كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
رؤيتان متصادمتان تجاه الغرب بين طه حسين وجلال آل أحمد
حدثت في سيرة الأدبين المصري والإيراني المعاصرين ظاهرتان متشابهتان في الشكل، ومتغايرتان في المضمون، ومتصلتان في النطاق. ظهر التشابه بين هاتين الظاهرتين في ناحية جنس الكتابة متمثلًا في نمط التقرير، وظهر التغاير في ناحية الموقف متجسدًا تجاه الغرب والثقافة الغربية، أما الاتصال فظهر في ناحية نطاق التعليم في البلدين مصر وإيران. وتعلقت هاتان الظاهرتان في مناسبتين مختلفتين بأديبين شهيرين هما: طه حسين (1306-1393هـ/1889-1973م) في مصر، وجلال آل أحمد (1923-1969م) في إيران.
الظاهرة الأولى بدأت سيرتها حين انتدبت وزارة المعارف المصرية طه حسين لتمثيلها في مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري المنعقد في باريس صيف 1937م، وانتدبته أيضًا في المدة نفسها وفي المكان نفسه الجامعة المصرية لتمثيلها في مؤتمر التعليم العالي.
في هذه الرحلة قضى طه حسين في باريس شهرًا أو نحو شهر، شهد فيها مؤتمرات وأنشطة أخرى، واصفًا حاله في هذه المؤتمرات بالطالب الذي يختلف إلى الدروس والمحاضرات في مواظبة ونظام، سمع فيها آراء، وشهد فيها أشياء، أثارا في نفسه خواطر وأمالًا لم يَرَ بدًّا من تسجيلها.
بعد عودته إلى مصر كان على طه حسين أن يرفع تقريرين إلى الجهتين اللتين انتدبتاه: الوزارة والجامعة، يعرض فيهما ما رأى في المؤتمرين المذكورين، مستسهلًا هذه المهمة، لكنه لم يرفع شيئًا من هذا القبيل، معتبرًا أن ظروف الحياة السياسية في مصر آنذاك قد صرفت الوزارة والجامعة عن قراءة التقارير وحفظها، وصرفته هو كذلك عن تنميقها وتدبيجها، مقدرًا أن هناك شيئًا أكثر خيرًا من كتابة تقرير قد يقرأ ويؤخذ به أو لا يلتفت إليه، قاصدًا إنجاز ذلك الوعد الذي قدمه إلى الشباب الجامعيين ولم يظهرهم عليه، مصورًا أن إنجاز هذا الوعد سيكلفه من الوقت والجهد أكثر مما يكلفه كتابة تقرير أو تقريرين، لكنه سيكون أكثر فائدة وأعم نفعًا.
قد وفى طه حسين بوعده وأنجز بدل التقريرين كتابًا مستفيضًا ومثيرًا متشبهًا بهيئة التقرير، هو كتاب: (مستقبل الثقافة في مصر)، الصادر سنة 1938م، مقدمًا عن هذا الكتاب صورتين متفارقتين محتملتين، لا يدري أيتهما الصورة الراجحة، فلعل كله أو بعضه يقع موقعًا حسنًا من بعض الذين إليهم أمور التعليم، ويأخذون بعض ما فيه من رأي. أو لعل كله أو بعضه يقع موقعًا سيئًا من بعض الناس، وينقدونه ويثيرون حوله جدلًا خصبًا يجلي وجه الحق في كثير من الأحيان.
في هذا الكتاب قدّم طه حسين تصورًا خطيرًا وصادمًا، رابطًا مستقبل الثقافة في مصر بالالتحاق بأوربا، راجعًا إلى التاريخ القديم مفككًا علاقة مصر بالشرق ومجسرًا علاقتها بالغرب، متسائلًا: أمصر من الشرق أم من الغرب؟ قاصدًا الشرق والغرب الثقافيين لا الجغرافيين، معتبرًا أن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءًا من الشرق، واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين، جازمًا بأن مصر كانت دائمًا جزءًا من أوربا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها.
شركاء في الحضارة
حين اتجه بنظره إلى العصر الحديث، طالب طه حسين بأن تتصل مصر بأوربا اتصالًا يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى تصبح جزءًا منها لفظًا ومعنى وحقيقة وشكلًا، داعيًا لاتباع سيرة الأوربيين وانتهاج طريقهم لنكون لهم –حسب قوله- شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، نافيًا أي خطر على الشخصية المصرية من الحضارة الحديثة، متخذًا من الشخصية اليابانية نموذج قياس على ذلك؛ إذ لم يحدث لها أي خطر من الحضارة الحديثة، معقبًا على هذه المقايسة قائلًا: ولست أدري لم تضيع شخصية المصريين إذا ساروا سيرة الأوربيين، ولا تضيع شخصية اليابانيين، مع أن لمصر من المجد والسابقة ما ليس لليابان مثله.
هذا عن الظاهرة الأولى وسيرتها، أما الظاهرة الثانية فقد بدأت سيرتها حين تقدم جلال آل أحمد في سنة 1961م بتقرير داخلي، قدمه لمجلس حكومي يعنى بشؤون التعليم في إيران، وقد تحفظ المجلس على هذا التقرير، وامتنع عن نشره؛ بسبب طابعه النقدي الصريح والصارم، فجرى تداوله على نطاق خاص بين زملاء الكاتب وأصدقائه، الذين أبدوا عليه بعض الملحوظات بقصد التهذيب والتنقيح، وبعد زيادة وحذف قام بها جلال آل أحمد، صدر هذا التقرير في كتاب مثير وخطير حمل عنوان: (غرب زدكي)، ويعني حسب ترجمته العربية (وباء التغرب) أو (الابتلاء بالتغرب)، إلى جانب ترجمات أخرى تنوعت في الكلمة الثانية من العنوان (زدكي)، واتفقت على الكلمة الأولى (غرب).
في هذا الكتاب قدم جلال آل أحمد خطابًا نقديًّا شديدًا تجاه ما سماه التغرب، واصفًا له بالوباء الخطير، محذرًا من انتشاره، ساعيًا لتفكيك خطابه وتشريح بنيته وتقويض أركانه، مطلقًا صيحة في وجهه هي الأقوى من نوعها في ساحة الأدباء والمثقفين الإيرانيين المعاصرين.
كما حاول آل أحمد تتبع هذا الوباء –حسب وصفه- على الأصعدة كافة ثقافيًّا وتعليميًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وغيرها، باذلًا جهدًا واضحًا في الكشف عنه وفضحه وتعريته، وتسليط الضوء عليه، ووضعه تحت عدسة المجهر لتكبير صورته وليظهر على حقيقته، ومن أجل إخراجه من حالة التخفي والمخادعة، إلى حالة الانكشاف والمعاينة، وكأنه أراد أن يدقّ إسفينًا منبهًا مجتمعه من خطر عظيم، يقصد به وباء التغرب.
سياسات التحديث السريع
كانت إيران آنذاك بعد تركيا تُعَدّ من أكثر أقطار العالم الإسلامي تبنيًا لبرامج وسياسات التحديث السريع على النمط الأوربي، لربط المجتمع الإيراني بالغرب والتحديث الغربي، الوضع الذي دفع آل أحمد لأن يدق ناقوس الخطر منبهًا المجتمع من هذا الوباء، معرفًا به قائلًا: هو مجموعة من الأعراض التي تطرأ على حياتنا في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية، من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، ومن دون أن يكون دخولها تدريجيًّا، يسمح بالاستعداد لها، وإنما تداهمنا دفعة واحدة، لتقول لنا: أنا هدية الآلة إليكم، أو قل: إنها الممهدة للآلة.
ما يريد آل أحمد أن يقرره ويناقشه في كتابه، معبرًا عنه كنظرية له، يتحدد في قوله: إننا لم نستطع أن نحافظ على شخصيتنا الثقافية والتاريخية في مواجهة الآلة وهجومها الحتمي، ولم ندرك ماهية الحضارة الغربية وأساسها وفلسفتها، وأخذنا نقلد الغرب شكلًا، وفي الظاهر نستهلك آلاته، ولا نعرف أسرار هذه الحضارة ونظمها وبنيتها، وما دمنا لم نصنع الآلة فنحن متغربون.
ما يثير الانتباه في هذين الموقفين أنهما اتسما بأعلى درجات الاقتراب والابتعاد تجاه الغرب والثقافة الغربية، ومَثّلَا أشدّ صُور التباين والافتراق يمينًا مع طه حسين، ويسارًا مع جلال آل أحمد، وكَشَفَا لنا عن نهجين ومنظورين في التفكير والاستشراف كان لهما تمثلاتهما في الأدبين والثقافتين العربية والإسلامية، بقيا متنازعين ومتصادمين أدبيًّا واجتماعيًّا، فما دعا إليه بشدة طه حسين رفضه بشدة جلال آل أحمد، وما دعا إليه بشدة آل أحمد رفضه بشدة طه حسين.
أما السمة المشتركة لهذين الموقفين فقد تحددت في الإسراف مدحًا وذمًّا، اقترابًا وابتعادًا، قبولًا ورفضًا، فطه حسين أسرف في طريقة التعلق بأوربا، وفي الدعوة إلى اتباع سيرة الأوربيين، متأملًا أن تصبح مصر جزءًا من أوربا منقطعة عن الشرق ملتحقة بالغرب. وجلال آل أحمد أسرف من جهته كذلك في ذم الغرب وكل ما له علاقة به، مبالغًا في رفضه وقدحه، مغاليًا في تصويراته وتشبيهاته، ناظرًا له بوصفه تلوثًا وتسممًا ووباءً.
بذلك نكون أمام موقفين مغاليين غير متوازيين، فلا يمكن أن نقبل موقف طه حسين بهذه الطريقة من الاتباع إلى الغرب، كما لا يمكن أن نقبل موقف آل أحمد بهذه الطريقة من الرفض، وإنما علينا أن ننتخب طريقًا لا استلاب فيه من جهة، ولا جمود فيه من جهة أخرى، فمستقبلنا قطعًا ليس في اتباع الغرب، لكن الغرب ليس شرًّا مطلقًا ولا خيرًا مطلقًا، والمطلوب أن نجتهد ونختار نموذجنا الحضاري المستقل!
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق