كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
السؤال المفصلي المطروح
منذ أزمة 2008م المالية العالمية وكثير من دوائر الفكر والبحوث والإستراتيجيات التنموية تطرح السؤال الآتي: إذا كان الاقتصاد الرأسمالي العولمي المرتبط أشد الارتباط بالفكر النيوليبرالي قد أصبح اقتصاد أزمات متكررة، ما إن تهدأ في مكان حتى تنفجر في مكان آخر، أفلم يحن الوقت لتركه والانتقال منه إلى أفكار وممارسات اقتصادية مختلفة ترتبط تدريجيًّا ببعض مبادئ ومنهجيات الاشتراكية وتقطع علاقاتها مع مبادئ ومنهجيات النيوليبرالية؟
هذا السؤال مطروح الآن بصوت عالٍ، وعلى الأخص من أقلام جادة موضوعية، عبر العالم كله، بما فيه الدول الرأسمالية التاريخية الكبرى التي تكتوي مجتمعاتها في الحاضر بنيران الأزمة تلو الأزمة. وإذا كان منظرو ورافعو راية الاقتصاد الرأسمالي العولمي الحالي، من مثل مدرسة شيكاغو الشهيرة بقيادة عرابيها من مثل فريدرك فريدمان، لا يرون في الأزمات أكثر من نتوءات مرحلية مؤقتة خارجة عن التيار المألوف الاقتصادي العام القادر بصورة تلقائية على الرجوع إلى توازنه بعد كل أزمة، فإن علماء الاجتماع والسياسة يرون غير ذلك، وأن الأزمات المالية تعكس نقاط ضعف عميقة وخطرة في جوهر الفكر والممارسة الرأسمالية النيوليبرالية العولمية.
هناك خلفية وراء واقع الموضوع الاقتصادي الذي نعيشه بحاجة لإبرازها. فأولًا هناك موضوع الخلافات حول العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، ممثلة في العلاقة بالديمقراطية تحديدًا. فمنذ القرن التاسع عشر وجدت طبقة الأغنياء المحافظة، الخائفة دومًا من تطبيق الديمقراطية بسبب إمكان فرض أغلبية المصوتين، وأكثرهم من المواطنين الفقراء ومن هم دون الطبقة الوسطى مطالبهم، والرافضة بشدة مبدأ تدخل الحكومات لضبط حرية الأسواق من جهة ولضبط توزيع الثروة من جهة أخرى. من هنا نبعت فكرة ضرورة استقلال الاقتصاد والأسواق عن أي تدخل حكومي أو سياسي؛ ذلك أن عدالة السوق بالنسبة لهم تغني عن أية عدالة أخرى، بل وصل الأمر إلى رفض تسمية «الرأسمالية الديمقراطية»؛ لأنها تؤكد ضرورة الترابط المحكم فيما بين نظام السوق الاقتصادي الحر من جهة، ولكن الذي تحكمه وتنظمه وتمنع شططه السياسة المتمثلة بنظام ديمقراطي ليبرالي من جهة أخرى.
ولذا، وبديلًا عن ذلك، اقترح عتاة المناصرين للرأسمالية المنفلتة أن يستبدلوا بتركيبة الديمقراطية الانتخابية الجماهيرية السائدة ديمقراطيةً يقودها رجال الأعمال والمال، أي ديمقراطية النخبة.
لكن مجيء الشيوعية وصعودها السريع في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور أحزاب شيوعية متنامية القوة والنفوذ في معاقل الرأسمالية، وعلى الأخص في بلدان أوربا الغربية، قلب المشهد السابق إلى مشهد توافقي. ويقضي هذا المشهد الجديد بقبول العمال وجود النظام الرأسمالي الديمقراطي، بما فيه الملكية الخاصة والأسواق الحرة المحكومة بضوابط، بشرط وجود حكومات تطبق مبدأ الرعاية الاجتماعية في حقول من مثل الصحة والعمل والتعليم والإسكان، بشرط أن تضمن ارتفاع الأجور سنويًّا، والسماح بوجود نقابات عمالية مستقلة قادرة على الدفاع عن المصالح العمالية بشتى الطرق الضاغطة، بما فيها الإضرابات والمساومات الجماعية السلمية، وتقليص نسبة البطالة إلى ما يقرب من الصفر.
لقد نجحت تلك المعادلة التوافقية عبر الثلاثين سنة التالية بسبب النمو الاقتصادي المتنامي وقدرة الرأسمالية الليبرالية على تقاسم بعض من خيراتها مع العمال، إلى أن بدأ النمو الاقتصادي يتباطأ ابتداءً من السبعينيات بسبب التضخم المالي الكبير، وأصبحت الحكومات غير قادرة على تقديم الرعاية الاجتماعية المعقولة والكافية التي ظنت الجماهير والأحزاب اليسارية أنها أصبحت، قانونًا وعرفًا، حقًّا من حقوق الطبقة العاملة.
انتقال كارثي
هنا، وانطلاقًا من معقلي الرأسمالية المحافظة في إنجلترا والولايات المتحدة الأميركية، انتقلت الرأسمالية الديمقراطية التوافقية إلى وضعها الحالي، وضع الرأسمالية النيوليبرالية العولمية التي تقوم على أسس وممارسات جديدة تحكمها، وتتلخص في الآتي: تقليص دور الدولة في حقلي الاقتصاد والاجتماع إلى أدنى المستويات، وترك إدارتهما وضبطهما إلى قوانين العرض والطلب ومتطلبات الأسواق الحرة المستقلة القادرة على أن تحكم نفسها بنفسها من دون حاجة إلى تدخلات الدولة، وبالتالي، وكنتيجة منطقية، خصخصة الخدمات الاجتماعية والنقل العام وشركات استغلال الثروات الطبيعية العامة، وبالطبع الامتناع عن زيادة الضرائب على الأغنياء، إن لم يكن تخفيضها.
كان الانتقال إلى الرأسمالية النيوليبرالية العولمية كارثيًّا بكل المقاييس. فحرية الأسواق التي قيل: إنها قادرة على ضبط نشاطاتها المالية من الشطط فشلت في أن تفعل ذلك. وكانت النتيجة انفجار أزمات مالية عدة، كانت آخرها وأكبرها أزمة 2008م التي بدأت في الولايات المتحدة الأميركية ثم شملت العالم كله، وما زالت آثارها معنا.
على الرغم من أن تلك الأزمات قد تسببت في تفجرها مؤسسات خاصة كبرى، وأنها كانت أحيانًا نتيجة لمغامرات غير محسوبة، فإن الحكومات اضطرت للتدخل لإنقاذها خوف أن يقود تساقطها إلى إفلاسات ألوف المؤسسات المالية والاقتصادية الصغيرة والمتوسطة الأخرى، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات سياسية وأمنية تؤدي بدورها إلى زوال مجتمعات.
وهكذا أنقذَتها الحكوماتُ من خلال تراكم ديون عامة على الحكومات التي سيتحمل دفعها المواطنون العاديون لسنين طويلة قادمة.
فإذا أضيف إلى ذلك ما قادت إليه هذه الرأسمالية النيوليبرالية من تركز الثروات في أيدي قلة وصلت إلى حدود امتلاك واحد في المئة من سكان الأرض لأكثر من خمسين في المئة من ثروة العالم، وإلى تراجع رهيب في عدد أفراد الطبقة الوسطى ومداخيلها، وإلى تزايد متنامي في عدد فقراء العالم، وإلى تنامي ظاهرة ونسب البطالة، وإلى تراجع في قوة وفاعلية النقابات، وإلى وصول أحزاب اليسار إلى حافَة العجز والانكفاء الانتخابي وصعود الأحزاب اليمينية… إذا أضفنا إلى كل ذلك، كثيرًا من السلبيات، من مثل انتشار وباء الكورونا المفاجئ الذي شل الحياة الاقتصادية الإنتاجية في كل العالم وأفقد الملايين وظائفهم؛ أدركنا سبب الصعود المفاجئ لفكر مراجعة ونقد واتهام الرأسمالية العولمية الحالية وفكرها السياسي النيوليبرالي المُعادي لكثير من القيم، وعلى رأسها قيمة العدالة الاجتماعية والأخلاقية وسلوكيات التعاضد الإنساني.
ولا توجد دلائل على أن توافر المال الرخيص الذي يميز الحاضر، والنمو الاقتصادي المرتبط بوسائل التواصل الإلكتروني ومستجدات تقنية الروبوت والذكاء الاصطناعي ستكون كافية لإصلاح ما دُمّر وتعفن، ولا تدخلات وتوجيهات مؤسسات من مثل البنك الدولي وستكون قادرة على إعادة بناء ما تهدم على مستوى الدول ومستوى العالم. وبالطبع لن ينفع التعويل على النخبة الفائقة الغنى لإنقاذ وإصلاح أوضاع أسهمت في خلقها منذ ثمانينات القرن الماضي، وجنت كل ثمارها، وما زالت تؤمن بمنطلقات رأسمالية متعثرة ومضطربة فكريًّا وقيميًّا. وحتى انتقال الثقل الاقتصادي من معاقله الرأسمالية القديمة إلى معاقل جديدة في آسيا لن يغير الصورة الكالحة التي يعيشها العالم اليوم نتيجة للصراعات والمنافسات المجنونة غير المنضبطة.
عالم يواجه تحديات
والنتيجة لكل ما سبق ذكره أننا الآن، كما يصفه الكاتب الأميركي أشلي سميث، أمام عالم يواجه خمسة تحديات كبرى هي: الركود الاقتصادي، والمنافسة الاستعمارية المجنونة، ودمار ممنهج للبيئة، وهجرة الملايين هربًا من الحروب والصراعات والفقر المدقع، وأوبئة عولمية تقتل الملايين وتخنق الاقتصاد. ولن تكون تلك تحديات مؤقتة وإنما ستتبدل تمظهراتها، في شكل أزمات، حقبة بعد حقبة طالما بقي في العالم ذلك النظام الاقتصادي – السياسي البائس، وطالما حكمت المجتمعات قيادات جاهلة بليدة قليلة الحساسية تجاه العدالة ونبل الفضائل الأخرى.
اليوم يقف المفكرون والمثقفون الملتزمون أمام قول مبهر قاله ماركس منذ نحو قرنين من أن النظام الرأسمالي ينتج حفاري قبره، ثم يسألون: إذن ما العمل؟ وهذا هو السؤال المفصلي المطروح.
هناك كثير من الإجابات، ولكنّ بعضًا من هذه الإجابات لافتة للنظر وتستحق إبرازها؛ وذلك لأنها تمسّ الأعماق وجذور المشكلات، وتنادي بضرورة توجه العالم نحو منعطف اقتصادي وفكري تاريخي جديد، بعد أن خبر عبر قرون عدة نظامًا سابقًا ثبت فشله وأوصلنا إلى الحالة المأساوية التي نواجهها.
من هذه الإجابات مثلًا كتاب: «لماذا الماركسية كانت على حق» للكاتب البريطاني تيري إيغلتون، وهو يساري معتدل، وليس شيوعيًّا متطرفًا يمكن أن يتهم بالهوس الأيديولوجي. من بين أهم استنتاجات كتابه أن ماركس كان من بين أشد المؤمنين بأهمية الفرد وأكثر المتشككين في الأيديولوجية النظرية البحتة، وأنه كان ينشد التعددية وليس النمطية الفكرية الواحدة، وكان شديد الحذر من شطط سلطة الدولة، ورأى أن الاشتراكية هي تعميق للديمقراطية وليست عدوًّا لها، وأن بعض الثورات يمكن أن تكون سلمية وتنجح، وأنه لم يكن من عبدة المادية البحتة، وإنما رأى فيها تناسقًا مع الأفكار الأخلاقية والروحية، وأنه رأى الاشتراكية كوريث لشعارات ومنطلقات الحرية والحقوق المدنية والرفاه المعيشي المادي، وأنه كان من أشد المناصرين للمرأة وحقوقها ونهوضها، وأخيرًا فإنه كان من أشد المعارضين للفاشية والكولونيالية. ويختم الكاتب كتابه بالقول: ومع ذلك لم يعرف العالم مفكرًا هزءًا أكثر من ماركس. ونقول نحن: هل حقًّا الليبرالية والاشتراكية نقيضان لا يلتقيان؟ أم فيهما إمكانيات التفاعل المبدع؟
ومثل عنوان ذلك الكتاب اللافت للنظر يجد الإنسان مثالًا للكاتب الأميركي بوب ستون بعنوان له دلالة: «لماذا الماركسية غير ميتة (لأن الرأسمالية لم تمت بعد): الضرورة للاشتراكية التعاونية». وفي هذا المقال ملحوظات بالغة الأهمية لأسباب فشل التجربة السوفييتية الاشتراكية، وأنها تجاهلت العديد من منطلقات الفكر الماركسي أحيانًا، والعديد من تطبيقاته الاشتراكية أحيانًا أخرى.
ويظهر بوضوح أن هناك محاولة للفصل فيما بين الفكر الذي تمثله الماركسية والنظام الاقتصادي والسياسي الذي تمثله الاشتراكية. وتقدم الاشتراكية لا كصورة متزمتة واحدة وإنما كتجليات تكوينية وتنظيمية متباينة لتأخذ في الحسبان خصوصيات المجتمعات ومستويات تطورها الحضاري. ولأن أدبيات الموضوع كثيرة وبالغة التنوع فإنه من الضروري إفراد مقال آخر لما تقوله تلك الأدبيات بما فيها الأدبيات العربية؛ ذلك أن الرأسمالية الكينزنية الكلاسيكية والرأسمالية العولمية النيوليبرالية قد وصلا إلى طريق مسدود مليء بالأزمات الكارثية؛ وهو ما يستوجب فتح طريق سالك جديد مهما كانت أسماؤه وأنواع حلوله.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق