كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«اختفاء السيد لا أحد» لأحمد طيباوي
أو رحلة البحث عن العائد من القاع
تضعنا رواية «اختفاء السيد لا أحد»، للروائي الجزائري أحمد طيباوي، الصادرة عن منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، الفائزة بجائزة نجيب محفوظ 2021م، أمام سؤالين محوريين هما: ماذا يمكن للعائد من الموت أن يخسر؟ ما معنى الخلاص بالنسبة إلى من انتقل من حافة الموت إلى حافة الجنون؟
تهيئ الرواية قارئها منذ العتبة الأولى (العنوان) للدخول في لعبة سردية يؤثثها التأمل الفلسفي الذي يعزّز الشك والارتياب؛ ذلك أن أول سؤال يمكن للمتلقي أن يطرحه حول هذا العنوان هو: كيف لمن لا وجود له أن يختفي؟ ألا يشترط الاختفاء أولا حضورًا متجليًّا؟ ثنائية ضديّة تكرّس مفهوم المفارقة والتناقض على نحو مستمر، يمكن رصدها مبدئيًّا في تقسيم العمل إلى جزأين؛ «الرجل الذي خلع وجهه ورحل» و«الجحيم يطل من النافذة» وهو ما يوحي بأن الاختفاء شرط التجلي وليس العكس.
لكن قبل ذلك دعونا نقف قليلًا عند ملامح شخصية السيد لا أحد: يبادرنا صوت الشخصية من أول سطر في الرواية، وعلى امتداد المقطع الأول الذي يحمل عنوان «مراوغة» وكأن الروائي يدعونا إلى الاستعداد للعبة التي ينبغي لنا أن نبقي فيها حواسنا القرائية متيقظة، حتى لا نسقط في وهم التسليم بما تقوله الشخصية.
يطالعنا «السيد لا أحد» أولًا بميوله العدوانية ورغبته في الفتك بالشيخ الذي يرعاه قائلًا: «قد يكون اقتلاع أحدهم من الحياة حلًّا معقولًا حتى بالنسبة لرجل مثلي لا يملك سوى أسباب تافهة ليفعل ذلك»، لكن السرد سرعان ما يدحض هذه الصورة لتتجلّى صورة مغايرة، يرسم العجز والشعور بعدم الانتماء تفاصيلها، فقد كان همّ الشخصية هو الرغبة في الحفاظ على العتمة التي تخفي حضورها، بعد أن نفضت يديها من الوجود، جالسةً في شرفة الطابق الأخير، تتأمل تفاهة البشر في الظلام الحالك الذي يلف المدينة ويطبق على أنفاس ساكنيها، كمن يقف فوق خراب العالم ليسخر من انحداره، معلنةً انفصالها عمّا حولها، بعد أن قطعت كل صلة لها بالمجتمع البشري، وما وجودها رفقة الشيخ الهرم سوى صفقة عابرة أبرمتها يد القدر في غفلة منها، ما فتئت تريد منها فِكاكًا.
تتولى الشخصية التعبير عن قناعاتها وتصوراتها بشكل متكرر، وهو ما يتيح للقارئ تشكيل ملامحها وأبعادها المختلفة، وهنا تكمن المفارقة، تقول: «أخاف أحيانًا من أن يكشفني جمر سجائري»، «لم يخلف كلامه أي فضول بداخلي لمعرفة أمر يعتقد أنه سيجعلني ملكًا… ملك؟ ذلك يقع عمليًّا خارج دائرة تطلعاتي، دائرة ضيقة ومثيرة للسخرية، ويستحق صاحبها رثاء خاصًّا. لا يهم، أنا عبد قذر، لا يعرفه أحد ولا يأبه له، وهذا يرضيني تمامًا». يشير في مقام آخر إلى غياب الرابط الروحي الذي يستشعره كل إنسان لحظة استحضار صور الأمّ، يقول: «صور أمي في ذاكرتي غير واضحة، بعيدة ومشوشة، ولا عاطفة تشدني إليها…».
إذ يحيل هذا الموقف المحايد إلى فقدان الرابط مع الحياة نتيجة وعي مبكر بتفاهتها؛ ذلك أن الظروف لم تهيئه لنسج علاقات متينة بمن حوله؛ فيكفي أن يتعلّق به أحدهم ليكون الموت وشيكًا، لكن المفارقة العبثية أن الموت أبى الاقتراب منه لحظة التماس المباشر معه (حادثة الاختطاف من جانب الإرهابيين) كشكل من أشكال العذاب المجاني الذي وجد نفسه ضحية له، فقد لفظته الحياة إلى هامشها وأمعنت في سحقه، فما كان منه سوى أن يختار بإرادته أن يكون حشرة، من دون أن يستشعر ألم السحق، وهذا ما يذكّرنا برواية المسخ لفرانز كافكا. تبدو الحياة بالنسبة إلى هذه الشخصية محطة انتظار؛ لذا اختارت موتًا رمزيًّا مؤقتًا يتيح لها الاستعداد للموت الحقيقي بوصفه الخلاص الوحيد المستحق.
العقل حصان طروادة الخاسر
يبدو التمسك بالعقل رهانًا خاسرًا تفننت الرواية في تصوير تبعاته، مذكّرة بلعنة المبصر في مجتمع العميان، وذلك من خلال تسليط الضوء على محنة الوجود العبثي الذي وجد «السيد لا أحد» نفسه معلقًا بين أقداره؛ إذ يصف نفسه ساخرًا بشفافية بالغة: «أنا حبيس جملة من الظروف لا أجد سببًا منطقيًّا يجعلها تتفرغ لي وحدي من دون الناس»، أمام هذه الحتمية يصبح الجنون طوق نجاة للتخفّف من إكراهات الواقع، لكنه خيار لم تدرك الشخصية قيمته إلا بعد أن خبرت حجم البؤس والنفاق البشريين؛ لذا يأتي قرار الاختفاء في النهاية كإعلان عن موقف رافض للحياة، وإن بدا في ظاهره عديم الأثر، فإنه في حقيقته يحمل رمزية الثورة الناعمة بحكم أنه أحدث تحولًا في مسار باقي الشخصيات.
لقد أخرج حدث الموت (موت الشيخ) «السيد لا أحد» من العتمة إلى النور، ونقله من دائرة الحضور الهامشي إلى الحضور المركزي بالنسبة إلى من تقاطعت مسارات حياتهم معه، لكنه حضور بالغياب، فغدت شخصيته مرآة تتجلى من خلالها ذوات الآخرين، بل صارت هاجسًا بالنسبة إلى المحقق رفيق طايبي، الذي تقوده رحلة البحث عن سر هذه الشخصية في الجزء الثاني من الرواية إلى إدراك هشاشة وجوده وعبثية الحرص على تماسكه؛ لذا يختار في آخر المطاف الاختفاء من دون أن يترك أثرًا يدل على وجهته، فيتحول من باحثٍ إلى مبحوثٍ عنه، ويغدو الاختفاء بعد التجرد من الروابط شكلًا من أشكال الخلاص الفردي؛ ذلك أنه لا مجال لتحقيق خلاص جماعي في مجتمع يستعذب السير نحو الهاوية، ولعل هذا ما جعل الروائي يستثمر فكرة الحمل الذي بقي معلقًا، لا كحلّ يخرج المحقق من دائرة اللاجدوى بفعل تواطؤ الظروف وقوى الفساد؛ بل ليعززها؛ إذ لا معنى للاستمرارية إذا لم تكن حاملة لبذور التغيير الجذري، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه برؤية رومانسية حالمة، وما إبقاء النهاية مفتوحة إلا تأكيدًا لتعدد المسارات التي يخفيها القدر.
يذكّرنا اختفاء السيد لا أحد برواية «كائن لا تحتمل خفته» لميلان كونديرا؛ ذلك أن الاختفاء مكّن الشخصية من التخفّف من حمولات الواقع والتحرّر من إكراهاته، لكنها خِفة لا تحتمل؛ لأنها أزالت الستار عن مسرح الحياة، كاشفة عورات مجتمع غارق في الزيف والنفاق.
دور المثقف في مجتمع مسلوب
تستحضر الرواية محطة الإرهاب بوصفها محنةً لها الأثر البالغ في تشكيل وعي البطل، على الصعيدين الفردي والجماعي، بغية كشف الانحدار الذي أصاب سلّم القيم في المجتمع الجزائري عقب العشرية السوداء، وما ترتب على ذلك من تغييب المبادئ والمثل وتغليب ثقافة الاستغلال والنهب. تلخص الرواية محنة المثقف العاجز عن إحداث التغيير، يعيش اغترابًا عن شرطه الإنساني، في مجتمع كفرَ بالمُثُل والقيم، واستعذبَ الانحدار، وأمام احتمال الشعور بالمظلومية والخضوع للقهر الذي تمارسه قوى الفساد اختار الاختفاء سبيلًا أوحد للخلاص… ولنا أن نتساءل في الختام: هل يحق لسيزيف (المثقف) من الناحية الأخلاقية التخلي عن الصخرة؟
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق