كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الجواب عن السؤال المفصلي
مدخل: كما بينا في مقال سابق تحت عنوان: «السؤال المفصلي المطروح»، يموج العالم الآن بمراجعات جادة لشتى أنواع الأنظمة الاقتصادية بعد أن اكتوى بنيران الأزمات المالية المتتابعة وبفشل بعضها الذريع. وسنرتكب، نحن العرب، خطأً فادحًا إن بقينا، كما فعلنا منذ الاستقلال الوطني للأقطار العربية كافة، نمارس إما ردَّ فعلٍ محتارًا عاجزًا، وإما الوقوع في فخ التقليد الأعمى لما يقوله أو يفعله الغرب الحضاري.
لقد مارسنا أحد الأسلوبين أو كليهما تجاه تبني النظام الرأسمالي الكلاسيكي، ومؤخرًا تجاه تبني النظام الرأسمالي النيوليبرالي العولمي، كما مارسه بعضنا تجاه تبني الاشتراكية الماركسية كما كانت مطبقة على الأخص في الاتحاد السوفييتي سابقًا. ولا يسمح المجال لاستعراض تاريخ ممارسة النظامين في بلاد العرب المليئة بالأخطاء وقلة الإبداع الذاتي التطويري. يكفي أن نشير إلى استمرار وترسخ النظام الاقتصادي الريعي في كل الأقطار العربية وفشل الجميع في الانتقال إلى الاقتصاد الإنتاجي والمعرفي.
من هنا تكمن الأهمية القصوى لمتابعة شتى المحاولات العالمية من أجل اقتراح نظام اقتصادي متوازن عادل يأخذ في الحسبان التاريخ، والثقافة، والتركيبات الاجتماعية، والموارد الطبيعية والبشرية، ومستويات الإمكانيات العلمية والتكنولوجية، والمصالح الإستراتيجية المستقبلية لهذه الأمة.
وبمعنى آخر، الخروج من تحت عباءة الأفكار والممارسات الرأسمالية الكلاسيكية والنيوليبرالية من جهة، والأفكار والممارسات الاشتراكية الماركسية من جهة أخرى. وبالطبع فإن تفتيشنا العربي الذاتي لا ينطلق من فراغ ولا يعني عدم الاستفادة من أفكار وممارسات الآخرين. فالنقد الشديد من جانب الشخصية القيادية في الحزب الديمقراطي الأميركي، برني ساندرز، للنظام الرأسمالي المطبق في الولايات المتحدة الأميركية، قلعة الرأسمالية العولمية وحاميتها الأساسية حتى وقت قريب، له دلالاته الفكرية والسياسية لتجربة فيها الكثير من نقاط الضعف والفشل واللاإنسانية، وبالتالي هي درس عميق للعرب.
والتحليل الاقتصادي العلمي الشديد التفصيل واستنتاجاته المذهلة من جانب الكاتب والمفكر أستاذ الاقتصاد الفرنسي، توماس بيكيتي، في كتابه الشهير «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين»، ونداؤه الأخير المزلزل في كتابه «أوان الاشتراكية» بضرورة أن يحل نظام اشتراكي جديد، تشاركي لا مركزي، فيدرالي ديمقراطي، مُراعٍ للمحافظة على البيئة الطبيعية، ومسانِد لحقوق المرأة ومختلف الأعراق… محل النظام الرأسمالي العولمي النيوليبرالي الذي يحتضر بفعل الأزمات والذي وصل إلى طريق مسدود، خصوصًا بعد انتشار وباء فيروس كورونا، وما أحدثه من تأثيرات سلبية معيشية واقتصادية كثيرة… مثل ذاك التحليل وتلك الاستنتاجات يجب أن نستفيد منها، نحن العرب، بل ننطلق من بعضها. وهناك عشرات آخرون ممن يُغْنُونَ النقاشات ويقدمون المقترحات الصالحة للأخذ وللاستفادة. وبالتالي لن ننطلق من الصفر. كما أن في العالم تجارب بالغة الغنى والدلالات الإنسانية والتوازن القيمي الأخلاقي، من مثل التجارب الاقتصادية الإسكندنافية في الشمال الأوربي وفي بعض بلدان أميركا الجنوبية، والتجربة الصينية المليئة بالعبر. وفي هذه المرة نرجو أن نضيف وننقص ونحلل بوعي عربي ذاتي، ونتجنب التبنيات العمياوات.
الملامح الرئيسة للنظام الاقتصادي العربي المقترح
ذكرنا في المقدمة بعض إشكالات الأنظمة الاقتصادية، في الماضي والحاضر، وهي لتبيان الكثير من مساوئها وطرقها المسدودة وابتعادها من قيم العدالة تحتاج لكتاب كامل. ويستطيع الإنسان أن يعود لعشرات الكتب، والتقارير الدولية الدورية حول التنمية، والمقالات في المجالات الثقافية العربية الرزينة، إن أراد التأكد من وجود ضرورة قصوى للتفتيش عن نظام اقتصادي عربي جديد يواجه تلك الإشكالات، ويبعدنا من أن نكون تحت أية عباءة أو تابعين لأية جهة، ويخرجنا من النظام الاقتصادي الريعي إلى رحاب الاقتصاد الإنتاجي المعرفي.
دعنا أيضًا نؤكد أن النظام الاقتصادي المقترح لا يمكن عزله عن العوامل والجوانب الحياتية المجتمعية العربية الأخرى. فمدى معقوليته، لئلا ينقلب إلى ثرثرة أكاديمية نظرية، ومدى إمكانيات تحققه في الواقع العربي المعقد، سواء على المستوى القطري الوطني أم على المستوى القومي الشامل، مرتبط أشد الارتباط بمقدار نجاحنا في انتقال العرب من التشرذم والخلافات العبثية والصراعات فيما بين بعض أنظمة الحكم الحالية، وبمدى تحقق وجود بناء نظام إقليمي عربي تعاوني تكافلي يسعى نحو نوع مقبول من التوحيد العربي في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن. وهو مرتبط أيضًا بمقدار الخروج من تحت عباءة القوى الاستعمارية المهيمنة على المنطقة وأدوات القوة الصهيونية المتمددة والمخترقة للأوضاع العربية، وهما سيحاربان كل مشروع تنموي يقوي البنية العربية إن لم يواجها بشكل جماعي قومي متلاحم.
وهو مرتبط بوجود حد أدنى من الديمقراطية التي من دونها لا يمكن إزالة، أو حتى إضعاف، أنظمة الفساد، والامتيازات الشللية، والارتهان للخارج، وإدارة المجتمعات بوسائل أمنية استبدادية، وإضعاف لكل مقومات المجتمعات المدنية النشطة لإبعادها من المشاركة في إدارة شؤون البلاد.
وبمعنى آخر، وباختصار شديد، فإن المكونات الست للمشروع النهضوي العربي المتداول منذ عقود عدة، مكونات الوحدة العربية والديمقراطية والاستقلال الوطني والقومي والتنمية الإنسانية المستديمة والعدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري، تظهر بصورة جلية أن الحديث عن اقتصاد عربي جديد لا يمكن فصله عن كل مكونات المشروع الأخرى. بل إن بعضًا من المكونات يجب أن يحكم المجال الاقتصادي ليبقيه محكومًا بالقيم والأخلاق والعلاقات الإنسانية الرفيعة.
ضمن كل تلك المعطيات التي ذكرناها يمكن لنا أن نطمئن بوجود إمكانية كبيرة لنجاح النظام الاقتصادي العربي المقترح. وهو نظام يسعى إلى تأمين الاستقرار والتوازن بين قوة سلطة الدولة السياسية، وقوة المصالح والمؤسسات الاقتصادية، يقدمه بعضٌ تحت اسم «الاشتراكية العربية الجديدة». وأبرز ما في هذا المقترح هو الجمع ما بين الكفاءة الاقتصادية في استغلال وإدارة وتنمية الموارد والثروات الوطنية المادية والبشرية، والعدالة الاجتماعية والقيمة الإنسانية في توزيع حصيلة النشاطات الاقتصادية بما يمنع وجود ظواهر من مثل الفقر والبطالة وتمركز الثروات الهائلة في أيدي القلة؛ وذلك من أجل تماسك النسيج الاجتماعي وترسيخ قيم التكافل والمواطنة المتساوية وكل متطلبات الحقوق الإنسانية الرفيعة السامية.
وبالتالي فإنه نظام يأخذ بأفضل ما في الرأسمالية، الكفاءة الاقتصادية المنضبطة، وأفضل ما في الاشتراكية، العدالة الاجتماعية التشاركية الحقوقية. وفي قلبه تفاصيل منهجيات تطبيقه هناك ارتباط شديد بالنظام السياسي الذي سيحكمه ويمنع شططه قائم على رفض الديمقراطية المظهرية المحكومة في الواقع من جانب المصالح والقوى الاقتصادية، وعلى رفض فكرة الدكتاتورية الطبقية في نظام الحكم. إنه مقترح يعيد للسياسة مكانتها التي فقدتها أمام الاقتصاد في العقود الأخيرة لتضبط جموح حرية الأسواق وطمع بعض الأغنياء، وتبني شراكة حقيقية في إدارة الحكم فيما بين القوى العاملة ومؤسساتها السياسية والمدنية والمهنية، وأصحاب رأس المال والثروات الخاصة.
لسنا أمام مقترح تلفيقي أو خيالي، وإنما نحن أمام محاولة جديرة بالتمعن والمناقشة، بعد أن تعبت البشرية من إشكالات الأنظمة الاقتصادية والمالية عبر القرون السابقة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق