الذين جربوا الكتابة في مختلف الأنواع الأدبية، وبلغ فيها ما بلغ من قيمة واقتدار. كذلك خاض الراحل مجال النقد على اتساع تعريفاته، وبلور بالممارسة وبمهارة الفنان وبرؤية الناقد كل إنتاجه الشامل في سياق التاريخ المصري بكل صراعاته، واحتفظ لنفسه بصورة أقرب ما تكون لمثقف زاهد ومتصوف. وعلى الرغم من المناصب الكبرى التي وصل إليها، فإنه نأى بنفسه عن أثمان التصنيف والصراع الأيديولوجي، وبقي قيمة عابرة للتيارات الفكرية وللأجيال التي لا تزال تنظر لإنتاجه نظرة مميزة تليق بمقام «الأب الروحي».
لا يسعى هذا المقال للنظر في قيمته مجددًا، فهو موضوع غني عن البيان، وإنما الهدف هو تأمل رؤية يحيى حقي لمدينة القاهرة بوصفه «مؤرخًا للوجدان»، فقد سعى للحفاظ على ذاكرة المدينة، ومواجهة ما يسمى «النسيان الثقافي» بعد أن شاعت «نزعة تدمير الماضي» التي كانت واحدة من بين الظواهر الأكثر تميزًا في القرن العشرين، كما يعتقد المؤرخ إيريك هوبسباوم الذي رأى أن معظم الأجيال الجديدة تنشأ في حاضر يفتقر إلى أي علاقة عضوية بالماضي(١).
والمؤرخ الذي تبلور في عطاء يحيى حقي يختلف عن المؤرخ التقليدي، فهو لا يُعنَى بدراسة الوقائع أو تحقيقها؛ لأن ما يشغله هو تأمل علاقة الفرد الهامشي بالمكان، ومراقبة «سيرة الزوال». والذاكرة هي بصيرة نافذة منذ القدم، وتعتمد على الطبوغرافيا، أو الوصف الدقيق للأماكن وسماتها عبر خلق ما يسمى «فن الذاكرة» القائم على تأصيل وجود المكان سواء بالتوثيق أو التذكر. وهي عمليات متعلقة ضمنيًّا بالجسم البشري، من حيث إن أفعال الذاكرة يجري تصويرها بالحدوث، ثم تمر من خلال «منظم البلاغة» بوصفه جوالًا يمشي حول بناء الذاكرة. في حين يرتبط المصدر الرئيس للنسيان بعمليات تفصل الحياة الاجتماعية عن طابعها المحلي؛ فالمدن خضعت لتغيرات أدت إلى تآكل معنى «الذكريات المشتركة» وذلك بفعل التحول البنائي في فضاءات الحياة(٢).
تنظر الدراسات الحديثة حول المكان بطريقة مبتكرة لمفهوم الذاكرة الثقافية بوصفه ضمن إستراتيجيات المقاومة. وعلى ذلك فإننا ننظر إلى «فن الذاكرة» ضمن هذا المقال كتقليد بلاغي كما يمكن وصفه بأنه منهج للاتجاهات، ويجري تعريف الاتجاه على أنه مكان يسهل استيعابه بواسطة الذاكرة مثل المنزل والعمود أو المساحة بين الأعمدة وهي أماكن يمكن إدراكها فعليًّا(٣). وفي أغلبية كتاباته اعتنى حقي بالمكان، وراقب تحولاته من موقع المراقب المتأمل، فضلًا عن عنايته الفذة بمن كانوا في «الظل». وبالتالي فالأماكن المعنية عنده هي حامل للذاكرة الثقافية. ومما يعزز هذا التصور كون عملية تفكيك حدود المدينة علامة من علامات الحداثة حيث جرى الفصل الفيزيقي بين مكان الإقامة ومكان العمل.
لكي نفهم يحيى حقي
كان حقي أحد أبرز أعضاء جماعة المدرسة الحديثة، إلى جوار شحاتة وعيسى عبيد وحسين فوزي وأحمد خيري سعيد. وقد سعت تلك الجماعة -كما يقول صبري حافظ- نحو بلورة «المتخيل الوطني» الذي تتجسد به الهوية المصرية، ويتعزز معه كيانها(٤). ولا شك في أن ما ربط مبدعي تلك اللحظة الفارقة هو قضايا الاستقلال والهوية المصرية والالتفاف حول زعيم ثورة 1919م. وكان هذا من بواكير السعي نحو صياغة «متخيل وطني» جامع لقيم الثورة وأهدافها يتجاوز النظرة الدينية الضيقة، ويركز على قضايا المواطنة، ويتسم بقدر واضح من العقلانية وحب الوطن. وفي إطار هذا التصور ركز حقي جهده الإبداعي على عالَمين أساسيين؛ أولهما: حي السيدة زينب، بحكم أنه الحي الذي نشأ فيه وتدور في فضاءاته القصص التي يسميها صبري حافظ «الشعبيات»، أما العالَم الثاني: فهو عالم القرية المصرية في الصعيد حيث خدم في أولى سنوات اشتغاله بالقضاء(٥).
تدرس هذه المقالة القاهرة وتاريخها ومعالمها وسكانها في كتابات يحيى حقي بالتركيز على المقالات، وتستبعد الأعمال الإبداعية التخيلية سواء في مجال القص الروائي أو القصصي؛ لأنها تقوم على التخييل، وليس التوثيق أو سرد الوقائع المتعينة في الواقع وهي المهمة التي يستهدفها المؤرخ. في كتاباته حول القاهرة، اعتنى صاحب «قنديل أم هاشم» برصد التغييرات التي شهدتها القاهرة، سواء ما تعلق منها بشكل العمارة أو بالتغييرات الديموغرافية أو بالظواهر الاجتماعية. وركز بصورة رئيسة على دور العين والخبرة البصرية المتعينة في مقابل الدور التقليدي للخبرة السماعية والألاعيب اللفظية، وأعطى اهتمامًا لافتًا للنظر إلى العناصر التأملية في القص بالصورة والحركة والصوت؛ ما كشف عن بصيرة مرهفة وقدرة تخيلية عالية(٦). واعتنى كذلك بإجراء المقارنات وتأكيد ثنائية الشرق والغرب، لكن من منظور الاعتزاز بـ«شرقيته». وصف نفسه بأنه «شرقي مصري، عيار 24، بل خارج من قلب طوبة عتيقة ملقاة في حي شعبي أو داير الناحية، بقرية بين النخيل وخوار البقر»(٧).
ويشير أحد دارسي أدبه إلى أن الفضاء الجغرافي الذي وُلِد فيه حقي كان له الدور الأهم في تكوينه وتحديد جدول أعماله كاتبًا. فقد وُلد في حي السيدة زينب، وعاش في كنف «أم هاشم»، وأدرك ما تمثله «أم العواجز» لكل من يقصدونها، وتردد اسمها كثيرًا في عناوين كتبه ومتونها ومنها قنديل أم هاشم، أم العواجز، واستعمل الصفات التي يستعملها البسطاء في وصفها، بل إنه حين انتقلت عائلته للعيش في حي الخليفة القريب، لم يكن هناك فرق كبير سوى أن المكان الجديد كان خاليًا من «بركة الست». لكن المكان الجديد قاده لتأمل العمارة الإسلامية ومعالمها سواء في القلعة أو السلطان حسن ومنطقة الدرب الأحمر ودرب التبانة، كما التقطت أذناه التعابير المصرية وصارت سمة لأدبه(٨).
الاعتزاز بالقاهرة
أول ما يمكن ملاحظته في تأملات حقي؛ اعتزازه بالقاهرة، وفهمه لمسارها الحضاري. يقول: «من أحب القراءات عندي وأنا ابن بلد، وصف القاهرة في مختلف العصور». عزز حقي معرفته النظرية المستمدة من ثقافة متعددة الروافد بجولات كثيرة لم تنقطع في أحياء القاهرة، جمعت بين لذة التسكع والاستمتاع بالمتاهة؛ يقول: «أشعر بلذة كبيرة حين أجدني ضائعًا وسط عالم غريب، لا تجده إلا فيها، يتجمع عندها كل ساعة، ثم يذوب وتبتلعه المدينة، لو لم تره فيها لما أدركت قط أنه يعيش بجانبك دون أن تحس به». انحاز حقي لفكرة التجوال وتكررت في نصوصه ملامحها بطريقة مثيرة ومنها ما كتبه في كتابه «باب العشم»، حيث قال: «كنت أسير في حالي وحدي، غير مكروش، ولا متسكع، فقد نشأت معرفة جديدة بيني وبين قدمي، وابتسمت حين تنبهت للطريقة التي أمشي بها، أننا قلما ننتبه إليها»(٩).
بحسب دراسة ريم شريف المنشورة في موقع «مدينة»، فإننا في المدينة ذات الشوارع الكبيرة ووسط وقع أقدام وطنِين كلام ساكنيها، لكل منا طرقه الخاصة في استكشاف مواقع الطمأنينة داخلها، ونهجه في الاتصال اليومي المباشر بعالمها، سواء بغمس أنفسنا فيها، أو الاكتفاء بالمشاهدة من وراء زجاج السيارات أو البيوت. ربما يكون التسكع أكثر الطرق حميمية في الاتصال بفضاءات المدينة وشوارعها. بذلك يجد المتسكع نفسه منغمسًا في اتصال وجهًا لوجه مع المدينة، مانحًا لها تجربته لتتشكل وفق ما تقدمه له عوالمها، ففعل التسكع في حد ذاته كاشف لكل التناقضات التي تعامل بها المدينة سكانها، وتكون علاقتهم الذاتية بمحيطهم العمراني(١٠).
ويزكي بول كونرتون هذا الاعتقاد ناظرًا لفعل «المشي» داخل النسق الحضاري كفعل المخاطبة بالنسبة للغوي، وبالقياس فترجل المشاة هو بمنزلة حديث كلامي، وبالتالي فإن تناول فعل «المشي» من هذه الزاوية يعظم من شأنه ويزيد من حساسية متضمناته ومن أثره كذلك(١١).
وفي تأملات حقي حول القاهرة لا تغيب الألفة أبدًا. كتب: «من حسن الحظ أن القاهرة العزيزة لم تعرف الاستغلال البشع أو هذه الفخفخة الكاذبة، وورثت عن القرون الوسطى لمساكن الطبقات الشعبية نوعين من العمارة؛ الأول: هو الحوش، مثل حوش بردق الذي يضرب به المثل لكل من نالت الدكتوراه في الردح والتشليق، والنوع الثاني: هو الربع، وهو صنف من الدكاكين يعلوه صف الحجرات تفتح على ممر واحد ممتد أمامها»(١٢). ولا تعني هذه الصورة الزاهية أن القاهرة التي عرفها عند ميلاده كانت «مثالية»؛ لأنه أكد في غير موضع أنها كانت تعج بأعداد غفيرة من المشوهين، والبؤساء الفقراء حتى ليقال: إن بلد العميان أصبح أيضًا بلدًا للمشوهين(١٣).
ألفة العمارة
تناول كاتبنا الراحل في أغلب كتبه نوعية العمارة التي تلف القاهرة، ملاحظًا أن هناك أكثر من طراز معماري في العاصمة المصرية؛ الطراز الأول: فرعوني روج له محمود مختار عبر تمثاله نهضة مصر ومدرسة سلامة موسى. ومما استوقفه أن البنايات التي حاولت استلهام هذا الطراز «لم تنجح»؛ فقد مات هذا الطراز في طفولته، وبقيت الآثار التي ولدت وفقه تقف بيننا وقفة الغريب المتوحد، يحتاج في مخاطبته إلى ترجمان. أما الطراز الثاني: فهو الإسلامي، مثل: مباني دار الكتب، ووزارة الأوقاف، والمتحف الإسلامي، ومنزل هدى شعراوي الذي هُدم. ومما يلحظه أيضًا أن الأجانب الذين أقاموا في مصر قد انحازوا لهذا الطراز ضد الطراز الفرعوني، على الرغم من أنهم كارهون لعروبة مصر. وأما الطراز الثالث الذي استوقفه فهو الطراز الموريسكي الذي ظهرت به بعض بنايات حي مصر الجديدة عند تأسيسه، لكنه، بحسب وصفه، تراث جاد به الأجانب. وأخيرًا جاء طراز «المسلح» وهو البناء الذي يهدف إلى النفع ولا شيء سوى ذلك. ولا ينسى في السياق أن ينتقد مصلحة التنظيم التي غسلت يدها بالليفة والصابونة ولا تبالي بتحمل أقل مسؤولية فيما يتعلق براحة الشعب في الاعتناء بمبانيه(١٤).
ولا يتوقف حقي فحسب عند رصد معالم القاهرة من بنايات أو تماثيل لتقديم صورة عن علامات المدينة، ففي كتابه «محراب الفن» يطلب من القارئ الذهاب إلى متحف محمود مختار بالجزيرة، وكذلك الطواف بتماثيله في القاهرة والإسكندرية(١٥). ويستعيد كثيرًا من ذكريات الشباب والمرات التي ذهب فيها إلى بركة الأزبكية، ويقول: «كان يكفيني أن أذهب إلى كشك الأزبكية لأسمع أفراح القبة، أو يا طالع السعد، أو أن أسعى لسماع فتاة لابسة العقال كلما أعلنت عن حفلة لها وهي أم كلثوم، تغني بغير مصاحبة تخت»(١٦).
وتعطي كتابات حقي عن العمارة مثالًا فريدًا لتأملات ناقد واسع الإدراك، شديد الاعتزاز بهويته الإنسانية والحضارية. فهو حين يتأمل «تكية السلطان قنصوه الغوري» يكتب نصًّا فريدًا واصفًا المبنى بأنه «مبنى عتيق، ينطق كل حجر فيه بالأمجاد السالفة، أحسست كأنه حرف (واو) وضع أمام كياني فصرت بفضله معطوفًا على ماض حبيب، كان مقطوعًا، كل عوامل الرفع والخفض التي تسري عليه أصبحت تسري عليَّ أنا أيضًا، فقد وجد المسمار الملخلخ صامولته، والقرش في يد مبذره حصالته، وحجر الشطرنج المبعثر في الصندوق وضع في خانته».
ويستطرد: «في العمارة الإسلامية مهابة بلا جهامة، مع ظرف بلا طراوة». ثم يصف المبنى «هو أبدع لقاء بين السخاء والقصد، وكما برئ من التباهي برئ من الخسة والدناءة، إنه لإكرام الإنسان وإمتاعه، لا لإقلاقه والتعالي عليه أو سحقه، المشربية التي واجهتني وأنا داخل تمنيت أن ألفّها وأضعها في جيب صدري»(١٧).
يتحدث حقي بولع مماثل عن مساجد القاهرة التاريخية، ويذكر منها جامع قلاوون وجامع المردان وجامع الغوري ومحمد أبو الذهب وجامع الأقمر، وجامع إينال. يقول: «إذا سألتك أنا: ماذا فعلنا بهذه الجواهر الفريدة؟ اذهب إليها ولو مرة واذرف الدمع إن بقي في قلبك إحساس بالجمال واعتزاز بالتراث وحب لبلدنا العظيم -القاهرة وتاريخها الطويل- ستجدها وتراها في أبأس حال، لا يصدق عليها إلا قولهم: «أخنى الدهر عليها بكلكله» مهانة بعد عز، تراكم عليها التراب، يقاس عمرها بطبقاته، وتدلق عندها القمامة»(١٨).
ومن اللافت للنظر أن هذا الأسى على حال القاهرة لا يدفع الكاتب إلا لمزيد من الدفاع عن جمالها الظاهر والباطن، فلا يتوقف عن دعوة القراء للتجوال فيها، فيقول موجهًا الحديث للقارئ: «اصبر على المشقة والمكاره، ومرارة الامتعاض واسلك حواري، وأزقة لولبية، وخض في خضم من لحم بشري يكدح في طلب الرزق، ثم قف تحت قبة برقوق أو قلاوون، وافتح عينيك ونوافذ قلبك وأبوابه عسى أن تصيبك فتطهرك هزة الطرب والانشراح للجمال، الجمال الأنيس، الظريف، هزة الخشوع للـه، سبحانه واهب الفن للإنسان، ستجد الرقم الذهبي في الهندسة والزخرفة، الزجاج الملون، زينة علوية وعجب الخشب الدانتيلا، والمرمر وقد تبخرت برودته، يشع بالدفء، كأنما رفعت عنه للتو يد الفنان الذي حنا عليه وقطعه وسواه». ثم يتساءل: «من هو؟ ليتني أعرف»(١٩).
البحث عن مصير أرباب الحرف
إذا كان الكاتب الراحل كامل زهيري قد تحدث عن ظاهرة الولع بالقاهرة، فقد عد يحيى حقي من بين أبرز من ضربوا بهذا الولع فقد تولع كاتبنا بالقاهرة وسكانها وأرباب حرفها، ولحظ بعين الأنثروبولوجي مختلف أشكال التراث المادي وغير المادي. وتابع مسيرة اختفاء العديد من العادات والتقاليد الشعبية وأشكال كثيرة للاحتفالات الجماعية ذات الطابع الكرنفالي، فضلًا عن تراجع أدوار أصحاب المهن والحرف واختفاء أصحابها من الفضاء العام.
وتعزز كتابات حقي المتعلقة باختفاء بعض معالم المدينة وظواهرها من فكرة «توليد الفقدان الثقافي للذاكرة» وبالتالي يمكن النظر لكتاباته كأرشيف وكذلك كأداة من أدوات مقاومة أفعال الاقتلاع، ومن الاعتراض المنظم على تلك الطفرة المتعاظمة من التغييرات المتوالية في مجالات التوطن الإنساني.
ركز حقي في كتاباته على ضرورة الدفاع عن استمرار فئة أرباب الحرف كجزء فاعل في كيان المدينة. وفي مقال كتبه بعنوان: «فيلم تسجيلي قديم جدًّا» ضمن كتابه «تراب الميري» يتحدث عن حِرَفٍ تراجعت أو اختفت مثل «مبيّض النحاس» الذي يحكّ زنجرة الطاسة والحلل الكبيرة بالرماد بقدميه، وهو غارق لصدره في حفرة، وكذلك تأمل «صاحب السيرجة» والسباك والنجار. يبدي حقي أسفه على اختفاء مهن هؤلاء، ويروي كثيرًا من ذكريات طفولته عنهم: «أردت يومًا أن أقلد النجار الذي كان دكانه أمام بيتنا، فوضعت حفنة من المسامير في فمي، تعرضت للموت من تمزق الأمعاء، لكن جسد الطفل كان له قدرة عجيبة على خرق كل القوانين الطبيعية»(٢٠).
والشاهد أن الذاكرة المعرفية تتعامل مع تلك الاستخدامات التي تقع في إطار الفعل «يتذكر» تحت معنى «الإخفاق»؛ فهي تستدعي صورة للوحدة الكلية للمدينة، عبر الاستدعاء التذكري الذي لا مفر منه(٢١).
أصوات المدينة
تشير الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة إلى «الطبوغرافيا حين تتحدث بلاغيًّا» عن شيء معروف لدينا، بحيث تظهر مسألةً ثقافيةً، بمعنى أن العلاقات مع الأماكن لا تتم معايشتها حصريًّا، ولا حتى في لحظات التأمل، في عزلة اجتماعية بل في أغلب الأحيان، فإن ذلك يتم في صحبة أشخاص آخرين وبالتالي يتوقف الإحساس بالمكان على تفاعل معقد بين الذاكرة المرئية والشمية والسمعية، وفي هذا التفاعل يكون للصوت دور محوري(٢٢).
وفي ضوء هذا التصور يمكن التعامل مع رصد حقي لزوال بعض المهن، كدافع لاستعادة أصواتها في ذاكرته، فقد رسم صورة متكاملة لما عاشه في طفولته. قال: «إن شئت عرجت على حي النحاسين، الحلة واللحوقي وطاسة الخضة، سيخصص للنحاس عزبة بتمامها يوم زفاف الجهاز من بيت العروس إلى بيت العريس، ستجد في الجو ضجة، هي وقع الشاكوش على النحاس»(٢٣). واستكمالًا لغرامه بأصوات المدينة التي زالت، يبدي حقي كثيرًا من الأسف بسبب اختفاء أصوات الباعة الجوالين في الشوارع، ونداءاتهم على البضاعة: «إن طفولتي ملأى بنداءات عديدة، منوعة بالليل والنهار، وكان لها أجمل وقع على أذني وقلبي»(٢٤).
ويطالب في مقال آخر بتسجيل نداءات الباعة وتوثيقها متابعًا: «لا أظن أن مركز الفنون الشعبية لديه إلى الآن تسجيل لنداءات الباعة رغم أنهم يمرون من تحت نافذته». يقول حقي: «إنني لا أطالب بالتسجيل وحده، بل أعد نداءات الباعة أرقى معرض للأصوات تقدم لنا وبالمجان وبغير عناء منا أوتأليف لجان. أذكر لك أن بائع البطاطا الذي يمر تحت بيتي أيضًا له صوت مغني «باسو» لم أسمع في حياتي صوت مغني باسو يفوقه في الاهتزاز الأجش العميق»(٢٥).
وتحتفظ الأصوات بمكانة مهمة في كتابات صاحب «قنديل أم هاشم» فهي عنده أداة لمراقبة التغييرات الوجدانية أيضًا أو كما كتب: «عن طريق الأذن، لا العين يتولد إحساس الطفولة بأن عالم المرئيات ملفوف بعالم آخر خفي، لا تفض أسراره، مخيف، مخلوقاته لا نراها رأي العين، بل تمثل في تصورنا بالسماع عنها مثل الغول وأبو رجل مسلوخة»(٢٦).
ومما يذكره أيضًا أنه «ليس بالقليل جدًّا، ولا بالكثير جدًّا عدد الأصوات التي تمشي بين يدي الفجر لتعلن عن مقدمه وترحب به بصوت إنسان (المؤذن) وصوت حيوان (صياح الديكة، وزقزقة الطير وتسبيحة الكروان) هي التي تتكفل بزف الجمال في مولد الفجر إلى أذني، أما جانب الرهبة فكان يتكفل بها -ولا عجب- صوت للحديد، صوت احتكاك عجلات بقضيب، قاصدًا الترام»(٢٧). ومما يلحظه أن حركة التطور العمراني في القاهرة غيّرت تمامًا من معالم المدينة. يقول في مقال بعنوان «ذكريات»: «المدينة الحديثة رأيتها -بعيني تأكل بدأب وقسوة- كما يأكل القط فأرًا». ويواصل: «رأيتها بعيني، تهدم أبواب العمارات وتدك الأسوار وتندلق من فوقها وتبعثر من مراقدها إلى التشرد فالضياع، صناعات يدوية، ولكل صناعة معلم، يسير مع الطائفة في موكب الرؤية، وحي لا يقبل غيرها (أي الطائفة) ولا تخرج إلا منه، اسمه من اسمها… هي الآن تلفظ آخر أنفاسها»(٢٨).
ولا يمكن في عالمنا اليوم أن تقنع أحدًا من القراء أن كاتبًا كبيرًا اعتنى بالتفكير في أسماء الشوارع والحارات، وأنفق كثيرًا من الوقت ليفهم مثلًا معنى (باب اللوق) فاكتشف أن اللوق هو «الطين الرائب» اللين، والمقصود بكلمة (تلوق) أن الجسد كله أصبح رخوًا فاختل نظامه.
وفي معرض تأملاته عن الميدان، حيث كان يكتب مرثية لمحمود حمدي الفلكي أحد أبرز طلاب البعثات الأولى لنهضة التعليم، لاحظ «اختفاء حارس مزلقان قطار حلوان، كما اختفى بقال باشا كان يحتل جوانب الشارع، واختفى أيضًا دكان مقلى ومحل الشربتلي. تحولت العصارة من يدوية إلى كهربائية ولكن لا فائدة، فالرائحة هي هي، لعصير القصب»(٢٩).
بالمثل فكّر يحيى حقي ذات يوم في البحث عن أصل تسمية حارة السكر والليمون بمصر القديمة (تقع قرب سور مجرى العيون) بعد أن قرأ عن جريمة قتل هناك، لكنه ساعدنا على إدراك هذا الشغف المثير وكتب: «من صغري مشوقًا بتتبع الأسماء الغريبة أو ذات الدلالة لحارات مصر، مثل «الزير المعلق، بين النهدين، درب الأغوات، وأشهرها عندي (حارة الوداع) ونصفها في الدنيا مبلط ونصفها في القرافة (تراب) لكنه أشد أنواع التراب نعومة، كأنه طحن عظام». ويستطرد: «اسم السكر والليمون جعلني أزداد حبًّا لأولاد البلد، واستلطافًا لروحهم المرحة»(٣٠).
التذكير بكتابات حقي في سياق ثقافي جديد، حافل بشتى أنواع الاستقطاب حول ما تشهده مدينة القاهرة اليوم من تغييرات تنزع أحشاءها، لعله يدفع باتجاه التفكير في تأسيس متحف للحياة اليومية في مصر يقوم على توثيق ما كان، فضلًا عن اللجوء إلى مختلف صور التدوين الشفاهي اعتمادًا على شهادات من عاشوا فصولًا من التغييرات ولا تزال ذاكرتهم واعية بما كان. وتكشف كتابات حقي عن اهتمام كبير بهذا النوع من الكتابة التي تُعنَى بالحياة اليومية للحد الذي دفعه لتوجيه النقد واللوم لطه حسين، ومن معه من الكتاب الرواد؛ لأنه لم يهتم بتسجيل الحياة اليومية في مذكراته.
يكتب حقي «كنت أحب مثلًا أن أعرف من كتاب «الأيام» ماذا كان يأكل طه حسين وهو صبي، كم كان مصروف البيت، مثل هذه التفاصيل قد يراها البعض هينة لا نفع لها، لكنها عندي تملأ بالدفء جوانب السيرة التي أحب أن أقرأها»(٣١). وأظن أن هذه العبارة تكشف كثيرًا عن المنهج الذي ميزه في الكتابة.
المكانة المركزية للمواصلات العامة
في كتاب «أنا يحيى، أو يحيى حقي الذي أعرفه»، يروي الأستاذ سامي فريد -وكان سكرتيرًا لتحرير مجلة «المجلة» وقت أن رأسها حقي- كثيرًا من المواقف التي عاشها مع رئيسه الذي كان مولعًا بركوب المواصلات العامة، وكانت بالنسبة له منجمًا للحكايات المضحكة والمواقف الكوميدية. يصف حقي تجربة ركوب المواصلات العامة قائلًا: «الأوتوبيس أو الترام مغرفة مملوءة بنموذج صادق لاختلاط طبقات الشعب تقدم بالمجان لمن يريد أن يقوم بدراسة ميدانية»(٣٢).
وعلى الرغم من معاناته فإنه يصف استمتاعه بركوب المواصلات العامة بالقول: «أتمتع بركوبها رغم كل البلاوي؛ لأني أحس فيها -ولا أقول أرى أو أتبين- بما لا أحسه في مكان آخر من تفاعل عاملي الثبات والتطور في جماعتنا، وكلمة جماعة أحب إليّ من كلمة مجتمع لأن فيها رائحة الأهل»(٣٣). وفي مواضع أخرى يقول: «أشهد أنني أركب القطار درجة ثالثة والترام درجة ثانية وأغشى مجالس العامة»(٣٤).
من الجلي أن حقي نظر للأوتوبيس نظرته لساحة تشهد تغييرات كاشفة عن مختلف أشكال التغير الاجتماعي، وتشير لخريطة حول أنماط من التفاعل بين صنوف مختلفة من البشر. أو كما تقول الناقدة عايدة الشريف، في تفسيرها لسلوك يحيى حقي وإصراره على استعمال المواصلات العامة، مؤكدة شغفه بـ«لذة المراقبة». وعلى حد تعبيرها «اكتفى بالصدق وعوَّض لذة البوح بلذة المراقبة» كأنه على حد تعبيره «شاهد واقف على جنب يطل على شيء عجيب يحدث أمامه ويحاول فهم سره، ثم لا ينقضي عجبه منه، الفن بهذا المعنى هو النغمة لا الوتر، الزهرة لا البستاني، النشوة مكنته من الوقوف على جنب وسماع أي خلل مهما همس وقعه»(٣٥).
وفي كتابها عنه تنقل مريام كوك أنه لم يغفر قط للشحاذ الذي كان يطلب منه في الأوتوبيس المساهمة في بناء مسجد في الجيزة، وهو الذي ظل يتبرع له طوال سنوات بمساهمة في بناء مسجد بمصر الجديدة(٣٦). وقد روى الواقعة في نص بعنوان «في الأتوبيس»(٣٧)، يحفل بصور مختلفة لمعاناة سكان القاهرة مع المواصلات العامة.
وتوجد كثير من النصوص داخل كتابه «عنتر وجوليت» يعتني فيها بوصف حركة كمساري الأوتوبيس. وهناك كذلك بعض النصوص التي يشكو فيها من سلوكيات الركاب، وبالذات بعد انتشار أجهزة الراديو الترانزيستور وقت أن كان حملها في المواصلات العامة «موضة». كتب: «أصبحت لا أركب الأوتوبيس إلا جلس بجانبي جار طالع له ترانزيستور، طلوع «دمل» في قفا مريض بالسكر وهو يضعه على ركبته»(٣٨).
وفي كتاب «محراب الفن» يشدد على تكرار هذه المعاناة قائلًا: «خرجت من السينما، فوجدت نفسي -فهذه قسمتي- وسط حشد آخر، لا من المجانين، بل من المعذبين في الأرض، والأرض هي الأوتوبيس»(٣٩). كذلك يصف الآثار التي ترتبت على دخول الترام إلى شوارع القاهرة التي تحولت -كما يشير- من بلد للعميان لتصبح بلدًا للمشوهين: «إذ كانت حديثة العهد بغول مفترس غير مألوف لديها له أطراف حادة كالسكين إذا دهست قتلت؛ لأن له أنيابًا مسعورة للبتر والنهش، اسمه التروماي»(٤٠).
في مواضع كثيرة من مؤلفاته يصف طريقة سير الترام في الشوارع، ويُرجع إليه سبب زيادة أعداد المشوهين في مصر. كذلك يصف أداء سائق الترام في مقال بعنوان «صور من الجدعنة» يقول فيه: «منذ الصغر وأنا مغرم، إذا ركبت الترام، أن أقف بجانب السائق ولا يزال هذا طبعي إلى اليوم، وإن أصبحت شيخًا يزري به مثل هذا الهوس الصبياني»(٤١).
وفي سياق الإلحاح على ثنائية شرق غرب وانعكاسها على سلوكيات الناس يصف بدقة طريقة سير الترام في برلين قائلًا: «كأنه يمشي على حرير لا على حديد». بينما السائق في ترام القاهرة «لا يكف عن التلفت يمنة ويسرة، إذا وقعت نظرته على ملاية لف غازلها بتحية طائرة وهو يلعّب لها حاجبيه، ولا يجد بأسًا أن يستمر الحديث بينه وبين الكمساري، لو كان واقفًا على السلم في آخر الترام. لا تركب امرأة إلا إذا سب الزمان ونسب فساده إلى صرمحة النساء، لماذا لا يشكمهن الرجال، فإذا سمع مماحكة راكب للكمساري، أوقف الترام من فوره ونزل ليشارك في المعركة».
يعتني حقي بنمط المسامرة بين السائق والكمساري بالقدر نفسه من العناية بالمسامرات التي تجري بين الركاب والمنازعات التي تجري بينهم، ويلفت نظره «سرعة الأعصاب في الالتهاب وشعللة المشاعر والمنازعات الثنائية البسيطة وتحولها إلى جدل كبير قد ينقلب إلى مشادة أو سباب»(٤٢). ويرجع حقي «سرعة الأعصاب في الالتهاب» إلى أخلاق الزحام فهو القائل «أعطني أوتوبيسًا غير مزدحم وأنا كفيل بأن أعطيك سائقين وكمسارية مهذبين، لا يسارعون بالشتيمة أحيانًا وبالضرب أحيانًا»(٤٣).
وربما كان كاتبنا أسبق من علماء الاجتماع في اهتمامه بظاهرة الكتابة عن المركبات العامة، فرأى فيها كثيرًا من الدلالات والرسائل المهمة، كما فعل عالم الاجتماع الراحل سيد عويس. كذلك كان حقي من أوائل الكتاب الذين انتبهوا لنمو الأحياء العشوائية، وتحول الكتل السكانية المهمشة من أحياء شعبية إلى أحياء عشوائية، ولدينا مقال مهما حول «حي إمبابة» يعزز هذا الاعتقاد(٤٤).
من الطريف جدًّا أن اهتمامه بالمواصلات العامة لم يكن قاصرًا على المركبات، لكنه امتد ليشمل الحمير أيضًا، وتحفل كتاباته بنصوص وشواهد كثيرة حول اهتمامه بالحمير وحضورها في المدينة، ناقلًا كثيرًا من الحكايات عن علاقته بالحمير في المدن التي خدم فيها وقت أن كان معاونًا للنيابة العامة. فقد ذكر أن شوارع القاهرة كانت فيها «لافتات مثبتة على أعمدة مكتوب عليها بخط أبيض جميل على رقعة زرقاء (موقف لثلاثة حمير) أو أربعة أو ستة حسب اشتداد حركة النقل في الميادين»(٤٥).
استعمال العامية في الفضاء العام
ما يرويه حقي في مؤلفاته حول المواصلات العامة يعزز ما أشار إليه لويس عوض على أن كتابات حقي تقع في سياق ما سمّاه بـ«أدب الابتسام»؛ فالأسلوب الفكاهي عنده مكتسب أو نابع من الروح المصرية التي تمسك بها، حتى لنحس بها كأنما هو أسلوب أبناء البلد في أثناء سمرهم، حيث كثرة التشبيهات المستمدة من صميم الحياة اليومية(٤٦). الأهم أن حقي التفت بفضل هذه النصوص ذات الطابع الفكاهي الطريف إلى تحولات في طريقة استعمال المصريين للغة داخل الفضاء العام، وكيف أنها تخضع لتغييرات تلبي الحراك الطبقي الذي كان يشهده المجتمع. فهو يلحظ مثلًا: «تحول قول الكمساري في الأوتوبيس للراكب من يا بك، إلى حضرة المحترم، ثم إلى يا سيد، وأخيرًا إلى يا محترم»(٤٧).
ولأن عوض من أوائل من بشروا بإمكانية كتابة أدب بالعامية المصرية، فهو يشيد بإصرار حقي على جعل الحوار في كتاباته بالعامية على الرغم من أنه «الكلف بأناقة اللفظ وأناقة المعنى، لكنه ينجح في جعل كل حواره بالعامية والسرد بلغة الكلام من دون استعمال لغة القواميس؛ لأن فطرة الفنان غلبت أفكاره الاجتماعية المكتسبة»(٤٨).
لكن حقي يبرر اهتمامه باستعمال العامية المصرية في سياق اهتمامه بتأكيد هويته المصرية، أو كما لحظ هو «الظاهرة الغريبة التي تحير عند تأمل حياتي وإنتاجي هي أني وإن كنت من أصل تركي، فإني أحس بأني شديد الاندماج في تجربة مصر وأهلها، ولعل هذا الحب هو الذي جعلني أميل إلى استعمال بعض الكلمات العامية في كتاباتي رغم أني من المهووسين باللغة الفصحى»(٤٩).
استعمال العامية المصرية أحد أبرز سمات الكتابة عند حقي، الذي أوضح في مقدمة آخر مجموعة نشرها وهي «عنتر وجوليت» شروط استعمال اللفظ العامي، وقال: «ألا يجد في الفصحى لفظًا يؤدي كل المعاني والإيحاءات التي يحتاج لها ويمد بها اللفظ العامي وحده، وأن تكون لفظة شبيهة بأشكال اللغة الفصحى، وأن يضع اللفظ في الجملة كما تنطق به العامة فلا يخضعه لقواعد الفصحى في النحو والصرف»(٥٠).
في حوار مع الكاتب أحمد بهجت قال: «كلما ماتت كلمة من العامية أحسست أن صاحبًا لي يموت»، وبمثل هذا الحب الذي يكتشف به كلمات تحتضر من العامية يمضي في اكتشافه ليقدم لدينا أدب أعلام مضوا وتركوا آثارهم الأدبية التي أكلها النسيان(٥١).
حقي بين اختراع التقاليد والتاريخ من أسفل
في اعتقادي أن «حقي» سبق كثيرًا من المؤرخين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في الإشارة إلى ما يسميه المؤرخ إريك هوبسباوم «اختراع التقاليد»، حيث تأمل أشكال إعادة إنتاج التراث خلال الممارسة اليومية، وكيف يمكن لقراءة الظواهر الاجتماعية أن تتجاوز فكرة دراسة علاقة الإنسان بالماضي، حيث لا يمكن عزل هذه التقاليد عن دراسة تاريخ المجتمع عامةً، كما لا يمكن دراستها من دون دمجها داخل حقوق معرفية متعددة التخصصات.
وربما كانت قراءة يحيى حقي دافعًا لطرح سؤال عن مدى قبول تصنيفها في سياق كتابات «التاريخ من أسفل»(٥٢). في ظني أن هذا التصنيف صحيح؛ لأن ما استعرضناه أقرب لكتابات التاريخ الاجتماعي، وبخاصة في ضوء اهتمامه بالمهمشين من أرباب الحِرَف التي زالت وظل أصحابها على هامش السلطة. ومن ناحية أخرى اتجه حقي إلى وصف الحياة المادية والذهنية لبسطاء الناس. وتبدو كتاباته أقرب إلى «الأنثروبولوجيا التاريخية» كما يشيع فيها نمط سردي يعتمد على الانصهار بين التاريخي والأنثروبولوجي ويكشف عن تواريخ أخرى منسية، لكنها مفمعة بالحياة في اهتمامها بالفاعلين في التاريخ كافة وإبراز دورهم في حركته.
هوامش:
(١) بول كونرتون، كيفيغزو، النسيان ذاكرة الحداثة، ترجمة علي فرغلي، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2016م، ص 15.
(٢) بول كونريون، المرجع السابق، ص 19.
(٣) بول كونرتون، المرجع السابق، ص 18.
(٤) الأعمال الكاملة لشحاتة عبيد، إعداد وتقديم صبري حافظ، هيئة قصور الثقافة، مصر، طبعة 2018م، ص 21.
(٥) صبري حافظ، مقدمة، كتاب مرايا يحيى حقي، كتاب مجلة الدوحة، قطر، سنة 2013م، ص 13.
(٦) صبري حافظ، مرايا يحيى حقي، ص 16.
(٧) يحيى حقي، مجموعه الأعمال الكاملة، إعداد فؤاد دوارة، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، في محراب الفن، ص 64.
(٨) سمير وهبي، البيئة وأثرها على يحيى حقي، بحث ضمن كتاب «سبعون شمعة في حياة يحيى حقي، الهيئة العامة للكتاب، سلسلة المكتبة العربية، تحرير وتقديم يوسف الشاروني، طبعة 1975م، ص 64.
(٩) يحيى حقي، من باب العشم، ص 93.
(١٠) ريم شريف، مقال على موقع «مدينة» بعنوان «المدينة التي تتسكع فيها النساء».
(١١) بول كونرتون، المرجع السابق، ص 172.
(١٢) يحيى حقي، مجموعة الأعمال الكاملة، إعداد فؤاد دوارة، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، في محراب الفن، ص 251.
(١٣) يحيى حقي، تراب الميري، ص 134.
(١٤) يحيى حقي، في محراب الفن، 260.
(١٥) يحيى حقي، مجموعة الأعمال الكاملة، إعداد فؤاد دوارة، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، في محراب الفن، ص 123.
(١٦) يحيى حقي، مجموعة الأعمال الكاملة، إعداد فؤاد دوارة، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، في محراب الفن، ص 8، ص 9.
(١٧) يحيى حقي، في محراب الفن، ص 188 .
(١٨) يحيى حقي، صفحات من تاريخ مصر، ص 50 .
(١٩) يحيى حقي، مقالات في تاريخ مصر، ص 51.
(٢٠) يحيى حقي، تراب الميري، ص 117.
(٢١) بولكونرتون، المرجع السابق، ص 207.
(٢٢) بول كونرتون، المرجع السابق، ص 57.
(٢٣) يحيى حقي، مقالات في تاريخ مصر، ص 196.
(٢٤) يحيى حقي، مقالات في تاريخ مصر، ص 101.
(٢٥) يحيى حقي، ناس في الظل، ص 81.
(٢٦) يحيى حقي، كناسة الدكان، ص 17.
(٢٧) يحيى حقي، كناسة الدكان، ص 15.
(٢٨) يحيى حقي، مقالات في تاريخ مصر، ص 93.
(٢٩) يحيى حقي، مقالات في تاريخ مصر، ص 129.
(٣٠) يحيى حقي، خليها على الله، ص 114.
(٣١) يحيى حقي، ناس في الظل، ص 85.
(٣٢) يحيى حقي، تراب الميري، ص 142.
(٣٣) يحيى حقي، تراب الميري، ص 142.
(٣٤) يحيى حقي، من باب العشم، ص 174.
(٣٥) عايدة الشريف، شاهدة ربع قرن، طبعة مكتبة الأسرة 2013م، ص 99.
(٣٦) مريام كوك، يحيى حقي، تشريح مفكر مصري، ترجمة خيري دومة، المشروع القومي للترجمة، مصر 2005م، العدد 807، ص 202.
(٣٧) يحيى حقي، عنتر وجوليت، الأعمال الكاملة، ص 170.
(٣٨) يحيى حقي، في محراب الفن، ص 99.
(٣٩) يحيى حقي، في محراب الفن، ص 97.
(٤٠) يحيى حقي، تراب الميري، ص 134.
(٤١) يحيى حقي، عنتر وجوليت، صور من الجدعنة، ص 163.
(٤٢) يحيى حقي، تراب الميري، ص 146.
(٤٣) يحيى حقي، تراب الميري، ص 152.
(٤٤) يحيى حقي: المرجع السابق، ص 154.
(٤٥) يحيى حقي، خليها على الله، ص 114.
(٤٦) يوسف الشاروني، مرجع سابق، ص 21.
(٤٧) يحيى حقي، عطر الأحباب، ص 42.
(٤٨) لويس عوض، مقال، أدب الابتسام، ضمن كتاب «سبعون شمعة في حياة يحيى حقي»، ص 199.
(٤٩) راجع مقدمة محمود علي لكتاب «الأعمال المجهولة (المنسية) ليحيى حقي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، طبعة 2013م، ص 21.
(٥٠) انظر مقدمة يوسف الشاروني لكتاب «سبعون شمعة في حياة يحيى حقي»، ص 16.
(٥١) أحمد بهجت، ضمن كتاب «سبعون شمعة في حياة يحيى حقي»، ص 100.
(٥١) لمزيد من التعريف بمفاهيم التاريخ من أسفل؛ راجع مقدمة كتاب التاريخ من أسفل لخالد اليعقوبي، وخالد طحطح، دار رؤية، القاهرة، 2019م، ص 50.
المنشورات ذات الصلة
«غرافيتي» على جدران الفناء
لكل فعل رد فعل، ولكل نظرية إثبات، نظرية نفي، ولكل ثقافة هنالك ثقافة مضادة. هذا يعني أن لكل شيء هنالك «اللاشيء» الذي...
كيف شَكَّلَ الحرير والنسيج تاريخ البشرية؟
يقول بعضٌ: إن التاريخ بدأ بالكتابة، غير أننا نقول: إن التاريخ بدأ باللباس. في البداية، كانت هناك ملابس مصنوعة من...
الحياة الأدبية للأشياء
يجيز مثل هذا العنوان الانطلاق من السؤال التالي: كيف تكف الأشياءُ عن أن تكون مجرد موجودات؟ ونستقي الإجابة عنه من ميريام...
0 تعليق