كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حُب من النظرة الثالثة
1
ليس من نظرة أولى خاطفة، بل من النظرة الثالثة أو الرابعة؛ إذ حدث أن قلبه خفق لبائعة مليحة امتلكت فؤاده وتعلّق بها، وكلما رآها اضطرب كيانه، وتمنى لو أن اللقاء العابر بها يمتد ويطول، لكن اللقاء وبحكم الظروف يتم بتره ولا يطول، وهو ما يزيد الرجل اشتعالًا. لقد وقع بلا مراء في الحب، ولا يملك الخروج منه، وتوخيًا للدقة وبسبب كثرة التقديرات والافتراضات المتعلقة بمدى وقوع أشخاص في الوَلَه والغرام، ومن أجل التعيين والتحديد، فقد وقع هذا الرجل في الحب بنسبة لا تقل عن 88% من التعلق العاطفي، وهذه نسبة مرتفعة.
فيما واظبت هي على مبادلته عبارات قليلة حول موضوعات روتينية بنت لحظتها، وبنبرة لطيفة لا يغشاها انفعال ومشفوعة بابتسامة جذلى، إلا أن لغة عينيها ظلت تشي بالمكنون، بأنها وقعت بدورها في الحب، في حبه، وأن الأمر يروق لها ويُبهج أعطافها، وبنسبة تنامت لديها حتى ناهزت 79% إلى ذلك الوقت.. الوقت الذي تم فيه تبادل نظرات دقيقة ولهى بينهما، وللمرة الرابعة في غضون بضعة أسابيع.
غير أن ثمة ما يكتنف حكايتهما، كما في سائر قصص الحب (سُمّيت قصصًا لأن أصحابها يصادفون مشكلات مستعصية، أو مفارقات مؤسية وغريبة). فالرجل الأربعيني كان لم يزل على ارتباط عاطفي بأخرى. ارتباط قديم يعود إلى 15 عامًا على الأقل، غير أنه ارتباط متموج متقلب تتخلله توهجات تعقبها انطفاءات طويلة، ويسوده وداد وتفاهم لفترة، وسوء فهم وكدر لفترات، مما يجعله ارتباطًا عاطفيًّا تُرَاوِحُ نسبتُه بين 56% في حالات الانكماش و86% في فترات الانتعاش، وقد أسعفته مهنته مُحاسِبًا في تقييم الأمر بطريقة حسابية «دقيقة» جرى اعتمادها هنا في سرد هذه الوقائع.
هي بدورها الثلاثينية ذات الوجه المليح ترتبط بخطيبها الذي يقيم خارج البلاد منذ سبع سنين، ويَعدها من سنة إلى سنة بالزواج من دون أن يبرّ بوعده، على أن الخطيب حين يحضر وحتى لو أرجأ موعد الزواج إلى سنة لاحقة، وهو ما يحدث دائمًا وبتعلّات شتى تتعلق بظروف العمل والسكن والصحة وحوادث الحياة، فإن حبها له يرتفع بوجوده قريبًا منها إلى 89%، أما حين يطير ويحُط مجددًا في البلد البعيد البعيد (نيوزلندا.. ما غيرها) فإن الحب يجاهد في قلبها كي يرتفع إلى نسبة 76%، ويحدث أن ينحدر إلى نسبة تلامس 61% معللة ذلك بأن حبها له لن يصله كاملًا في بلد إقامته القصيّ، وأن بعضًا منه، من الحب.. سوف يتساقط في الطريق الطويلة، وحينها ينتابها تشاؤم رومانسي لا يسلبها جمالها، متسائلة في الأثناء إن كانت منذورةً لمصير حزين، على الرغم من جمالها الذي يتحدثون به. فلما رأت الوافد الجديد وقد ضرب شعاع نظراته قلبها، فإن القلب لم يملك سوى أن يخفق خفقانًا مستبشرًا يرتفع فيه مؤشر رصد العواطف إلى 79%، وهي نسبة تقل بتسعة بالمئة عن تلك التي يحوزها هو تجاهها. هذا الفارق يستشعره الاثنان، وهو ما أسعف في بقاء الحب مشتعلًا. فمن جهتها يُرضي غرورها أنها في مركز أقوى؛ إذ يحبها بأكثر مما تحبه، ومن ناحيته هو لطالما اعتقد أن الحب كائن حي.. يولد وينمو ويمرض ويذبل ويتعافى ويشتد عوده (مستفيدًا في ذلك من تجربته الأولى المتواصلة على تقطّع) وقد ظل يُمنّي النفس أن ترتفع النسبة لديها، بحيث يتعادلان أو يتقاربان.
على أن ما يجدر الإفصاح عنه، أنه من غريب ما يقع له أنه حين يكون على صفاء مع الأولى، فإن صورة الثانية تكاد تضمحل في رأسه. كما أنه حين يلتقي الثانية سواء كان على وفاق أو شقاق مع الأولى، فإنه ينسى تلك. إنه يواجه نفسه بذلك وإن بصورة مواربة. ويتساءل: كيف له أن يرتبط باثنتين في آن واحد، وهو من يدرك أن الحب يضطرم لشخص واحد فقط، وتحتفظ ذاكرته بالمثل الشعبي السائر: صاحب بالِين كذاب. وهو ما تلهج به ما لا تُحصى من روايات وأفلام وأغانٍ وقصائد؟ أيكون كاذبًا هو الذي يعرف معنى دقات قلبه وأين تتجه رياح تفكيره، أيكذب امرؤ ناضج مجرّب على ذات نفسه؟ إنه لا يكذب. وإن كان ثمة إشكال ما، فإنه يقع في موضع آخر بعيدًا من الصدق والكذب.
أما هي فلا تستوقفها هذه التساؤلات، ولا تنشغل بها، ليس من باب اللامبالاة أو ضعف المدارك، بل لأن الأمر لديها يأخذ منحًى عمليًّا لا تعقيد فيه؛ إذ ما زالت على حبها لخطيبها المسافر، وفي الوقت نفسه فإن القلب يميل بالتأكيد للوافد الجديد إذ ترى فيه احتياطًا إستراتيجيًّا، ومن الحُمق إغلاق الأبواب في وجهه فلا أحد يعرف ماذا تأتي به الدنيا غدًا. وهي تكتفي برؤيته وتبادل النظرات المُعبّرة والابتسامات المنتشية والدردشة الخفيفة اللطيفة معه في مكان عملها، ملتزمة بمقتضيات التهذيب الشرقي لارتباطها بخطيبها المغترب.
2
«هذا حب مُكلف». يُحدّث نفسه ضاحكًا، وهو يغادر صندوق الكاش حيث تعمل هي وحيث يحرص على تسديد ثمن مشترياته لديها في المول التجاري، الذي يتردد عليه بين ثلاث إلى خمس مرات في الشهر، عارفًا بيوم عطلتها الأسبوعية. وهي تَهِشُّ وتَبَشُّ لزياراته المنتظمة، داعية السماء في كل مرة ألا يغيب، وألا تُخطئ في تدوين مشترياته على جهازها. وبين الحذر والانشراح، والحرص على الظهور بمظهر طبيعي أمام بقية الزبائن المفتوحي الأعين وبآذان مسترخية، يمضي الوقت وقد حرص زبونها المفضل على شراء كمية من السلع بثمن معقول؛ كي يمضي وقتًا أطول أمام الصندوق الذي تقف هي خلفه، وكي يبقى لديه ما يشتريه في مرة لاحقة. وقد عرفت في المرة الخامسة من مرات مجيئه أنه يعمل محاسبًا، وراقت لها مهنته، فهي قريبة من مهنتها.
– قدّم طلبًا للعمل لدينا. لماذا لا تفعل؟
– وظيفتي محاسبًا ومدققًا ماليًّا في شركة كبيرة أفضل من العمل هنا. سأغرق لو عملت عندكم تحت شلال من الفواتير.
وقد كدّرها رفضه للفكرة، لكنها تماسكت وأخفت مشاعرها.
وفي مرة لاحقة قال لها.
– لو عملت هنا لربما لن يمكنني رؤيتك.
وقد أربكتها الملاحظة، ولم تخف استغرابها مما سمعت. وكان يقصد أن عمله سيكون مكتبيًّا، بعيدًا من حركة البيع والشراء في السوق.
على أن فكرة العمل في مكان عملها، في المول لم تبارح ذهنه. فمجرد وجوده معها في مكان واحد سوف يسرّه، وقد يشوش أيضًا ذهنه وينعكس على أدائه في العمل! على أنها لم تعد إلى إثارة الموضوع معه، وأخبرها ذات مرة أنه يفكر فيه، فقالت بشيء من الحرج: يمكنك تقديم طلب.. لقد استفسرت، وأجاب المدير أن لا شواغر حاليًّا. وضحك. وسأل: لماذا إذن أقدم طلبًا ما دام لا شواغر؟ فأجابت ضاحكة: قد يحتاجونك في أي وقت. ولم تقل له: إنه تتوافر مئات طلبات لطالبي التوظيف في قسم المحاسبة تنتظر النظر فيها. وشعر الرجل أنه يتخبط في شبكة واهية مع اضطراب طفيف بمدى تعلقه العاطفي بها صعودًا وهبوطًا.
3
كانت تلك هي المرة الأولى التي يفتقد وجودها وراء جهازها. جال بنظرات متفحصة على جميع الصناديق ولم تكن وراء أيِّ منها. ربما هناك طارئ ما قد طرأ عليها. فكّر أن يسأل عنها إحدى زميلاتها لكنه امتنع عن ذلك. شعر بالحرج، وخشي أن يتسبب بحرج لها. سدّد ثمن مشترياته وخرج مُغتمًّا وهو يفكر أنه قد وقع في بلبلة. وسخر من نفسه حين افترض أنها ربما تكون في السوق وذهبت إلى مكان منزو لتجري مكالمة هاتفية، أو أنها احتاجت للذهاب إلى التواليت مثلًا في الدقائق التي سبقت وصوله.
بعد يومين عاد إلى التسوّق. وجدها. عثر عليها. عادت من الغيب كملاك رحيم. قال لها إنه جاء قبل يومين ولم يصادفها. أجابت أنها أخذت إذنًا لمرافقة أمها إلى الطبيب. وبدت ساهمة. وسألها عن حالة أمها. فقالت إنها بخير. وأنت؟ سألها. فأجابت أنها بخير لكن أحوال السوق مكركبة (مضطربة). فقال: يحدث ذلك. المهم أنت بخير. ورسمت نصف ابتسامة شيّعته بها.
بعد أربعة أيام، اتجه إلى المول ولاحظ أنه لا يستقبل زبائن، وأنه ربما يستعد للإغلاق. وعرف أن مشاويره المنتظمة إلى السوق منذ أزيد من سنة، قد تتوقف!
4
الذي حدث بعدئذ، بعد ثلاثة أيام، أن المول أغلق أبوابه، وغادره مالكوه وجميع موظفيه وعمّاله وحرّاسه.. ما يعني اختفاءها. يا للهول. يا لهذه المفاجأة التي لم يحسب حسابًا لها، فمن يتوقع إغلاق مول عامر يضج بالحيوية، وبحركة حشود الموظفين والمشترين على مدار الساعة؟
إنه لا يملك رقم هاتفها، ولا يعرف حسابًا لها على مواقع التواصل. لم يخطر بباله سؤالها؛ إذ اعتقد آنذاك أن الوقت ما زال مبكرًا على استفسارات كهذه.
لقد اختفت.
أضاعها.
ولن يعرف طريقًا إليها.
وسرعان ما تحولت إلى هالة شبحية مضيئة، بلا قوام.
ثم إلى ضوء يبرق ثم ينوس، ثم يعود للمعان والتموّج والاضمحلال قبل أن يعاود الانبلاج.
حتى إنه ندم على انزلاقه إلى ما تصورها لعبة انغمس بها، من غير أن يدرك ما الذي كان يفعله. ثم كبح الشعور بالندم، حتى لا يبدو زائفًا أمام نفسه حين واظب على إرسال إشارات التعلق بها، وكانت إشارات مهذبة مفعمة بعاطفة دافئة ولا خداع فيها.
والآن إلى أي درجة ظل يتعلق بها بعد أن أضاعها؟ يزعجه هذا التساؤل بل يثير سخريته من نفسه ويسعى لأن يتفاداه؛ إذ يعجز حقًّا عن تحديد نسبة مئوية لذلك التعلق الباقي، ويدهشه فقدانه القدرة على ذلك. بل بات يرى أنه من الخطأ قياس الأمور على ذلك النحو. إنه وقد فقدها يكاد يفقد الطريق إلى نفسه. حتى عاطفته المتأرجحة والباقية تجاه الثانية، لا تُهدّئ انفعالاته ولا تعوّض خسارته.
5
أما هي فقد اغتمّت بشدّة لفقدانها مصدر رزقها.. لن تستقبل بعد الأموال المتدفقة من أيدي الزبائن، ولن يكون لها نصيب متواضع من تلك الأموال بالراتب الذي كانت تتقاضاه، حتى خَطَر لها في غمرة ضيقها أن تتساءل بحَنَقٍ شديد: لِمَ لا يجد الخطيب الغضيب عملًا لي في مول بنيوزلندا؟
أما أكثر الزبائن بعثًا على البهجة فقد خفق قلبها له، وقد لاح طيفه بصورة باهرة وعابرة مرات عدة قبل النوم وفي بعض النهارات، ما جعلها تتبسم بأسف مرير وشوقٍ حيي، دون أن تفارقها الثقة التامة أنه سيعود وتأنس به.. سيعود حتمًا ما إن يُعاد افتتاح المول الذي أعلن إفلاسه.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق