كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في علاقة الترجمة بالموسيقا.. الفن مستندًا على العلم
«لو أن المترجم نقل الكلمة فقط، أو ترجم النص الأدبي والشعري ترجمةً آلية، لخرج لنا عملٌ ميت يشبه موسيقا المصعد. موسيقا لا روح فيها، ولا لون، ولا طعم!»
تشترك الموسيقا والترجمة في أنهما كليهما من الفنون الإبداعية التي يتطلب إتقانها أساسًا علميًّا ليخرج العازف أو المترجم بعمل فني متقنٍ يُخلف انطباعًا ساحرًا لدى متلقيه. فخلفَ كل كلمةٍ من هذا وكل نوتة من ذاك، تفسير علمي؛ لمَ اختار العازف استخدام هذا التكنيك، أو لمَ استخدم المترجم تلك النظرية؟ فمعرفة شخصٍ ما العزفَ على مفاتيح البيانو أو أوتار الكمان لا تؤهله لعزف مقطوعة لـ»شوبان» أو «بگنيني» كما أنه ليس كل ثنائي لغة بمقدوره ترجمة نصوص شعرية أو أدبية من لغةٍ إلى أخرى، محافظًا على سحر الصورة الجمالية.
يمكن للعازف أن يعزف سماعيًّا، كما يمكن للمترجم أن يترجم آليًّا أو ينقل الكلمات من لغة إلى لغةٍ أخرى نقلًا حرفيًّا. ولكن، لا يمكننا أن نسمي هذا النوع من الأعمال أعمالًا فنيةً أصيلة. ذلك أن الفن الأصيل يكمن، بداهةً، في الكيفية التي يُعبر بها عنه وبالتفسير الذي يقف خلف كل كلمة ولحن، ولا يكون ذلك إلا باستخدام نظريات وأسس علمية وبالرجوع للمدارس الفنية في ذلك بعيدًا من المعتقدات والآراء الشخصية، ولا يعني هذا بالضرورة التعقيد، فالفن لا بد أن يكون مفهومًا سهلًا لدى مُتلقيه بغض النظر عن خلفيته وأساسه المُعقّد.
فالمترجم المحترف هو من يستطيع تفسير ترجمته؛ لمَ استخدم الترجمة المباشرة في نصٍ ما مثلًا بدل عن الترجمة غير المباشرة، أو لماذا اقترض هذا المفردة أو حاكى ذلك التعبير في لغة أخرى؟ أما العازف الجيد فهو من يعزف بناءً على معرفة بالسلالم والأوتار والتراكيب النغمية، أطوالها وسعاتها.
عازف البيانو مثلًا ليعزف أو يؤلف مقطوعة موسيقية يجب أن يكون على علم بالسلم والمقام الموسيقي والكوردات الأربع الأساسية (I-IV-V-vi chords) كحد أدنى، محافظًا في ذلك على لحن أو ثيمة أساسية «melody» حتى يخرج بقطعة موسيقية متناغمة بعيدة من النشاز. لذلك معرفتك لعزف النوتات لا تجعل منك عازفًا محترفًا، وإجادتك لغة أُخرى لن تجعل منك مترجمًا محترفًا، إذا ما افتقَرت معرفتك للجانب العلمي والنظري الذي يُفسر اختياراتك.
مقاربة دماغية
تقول مترجمة الأمم المتحدة (بريجيت أندري سير بيرل): «معظمنا– تقصد مترجمي الأمم المتحدة– يعزف آلةً موسيقية أو هو عضو في جوقة موسيقية». يذهب تأثير الموسيقا في الشخص إلى ما هو أبعد من الجانب الإبداعي والنظرة الفنية للأشياء، فالموسيقا تؤثر في طريقة عمل العقل ونمط التفكير وحتى أسلوب الحياة وكيفية تناول المشكلات والمواضيع، وهذا يُشابه الترجمة في كثير من جوانبها. كلا المجالين من المجالات التي يتطلب أداؤها عملًا نظاميًّا «الاستقبال» و»الإرسال» في الدماغ بتزامن، ما يعني أن الدماغ يعمل بكامل كفاءته في استقبال البيانات والمعلومات ومعالجتها ثم إرسالها في الوقت نفسه وذلك ليحافظ على مستوى معين من الأداء.
يتقاطع العازفون والمترجمون في سرعة بديهتهم، وتنبؤهم بتتِمة الكلام ونهاية النغمة، وقدرتهم على تجاهل أصواتهم في أثناء الكلام وأصوات عزفهم، والتركيز عوضًا عن ذلك على كلام المتحدث وأدائهم، وهو أمرٌ قد يصعُب على غير المتدرب، فسماعك صوتك في أثناء الكلام مهم لتحديد نبرة صوتك والتحكم في أسلوبك، كما يصعب أيضًا على الشخص العادي توقع نهاية كلام المتحدث، تقول (باربرا موسر ميرسر) وهي مترجمة فورية وباحثة في جامعة جنيف: «دائما ما كنت أتوقع نهاية الجملة بغض النظر عمن أتحدث إليه وما إذا كنت أرتدي سماعة رأس أم لا».
ولاكتشاف كيفية عمل دماغ الموسيقيين قام علماءُ نفس في جامعة فاندربيلت بدراسةٍ وجدوا فيها أن الموسيقيين المدربين تدريبًا مهنيًّا يستخدمون تقنية إبداعية تُسمى التفكير التباعدي بشكل أكثر فاعلية من غيرهم، ويستخدمون أيضًا الجانبين الأيسر والأيمن من قشرة الدماغ الأمامية بشكل أكبر من الشخص العادي. يقول (فولي)، وهو أحد الباحثين الثلاثة في هذه الدراسة: «لقد درسنا الموسيقيين لأن التفكير الإبداعي جزء من تجربتهم اليومية، ووجدنا أن هناك اختلافات نوعية في أنواع الإجابات التي قدموها للمشكلات وفي نشاط الدماغ المرتبط بها».
يُعزى ذلك إلى قدرتهم على استخدام كِلتا اليدين بشكل منفصل في أثناء العزف، وهي إحدى التفسيرات التي قدمها الباحثون عن كيفية عمل كِلا جانبي الدماغ لدى العازفين بكفاءة في آن واحد. فعازف البيانو مثلًا يقرأ النوتات الموسيقية المكتوبة والتي يترجمها عقله على المفاتيح- لكل نوتة مفتاحها الخاص- إلى أصوات موسيقية، باستخدام كِلتا يديه لكل يد حركاتها ووقفاتها المنفصلة في ذات الوقت، هذا النوع من التفاعلات العقلية والفيزيائية يتطلب عمل المخ بكِلا فصّيه الأيمن والأيسر في ذات الوقت، يُفسر ذلك (فولي) بقوله: «قد يكون الموسيقيون بارعين تحديدًا فيما يتعلق بالوصول إلى المعلومات المختلفة من كلا جانبي الدماغ ومعالجتها بكفاءة، فالعازفون يدمجون خطوطًا لحنية مختلفة بكِلتا اليدين في مقطوعة موسيقية واحدة بالتزامن مع قراءتهم للرموز الموسيقية، والتي يكون مسؤولًا عنها الفص الأيسر من الدماغ، ومن ثم يربطون الموسيقا المكتوبة بتفسيرهم الخاص لها، وهي عملية تتم في الفص الأيمن من الدماغ».
غنيٌ عن القول إن كل جانب من الدماغ مسؤول عن أنواع مختلفة من التفكير، فالفص الأيسر للدماغ مسؤول عن اللغة والمنطق والتحليل والحسابات والذاكرة وهو الذي يتحكم بالجانب الأيمن من الجسم. أما الفص الأيمن فهو المسؤول عن المشاعر والتعبير والصور والحدس ويتحكم بالجانب الأيسر من الجسم.
يربط بين الفصين مجموعة من الألياف العصبية تُعرف بالجسم الثفني حيث ينقل المعلومات بين الفصين على هيئة إشارات كهربائية. تختلف قوة الجسم الثفني لدى الموسيقيين عن غيرهم وذلك لأن عملية العزف -وكذلك الترجمة- تشترك فيها أكثر من حاسة وحركة وطريقة تفكير، كالسماع وضبط الحركة والذاكرة والمشاعر والانتباه واسترجاع المعلومات، فهذا يعني أن الدماغ يعمل بأكثر من طريقة في وقت واحد فهو يستقبل البيانات والمعلومات ويعالجها ثم ينتجها ويؤديها في نفس الوقت. تقول (نارلي گوليستاني) وهي رئيسة مختبر الدماغ واللغة بجامعة جنيف: «تتجاوز الترجمة الفورية معرفتك للغتين لأنه في أثناء الترجمة كِلتا اللغتين تُستخدم في الوقت نفسه، ولكن ليس بالطريقة نفسها، وذلك لأن المترجم يستقبل ويعالج اللغة ثم يُعيد إنتاجها في الوقت نفسه، لذا فإن مناطق الدماغ التي تنشط في أثناء الترجمة تذهب إلى مستوى عالٍ للغاية يتجاوز مجرد إتقان اللغة».
قد يواجه المترجم الفوري في أثناء الترجمة تحديات تُصعب من مهمته كسرعة المتحدث أو لكنته التي قد تجعل من فهم حديثه أمرًا مستحيلًا أو خروجه عن النص، كل هذا يتطلب من المترجم سرعة بديهة وتأقلم وقدرة على ضبط النفس والتعامل مع التوتر والضغوط وخلفية معرفية واسعة في مختلف المواضيع ومخزون لغوي وفير، ليتمكن من التعامل مع أصعب المتحدثين ويدير أنواعًا مختلفة من الكلام في شتى الموضوعات، تقول (باربرا موسر ميرسر): «إضافة إلى إنتاج وفهم الكلام ، تعتمد الترجمة الفورية الناجحة بشكل كبير على الذاكرة العاملة اللفظية، وإدراك الكلام وإنتاجه في آن واحد، وتبديل الانتباه بين اللغات وبين طرق الإدخال والإخراج».
لياقة عقلية
أنشطة كالترجمة والعزف تتطلب مرونة عقلية ولياقة ذهنية عالية ويرجع ذلك إلى الطريقة التي يعمل بها دماغ العازف والمترجم. ففي أثناء الترجمة والعزف تنشط عدة مناطق مسؤولة في الدماغ تعمل مع بعضها الآخر كوحدة واحدة بسرعة ومرونة تعتمد على مدة التدريب التي قضاها المترجم أو العازف في تمرين عقله على التكيف والتأقلم بسهولة وسرعة في إنتاج ترجمة دقيقة وعزف موزون.
ولتتضح الصورة أكثر، قام العالم روبرت زاتوري وهو المتخصص في علم الأعصاب الإدراكي والمؤسس المساعد لمختبر الدماغ والموسيقا الدولي، بالقيام بتجربة استخدموا فيها- هو وفريقه- الرنين المغناطيسي على العازفين في أثناء العزف لتحديد المناطق التي تنشط في الدماغ في أثناء عزفهم، وجدوا أن المناطق التي تنشط في أثناء العزف هي القشرة السمعية والقشرة الأمامية وهاتان المنطقتان تعملان كوحدة واحدة وذلك لأن العازف حين يعزف لا ينتج الموسيقا وحسب ولكن يعمل على ضبط حركته ووضعية آلته ومستوى ضغطه على الأوتار أو المفاتيح ليحصل على النغمة المطلوبة، فنظام الحركة والقشرة السمعية في تفاعل مستمر أثناء العزف.
أما على صعيد الترجمة.
وفي تجربة مشابهة قام باحثون في جامعة جنيف بتجربة استخدموا فيها الرنين المغناطيسي على مجموعة من المترجمين الفوريين في أثناء أدائهم عملهم لمعرفة مناطق الدماغ التي تنشط في أثناء الترجمة، كشفت التجربة عن شبكة من مناطق الدماغ متصلة ببعضها الآخر، إحدى هذه المناطق هي منطقة «بروكا»، والمعروفة بدورها في إنتاج اللغة والكلام والمسؤولة عن الذاكرة ومهارات التفكير المجرد، وترتبط المنطقة أيضًا بمناطق مجاورة لها كما تنشط عدة مناطق في الوقت ذاته في كلا الجانبين. تقول گوليستاني: «في الترجمة الفورية، عندما يسمع الشخص شيئًا ما ويضطر إلى الترجمة والتحدث في الوقت نفسه، يكون هناك تفاعل وظيفي قوي للغاية بين هذه المناطق».
فجميع هذه الأنظمة العقلية وأنماط التفكير المختلفة والمناطق المسؤولة في الدماغ تحتاج إلى لياقة ومرونة في العمل ولا يصير ذلك إلا بالتدريب والممارسة حتى يصل العازف والمترجم إلى اللياقة الذهنية التي تجعل من عمله أكثر سلاسة واحترافية، يدرك ذلك جيدًا العازفون، فهم يبدؤون العزف في عمر مبكرة ولا ينقطعون عن التدريب أكثر من شهر حتى لا يفقدوا لياقتهم الفنية والذهنية.
يقال إن من عمل بيده فهو عامل، ومن عمل بيده وعقله فهو صانع، أما من عمل بيده، وعقله، وقلبه معًا فهو فنان. وبعيدًا من التعقيدات العلمية والنظرية التي تقف خلف كلٍ من العزف والترجمة، يبقى الفن هو الأساس والجوهر، فمهمة إعادة صياغة الأفكار والمشاعر وتفسيرها والتعبير عنها بأي طريقة كانت سواء عن طريق الرقص كمهارة أو الموسيقا كلغة، هي مهمة الفنان.
فكما أن كثرة الإيضاح تُفسد الفن، فكثرة التعقيد تذهب به كذلك، ولذا فإن لكل فنان منهجه وإستراتيجياته الخاصة وطريقته في مقاربة فنه، فلا يمكن أن ترى عازفين لهما الأسلوب نفسه، كما لا يمكن أن تتطابق ترجمتان للنص نفسه. وكما أن لكل إنسان بصمة لا تشبه غيرها، يترك الفن بصمته على أصحابه بدءًا من نظرتهم للأشياء وأسلوب حياتهم، وانتهاءً بطريقة تفكيرهم ومعدل ذكائهم.
مراجع:
https://news.vanderbilt.edu/2008/10/02/musicians-use-both-sides-of-their-brains-more-frequently-than-average-people-65577/
Musicians use both sides of their brains more frequently than average people
https://www.bbc.com/future/article/20141117-the-ultimate-multi-taskers
The amazing brains of the real-time interpreters https://youtu.be/-3eeuxrP-XU
Robert Zatorre on Musical Processing in the Brain.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق