كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«الماتريوشكا»
هذه هي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة سوار الصبيحي، حتى إنني لم أقرأ لها من قبل قصة واحدة في صحيفة أو مجلة. والماتريوشكا دمية روسية ما إن تفتحها حتى تجد لعبة تشبهها أصغر حجمًا، وهكذا! تلجأ سوار الصبيحي إلى كل ما يلزمها لتبني لنا عالمًا سريًّا أو غامضًا أو مكشوفًا لكثيرين منا، ولكنا لا ننتبه إليه في مشوارنا الحياتي، أو نداريه أو نغطيه خوفًا على أنفسنا من المعرفة. كل ما تقوم به سوار الصبيحي هو الكشف عن هذا الغامض والسري والمكشوف، وهو ما يعني تعريتنا أو مواجهتنا بمرآة ترينا أعماقنا لا ملامحنا الخارجية وحسب.
تختار الكاتبة نماذجها التي نعرفها ونلتقيها ونمر بها ونصادفها دائمًا في حياتنا، ولكننا لا نعرف ما يدور في أعماقها وفي مشوارها؛ بل يمكن القول بثقة عالية: إن هذه الشخوص ذاتها لا تعرف حقيقة ما يدور في أعماقها من أسئلة ورضا وطموح وأمل ووحشة وخوف وغير ذلك. نحن أمام شخوص نكاد نعرفها لأنها قريبة جدًّا منا، بل نشعر بها تتحرك في دواخلنا كما لو أنها جزء منا.
هذه التجربة التي تنقلها لنا الكاتبة من خلال صورة فنية مكثفة، هي التي تضعنا مباشرة أمام أنفسنا، ونبدأ في أثناء القراءة بطرح الأسئلة التي تتداعى بلا توقف: عمن تتحدث الكاتبة في هذه القصص؟ من هؤلاء الناس؟ هل ثمة مشكلات وقضايا وأفكار كهذه موجودة خارجنا من دون أن نعرف؟ وهل كنا كذلك طوال مشوارنا عبر السنين من دون أن ننتبه؟ هل سرقتنا الحياة من وجودنا إلى هذا الحد، كما يحدث مع الموظف في قصة «المنبه»؟ هل كانت خياراتنا ملتبسة كما في قصة «إشارات منتظرة»؟ هل تتوزع رغباتنا وأفكارنا، وتتشتت بحيث يكون أحدنا مشكلًا من ذوات عدة من دون أن يدرك، كما في قصة «الماتريوشكا»؟
تحيلنا هذه القصص إلى الدوافع التي تقف خلف الكتابة نفسها، ونعود إلى السؤال الأبدي: «لماذا نكتب»؟ هل حقًّا نعبر عن قضايا عامة، أم نحن نبوح ببعض ما نتلمسه أحيانًا في أعماقنا من قلق وأسئلة تنبثق عند كل منعطف في الحياة؟ هل كان فلوبير يعبر عن قضية عامة عبر شخصية إيما بوفاري وهي تركل حياة مستقرة وتركض خلف حياة صاخبة ومغايرة؟ أليست المرأة هنا في قصة «إشارات منتظرة» صورة من صور إيما بوفاري، حتى لو لم تفعل ما فعلته إيما نفسه؟ إنها تحمل في داخلها ذلك الرفض نفسه لاستقرار يبدو أليفا وربما يشكل طموحًا قبل الوصول إليه، لكنها تنفجر في لحظة عشوائية ربما، لكي تعبر لزوجها عما في داخلها تجاهه وتجاه هذه الحياة التي تعيشها. إنها تنتقد بقسوة خيارها الأول القائم بالموافقة على الزواج من هذا الرجل، ثم توغل في الكشف عما أخفته في أعماقها من رفض لكل ما يقترن به. ألم تقل آنا مثل هذا الكلام لزوجها أليكسي كارينين حين علم بارتباطها حبًّا برجل آخر؟ ما الذي سيحصل عليه الموظف المتفاني في وظيفته حد الإفراط ونسيان كل ما عداها؟ ألم يصل المحترم عند نجيب محفوظ إلى مقعد مدير المؤسسة بعد أن نسي حياته بكل تفاصيلها؟ بلى، فقد حصل على الترقية وهو يستلقي على فراش الموت!
حدث عابر
تحتاج الكاتبة هنا إلى حدث عابر أو واقعة عادية مما نمرّ بها كل يوم، لكي تشكل هذه الواقعة قطرة الماء الأخيرة التي تجعل الكأس تفيض. هكذا تتمكن من استخدام مفردات الحياة اليومية التي لا تشكل في حد ذاتها أمرًا لافتًا. فما اللافت في قراءة الجارة لفنجان قهوة امرأة؟ إنه حدث يجري كل يوم وفي كل مكان ومع شخوص حقيقيين، ولكن الكاتبة تتمكن من استخدامه صاعقًا لتفجير أعماق شخص يعيش حياته كابتًا مشاعره الحقيقية بلا سبب سوى مجاراة المجتمع وعاداته وتقاليده.
وبمقدار ما نفاجأ بالتفاصيل العادية التي تتمكن الكاتبة من تنسيقها واستخدامها، فإننا لا نستطيع تهميش التقنية الفنية التي تجيد توظيفها، ولعل أبرز ما تعتمده الكاتبة هنا هي المفارقة التي يتحدث عنها الكثيرون. إنها السمة الأبرز في هذه القصص؛ فبينما تلجأ قارئة الفنجان للاعتراف للمرأة أن الفنجان لم يكن فنجانها، ونتوقع نحن منحنى آخر للوقائع والأفكار بالنسبة للمرأة التي تبدو كأنها انزلقت في مصارحتها للزوج بمكنونات نفسها، فإننا على العكس تمامًا «وهي مفارقة ثانية» نكتشف أن المرأة كانت تعرف أن الفنجان ليس لها. إنها ضربة معلم إن جاز التعبير، حيث تشكل قراءة الفنجان «الخطأ» مبررًا وهميًّا للمرأة ليس إلا.
إن عزيزة لا تفعل شيئًا حين تأتي إلى البلدة كل يوم سبت؛ إنها فقط تقرأ الكف للنسوة وتمنحهن الأمل في تغيير المستقبل الذي يبدو لهن راكدًا ومعروفًا تمامًا قبل عزيزة.. إنه مستقبل قائم على بنية الحاضر الذي يعشنه بكل ما فيه من روتين وسطوة ذكورية، وكدر يومي في العائلات وبين الأزواج. كل ما يغير مشاعر النسوة هو هذا الأمل الذي تمثله عزيزة، لا بقراءتها الكف فقط، وإنما بشكلها ولباسها وأصباغ وجهها كغجرية نمطية. وهو ما يهدئ الرجال أنفسهم كذلك، وخصوصًا حين يعيشون هدوءًا مميزًا في هذا اليوم. ولذلك فإن اختفاءها يشكل صدمة للجميع في البلدة؛ لقد اختفى الأمل واختفت الفرحة التي يثيرها رنين الأساور والأقراط وبريق الأصباغ.
وبالعودة إلى المفارقة، فإننا نلمح هنا مفارقة في عنان القصة الذي هو «خطوة عزيزة» وهي جملة معروفة في اللهجة المصرية تنطوي على ترحيب بالقادم، وهو ما ينطبق على القصة هنا. كما أن العنوان يمكن أن يُقرأ هكذا «خطوة -البنت- عزيزة. هل تعود البلدة مثلما كانت؟ نشعر أن المرارة تكبر، ونتلمس بعض المخاوف عند الرجال. هل أدركوا أن عزيزة عرفت بعض أسرارهم كما حدث مع أهل بلدة يوسف إدريس في قصته «الشيخ شيخة»؟
خطوط حياتنا
ما الذي تريه لنا هذه المرايا؟ قراءة الكف وفنجان القهوة؟ إنها خطوط حياتنا التي نعيشها ولا ننتبه لتفاصيلها. إنها أفكارنا التي كلما أطلت برأسها في يومياتنا نقوم بطمسها بأي فعل نمطي لكي نستمر في حيواتنا من دون تلك الزوابع التي قد تثيرها الأجوبة. أحيانًا نخفي وأحيانًا نقمع تلك الأفكار. وأحيانًا تخدعنا الملامح الخارجية فنتخذ قراراتنا بناءً على هذا الخداع. لقد ظلت الأخت الكبرى تواظب على مراقبة الجار واهتمامه بنبتة دون غيرها في باحة منزله كما هي الحال في قصة «في الظل». وقد يصح أن نتساءل في النهاية عن ماهية من هم في الظل؛ هل هم في الظل حقًّا كما نظن ونعتقد، أم إن المظهر الخارجي كان مخاتلًا فخدعنا؟ هل الأخت الكبرى في الظل طالما كان اهتمام الأم منصبًّا على الأخت الصغرى؟ لقد اكتشفت أن اهتمام الجار بالنبتة التي ظنتها أثيرة لديه، يعود لحاجتها إلى رعايته أكثر من سواها من نباتاته، وبخاصة تلك الكبيرة والعتيقة التي لا تحتاج إلى كل هذه العناية؛ لأنها كبرت وضربت جذورها في الأرض عميقًا ولم تعد بحاجة إلى رعايته كتلك النبتة الجديدة التي تتعبه وتأخذ كثيرًا من وقته للحفاظ عليها.
ثمة كثير من الأفكار التي تبرز بعد قراءة هذه القصص، ولكن ما هو أكثر أهمية من ذلك، هو قدرة الكاتبة على تطويع الوقائع العادية لتصوغ منها بنية فنية حية، قادرة على إثارتنا ولفت انتباهنا لما هو تحت القشرة الخارجية لنمط الحياة اليومية التي نحياها، ونخشى على أنفسنا من منعطفات حادة قد تكون زلقة أو تودي بنا إلى مسارات مغايرة نحتاج وقتًا طويلًا للتأقلم معها، وإقناع أنفسنا والآخرين بها.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق