كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المهرب النائم كل الصحراء فراشه
عندما دخلت ليلته الأولى في الموقع الجديد، هيأ لنفسه مفرشًا بين الخيمة والعُنّة، ووجد الأرض لينة تحت جسده الضخم، وأحس بنسيم الليل يشده برفق إلى الطبيعة ويصله بالمهاب النائمة في تلك اللحظة، وكأنه يضطجع في كل الصحراء وليس فقط على فراشه. ولفرط إحساسه بالخلوة خيل إليه أنه ممسوس برقة الفراشات، فهو كل شيء فاتنٍ لكنه قابل للكسر، وهو من الرهافة بحيث تحمله نثار البذور من شجرة إلى شجرة في طول البرية وعرضها، فيضع في كل شجرة شيئًا منه للغد. وبينما هو مستلقٍ على ظهره، راقه التفكير في أن يكون هو النداوة التي في الريح، وأنه عندئذٍ أصبح قديمًا جدًّا، فإذا هو مع الريح يقطع مسافة طويلة من المرور على الأشياء، حتى إذا استنفد نفسه بعد زمن طويل وقع على الأرض كما يقع الغبار، لا ضجيج ولا رجيف ولا زلزلة.
كثافة الصمت في هذا المكان وجدها من النوع الذي لم يجربه منذ زمن طويل، لكنه يتذكره جيدًا في شبابه. كثيرًا ما كان ينام في خلاء مقفر من الأصوات إلا أصوات كائنات البر، لكن حتى أولئك الكائنات كانت منهمكة في شؤونها ولم تعره انتباهًا. هذا هو القرب من الأشياء الذي يحلم به منذ عقود، القرب الذي لا يفتته في الأشياء وإنما يبقيه معها دون أن يفقد شعوره بذاته وإحساسه بجسده. أن يسمع تعرقات أذنه إذا دفنها في الوسادة، وأن يتناهى إلى سمعه صوت ما تبقى من عشاء تلتهمه نملة. طالما شعر أنه جزء مهم مفقود في الطبيعة، وأنه لا يعرف مكانًا حقيقيًّا ينتمي إليه سوى مكانه هذا، لكنه حينما وصل إليه، حين بلغ الصحراء، كان في الثمانين. وها هو الآن يحاول النوم كمن يحاول النوم بثمانين عامًا من الانفصال عن الطبيعة.
وقد تكون هذه الليلة ليلته الأخيرة، لكنه بالرغم من ذلك يجب أن يتأمل السماء مثل فلكي، وعليه أن يعيش لحظاته مسافرًا أبديًّا في عمر النجوم. وتنهد عميقًا، ووضع ظهر يده اليمنى على جبهته وهو ينقّل بصره من موقع إلى موقع آخر في السماء الرحبة، غير غافل عن إبهامه الذي راح يرتخي إلى أسفل، جهة عينه اليسرى، مشكلًا نتوءًا لا لزوم له، لكنه موجود. النتوء موجود. إذًا، هل هذا هو حاله في هذا العمر؟ سأل نفسه وبصره ينتهي موقتًا عند النجوم في درب التبانة. هل هو نتوء لا لزوم له يعترض مسار شيء آخر؟ ما ذلك الشيء؟ هل هو زوجاته؟ أولاده وبناته؟ جماعته؟ الحي الشعبي كله؟ المدينة التي ينتمي إليها؟ هل هو نتوء مفرد في وطنه؟ أم إن وطنه هو النتوء الذي يعيش فيه؟ هل هو نتوء التصور عن الصورة؟ أم هو نتوء الشيء في الشيء نفسه؟ شبّاب في شبّاب؟ ومن عمق السماء هوى بصره إلى الأشجار القريبة الواقعة عن يساره. شجرة، شجرتان، ثلاث، أربع، وراح بصره يغوص في الليل حتى آخر شجره تمكن من رؤيتها. لو كان هناك، وراء تلك الشجرة الأخيرة، رجل مقعٍ على الأرض يحدق فيه، لما رآه. أو ذئب يتشهى وجبة. أو لص متحفز. أو حفرة عميقة تنتظر حصتها من الإنسان والحيوان منذ زمن بعيد. لو كان هناك أفعى تتربص. لو كان هناك، وراء آخر شجرة، شيء لا يعرفه على الإطلاق ولكنه موجود ويلزمه وقت لكي يظهر نفسه فيراه.
في عامه الخامس والعشرين، حدث له شيء من هذا في إحدى الفلوات، وكان ينتظر أحد رفاقه الذي غاب طويلًا في الليل والصحراء. فجأة، ظهر من وراء آخر شجرة شبح بين الإنسان والحيوان لكنه لم يتحرك لوهلة بل بقي ثابتًا في مكانه. لف شبابًا خوف وحذر، وامتدت يده إلى درج السيارة فأخرجت مسدسًا ملقمًا بالرصاص وراح يتأهب للحظة الفاصلة. خشي أن يسلط عليه الضوء فيخبر الضوء عن وجوده في الليل المتكسر من حوله فقرر أن يبقى مستورًا به على أن ينفضح فيه.
بعد ثوانٍ تحرك ذلك الشبح باتجاهه، وكان يخطو ببطء واضح وكان يتمايل في مشيته. بعد خطوات، بان قليلًا فتبين لشبّاب أنه إنسان، وكان رأسه حاسرًا، ويمسك بيده اليمنى عضد يده اليسرى في أثناء مشيه البطيء. وضع شبّاب سبابته على الزناد، وضغط على نفسه بالتزام الصبر والحكمة، ثم لما اقترب منه ذلك الشخص من جهة نافذة باب السائق غلب على ظنه أنه في مأزق وأنه يبحث عن مساعدة. بيد أنه لم يثق في ظنه، لذلك صوب المسدس ناحيته بالقرب من الباب، ثم أرخى زجاج الباب قليلًا متوقعًا أسوأ المواجهات. لكن المفاجئ أن المواجهة الأسوأ لم تقع، بل فتح شبّاب الباب بسرعة، مترجلًا من المقعد، ولامست قدماه الأرض وهو يقول بصوت خفيض: عناد.
يتذكر شبّاب تلك القصة، وهو على فراشه، وقد مست شفتيه ابتسامة طفيفة، مستعيدًا طرافة الموقف ووقع المفاجأة. كان عناد هو صديقه الذي وقف ينتظره في ذلك المكان. قبضت الدورية على سيارته وهرب هو وقد أصيب بجرح في عضده الأيسر من رصاصة لم تتمكن منه. لذلك يعتقد شبّاب، على شيء من القناعة والتوجس، أن وراء كل آخر شجرة شيئًا ما ليس طبيعيًّا. لذلك، احتفظ بذات المسدس كل هذه المدة الطويلة، وها هو الآن يضعه تحت وسادته محشوًّا بذخيرته. لم يستخدمه لأمر جدي قط، غيّر الرصاص كثيرًا منعًا لفساده بسبب طول العهد، وتعددت صيانة المسدس، واستخدمه مرارًا في التمرين على التصويب. هذا كل شيء. يقول: إن المسدس «خوي» لا يخون، لكن ينبغي الحذر من دفعه إلى معركة لست واثقًا من مبررها ونتيجتها.
وفيما هو يتنفس بهدوء دون تغيير لوضعيه جسده أحس بثقل طفيف يتسلق قدمه اليمنى باتجاه أصابعها، أرجل ناعمة الوخز بطيئة الحركة تجرب صعود قدمه المستندة على العقب. سمح للزائر بالتقدم دون أن يعلم ما هو، لكنه يعتقد أنه أحد عناكب الأرض طويلة الأرجل يبحث عن عشاء، أو عن مهجع في أعلى القدم. لما وصل إلى منطقة الأصابع جمد في مكانه بضع ثوانٍ، ثم واصل التقدم محددًا مسارًا واضحًا توقع شبّاب أن يكون الهدف هو الفرجة الكائنة بين الإصبع الكبيرة والتي تليها. إذًا، هو يبحث عن مهجع، إذ من المستحيل أن يجد هناك شيئًا يأكله إلا إذا كانت قشور الأصابع تصلح أن توصف بالعشاء.
وتوقع أن انحشاره غير الصعب في الفرجة قد يشجعه على الكمون حتى الصباح. لكن ذلك سيقيد حركة شبّاب بصورة جزئية، وبالذات في منطقة القدم المطروقة. ذلك هو معنى الأسر الهزيل الذي لا يمكن وصفه سوى أنه ورطة عارضة وحسب، على الرغم من ذلك فليس هناك سبب يدعو إلى تقويضه. وفكر، هناك أشياء في الحياة نتعايش معها في مكان واحد لكنا لا نشعر تجاهها بحب أو بكره كالحشرات غير السامة، وهناك أشياء نخاف منها كالعقارب والأفاعي ولذلك نكرهها، وهناك أشياء نتجنب الاقتراب منها خوفًا عليها من الإيذاء والموت كالفراشات والنحل. قال شبّاب لنفسه في تلك اللحظة: هذه أمور يجب أن تضعها في الحسبان ما دمت في هذا المكان. وقال لنفسه وهو ينتظر الحركة الأخيرة من ذلك الشيء الذي اقترب كثيرًا من إصبع قدمه الكبير: إن أفضل ما يمكن أن تفعله هنا لتعيش بهدوء وسلام مع كل هذه الكائنات هو أن تلغي إلى حد بعيد رغبتك في إلحاق الضرر بشركائك على هذه الأرض. لا تقتل عنكبوتًا ولا سرعوفًا ولا عقربًا ولا أفعى، ولا تقتل ما زحف على بطنه وما درج على أرجله، ولا تقتل ذا جناح ولا تسفك دم ما له ناب أو برثن إلا في حال النجاة بالنفس.
وصل ذلك الشيء إلى الفجوة بين الأصبعين، وقدر شبّاب من حركة الزائر الليلي أنه تمكن من الاستحواذ على الموضع، لكنه لم يتوقف عن الاحتكاك بالأصبعين على نحو يوحي بعدم شعوره بالراحة. إن كان ذلك كذلك فهو ليس وحده في هذا الشأن، شبّاب أيضًا يشعر بقلة الارتياح لهذا المتطفل الغريب. لقد جعله يترك استمتاعه بالمكان وينصرف عن تأملاته ويوجه تفكيره إلى حركته وماهيته وأين وصل. لم يشعر بالراحة لأن أي حركة غريبة عند الأقدام عادة ما تثير القلق والفضول معًا، وقد تعلم من مناماته في الصحراء إبان التهريب أن كل دبيب واخز يحس به الجسد ينطوي على خطرٍ ما، من العقربان إلى العقرب، وكل مس للجسد في لحظة سكونه يوجب الحذر والتصرف بحكمه، الأفعى والأفعوان.
هجع القطيع في العُنّة أو كاد، ومن مكان بعيد بعض الشيء سمع ضباح ثعلب يتردد في الليل، مرة يقترب ومرة يبتعد، ضباح متقطع يحتمل الحزن أو الوحدة. مس شبّابًا طرب لذيذ من صوت الضباح وتمنى ألا يتوقف الثعلب عن النداء. ما الذي يشغله في هذه اللحظة سوى التسمع للأصوات وأن يحس بمراقبة حركة الكائنات الصغيرة التي تنشط في الليل. وذلك الثعلب الحزين أو الوحيد جزء من مكمنه البري في التسمع والإحساس والبحث. الثعالب ينادي بعضها بعضًا في الظلام، إما للتزاوج أو ليتفقد القطيع بعضه بعضًا في المنطقة الواحدة.
وبما أنها تتميز بحاسة سمع قوية جدًّا، كما سمع، قدّر شبّاب أن النداء وصل إلى كل ثعلب حي في تلك الجهة وعما قريب سيجتمع الإلف مع إلفه ولا بأس أن تناديه أيضًا في هذه اللحظة. إنه ثعلب هرم فقد العشرة منذ زمن وفقد ضباحه الخاص ويتوق إلى العيش مع قطيع يقبله. لم يكن يهزل وإنما فكر في هذا الأمر بجدية، العيش مع الثعالب ليس امرأ سيئًا على الإطلاق بل سيقبل منها أن تعلمه الدهاء وهو ما ظل ينقصه طوال حياته. الاستمرار في الحياة بكرامة ورفعة يحتاج إلى دهاء وليس فقط إلى صبر وشيء من الأمل. أن يكون المرء ثعلبًا يدفع الأمور بالحيلة خير من أن يكون حمارًا يقع في الخطأ في موقف مماثل. الثعلب يستطيع أن يتظاهر بالموت عندما يقع في ورطة لا فكاك منها إلا بهذه الطريقة، وحين يذهب الخطر يعود حيًّا فيهرب. يستطيع بحيلة من حيله أن يضلل الكلاب التي تطارده.
لقد رأى ذلك بعينيه في برية يقيم بها بدو يربون مع الغنم والمعز دجاجًا في طرف إحدى القرى، إذ تسلل ثعلب يريد قن الدجاج لكن الكلاب تنبهت له فاضطر إلى الهرب غير بعيد منها، ثم اختفى وراء صخرة فتجاوزته الكلاب ظنًّا منها أنه يجري أمامها، ولما ابتعدت منه ظهر لها من تحت الصخرة، فعادت إليه بأقصى سرعة لكنه اختفى عنها وراء الصخرة من الجهة الثانية ولم تتوقف الكلاب عند الصخرة بل واصلت الركض باتجاه البيوت وكأنها تراه يركض أمامها… واستمرت مناورته ثلاثًا أو أربع مرات دون أن يفهم شبّاب لماذا فعل ذلك بكلاب على ذلك القدر من الغباء.
لكنه اعترف بأنها طريقة مبتكرة في إذلال الخصم وإنهاك قواه دون أن يتطلب الأمر مواجهة مباشرة معه. هذا من الدهاء الضروري للإنسان… يقرر شبّاب هامسًا لنفسه. لكنه الآن ليس لديه من القدرة والوقت ما يجعله مستعدًّا لمعارك الدهاء وإنما ما يريده هو أن يحتفظ بقدر جيد منه لئلا يموت بدونه. ولئن نأت الثعالب الهرمة عن العراك المباشر مع أعدائها فإنها لا تتخلى عن دهائها حتى في وجارها، فقد يدهمها الموت أو الخطر وهي جاثمة في مأمنها.
فصل من رواية جديدة تحمل عنوان: «المُهَرِّب».
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق