كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
فانون و«عقلانية الانتفاضة»
تكتسي فكرة فانون المتمثلة في أن قياس الزمن ليس هو قياس اللحظة الراهنة نفسها، إنما هو ما يعبِّر عن حال بقيّة العالم، أهميةً بالغةً ومُلحَّة في ظلّ اعتلال المناخ غداة تفشّي الجائحة العالمية. إننا نجتاز أوقاتًا غير عادية، أوقاتًا ندرك فيها تمامًا شدَّة ما أسماه المفكِّر السياسي فرانز فانون «وهج أضواء التاريخ الكاشِفَة». لقد مكَّنت هذه الجائحة، في جميع أنحاء العالم، من تسليط ضوءٍ جديد على أوجه تفاوتٍ ليست بجديدة، فمن الولايات المتحدة إلى البرازيل وصولًا إلى جنوب إفريقيا، تَجدُ الذين تعرَّضوا للخطرِ الداهم هم أولئك الموجودون في الخطوط الأمامية للتكفُّل بمن يحتاجون إلى رعاية صحية خاصة.
على إثر ذلك ظهر التمرّد؛ تمرّدٌ كان مذهلًا في حجمه وسرعة انتشاره ضد عنف الشرطة بدءًا من ولاية مينيسوتا ليتوسّع إلى مناطق الولايات المتحدة، وبعدها إلى أجزاءٍ أخرى من العالم. وذلك ما أرجع إلى أذهان كثيرين مقولة لينين «هناك أسابيع يحدث فيها ما يحدث في عقود».
إن التفكير في تلك اللحظة رَفَاقَةَ فانون يحتاج منا أن نكون على درايةٍ بالاستمراريات والانقطاعات -أو العتمة مثلما يصفها- بين العصور. فلا يزال فانون يتحدّث إلينا باستمرار، غير أن حديثه في غالب الأحيان يكون بطرقٍ لا يتأتَّى لنا سماعها؛ لذلك، فإنه لَيَتَحَتَّم علينا أن نجتهد في الاستماع إليه، وأن نفهم السياقات والمعاني الجديدة الكامنة في جوف تلك العتمة النسبية. فهذا الحوار المستمرِّ هو الذي يخوّلنا الإمكانية في تسليط الضوء على الحاضر، ويخوّلنا على مرّ الوقت تلبية نداء فانون في خاتمة كتابه «معذبو الأرض» بضرورة العمل على استخلاص مفاهيم جديدة.
ومن بين المفاهيم الأساسية في فكر فانون نذكر فكرة «عقلانية الانتفاضة» التي شرحها في الفصل الرابع المعنون بـ«الطب والاستعمار» من كتابه «احتضار الاستعمار». وكان فانون قد أنجز عمله من طريق الإصغاء إلى الأعراض السمعية التي يجسُّها في المستشفى والإصغاء إلى المقاومة اليومية لدى الأفراد في كدح الحياة اليومية، فتجده يقول: «يجب علينا أن نقوم بتحليل كل ردَّةٍ من ردَّات الفعل لدى الرجل المستعمَر بأناةٍ وبتبصُّر أيضًا. وفي كل مرة يستعصي فيها الفهم، يجب أن نقول لأنفسنا بأننا في قلب المأساة، مأساة استحالة العثور على أرضية تتيح الالتقاء مع أيّ وضعٍ استعماريٍّ». وبمعنى آخر، إن الفهم يقتضي، فضلًا عن الإصغاء الجيد والنقدي، الحرصَ على الإلمام بالمعنى والسياق […] وبذلك راح فانون، ميلًا إلى الناحية السياسية، يُصِرُّ على طريقة التأمُّل الذاتي النقدي الذي يفتح باب الإصغاء (الاستماع) بوصفه خطوةً أولى نحو الفهم. فانطلاقًا من قاعدة العمل هذه مع أولئك الذين يُعدُّون خارج التاريخ والعقلانية، ستَلِج المفاهيم الجديدة مجالًا تَجد فيه أسباب تطويرها.
وآيةُ ذلك أن عملية الفهم تقتضي في الوقت ذاتِه الإصغاءَ النقدي وتطوير مفاهيم جديدة انطلاقًا مما سُمِعَ، وكل عنصرٍ منهما يبقى مرتبطًا بالآخر. وبالرجوع إلى كتاب «معذبو الأرض»، فإن هذا الطَّرح نجده متأصِّلًا في فكرة «عقلانية الانتفاضة» التي تعلن عن بدايةٍ جديدة تستضيف الفعل والفكر معًا. وهو ما دفع فانون إلى أن يضيف في الحال انتقاداتٍ موجَّهة إلى القيادة القديمة والسياسات القديمة التي تسعى إلى كتم التفكير وراء سلسلةٍ من المطالب الإصلاحية التي شيَّدتها المفاهيم القديمة.
«وبخلاف أتباع الحركة الذين يميلون إلى الاعتقاد أن [الفروق الدقيقة و] ظلال المعاني تثير أخطارًا وتُحدث شرخًا في طبقة الرأي العام الصلبة»؛ إذ إن الفكرة تأخذ بأسباب الحياة وتصبح عندئذٍ المبادئ «متبلورة» في درب الكفاح من أجل الحرية. إنه الشكل الجديد للنشاط السياسي الذي يعتمد على فعلٍ حقيقيٍّ هو «العيش داخل التاريخ» حيث «يأخذ الناس، كما أضاف يقول، زمام المبادرة بكل ما أوتوا من قوة العقل والعضلات في مسيرة كفاحهم من أجل الحرية».
وبذلك، فإن هذا التفكير النقدي يدفع المثقَّفين الثَّوريين إلى المُثابرة في العمل حتى تَبلغ الحركة تنويرها الذاتي. إضافة إلى أنه يساعدنا على إثراء ما تكشفه الحركة ذاتها. وعلى حدّ تعبير فانون، فإن هذه «الجوانب غير المتوقَّعة… تُبرز معاني جديدة وتكشف التناقضات التي تُخفيها هذه الحقائق». وفي الواقع، إن اشتغال فانون بالجوانب غير المتوقَّعة هو ما خوَّل لمناقشته أن تكتسب شكل فئة ديناميكية[…] .
الزمن
[…] إذا ظل المكان يشكّل عنصرًا جوهريًّا في تحليلات فانون، فإن للزمن هو الآخر أهميَّةً جوهريَّةً لا تقلُّ عن المكان، فنجده في كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» يقول بأن «المُشكلة التي تُبحَثُ هنا هي مشكلةٌ زمنيةٌ». ويرفضُ فانون عَدَّ الزمن الحاضر زمَنًا نهائيًّا، فتراه يبحث عن مفاهيم المستقبل في الزمن الحاضر، أو كما عبَّر عن ذلك بشكلٍ رائع حيث قال: الثورة الجزائرية «لم تعُدْ في جنَّة المُستقبل» بل في الأفعال الراديكالية وفي وعيِ الشَّعب. وبذلك نجد أن فكرة الزمن المستقبلي في الحاضر تتشابه مع وصف كارل ماركس للزمن الذي يراه أنه «مساحةٌ للتطوُّر البشري».
يفسّر فانون في كتابه «احتضار الاستعمار» الحَدثَ بأنه انفتاحٌ على الزمن التاريخي، الزمن الذي يصير فيه المُضطهدون فاعلين تاريخيِّين، ويستحيل المستقبل على حين غرَّة إلى موضوعِ رفضٍ. ]… [يبدأ تاريخ الانتفاضة لدى فانون في 1 نوفمبر 1954م، اليوم الذي شنَّت فيه جبهة التحرير الوطني في الجزائر عددًا من الهجمات ضدَّ القوات الاستعمارية الفرنسية. أما فانون، فكان ذلك له إعلانًا استثنائيًّا عن المقاصد خَالَف كلَّ التوقُّعات، وأدَّى إلى تغييرٍ جذريٍّ في الوعي بين الجماهير المستعمَرة.
ومن الواضح كذلك أن العفوية التي تطبع الأفعال الشعبية ليست مجرّد عفوية فحسب، بل هي حصيلة تفكيرٍ وتنظيمٍ مستمرَّيْن. عندما راح المتظاهرون في بريستول بإنجلترا ينتَزعون تمثال تاجرِ الرقيق إدوارد كولوستون ويرمُونه في ذلك المرفأ نفسه الذي كانت ترسو فيه سفن نقل العبيد التي كان يمتلكها السيد كولوستون، فذلك تعبيرٌ صريحٌ عن فكر عقلانية الانتفاضة التي توحي بعالمٍ مختلفٍ. وكذلك، إن تشويه المتظاهرين تماثيل «الأبطال القوميين»، أمثال: جورج واشنطن في الولايات المتحدة، ووينستون تشرشل في المملكة المتحدة، يُعبِّر عن لحظة إزالة الاستعمار التي تُذكّرنا بما كتبه فانون في الصفحات الافتتاحية من كتابه «مُعذَّبو الأرض».
في ذلك الكتاب، يتحدث فانون عن مصطلحين مغايرين للزمن والكرامة؛ أحدهما يتطابق تمامًا مع تصوّر الحياة البشرية، بينما يتطابق الآخر مع أنْسَنَة الفرد وتنشئته الاجتماعية. يقول فانون في الفصل المعنون بـ«نقد الانزلاق القومي»: «ليس معيار قياس الزمن هو اللحظة الراهنة أو تلك اللحظة التي تمتدُّ إلى غاية ما سنقطفه من جني في المرة المقبلة، بل من الضروري أن يكون الزمن متَّصلًا بحال بقيَّة العالم»، وتجد فانون يربط الزمن توًّا بما يعرف «بأنسنة العمل». لقد بدَت فكرته عن «بقية العالم» اليوم تكتسي أهمية عالمية ومُلحَّة في ظل هذه اللحظة التي تعرِف فساد المناخ وتفشي الجائحة.
إنه مصطلحٌ للزمن متحرِّر من القيود الاستعمارية المضروبة على الإمكان، ومن الزمن الرأسمالي الذي يطغى عليه العمل الميِّت. إنه زمنٌ يبقى على العكس من كل ذلك مرتبطًا بالحياة وبتقرير المصير، وبالتطور الذي تشهده الذاتية التاريخية بفضل الصراع. بَيْدَ أن في كل ذلك ليس هناك مجال للتلقائية. وكذلك فإن مصطلح الزمن لدى فانون يبقى يتأثر غاية التأثر بالحالة النفسية التي يجد الناس أنفسهم فيها، بما في ذلك وزن الصدمة الجماعية وآفاق الصحة المستقبلية التي لا تُكشف بالكامل إلا بمرور الزمن. إنه يدرك أن مسار أعداد أشخاص فاعلين ومتحرِّرين من الدُّونيَّة المتجذِّرة في نفسياتهم يتطلَّب مدة من الزمن، وتراه يصرّ على أنه لا توجد عملية سحرية، ولا قائد، ولا غيره ممن سيحقق لنا ذلك.
وبطريقةٍ ما، يمكن القول بأن طريقة قياس الزمن هذه هي صدى لفكرة ماركس عن الزمن وطريقة نقده للاستغلال التجاري الرأسمالي وإهمال الزمن البشري. فما هو الزمن المناسب للرأسمالية: أليس هو تلك الفرصة في تحقيق الربح لا غير؟ ولذلك نجد ماركس في كتابه «أسس نقد الاقتصاد السياسي»، قد طوَّع ذلك الصراع بين الزمن والعمل (القسريّ والحرّ)؛ ليتمكَّن من صياغة فهمٍ لمصطلحٍ مغاير تمامًا ومرنٍ لزمن العمل.
لقد انبرى ماركس يكتب، في شيءٍ من الابتهاج، عن مقال نُشر في صحيفة The Times of London حول صرخة غاضبة لمالك مزرعة من غرب الهند بشأن السود الأحرار في جامايكا الذين يُنتجون «فقط ما هو ضروريٌّ جدًّا لاستهلاكهم الخاص، و… كيف أنهم لا يكترثون بتاتًا لإنتاج السكر أو رأس المال الثابت المُستثمَر في المزارع، بل تراهم ينظرون إلى الإفلاس المحدق بالمزارعين وعلى وجوههم ابتسامة ساخرة مليئة بمتعة خبيثة… لقد كَفُّوا عن أن يكونوا عبيدًا»، ثم قال ماركس: «لكن ليس من أجل أن يصبحوا عبيدًا مأجورين… كما كان يُنظر إليهم على مرّ الزمن…. فلا وجود لرأس المال لأنه رأسمال؛ لأن الثروة الذاتية على هذا النحو لا يمكن أن توجَد إلا على أساس العمل القسريّ المباشر، أو العبودية، أو قوة العمل غير المباشرة، والعمل المأجور».
إعادة التفكير في كل شيء
يذهب فانون إلى إحكام معنًى أساسيٍّ عن الحركة يظهر منفتحًا على المستقبل، وذلك من خلال طرح أخذ شكل الأسلوب النقدي والمساءلة حول الممارسة العملية، فتراه يختم كتابه الأول «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» بهذا الدعاء: «آه يا جسدي، اجعلني دومًا إنسانًا يسأل!».
في نصِّه الأخير من كتاب «معذبو الأرض» نلفي هناك سؤالًا جذريًّا ينبع من عمق الحركة الثورية: «ربما يكون من الضروري أن نعيد التفكير في كل شيء» كتب يقول. فكان بذلك يربط مفهومه عن المستقبل بوصفه «إنسانية لا حدود لها» بأسلوبٍ جديد في الحياة. بل إنه يُطلعنا أكثر من ذلك على بعدٍ بيئيّ أساسيّ لحياة الإنسان وكرامته. […]
ولكن، حول ماذا يدور الصراع فعلًا؟ إنه المسعى من أجل بلوغ إنسانية جديدة قائمة على تقرير المصير، واجتثاث العلاقات الاجتماعية المُستلَبة لمجتمع عنصريّ ومستعمَر. ويضيف فانون: «إذا لم تُعدَّل ظروف العمل، فسنكون بحاجة إلى قرون لإضفاء الإنسانية على هذا العالم الذي أجبرته القوى الإمبريالية على النزول إلى مستوى الحيوان». إنه يتحدث عن أشكال العمل القسري المُسمَّاة حرية في الرأسمالية النيوليبرالية والاستعمارية الجديدة التي تهلك الحياة والبيئات. في حقيقة الأمر، وإننا لَنَعلَم جيّدًا أنه لم يعُدْ في وسعنا الانتظار لقرون، فالوقت بدأ الآن.
العنوان الأصلي للمقال:
Nigel C Gibson, «Fanon and the ‘rationality of revolt’», New Frame: 4 Aug 2020. https://www.newframe.com/fanon-and-the-rationality-of-revolt/
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق