كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
ساعات من السعادة
انتقلنا إلى عمارة من أربعة طوابق بمدينة العبور، كنا أول من سكن فيها. بعد شهرين ظهر الباش مهندس بكري والحاج عبدالعزيز، ثم جاء بقية السكان واحدًا بعد واحد بسيارات نقل الأثاث والأطفال والحقائب. خلال عام لم تعد في العمارة شقة شاغرة وأخذت رائحة الصلصة وزيت القلي تتسرب من نوافذ المطابخ إلى فسحات السلالم. خلال ذلك نشأت بيننا علاقات المودة بالقدر الذي تقتضيه الجيرة. ألفنا ملامح ونظرات بعضنا الآخر ما عدا «عزت» الذي ظل عصيًّا على المصاحبة، بعينه التي ترمش حين يحدثك كأنه لا يراك، ووجهه الشارد الذي لا يعبر عن شيء. حينذاك لم تكن منطقتنا السكنية قد استكملت بعد بناء المرافق، فاتفق سكان العمارة على تشكيل اتحاد ملاك لنتولى بأنفسنا تكملة ما يعوزنا.
كنا نلتقي كل يوم جمعة في شقة الباش مهندس بكري، نستعرض إجراءات التقديم على عداد مياه مشترك، وتعليق لامبات في أسقف السلم المعتم، ثم تركيب باب حديدي حماية لمدخل العمارة. كان «عزت» يحضر معنا لكنه يظل صامتًا معظم الوقت، أو يغمغم من وقت لآخر بشيء غير مفهوم، سارحًا في الفراغ بنظرة خاوية حتى بدا كأنه مبعوث الضجر الكوني إلى الأرض. خارج لقاءات اتحاد الملاك لم نكن نراه تقريبًا إلا فيما ندر، إما على الدرج أو حينما يفتح باب شقته لسبب طارئ، فيطل برأسه من بين فتحة الباب وإطاره، يحدق بالطارق بحذر وتوجس مثل دجاجة تتأهب لمواجهة الخطر، وأخيرًا يهمس بتوسل: «خير؟». ولم نرَ زوجته الست صباح إلا مرة عند سفرها لأمها في الزقازيق بمناسبة عيد الأضحى، حينما شاهدنا سيارة تتوقف أمام العمارة وعزت واقف يرفع إلى سطحها باحتراس حقيبتين مربوطتين بحبل غليظ، وما لبثت الست صباح أن أطلت تتهادى من مدخل العمارة وعلى شفتيها التقطيبة التي تنم عن قرف عميق، وفي ذيلها مشت ابنتها وعيناها منكسة في الأرض مثل ذبابة ضربها أحدهم بمنشة لكنه أخطأها فبقيت دائخة.
وعلى الرغم من أن عزت كان محصنًا ضد التواصل بالسأم والشرود، إلا أنه لم يقلق راحة أحد من السكان قط، ولا أزعجنا من شقته يومًا بموسيقا صاخبة أو زعيق في شجار، أما إنه شخص مملّ، تسبح حول رأسه وفوق كتفيه سحب السأم، فتلك طبيعة لا تمثل إهانة أو انتقاصًا من قدر أحد، ومن ثم لا يمكن أن نلومه عليها، حتى ونحن جالسون معه وهو يسوقنا بوجوده الموحش إلى التأمل في أن مصير كل شيء إلى زوال، وأن الحياة وهم وكل من عليها فانٍ. وبانقضاء عام كامل لم يعد «عزت» يرد على بالنا كأنما كان اللاوعي عندنا يحمينا منه بنسيانه.
لم يجد جديد حتى يوم الأربعاء الماضي حين صاح ابني من عند النافذة يناديني: «بابا.. تعال.. بص». نهضت متجهًا إليه. أخرجت رأسي من النافذة فشاهدت سيارة إسعاف أسفل البيت وعزت يتأرجح بين أذرع اثنين من عمال الإسعاف نحو باب السيارة المفتوح ومعه الست صباح. انطلقت السيارة تشق الشارع وتبتعد وقد شعرت بالقلق على عزت. ما له يا ترى؟ في المساء هبطت أطرق باب شقته. فتحت الست صباح وحَدَّجَتْ فيّ بوجه ممتعض. استفسرت منها: «شفنا سيارة إسعاف. خير؟ الأستاذ عزت ما له؟». قالت: «كورونا». قالتها وهي تنطق كل حرف بحرص كأنها تلفظ جواهر. حلّ عليَّ الذهول. كان ذلك آخر ما يمكن أن يخطر لي. في حينه كانت الجائحة في شهورها الأولى ولم نكن نعلم عنها شيئًا سوى ما يتردد من أقاويل متضاربة ملتبسة وغير دقيقة. عاد «عزت» بعد شهر ونصف إلى بيته، وقررنا من باب الواجب أن نقوم بزيارته. هبطنا إليه ومعنا صينية بسبوسة وكنافة.
كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها بيته. كان الجو في الصالة مكتومًا، وستائر النوافذ مسدلة حتى نهايتها، وفي مساند المقاعد وقوائم المناضد صمت قديم. بعد قليل أطلّ «عزت» علينا من ممرّ مفتوح على الحجرات الداخلية. بدا أشد نحافة مما عرفته وعيناه منتفختان حمراوان قليلًا. بعد عبارات التهنئة بالشفاء قال «عزت» وهو يهز رأسه: «الحمد لله شفيت منها». أردف: «لكنه مرض منهك، يستوجب من الجميع الحذر واتباع إجراءات الوقاية». سألته عن أعراض الوباء وما أحس به، فشد كتفيه لأعلى ورفع رأسه يوضح لنا أن كورونا تبدأ بسخونة سرعان ما ترتفع في اليوم التالي ويعقبها شعور بأن جسم المرء يتحطم. وواصل «عزت» حديثه حتى بلغ أسماء الأدوية وجرعاتها ومواعيدها، وخلال ذلك لفت نظري ابتسامة خفيفة على وجهه لم أشهدها من قبل، كانت تلوح وتهرب مثل شبح يتراجع أمام الضوء. قلت لنفسي: «فرحة الشفاء».
انقضى شهران بعد خروج «عزت» من المستشفى فتيقن الجميع أن الخطر قد زال وأنه شفي تمامًا. اطمأن سكان العمارات المجاورة وراح بعضهم يزوره ليستفسر منه عن كورونا وطرق الوقاية. يومًا بعد يوم كان «عزت» يستقبل الزوار بنشاط، ويتحدث إليهم، وهو ينفض دهون الإملال عن حباله الصوتيه شارحًا، موضحًا وهو يلوح للجميع بيديه وعلى ملامحه ومض سعادة طارئة. أخيرًا لاحظنا أنه أخذ يراعي اتساق ألوان قمصانه مع ألوان البنطلونات، أما حذاؤه الذي لم يَرْتَوِ سابقًا من صبغة فأصبح يلمع ويبرق في قدميه وهو يسير مشدود القامة مثل شاب في العشرين.
أول أمس وأنا راجع من عملي التقيت «عزت» عند مدخل الشارع. خلال سيرنا تقدم نحوه شاب كان يقف عند ناصية مع أصدقاء وسأله بأدب: «العفو… حضرتك أستاذ عزت الذي… الذي؟». تنهّد عزت بحنان، ولم يتعجل «عزت» الردّ، وأرسل للأمام نظرة الإنسان الذي يرتضي ويستعذب المقدور والمكتوب، ثم قال: «نعم. أنا، وبالنسبة لكورونا فإنها… وبعد أيام تشعر بأن… ثم… أما الدواء…» وانهمك في الكلام فاستأذنت لأواصل سيري وقد لمع في ذهني أن «عزت» أصبح نجمًا في المنطقة.
بعد وقت انتشرت المعلومات عن كورونا بغزارة، وكان الاهتمام بعزت يتقلص كلما شاعت الحقائق، إلى أن عاد كما كان، لا يكاد أحد أن يلحظه حتى انتبه «عزت» إلى ذلك التغير فبدأ يستوقف من يصادفه منا أو من سكان العمارات الأخرى معاتبًا: «يا أخي الناس لبعضها… وبالمناسبة أنا قرأت مؤخرًا أن فيروس كورونا فيروس متحول… إذن… من يدري؟ يجوز جدًّا أنني قد أصاب به ثانية؟». في الأغلب الأعم لم يكن حديثه هذا يلقى اهتمامًا يذكر، وحينذاك يؤكد «عزت» بنفاد صبر: «يا جماعة كورونا ليست مرة وتنتهي… لاء… أبدًا… العملية أكبر من ذلك». لكن تلويحه بأنه عُرْضة للمرض من جديد لم يُؤتِ ثماره، وقد لقيته مرة على درج العمارة، وما إن شاهدني حتى استند بيده إلى حائط السلالم وأغمض عينيه كأنما من التألم وهمس لي: «احتمال أنني أصبت بكورونا مرة أخرى؟». إلا أن حيل التمارض تلك لم تنفعه بشيء خاصة بعد أن أخبر الأستاذ مصطفى بقية السكان أنه يلمح «عزت» عند محطة الأتوبيس يوميًّا ويراه هو يثب إلى داخل السيارة بقوة حصان سبق.
غابت السعادة التي تألقت وشعّت في عيني «عزت». رجع إلى سحنته الأولى، أو رجعت سحنته إليه، وفاض من جديد بقدرته المذهلة على إشاعة الضجر، وأخذ كسابق عهده ينزل إلى الشارع بالبيجاما، ويمشي بالصحن لشراء الفول شاردًا محدقًا بالفراغ، بينما كانت الست صباح تمدّ أصابعها إلى أعماقها كل يوم، وتتحسس سعادتها بأن أحدًا لن ينازعها في «عزت» مضجرًا، تمامًا كما أحبته، لا يثير اهتمام أحد، تمامًا كما تزوجته، غير مرئي تقريبًا تمامًا كما عاشت معه.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق