المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

نجوم الغانم.. مطاردة الشعر وسط أدغال بصرية

بواسطة | نوفمبر 1, 2021 | الملف

نادرة التجارب التي تمزج بين أنماط تعبير عديدة، وتنجح في كل ذلك بالمستوى نفسه من الإتقان وإثارة الدهشة وتوليد أسئلة جديدة. لعله من هنا، تأتي فرادة التجربة المتشابكة للشاعرة والسينمائية الإماراتية نجوم الغانم (1962 -)، فهي استطاعت أن تحقق هذا الامتلاء، وإشباع نهم متلقٍّ يسرف في أحلامه، حين يعثر على نفسه إزاء تجربة تعد باستمرار بكل ما هو مختلف وجديد. تجربة بقدر ما تتجاوز تجارب وتتخطى أساليب، هي أيضًا تؤسس وتعمق فنًّا سينمائيًّا، أو نمطًا منه، لم تعرفه الإمارات قبلها، بالطريقة التي استطاعت هي أن تصوغه وتتيحه للفرجة.

من ناحية، لعلها الصوت الشعري الأعمق، طبعًا إلى جانب شاعرات وشعراء قلة. قصيدتها وقد تخلصت من الشوائب، تبدو نجوم الغانم كمن تمارس كحتًا مستمرًّا للكلمات، إعادة صوغ لا نهائية للعبارات والجمل الشعرية، لتبدو صقيلة كالمرايا، التي تعكس وتنم عن ذواتٍ لا ذاتٍ واحدة. هذه الشاعرة غير المقيمة في قول شعري واحد، إذا ما عددنا السينما والتشكيل شعرًا أيضًا، فهما يأخذان من الشعر، مثلما الشعر يأخذ من كل منهما، توسع من مدى تجربة تأخذ تدريجيًّا في قول ما لا يقال عادة سوى بتضافر الفنون وتشابكها. هذا القول يفيض أحيانًا على الشعر وحده، وتستكين لاحتداماته الصورة السينمائية، وينوء اللون تحت ثقله. إذن، لا بد من عين رائية، حواس متوحدة، مخيلة بدائية ومدربة في آن، لتكتب هذا القول، هذه النصوص التي تحيط بالذات وأسئلتها ومأزقها، بالعالم والمكان والأزمنة في تداخلها، بالليل كما بالنهارات.

إزاء كل نص وأمام كل فِلم وفي مواجهة كل عمل فني، يكون المتلقي على موعد مع نظرة تحديث جديدة، تطوير في زاوية ما، لهذا النص وذلك الفِلم وهذه اللوحة. وأخذ كل ذلك إلى مستوى جديد في النظر والتأمل. من هنا تلك الجدية، فيما تعنيه من تأنٍّ ومثابرة ومسؤولية، التي لا يمكن إلا أن يقف عليها المتلقي في كل عمل ممهور بتوقيع نجوم الغانم.

تدرك نجوم الغانم حدود كل فن من الفنون التي تمارسها، ثم تتمرد على هذه الحدود، فلا تعود حدودًا تحد من جموح رغبة في كتابة قصيدة أو تصوير لقطة أو تمرير فرشاة، إنما تغدو مطواعة تستفز وتستدرج وتحث على اقتحامها بوصفها حدودًا مانعة، كما هي صورتها التقليدية عند الكثير.

في هذا الملف الذي تكرسه «الفيصل» لتجربة نجوم الغانم، يشارك نقاد وباحثون وشعراء وكتاب بدراسات وقراءات وشهادات.


الكتابة‭ ‬جبل‭ ‬شاهق وحاد‭ ‬الأطراف

نجوم‭ ‬الغانم

«إن المرء ليَنتقل من مكان إلى آخر، يتطور، ثم يُقتلع من جذوره،

فيُعاد إلى المكان الذي اقتُلع منه، ثم لا يعود قيد الوجود».

                                                                              إزرا باوند

لا أعرف كيف أكتب عن تجربتي فيما أنا لاأزال أجابه كثيرًا من الأسئلة وقلة الإيمان بالثابت والبديهي وفقدان الطمأنينة. وأعتذر سلفًا لعدم وجود انتصارات بطولية لديَّ، ولعدم مقدرتي على ادعاء الإيجابية حين يتعلق الأمر بالفن. والمسألة ليست كالسباحة حيث تزداد إتقانًا لها مع تقدم السن. الأمر ليس مضمونًا على الإطلاق وقد تكبر وتجد نفسك غير قادر على كتابة حرف واحد، وقد يطول الانتظار دون أن تكون قادرًا على السباحة في غياهب الحروف.

أستطيع أن أكتب عن أسئلتي وعن قلقي وشكي؛ وهي كثيرة ومُقلقة للأسف لكنها أيضًا ليست استثنائية. وقد يكون هناك جيش من المبدعين ممن لديهم مشاعر مشابهة لكنهم يؤثرون الصمت. نعم أستطيع أن أخبركم عن علامات الاستفهام التي حملتها معي ما يقارب الأربعين سنة وما زالت شاخصة أمامي، بل إنها زادت عوضًا عن أن تنقص، ومنها مثلًا؛ لماذا نشعر بالشتات عندما يكون علينا أن نسير في درب لا نعرفها على الرغم من أنها يمكن أن تتعلق بالفن أو الأدب الذي ننتمي إليه؟ ولماذا يجعلنا الشِّعر في فوضى نفسية وذهنية عارمة حين لا يأتي بيُسر؛ ويجعلنا في شك من أمرنا حتى حين يأتي بعد عسر؟ هل من سبب لتكرار هذا الإحساس لدينا على رغم كل السنوات التي تتزايد في صناديق حيواتنا؟ سنوات التجارب والتجريب؟ وتعلم البناء والهدم؟ ثم البناء من حيث اللاشيء؟ هل من الطبيعي أن تشعر وكأن تجربتك لا وجود لها وأنت إزاء حيرة النص؟ هل يستحق الفن المعاناة الذاتية المستمرة مرة تلو الأخرى؟ وألا يوجد في الحياة ما يغنينا أكثر ويمنحنا الإحساس بالرضى عن أنفسنا والقناعة بما لدينا بدلًا من هذا العناء؟

فوضى كثيفة طاغية

لقد اكتشفت بفضل التجربة أن الكتابة جبل شاهق وحاد الأطراف، وسعيد هو من يعتاد على السير على حوافه دون أن يجرح أقدامه أو يختل توازنه. وتعلمت أيضًا أن مواجهة صفحة بيضاء أو لوحة فارغة أو الشروع في أي عمل جديد هو واحد من أصعب التحديات التي يمكن أن يواجهها المرء عندما يبدأ رحلة الكتابة أو الخلق. وهذا يشمل الفوضى الكثيفة الطاغية التي تستحوذ على كل شيء فينا. تتفاقم الفوضى وتستبد بهدوئنا إلى أن تنجلي تدريجيًّا فقط عندما نستطيع الاهتداء إلى وسيلة لترتيبها فتستتب الأمور نوعًا ما ويرتفع بصيص الضوء في مرمى البصر فيهدأ الهلع في دواخلنا.

إنها متاهة رحلة الإبداع إن كان يحق لنا أن نضع أنفسنا في خانتها. متاهة الإحساس بالغربة حتى حينما نكون في بيوتنا التي اعتدنا على تفاصيلها وطاقتها. إن فعل الكتابة لا يشبه تقلد فرشاة الرسم أو الوقوف خلف الكاميرا لأنه أكثر حدة وإزعاجًا للذات. شخصيًّا لم أشعر أبدًا أن الكتابة سهلة حتى حين تكون في شكل مقالة أو ردًّا على أسئلة الصحافيين.

هذا التوجس ما لبث يتفاقم داخلي كلما كان عليَّ أن أخطو نحو بداية جديدة، وما زال يتجلى بعدة أشكال تحمل معها الأسئلة والحيرة ذاتها والتردد نفسه؛ فأشعر وكأنني في مدينة بلا إشارات مرورية أو لوحات تدل على الأمكنة. ويستهلكني الإحساس بأنني في منتصف طريق صحراوي، في محيط، في نقطة بعيدة في الكون حيث لا توجد جاذبية ولا أرى منها أرضًا تستريح عليها أقدامي. وعلى الرغم من الطمأنينة الضمنية من أن هذه بلا شك ليست هي المرة الأولى التي تنهال فيها عليَّ هذه المشاعر كلما وقفتُ أمام تحدي الكتابة؛
إلا أن القلق الأبدي الذي يرافق كل تجربة يرسخ نفسه أكثر وأكثر مع كل محاولة جديدة ويجعلها تبدو وكأنها المرة الأولى.

خراب يتفاقم في زوايا العالم

تُرى هل لأننا نحتاج أن نبدأ من مكان ما حيث نكون جاهزين فيه معرفيًّا وفنيًّا ونفسيًّا؟ ولكن لماذا مع ذلك يتسرب الشك إلى تجاويف أرواحنا؟ أقصد الشك في أننا قادرون على إنتاج شيء ذي قيمة إنسانية وفنية مؤثرة في الآخر في زمن أصبح كل شيء فيه «تقريبًا» يفتقد للقيم الجمالية والفلسفية العميقة! هل السبب هو الخراب المتفاقم في كل زاوية في العالم أم بسبب قصورنا؟

نعم هذه باختصار القصص التي تشغلني من آن لآخر، ولهذا أهرب إلى القراءة التي لطالما كانت هي الملجأ الدائم لاحتضان التشوّش وتذويبه في آن واحد. ترى ماذا كنا سنفعل لو لم يكن هناك عظماء في الأدب والفلسفة والنقد والفنون؟ ماذا كنا سنفعل بدون العودة إلى منجزاتهم لتذكيرنا بأن كل شيء على ما يرام وأننا نستطيع التنفس برئة واحدة للكون إن عطّل الحمقى رئته الأخرى. نعم هذا هو الشيء الوحيد الآمن للأرواح التائهة في مواجهة الشتات؛ القراءة ثم التجريب في أشكال لسنا معتادين عليها حتى لا تستغرقنا الهموم ويُتلف أجسادنا الصمت أو الأرق. وإن كانت المعاناة هي قدر من يعيشون في هذا العصر بالذات؛ فلا بأس إن أصبحت هي بذاتها العمل الفني مثلما يمكن للتجريب والبحث أن يكونا هما أيضًا شكلًا آخر من أشكال الفنون.

يكفي ألا نسمح لليأس بأن يستولي على أرواحنا، لأن اليأس هو موت للحواس والذاكرة والإبداع.

لا تدعو اليأس يجد طريقه إلى حيواتكم.

قاوموه بفعل الفن وسيُشع ضوء جديد في دواخلكم.


نجوم‭ ‬الغانم‭.. ‬شاعرة‭ ‬ديناميات‭ ‬الحداثة‭ ‬بلا‭ ‬افتعال

أحمد‭ ‬فرحات ‬شاعر‭ ‬وكاتب‭ ‬لبناني

نجوم الغانم هي الشاعرة الوحيدة في دولة الإمارات العربية المتحدة التي تجمع في شخصها بين ثلاثة اتجاهات إبداعية يتكامل بعضها ببعض: الشعر، والإخراج السينمائي، والفن التشكيلي. غير أن الشعر يظل سيد الموقف لديها، إن في تجليات كلمات قصيدتها أو في بنية صورتها السينمائية أو عبر متن لوحتها التشكيلية؛ ذلك أن الشعر بالنسبة إليها (وهي بدأت منه لتطل لاحقًا على مسار الفن السابع ولعبة الخط واللون) هو وحده العنصر المولد والمشع والقادر على بلورة سلسلة لامتناهية من الرموز المتمادية بأبعادها السيميائية والدلالية وأنساق العلامات المنشبكة داخل صيغ التعددية الفنية أو الإبداعية التي تصدر عنها.

وفي معرض كلامها للصحافة عن بعض مفارقات العلاقة بين الصورة الشعرية في القصيدة ونظيرتها في اللقطة السينمائية، كانت الشاعرة نجوم الغانم قد حسمت موقفها بالقول إنها تنحاز للصورة الشعرية في المتن اللغوي.. أما لماذا؟ فلأنها ذات قدرة إيحائية أكثر «على سرقة أنفاسنا والذهاب بخيالنا إلى آفاق غير محدودة». وإذا كانت اللقطة السينمائية تقترح العديد من المعاني الدلالية المركبة، من وجهة نظر الشاعرة، إلا أنها في المحصلة تظل «تفتقد لسحر آخر يختبئ في اللغة» على حد تعبيرها.

وكم تذكرني تجربة الشاعرة الغانم الإبداعية المثلثة هذه، بالشاعر والروائي والسينمائي الإيطالي الكبير بيار باولو بازوليني (1922 – 1975م)، والذي كان لي شرف اللقاء به في روما عام 1974م، أي قبل سنة واحدة من اغتياله بسيارة تعمدت دهسه حتى الموت، وسؤاله عن جمعه بين محمولات الشعر والرواية والإخراج السينمائي دفعة واحدة، فأجابني: «أنا شاعر في الأساس، ومن الشعر أطللت على كتابة الرواية ومزاولة الإخراج السينمائي، أو قل، مثلًا، إن الشعر نفسه هو الذي قادني إلى فن السرد وعالم السينما أو الصورة المتحركة، ومن ثم هيكلة الترميز المكاني والزماني عبرهما. هكذا، (والكلام لبازوليني) فندائي الداخلي كان دائمًا نداء شعريًّا، سحريًّا وتأمليًّا، ولا يستطيع العقل، على الرغم من سطوته الكبرى، أن يحيط بهذا النداء. ومن هنا تراني أجنح في بعض أعمالي السينمائية إلى اللامعقول تعبيرًا عن المعقول نفسه، وإلى الحياة بذاتها تعبيرًا عن مختلف تضاريسها المعقدة والبسيطة. هكذا فأنا مهروس هرسًا بالشعر والشعرية في كل أداة أو صيغة إبداعية أطل منها، وأرى أن الصورة الشعرية في القصيدة المكتوبة، تظل أغنى وأعمق بكثير من نظيرتها التي توحي بها الصورة السينمائية».

وبالدخول إلى العالم الشعري لنجوم الغانم (مواليد دبي عام 1962م) نلحظ أن هذه الشاعرة التي بدأت مشوارها الشعري بكتابة قصيدة التفعيلة، ثم انعطفت في اتجاه كتابة قصيدة النثر كتوجه إبداعي تجريبي مفتوح، وأصدرت ستة دواوين شعرية حتى الآن، سجلت خلالها مسارًا شعريًّا انطلق من قصيدة البساطة الذكية التي تتصف بصفاء الوجدان وسلاسة اللغة، مرورًا بقصيدة التكثيف والهدوء والهمس المتحلل من كل شيء إلا العلامات الشعرية التي تتوخاها الشاعرة، وصولًا إلى القصيدة التي تنطلق على وجه الإجمال من فاعلين مركزيين لديها: ذهني وبصري يؤلفان معًا نسقًا شعريًّا شديد التركيب والبث المرئي المحسوس. وهذا التقسيم العام، في المناسبة، ليس تقسيمًا منهجيًّا أو نقديًّا صارمًا للتوجهات الكتابية الشعرية لدى الشاعرة الغانم، بقدر ما هو محاولة مبدئية للإمساك بخطوط بانورامية رئيسة لفضاء ما كتبته من شعر حتى الآن، يتخلله طبعًا إنجازها لقصائد تجريبية أخرى كثيرة متفلتة من أي تصنيف أو تحديد.

متاهة واحدة

قصائد نجوم الغانم تشكل في غالبيتها نوعًا من حكايات صغيرة تحاول من خلالها الشاعرة صوغ التحولات التي طرأت على الذات.. ذاتها العربية الخليجية في مواجهاتها لعالم معولم يضيق على بعضه الآخر كل يوم. وكان أن ذهبت هي مباشرة إلى جزء مركزي بالغ الأهمية من مركزيات هذا العالم: الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، إما للدراسة أو للاستشفاء أو للمشاركة في المهرجانات الشعرية والسينمائية أو للسياحة الثقافية أو أية حالة من حالات المثاقفة المستمرة مع هذا العالم، سواء من داخل بلدها هذه المرة أم من خارجه، فكان أن اكتشفت في النتيجة أن هذا العالم في إطاره التفاعلي المختل والممتد على مساحة المعمورة، بات عبارة عن متاهة واحدة يتشظى فيها الإنسان بوجوده القلق وقيمه المتبددة وأحلامه المحبطة وخيبات حبه المتواصلة.. علاوة على تمزق الأفكار لديه وإحساسه بالوحدة القاتلة التي تشله عن أي فعل إيجابي تجاه نفسه وتجاه الآخر، فيسقط إذ ذاك في غربته ويأسه ودَوَخَانه المستمر، الذي تشهد عليه حتى الطبيعة نفسها، وتصير، بالتالي، جزءًا لا يتجزأ منه:

«رأسي دائخة في رطوبة الشاطئ/ وأفكاري مثل عيني تشوشها الغيوم المدلاة/ من السماء القصية/ فأجدني لا أقوى على الإمعان/ في تفاصيلي الصغيرة/ أو التحديق في مقلتيك/ وترتعش أصابعي/ حين تلقي السؤال/ إن كنتُ قد تداويت ذاك النهار/ لكنك لا تنتظر إجابة/ أو تلتفت للصمت الطويل/ الذي يتبع الأسئلة/ وإنما ترتشف قهوتك/ متشاغلًا بوجوه الغرباء/……./ تتصفح أمواج الرمال/ الصغيرة في فراغ الأخيلة/ وأطلال البيوت التي هجرتها أرواحنا/ رأسي تدوخ في حرارة القلق/ متشبثة بأفكار الهروب/ وقلبي تقضه هواجس الغياب/ تنتفض أغصان الوحدة/ في ريبة الانتظار/ ولا أقوى على منحها ماء الطمأنينة/ أو حتى دعوة السماء/ لبل شعرها بالمطر».

وتحاول الشاعرة جاهدة إنقاذ نفسها من سطوة الأقدار، ومما ألم بها من محن نفسانية مهلكة فتحت أمامها أبواب الأحزان على مصاريعها، ولم تتح لها حتى فرصة الامتثال لأفكار النأي والابتعاد:

«جئت أفاوض الأحزان التي لم تدعني/ أمتثل لأفكار البعاد/ ولم ترأف بأدمعي حين احتقنت/ مستنجدة بالأزمنة/ توسلت الغياب أن يسكت مواجعي/ أو أن يعيدني إلى المرأة/ التي كنتها قبل أن تمطر/ آلام الليالي الفائتة….» ولا فائدة معها من أي رجاء مقبل، فالعالم الذي يدور حولها أو تدور حوله الشاعرة هو دائمًا في حالة المراوحة الصِفرية. لقد توقف الزمن لديها وصار صفرًا عملاقًا، اللهم إلا من زخات الآلام والبكاء حتى الامتلاء كما تعبر: «كلما رفعت رأسي للسماء/ ازدادت زخات الآلام/ وامتلأت أواني القلب/ بالبكاء». وحتى الأشجار التي كانت حارسة بيتها، باتت معاناتها واحدة معها، وهذا الألم الممض ما انفك يحرق دواخلهما بأنين واحد معمد بماء القلب الواحد والنبض الواحد: «يأتيني أنينها/ الأشجار التي كانت حتى عام مضى/ حارسة البيت/ وسيدة أروقته/ فأفتح لها دهاليز القصائد/ لتقرأني/ وتتذكر أن ماءها/ سيكون من ماء قلبي».

بين آلان باديو وابن عربي

وعندما تكتب الشاعرة نجوم الغانم عن الحب بالطريقة التي تكتب بها، تراني أنحاز إليها كأنثى لها كينونتها فائضة الخصوصية هنا، وهي خصوصية لا تتفوق فيها على مبدأ الصدق والأحاسيس العشقية التي تند عنها تجاه من تحب فقط، وإنما تتجاوز ذلك لتجعل من الحب مشروعًا وجوديًّا وحدثًا استثنائيًّا «يُغير فردين إلى الأبد» على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، والذي يرى أنه من الضروري أن نصبح غير أنفسنا عندما نحب، ذلك أن الرغبة الأنانية ليست حبًّا، وبالتالي فإن نزع فردية الأنانية هنا بات شأنًا لا بد منه في أي عملية حبية متبادلة. «وفكرة أن نعيش منذ الآن فصاعدًا اثنين، أن نتشارك الموقف ذاته، ولكن من وجهتي نظر»، هي المطلوبة بحسب آلان باديو؛ فالحب، كما يردف: «ليس هو أو هي، بل ذاك الذي يتجاوزهما إلى الـ «نحن»، وينسجم مع ذلك الواحد والآخر من دون أن يحدث أي انصهار في أي وقت؛ فالانصهار ليس سوى وهم موصول، لكن نعم، في الحب يظل يربط الإنسان نفسه بآخر من أجل أن يشكل ذاتًا حرة متبادلة معه أو معها».

من جهة أخرى، أخال الشاعرة نجوم الغانم ترفع الحب إلى سمت فضاءات الأمكنة والأزمنة، وتفيض بأنوثتها عليهما وعلى الناس فيهما، عشاقًا ومعشوقين. وكم تذكرني هنا، وتذكر قارئها العام استطرادًا، بقولة محيي الدين بن عربي: «كل مكان لا يؤنث لا يُعول عليه». ومن فصول الحب عندها هو ترك الآخر لخياراته أيضًا على رغم الألم الضمني الذي يسببه لها ذلك: «ابق بعيدًا لتكتب القصائد/ استغرق في التفاصيل/ التي لا تنتمي لأحدنا/ وإن شئت/ طلق الأزمنة/ التي كانت فيها ظلال وأقانيم/ طالما يجعلك هذا/ أكثر قابلية للحياة»……… «إننا مهما أمضينا من أزمتنا معًا/ فإن الغداة لن تكون لكلينا/ وإنك ستمضي لعاداتك المألوفة/ وتتوارى في أطياف البعاد/ وأن علي أن أحيا/ الاحتضار تلو الآخر/ قبل أن يمكنني نسيانك تمامًا».

وتخاطب الشاعرة من يهمها أمره حبيًّا هنا فتسأله: ماذا تعرف عني؟ وتجيب: «في كل ليلة أذهب للنوم/ تأتيني المشاهد برنات الانكسارات/ في كل ليلة/ أعقد مع الأحلام المواثيق/ كي تدعني وشأني/ لكنني كلما استيقظت صباحًا/ وجدت جرحًا غائرًا فوق يدي».

مخاوف ذات عيون كبيرة

تشتغل الشاعرة نجوم الغانم على قصيدتها بأناة وصبر ولا تتوانى عن اختراع أسلوب شعري خاص بها لا يشبهه أسلوب شعري آخر، متكئة في ذلك على ثقافتها الشعرية والنقدية ومقارناتها الواعية بالنتاج الشعري العام الذي رسخه صعود قصيدة النثر في الإمارات بخاصة، ودول الخليج بعامة، ومعهما بالطبع الوطن العربي برمته، وهو وعي دفع بالشاعرة إلى إبداء مسؤولية مضاعفة تجاه عملية الكتابة الشعرية وانتقاء أنساق مغايرة لها، كي تأتي قصيدتها، على الدوام، جديدة ومبتكرة، لغة ومضمونًا. كما أن اشتغالها بالسينما والفن التشكيلي عمقا من ارتباطها بالإبداع العالمي وما يصاحبه من حراك نقدي وثقافي طليعي، ما أهلها لبلورة تجربة شعرية أكثر نضجًا وتكثيفًا وتحديثًا جديًّا، يبتعد ما أمكنه من التنميق اللفظي أو الشكليات الفانتازية لذاتها، وهو الأمر الذي يؤكد لنا، في كل لحظة، أننا أمام شاعرة واثقة من مقاربات ديناميات الحداثة بلا افتعال.

ومما زاد في غنى قصيدة الشاعرة نجوم الغانم النثرية تعدد الأصوات فيها، وكذلك الحوار، وبخاصة الداخلي منه؛ فهو ينم عن اتساع ذات الشاعرة وانقسامها على نفسها، وازدياد القلق الذي يعصف بها، خصوصًا عندما تصبح ذاتها الشعرية والموضوع شيئًا واحدًا. ولا غرو، فالشعر ابن الحياة، والحياة مرآة التناقضات التي تهزنا وتخلخلنا من داخل، ولا تستقر بنا على حال. وعليه فمُهمة القصيدة هنا ليست جمالية وفنية فقط، بل معرفية أيضًا، توسع من مداركنا العقلية، وميزان فهمنا العام للأمور، وتطورات الواقع البشري المعقد، واستيعاب متغيراته، الأمر الذي يجبر الشاعرة على اتخاذ مواقف الضرورة القصوى تجاه قضايا الإنسان ومشكلاته الذاتية والموضوعية العميقة؛ إذ إن العزلة أو الانقطاع عن هذا العالم لن تفيد بشيء؛ وهذا شأن زاوله، ولا يزال، كثير من الشعراء والفلاسفة والمبدعين، حتى باتت العزلة شأنًا كلاسيكيًّا روتينيًّا منفرًا، بينما غدا جوهر الموقف الإبداعي المفارق الآن، هو أن تكون في قلب الاحتدامات السائدة، في لبها وفي تفاصيلها، إنما دائمًا من موقعك أنت وحريتك أنت وتوهجك الإبداعي أنت.

ومن مهمات القصيدة بعد جعل الناس يعيشونها ويتمثلونها كصورة فنية في الظاهر لفكرة كامنة في الأعماق، ولا ينقطع البتة السلك الخفي المشدود بينهما. ولا غرابة في ذلك، فقصائد نجوم الغانم هي من النوع الذي يُقرأ ويُعاش ويُتمثل في حالاته الفكرية وتحولاته الفنية، هكذا بكل جذب وشغف، وتلك مسألة تسترعي النظر وتستثير التأمل.

من جانب آخر، نلحظ أن كثيرًا مما ترسمه الشاعرة من قصائد يمكنه أن ينتمي افتراضًا أو في الواقع.. لا فرق، إلى ذاك النوع الذي تتماهى فيه الصور الشعرية في القصيدة بالصور الإيحائية في الفِلم السينمائي، مكونة جميعها (أي الصور)، وعلى ضفتي المشهد الإبداعي الواحد ثنائية: شعرية كلمات القصيدة المتفوقة من جهة، في مقابل شعرنة النص السينمائي المتفوق من جهة ثانية، وكمَثَلٍ على ذلك نقدم هذا النموذج الإبداعي الذي أتت به شاعرتنا وحمل عنوانًا لافتًا: «مخاوف ذات عيون كبيرة»: «ترتفع أنفاسه في الغرفة المحاذية/ فيما دقات قلبه تعبر الجدران/ وخطواته تهيم في الرواق/ كانت تسمعها/ تصعد وتهبط الدرج/ أو تقترب من بابها متوقفة في التوجس/ وعند الصباح/ يُلقي نحوها النظرات/ لكنه لا يدنو أكثر/ ولا يبوح بتوقه للمسها/ فتعرف أن عليها الرحيل/ خوفًا من أن تقع في حبه ثانية».

على مستوى آخر، لا تكترث الشاعرة نجوم الغانم لمسألة الغموض والوضوح في القصيدة التي تكتبها؛ فتلك إشكالية نقدية كبيرة فرضت نفسها على قصيدة النثر العربية أكثر بكثير من نظيرتها قصيدة التفعيلة، وجرى التنظير، استطرادًا، حول قصيدة النثر حتى الإملال والتخمة، وفي المحصلة مضت الشاعرة بقصيدتها متجاوزة كل التنظير المشكو منه، وركزت على الشعر الذي يتحرى النظر والتجربة التي تولده فقط، وفي إطار لغة شعرية غالبًا ما تُلمح أكثر مما تفصح، وتتزيا بمفردات ذات رشاقة لافتة تبثها مناجاة داخلية شفافة، تلونها شاعرتنا بماء الصور، سواء أكانت درامية أم متفائلة.

والأجمل بعد أن الشاعرة نجوم الغانم كانت تقوم، أحيانًا، بفعل الاختفاء داخل كلمات قصائدها، وهو اختفاء تأتي نتيجته «السرية» أكثر حضورًا وتوقًا وَوَلَهًا بالنسبة إليها، خصوصًا عندما يحين أوان إفصاحها عنه، والظهور به، حتى ولو كان أمره مفجعًا ومخيبًا للآمال: «القمر البرتقالي/ يتدلى كقلادة بين الأشجار/ والسحاب يقتحم المدى/ بأمواجه المُصطخِبة/ عيناي تؤلماني/ وبصري يتماهى كأنه في رماد/ أكان ذاك هو القمر/ أم مقلتي التي لم تعد/ تعرف هيئة الأشياء؟». وتقول شاعرتنا في نص شعري آخر بالغ الحفر والتأثير، وهو نص تزداد أهميته في كيفية تفاعله، لا في عدد كلماته: «يدعوني للمبارزة/ ويعرف أنني عزلاء/ أملك يدًا بلا أصابع/ وأخرى قطعها للتو».

وتستدرجنا الشاعرة نجوم الغانم في أحايين كثيرة إلى ما لا نتوقعه، وتجعلنا أسرى استغوارها الشعري الذي يقوم على طبيعة وجودية خاصة بها، تجتاحها الجراحات والأضداد من كل صوب، ولا سبيل لصدها سوى بالعودة إلى الفطرة الأولى للكائن/ الإنسان فيها، وهو كائن لا ينجح في تحقيق مهمته إلا بعد أن يقوم بدوره في بعثرة العوالم والكائنات الخارجية من حوله، ويصفي دبيبها ثم يرميه في «صفوة اللاوعي» لديه، ويجري ذلك كله بقوة ناعمة تفوق أية قوة أخرى ضاجة بذاتها، وبمن حولها كمثل هذه القصيدة ذات المنزع الوجودي الإنساني والحاملة عنوان: «وعود تبلى في غبار الأزمنة»:

«أنتظر بارقة/ أهرب فيها احتقان الليالي الوحيدة/ والجراحات المتبقية على الفؤاد/ ويخونني احتباس صوتي/ والتنفس/ عندما تحاصرني المواجع/ ويخذلني جسدي/.. كما في حلم/ تضللني أصداء/ تأتي من الأنحاء المجاورة/ لكنني لا أعرفها/ فأخرج حافية إلى الخلاء/ مدججة بالمخاوف/ وخسائر السنين/ ولا ترأف بعواطفي/ شجيرات الجاردينيا التي رعتها/ مزن روحي/ واحتضرت في غيابها/ أطيار البساتين/.. أنتظرك/ وأنتظرك/ مقاومة أنهار البكاء/ فتتعمد ألا تأتي/ محصنًا بالمبررات/ وأتعمد ابتكار الحكايات لطفلتي الصغيرة/ لكنها تؤثر الانتظار/ حتى تبيض الليالي/ وتتبدد آمالها».

هذا وفي كل حال شعرية مولدة لقصيدة جديدة تبتكرها نجوم الغانم، يبرز ذلك «الإيقاع الهوياتي» الشعري الخاص بها، والمختلف بنموذجه، في الوقت نفسه، عما سبق وكتبته من نماذج شعرية؛ الأمر الذي يحول إجمالًا دون وقوع قصائدها في شرك التكرار وأفخاخ الاستنساخ. وفي يقيني أن ذلك هو من الإيجابيات القصوى التي ينبغي التنويه بها والتركيز عليها في عموم تجربة شاعرتنا النابهة والمصممة على مسارها الشعري المستقل.

والملفت بعد في خارطتها الشعرية أن إحساسها الثقافي المركب لا يطغى البتة على حيوية الشعر لديها، إلا أنها تعرف أيضًا متى توازن بين المعادلتين، وكيف تشكلهما في لحظة شعرية واحدة، تؤكدها أشعة المعاني الساطعة من قصائدها حينًا، والخافتة في أغلب الأحيان، والخفوت هنا يضارع السطوع، بل ويبزه أهمية إبداعية. ونستدرك فنقول إن التأمل من جهة، وفعل الإصغاء من جهة ثانية يتنافسان في كثير من القصائد التي تحتويها دواوين نجوم الغانم، ويؤكدان كلاهما على أن الشعر يتعدى خطاب اللغة التي تحمله، ليصير وعيًا فنيًا يراهن على قارئ ذكي وناقد أذكى، تكون مهمته تقديم خلاصة نقدية تقييمية إبداعية جديرة بالكون الشعري الذي تفجره شاعرتنا.

ثم إن نجوم الغانم تستبدل الصدق العميق بالوضوح المعجز الذي تمليه عليها حالاتها النفسية المستبدلة: في هبوطها وصعودها، في ثوابتها وتقلباتها، في إقدامها وإحجامها، في نشوة الذكرى لديها، كما في غيبوبة الحس كذلك، فالذكرى لديها حس نابض أيضًا، وهذا الحس هو الشعر في بعض صميمياته، انطلاقًا من أن الشعر لا حدود جازمة للتعريف به حتى الآن، ولن تكون له أية تعريفات لاحقة.. وهكذا فالشعر نفسه هو وسيلة مستمرة لاكتشاف الشعر، وماهية طبيعته ذات المفارقات المتنوعة والمتحولة. وسيظل الشاعر الحقيقي يرى، عبر قنطرة قصيدته، يقظته الحياتية والإبداعية بأجلى ما تكون عليه الصورة.

وعي الموت والتوتر فيه

وللموت حصته في شعر نجوم الغانم أسوة بغيرها من شاعرات وشعراء الأرض، من قبل، ومن بعد، وبالتأكيد في زمننا الحالي. وعلى العموم لا أدري لماذا وضعتني أشعارها التي تناولت الموت أمام مفارقة ذاتية ويقينية دفينة، خرجت معها بأن ليس الموت هو غياب الكائن وإنما الكائن هو من أجل الغياب. وفي كل الأحوال هي ذكرتني بكلام للشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس حين سألته عن معضلة الموت في مقابلة أجريتها معه في منزله في أثينا عام 1988م. قال لي ما ترجمته: «ثمن الكائن البشري مستمد دومًا من زائليته، وهذه الزائلية تشبه قصيدة أبدية يجدر بالجميع قراءتها».

صحيح أن الموت هو الذي يرصدنا ليحصدنا كبشر منذ خلقنا، ومعنا سائر الكائنات الحية بالطبع، لكن الأصعب من الموت البيولوجي هو الموت في الحياة نفسها. وشاعرتنا، مثل أي شاعرة حقيقية أو شاعر حقيقي، تحمل بنفسها وعي الموت والتوتر فيه، ولذلك يتبدى لها بأشكال مختلفة وصور متباينة: «الذؤابات ترتعش فوق طاولتي/ وكأنها ترعى سهر جنازة/… الليل يبيض كعيني أعمى/ وبصيرتي تتأمل العابرين/ يتهادون في خطواتهم/ نحو الموت/… سقط الكثيرون من القلب/ ويسقط الباقون».

وحتى عندما تفتح الشاعرة الكتاب، يكون هناك موت خصوصي للكلمات وللعينين معها أيضًا:

«افتح الكتاب/ الكلمات تذهب مع الحكايات/ وعيناي تبيضان». وكذلك ترى الشاعرة الموت وتفهمه على طريقتها، حتى في الموسيقا: «حتى عندما أدير الموسيقا/ لا أرى سوى صور النعوش/ تقترب نحوي».

لعل من النافل، أخيرًا، أن نشير إلى المهارة الإبداعية التي قدمت وتقدم خلالها الشاعرة الإماراتية نجوم الغانم تجربتها الشعرية الخصبة؛ والتي تخرج فيها بالتأكيد عن المألوف، شكلًا ومحتوى، ولكن بنسيج قصائد سائغة وذات «عذوبة درامية» تشد إلى بلاغة الوضوح المعجز وغير التكراري. بوجيز العبارة، أعمالها الشعرية لا تتفاضل، بل تتباهى، تتكامل وتتجاوز ذاتها.


نجوم‭ ‬الغانم‭ ‬في‭ ‬مختاراتها‭ ‬الشعرية ‭»‬العتب‭ ‬المتبقي‮»‬
مجازٌ‭ ‬متاحٌ‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬مأزق‭ ‬الهوية‭ ‬الجندرية

محمد‭ ‬مظلوم ‬شاعر‭ ‬وناقد‭ ‬عراقي

حين نقارب تجربةً ما في الشعر النسوي العربي من المهم استكشاف تاريخ تشكل الصورة النمطية للمرأة عمومًا ومراجعة الجذور التي أسهمت في تشكيل تلك الصورة ومقارنة تجلياتها بين التراث العربي وتحولاتها في النقد الحداثي وما بعد الحداثي الغربي، وفحص مدى الاختراقات التي حققتها نساء كسرنَ الإطار الشمولي بوصفه حصارًا واخترْنَ رسم صورةٍ شخصيةٍ عن تجاربهن مغايرةٍ للنمط وخارجةٍ عن ذلك الإطار.

فتراثٌ مديدٌ كالتراث العربي أمدُهُ قرون من تكريس الصورة النمطية للمرأة، لا يمكن تغيير مساره وتجديد بنيته بسهولة من خلال اختراقات هامشية وتمردات محدودة، ولو استعدنا بعض عناوين كتب التراث التي عنيتْ بأدب المرأة سنجدها تكرس تلك الصورة بتصنيف نوعي للنساء: جوارٍ، وإماء، وقيانٍ، وربات خدور في أحسن الأحوال كما في كتاب «أشعار الجواري» للمفجع المصري و«الإماء الشواعر» لأبي الفرج الأصفهاني وصولًا لعصر النهضة في عنوان كتاب اللبنانية زينب طيفور «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور»، ومن المهم كذلك استذكار عبارة لبشار بن برد، ترد في عدد من كتب التراث ويضع فيها أشعار النساء في مرتبة أدنى: «لم تقل امرأة شعرًا قط إلا تبين فيه الضعف، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال لا: فتلك لها أربع خُصى».

عبارة بشار تدفع إلى إعادة النظر في مفهوم الفحولة الشعرية، فهي غير مرتبطة بالذكورة والأنوثة العضوية، بل تكتسب جدارتها بالخصوبة ونوعية العطاء، وبهذا المعنى فإن الخنساء تمثل استثناء وخروجًا على الهوية (الجندرية) فهي شاعرة مجيدة، وعارفة بجيد الشعر من ضعيفة، إذن فهي مثقفة شعريًّا، وهذا هو الأساس في مفهوم الفحولة لأن الفحولة ترتبط بالقدرة على تمييز الشعر الجيد لدى الشعراء الآخرين وكتابة كم معقول من الشعر الجيد في الوقت نفسه. فحين سئل رؤبة بن العجاج عن الفحل من الشعراء قال: «هو الراوية، إنه إذا روى استفحل». ويشرح ابن حبيب هذه المقولة بقوله: «لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد شعر غيره، فلا يحملُ نفسه إلا على بصيرة».

ويحفل التراث العربي بكثير من نماذج الرفض الأنثوي للهيمنة البطريركية الشعرية، كما في نموذج الهجائيات بين النابغة الجعدي وليلى الأخيلية وهو شعر نقائض قائم أساسًا على سجال الذكورة والأنوثة العضوية والمباهلة الثقافية عل أساس الجنس. كما في بيت الأخيلية الشهير الذي ترد فيه على خصمها الجعدي: وعيَرتني داءً بأمكَ مثلهُ / وأي جوادٍ لا يُقالُ لها هَلا/ مجاز التذكير والتأنيث.

وفي تجربة نجوم الغانم الشعرية تبرز مظاهر عدة لما تسميه الناقدة الأميركية جوديث باتلر (مشكلة الجندر) بوصفه هوية مكتسبة وفق المعطيات الاجتماعية تنعكس تمثلًا واعيًا ولا واعيًا في العطاء الشخصي، وهي مشكلة متأصلة، ويمكن تقصيها في ثنايا مختارات نجوم الغانم الشعرية الشاملة «العتب المتبقي» التي تغطي أكثر من ثلاثة عقود من تجربتها الشعرية متضمنة دواوينها السبعة منذ ديوانها الأول «مساء الجنة» الصادر عام 1989م وصولًا إلى «ليل ثقيل على الليل» (2010) فمنذ القصائد الأولى في هذه المختارات تبرز استعارة صوت المذكر وتبني قناع الشاعر الفارس وأمير الصعاليك: «أنا عروة بن الورد/ ماذا دهاك؟». وكذلك في «مقطع من قصيدة متاهات»: «علمتكَ ارتكاب المُلابسات/ منحتكَ سيفي وسرج القصيدة/ وإذ آمرُكَ أن تخلي النهار من كهولته/ فلأني أبيحُ لكَ الفتنة َ/ زاهدًا في القتال». وكذلك الحال في قصيدة «المسافرُ من ليلٍ إلى ليلٍ» من ديوان «رواحل»: «واقفًا/ كدعامة بيت طاعنة في الشيخوخة/ منتظرًا هبوط المساء/ وحفنة الأنجم تضيءُ الدهاليز».

ترى جوديث باتلر أن (الجندر) يمكن أن يكون مكتسبًا ويتم اختياره بحرية. وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مصيرًا محتمًا مسبقًا. وإن كلًّا من الاحتمالين ممكنٌ، لأن (الجندر) يختلف عن (الجنس) لكونه مصنوعًا مما هو نفسي أو اجتماعي أو ثقافي وليس عضويًّا. لذلك يترجم أحيانًا بالنوع الاجتماعي لأنه نتاج اجتماعي لاحق وليس طبيعيًّا مسبقًا، وهو (تجنيس) وليس جنسًا عضويًّا. لذا يترجم في أحيان أخرى بـ (الجنوسة) من هنا فإن الجندر يرتبط أكثر بقضية المرأة، وقضايا النسوية، فهو يتحكم بالوظيفة الاجتماعية للمرأة والدور والتراتبية وفق التقاليد والثقافات. ومن هنا تأتي أهمية فحص التذكير والتأنيث المجازي في شعر نجوم الغانم، لأن التذكير والتأنيث المجازيين لا يعبران تمامًا عن حقيقة تراتبية كما يقول المتنبي: وَما التَأنيثُ لاسمِ الشَمْسِ عَيبٌ/ وَلا التَذكيرُ فَخرٌ لِلهِلالِ.

وهذا المجاز (الجندري) هو ما ركزت عليه دراسات باتلر بشكل واضح في قراءة متعمقة لتفكيكية دريدا خاصة في التصنيف النوعي للمذكر والمؤنث في اللغة من حيث الأسماء والضمائر المسندة واشتقاق الكلمة، والمذكرات والمؤنثات المجازية وتأويلها، ثم معالجتها ضمن محيط المشكلة الجندرية.

مضمون آخر لمشكلة الجندر يمكن ملاحظته في شعر نجوم الغانم، وهو مأزق الهوية داخل (النوع الاجتماعي) نفسه وما يخلقه من دراما مركبة بفعل صراع مزدوج ثنائي الأبعاد للخروج من هذا المأزق. ففي تراث الشعر العربي ثمة صورٌ تراتبية عدة للمرأة: الحرة، والأميرة، والوصيفة والأمة والجارية، وكذلك صورة مزدوجة جندريًّا (الغلامية) وقد دأب النقد العربي على تكريس هذا الفهم، فعادة ما يعرف الشعر النسوي بأنه الذي يحمل مضامين تخص المرأة، ويعبر عن شؤونها اليومية وقضاياها. غير أن شعر المرأة في التراث العربي يتسم بالندرة من حيث الكمية قياسًا إلى شعر الرجال، سواء كانت تلك الندرة حقيقية، أو بدتْ مفترضة بسبب قلة الرواية، ومعظم ما وصل لنا من أشعار النساء يتصف بنبرة الرثاء، إنه في الواقع شأن نسوي نمطي لدى المرأة.

نتذكر هنا مراثي الخنساء لأخويها وأبنائها ومراثي ليلى الأخيلية لحبيبها توبة بن الحمير، ومرثية الفارعة بنت طريف، لأخيها الوليد، ومرثية قتيلة بنت النضر لأخيها.. بينما اتسمت نماذج الشعر العربي الحديث، بشيوع الشعر الإيروسي، وعلى رغم أن هذا الاتجاه الأنثوي في الشعر العربي بدا متأثرًا بتوجهات الشعر الأميركي والأوربي لا سيما بعد الثورة الشبابية، إلا أن التراث العربي لا يفتقر كذلك لهكذا أشعار لكنها غالبًا ما تتمثل في مقطوعاتٍ ونُتفٍ للجواري والقيان، ونادرًا ما نجده في شعر (الحرائر). إذن فهناك (شعر حرائر) رصين وحزين وهناك (شعر جوار) يتسم بالمجون والمرح. بل إن المرأة قد تكون ضحية نفسها أحيانًا، حسب سيمون دي بوفوار، حين تكرس تلك الصورة النمطية في أدبها أو في خياراتها في الحياة، لهذا أدانتها بوفوار لأن العديد من النساء، برأيها، آثرنَ السلبية والخنوع وانعدام الطموح، لذلك فهي تعتقد أن تحرر المرأة لن ينجح إلا بفعل إرادة تفاعلية موحدة بين الرجال والنساء.

رثاء لموت معنوي

شعر نجوم الغانم لا ينتمي لأي من هذين الاتجاهين، وبالتالي لا يمكن تجنيسه وتصنيفه على أنه شعر نسوي محض، بل هو شعرٌ فحسب، موضوعاته إنسانية وهي موضوعات لا علاقة لها بأي تصنيف على أساس الجنس، فموضوعاتها إنسانية وأساسية في الشعر الوجداني، وبلاغة شعرها وشكله ينتميان للفن الشعري الحديث بشكل عام. بيد أن شعر صاحبة (الجرائر)، إذا ما أُخضعت قراءته إلى معيار (جندري) صارم، سيبدو أقرب إلى شعر (الحرائر) فشعرها زاخر بنبرات الرثاء، فهي تكني عن نفسها بـ (سيدة الرثاء) لكنه ليس ندبًا لأشخاص موتى، فهي لا ترثي موتًا عضويًّا بل يكتظ شعرها بعوالم موت معنوي، موت الأشياء وما ينطوي عليه من حيرة ومتاهات وفقدانات وغيابات متتالية وكم لا يستهان به من قصائدها يستكشف تاريخ الروح وسطوة الذكريات والألم الروحي، فالموت بالمعنى الصوفي المجازي كما يعرفه ابن عربي: «حياة مطموسة، وذلك لأن الحياة انقسمت قسمين: أحدهما الحياة المبصرة، وهي حياة التأليف، والأخرى الحياة المطموسة، وهي حياة التفريق المسماة موتًا». وبهذا المعنى فإن شعر نجوم الغانم من هذا الجانب يشتغل في صميم الحداثة عبر اهتمامها بتجليات (الموت في الحياة) أكثر من ندبها للموت الجسدي.

شعر نجوم الغانم شعر وجداني، لكنه شعر بوح أكثر من كونه شعر اعتراف، صحيح أن شعر البوح وشعر الاعتراف كلاهما ينتمي للشعر الغنائي. فكلاهما مناجاة داخلية ورثاء للذات. إلا أننا لا نكاد نعثر على شعر اعتراف نسوي صريح في الشعر العربي، كما هو الحال في الشعر الغربي، وهنا يمكن التدليل عن الفرق بين الشعر العربي والشعر الغربي بنماذج واضحة، كما لدى (سيليفا بلاث) و(آن سيكستون) في شعر الاعتراف الغربي ولدى (نازك) في شعر البوح، والمشترك بينهما أن كلًّا منهن أنهتْ صلتها بالعالم على طريقتها، فبعد شعر الاعتراف لم يبق أمام بلاث وسكستون إلا الانتحار، وبعد شعر البوح انتهتْ نازك إل العزلة والصمت. وإذا ما كان شعر البوح قرينًا بالرومانسية التي لم تكن نازك بعيدة منها، فإن شعر الاعتراف في الأدب الأميركي ارتبط بحركة ما بعد الحداثة، كان شعراء ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما شعراء جيل البيت الأنموذج الواضح له.

وشعر نجوم الغانم برأيي أقرب لشعر البوح كما لدى نازك، فعلى رغم أن شعرها شخصي إلا أنها لم تتوغلْ عميقًا في مناطق محظورة عادة ما تجرأ شعر الاعتراف على اختراقها، فشعرها يقدم التجربة الشخصية والشؤون الداخلية التفصيلية بعيدًا عن الانخراط في شعر القضايا الكبرى، وإذا كان كل شيء في عالم الألفية الثالثة يشكل تهديدًا حقيقيًّا لوجود الإنسان كيانًا ومصيرًا، فإن الانتباه لتلك الشؤون والإصغاء لها يشكل نوعًا من الحصانة والملاذ لتفادي العالم الخارجي المليء بالمخاطر. أحيانًا تبرز تفاصيل (الحياة المنزلية) في شعر نجوم بديلًا لعناصر العالم الخارجي، بيد أن هذا العالم الوجيز والزاهد يصبح في لحظة مكانًا أثيرًا وأثيريًّا وفي الوقت نفسه تخلق داخل حدوده الضيقة عالمًا شاسعًا وفضاء تحلق فيه في رحلة خيالية تعويضًا عن قهر مستحكم في الواقع.

فنيًّا: تجمع نجوم في قصائدها بين التأليف والتجربة. فتخلق نصًّا متوازنًا بين التجريب الفني والقول أو البوح الشعوري. فبينما يقوم شعر التأليف على البلاغة والتجريب، يتسم شعر التجربة بالصراحة، كما أن شعر التأليف يعتمد بشكل أساسي على اللغة وجمالياتها تاركًا للقارئ حرية استنباط المعنى من القصيدة أو بعض عباراتها وبهذا فهو لا يهتم كثيرًا بالمعنى أو يرجح التعبير المضموني، بل يتبنى فكرة أن القصيدة ليست سوى بناء جمالي داخل اللغة نفسها وبواسطتها. وعلى رغم أن نجوم تحاول الجمع بينهما، إلا أنها كاتبة تجربة أكثر من كونها مجرد مؤلفة فن وإن تبدى في شعرها بعض النزوع إلى تشكيل صور سريالية داخل القصيدة لكنها صورٌ عابرة وليست مركزية في شعرها: «مقدمًا لها صندلا ً من حطب الجنة/ سيدٌ في عربةٍ تجذف ذهب السماء…/ الرجلُ الذي يقودُ قطيع الثلج».

الاغتراب بين العزلة والوحدة

مضمونيًّا: تحفل قصائد نجوم بأجواء الاغتراب والعزلة والوحدة والانتظار والغياب ووطأة الذكريات، وهي أجواء متداخلة ببعضها غالبًا، وفي كثير من الأحيان يتخذ كل منها أبعادًا وأشكالًا عدة، فللاغتراب تجليات شتى. إذ ثمة اغتراب مكاني جماعي يصبح قرينًا للتيه: «لسنا هناك/ ولم يعد لنا مكان هنا». واغتراب زماني فردي مركب كما في قصيدة «غربات»: «بعد عامين أو أكثر/ رجعتُ/ فوجدتُ النزلاء قد تبدلوا/ لم تكن الروح في مسكنها/ وصرتُ أنا كالغريبة». واغتراب يتخذ شكل الانطواء والعزلة كما في قصيدة «عَتمة مُختلفة»:

«أجلسُ معَهُمْ على الطاولةِ/ رُوحي لمْ تعُدْ هُناكَ». بل إن الاغتراب لدى الشاعرة يتخذ منحى أكثر قسوة فهي غريبة حتى وهي في أحضان الليل، وهنا نستذكر غربة «عاشقة الليل» نازك، لا سيما قصيدتها إلى (كيتس) وهي تبوح عبر معشوقيها الليل والشاعر الذي اختطفه الموت مبكرًا، وبوحها بحضرتهما، بيد أن نجوم لا تقوى على البوح لليل بل لا تجد فيه حتى ما تحلم به في حضن الليل: «نمتُ في حُضن الليل/ لكنني لم أحلمْ بشيء».

ليل (نجوم) لا يشبه ليل (نازك) المعهود فهو هنا أكثر وحشة، وهو تمثيل قاسٍ للعتمة، وهنا نجد (نجوم) تعبر، وأن بشكل مضمرٍ ولا واعٍ، عن تورية بلاغية بين حقيقة اسمها الشخصي (نجوم) ومجازه اللغوي الدلالي فتبدو كنجمة وحيدة تتأمل في منتآها بكل ما يحيط بها من بشر وعوالم تنغمر في ظلام سحيق: «هذهِ الليلة ُ تشبهُ كلَ تلك العتماتِ/ وَهي أكثرُ وَحشة/ تركتُ الليل/ يُشعل لملائكته كبريت الموت/ وانزويتُ في ركني القديم/ أتهجى الأصدقاء/ الذين انسلوا كصوف من سجادة السنوات» ثم تلجأ في موضع آخر إلى بلاغة الطباق: «الليلُ يبيض كعينيْ أعمى/ وبصيرتي تتأملُ العابرينَ».

ففي هذين السطرين تداخل مكثف لصور بلاغية تحتشد في لحظة مكثفة: الليل والنهار، البياض والسواد، العين والعمى، البصيرة والتأمل، الفرد المتأمل والحشود العابرة، ولو استفضنا في تحليل موسع لهذين السطرين، يمكن أن نصل لخلاصة مهمة لواحدة من السمات الأساسية في شعر نجوم الغانم، سواء من الناحية الفنية البلاغية أو الثيمة المضمونية والنزعات النفسية. هكذا يصبح الانزواء بوصفه (عزلة) ملاذاَ وهروبًا من الوحدة بما تنطوي عليه من (وحشة).

وفي شعر نجوم علاقة ملتبسة بين الوحدة والعزلة، رغم أن ثمة فرقًا نوعيًّا بينهما تعبر عنه في مواضع كثيرة من شعرها، فالوحدة قسرية، وهي قرينة السأم: (السأَمُ شقيقُ الوَحْدةِ) لهذا فهي تنطوي على ألم نفسي ووحشة روحية، بينما العزلة اختيارية وجودية، وكثيرًا ما تؤدي إلى تكثيف الوعي بالذات، وإعادة اكتشاف الآخرين والأشياء عبر خلق هذه المسافة الضرورية لتوسيع الرؤية، وتجنب الانخراط في الحشد، لذا نرى الشاعرة تصور لنا الوحدة حصارًا روحيًّا قاسيًا يوازي الجحيم في عالم ضيق بالأساس: «لا نافذة ً تُطِل منها إلى الفرارِ/ ولا حتى ثقبًا / تهربُ منه جحيمَ وَحْدتِها». بينما نراها بالمقابل تتغنى بالعزلة بوصفها فسحةً في ذلك الحصار:

«لأبدأ الكتابة، يكفي أن أعد قدحَ القهوة/ وأوصِدَ البابَ/ أنْ أخونَ الجموعَ لِوَهلةٍ/ فَقَط لِوَهلة».

إقصاء المرأة الشاعرة يؤدي إلى عزلها وبالتالي عزلتها، لذا ترتكب الخيانة! وأية خيانة؟ إنها خيانة الحشد بالعزلة والاعتكاف، لوهلة، إلى الذات وإلى الشعر. (خيانة) بريئة وطفولية تتيح لها أن تصغي لعالمها الداخلي وتأنس لانفرادها. كما أن إغلاق الباب هنا ينطوي في العمق على نوع من الطباق البلاغي، في دلالة مضمرة لأنها في الواقع تفتح أبواب الباطن، وتتيح لظلامها الداخلي أن يتنزه بحرية وربما يضيء على ورقة الكتابة، وفي الواقع تحفل قصائدها بكثير من هذه النماذج التي تتغنى بالعزلة وتكرسها بوصفها نافذة للإطلال على عالم آخر تشعر بالانتماء له وتتيح لها (الرؤيا) الإشراقية وتجنبها (الرؤية) الكابوسية لعالم مليء بالذعر، فتعمد للانفصال عن عالم الآخرين: «سنتوارى في وحدتنا».

ذلك أن العزلة نفسها، ومع أنها قد تبدو فسحة ذهنية وروحية وبرهة زمنية يتسنى فيها للذات التأمل في مطموراتها وإعادة اكتشافها، إلا أنها (تضيق) وتغدو نوعًا من الوحدة، وشكلًا من أشكال الحصار المحكم. فاين المفر؟ تبحث نجوم عن الطمأنينة والحنان في حضن آخر، بعد أن افتقدته في حضن الليل وضاقت بها عزلتها التي ظنتها ملاذًا، لذا تحلم بالتلاشي، وهذا التلاشي تسميه الغياب: «عندما تضيقُ بنا عزلتنا/ نختار الغياب/ الذي جربنا رأفته».

لكن حتى النوم، بوصفه بئرًا من أحلام، واختفاء، وغيابًا وتلاشيًا، يبدو عصيًّا على الشاعرة أحيانًا، ومسكونًا بأشباح الوحدة: «لا تنامُ/ خوفًا منْ أنْ تزدادَ عليها/ الوَحْدة».

تقول سرديات التراث العربي: «أقل ما في العزلة أنها إذا امتدت واستمرت بصاحبها صارت هجرة». وهجرة نجوم هجرة إلى الداخل، حيث يصبح المنفى الذهني الشخصي فردوسًا داخليًّا وخيارًا شخصيًّا. إنه تعبير عن انشقاق الفرد عن عالم لم يعد على وفاق معه. وفي التراث العربي فإن العزلة في عالم الفتنة تصبح عصمةً وحكمة: «غرفتي البارعة في اليقظة/ تقترض مني عزلتي/ متى؟ الآن/ وأنا أغالبُ الحيرة في مصير الخليقة/ أيتها الحمقاء التي أخليتُ لها الكرامات/ أكاد أسمعُ مشاورات الرعود تدنو/ لتعلن انفجارها في ليلة/ مُنعَ فيها تجول أفكاري».

إنها ثنوية قسرية بين عالم كوني وآخر أرضي وهي أفكار مكبوتة، ومحظور عليها التجوال في عالم الآخرين، وتلك هي محنة أخرى تكرس الشعور الشخصي بالتهميش والإقصاء. من هذه الثنوية غالبًا ما تنتشل نجوم صورها المشعة، من عالمها الداخلي أو ما تسميه «عتمة المخيلة» ثم تظهرها للعيان ملونة بالكلمات، لذا لن يبدو غريبًا أنْ تعنون أولى مجموعاتها الشعرية بـ «مساء الجنة» لأنها تميل إلى تكوين خلاصة صفائها الشعري من مزج المتناقضات في عالم ثنوي تحاول من خلاله خلق تناغم وتوافق، بديلًا من التنازع والصراع.

وفي شعر نجوم ثمة نزعة إلى أسلوب تشكيل في البناء والتعبير، أسلوب يبدو أكثف من ظلال وأشف من ملامح، تعبر به عن علاقة خيمائية بين القصيدة واللوحة فكلاهما عمل فردي ذهني، والفنان والشاعر كلاهما إزاء لوحته البيضاء أو ورقته البيضاء، في علاقة مباشرة يتسنى من خلالها للفنانة أن ترسم الكلمات بالخطوط والألوان، بينما تتيح للشاعرة تجسيد الصور بالحروف والكلمات. وعمومًا فبين الصورة والكلمة علاقة متممة فلكل كلمة شكلها التصويري، والقصيدة المفتقرة للصور قصيدة خاملة ولن تحوز جدارة الشعر، واللوحة الشحيحة بالتعبير عن المشاعر لوحة باردة وذات بعد واحد، ولن تحظى بميزة الفن. لهذا نحن نتحدث عن شاعرة فنانة وفنانة شاعرة: «تحسست القصائد التي كتبتَها/ منذ عشرة أعوام وأكثر من مساء/ كانت اللغة ثملة مثلك/ الصور أخف من نسائم/ أول الصباح/ والعشق برتقالي ودافئ/ كخيط الشفق».

التباس الذكريات والانتظار

ثمة موضوعان آخران ملتبسان في تجربة نجوم الغانم وهما موضوعا الذكريات والانتظار، ولأن كليهما مرتبط بفكرة الزمن، فعادة ما ينوس هذا الالتباس بين كونه عبئًا ثقيلًا أو برهة للترقب والأمل، ومن المهم هنا التذكير ببرغسون ومفهومه الشعوري للزمن الشخصي والذي يتجسد بمقولته الشهيرة: «نحن من نمضي حين نقول إن الزمن يمضي». وعلى رغم أن أينشتاين أعلن دحضه لهذا الفهم بنظريته النسبية وثورته الفيزيائية عن الزمن كتب بورخيس عبارته المذهلة عن علاقته الشخصية مع الزمن: «الزمن هو المادة التي خلقنا منها… إنه نار تلتهمني، لكني أنا النار». وفيما يتعلق بشعر نجوم الغانم في موضوع أثر الزمن في ثيمتي الذكريات والانتظار فإننا إزاء فهم شخصي شعوري أقرب للفهم البرغسوني البورخسي للزمن.

قصيدة «الذكريات المستبدة… الذكريات» نموذج لهذا التأرجح والالتباس، فثمة ذهاب شعوري نحو الذكريات «تذهب مثكولًا كطفل» ثم إياب غنيمته الخيبة والعودة إلى ما يشبه السجن «كفراشة أُودعت توًّا زجاج الأبدية». غير أن استبداد الذكريات يدفع الشاعرة إلى تبني استبداد مضاد يلتبس فيه دور السجين بدور السجان:

«سألملم الذكريات/ وإن تطلب الأمر/ سأحكم إغلاق الخزائن عليها/ وأدعي أنني أضعت المفاتيح». ولأن استبداد الذكريات أضحى عناءً مزمنًا بحيث طغت على تفاصيل حياة الشاعرة فراحت أشباحها تلاحقها، بل تواجهها في كل مكان حتى في خزانة الملابس يحفل شعرها بمحاولات لا تكاد تتوقف للنسيان بوصفه تعويذة لطرد تلك الأشباح والضد النوعي لاستبداد الذكريات وافتراسها لحياة الشاعرة: «تذهب للذكريات التي تراكمت/ في خزائن ملابسك/ تاركة رائحتها في قلبك/ وفوق شفتيك. / مبلبلًا بالتفاصيل الجارحة/ ولسع الآلام في جسدك/ تنهال في الصمت النهائي/ متوهمًا أنك تبتعد في النسيان». هكذا يصبح النسيان نوعًا من (الوهم الجميل) واللذة الموجعة أحيانًا «أنتِ تَقترِبينَ من لذةِ النسيانِ» وفي أحيان أخرى يصبح نوعًا من الخطيئة التي يستعصي عليها اقترافها: «لم تَعُدْ تَقوى على اقْتِرافِ النسيانْ». لذا تأمل في ملاذ لاهوتي يحنو عليها وينجيها من سم الذكريات: «يُجلِسُها في حُضنِهِ/ ويَسقيها حليبَ النسيانِ».

أو: «شَكرَتِ الله َ مليًّا على أُعطياتِه/ شَكرَتهُ عميقًا لأنهُ مَنحها/ أنْ تختارَ بينَ أنْ تتخلصَ/ من ذكرياتِها/ أو ذاكِرتِها». وسط هذا العناء يصبح الانتظار تجربة بديلة واستعاضة عن زمن متحقق بزمن ممكن ومحاولة لتسلية اليأس بخلق الوهم بالأمل قبل أن يقود للإحباط والهرم الروحي، لأن انتظار الشاعرة انتظار لا زمني حيث وقائعه منسية وأمدُهُ مجهول حتى لتبدو فيه الشاعرة كائنًا انتظاريًّا ما قبل الذاكرة: «لا أكادُ أتذكرُ/ مُنذ ُ متى وأنا في الانتظار».

وفي مكان آخر يتحول إلى غاية بحد ذاته وحياة بديلة حتى كأنه الشيء الوحيد المعتاد في حياتها التي لا يبدو أن ثمة أملًا في تغييرها: «أنتظرُ/ لأنني اعْتدتُ أن/ أنتظرَ». ولعل قصيدة «الشتاء الثاني» نموذج واضح للانتظار الذي لا خيار آخر سواه على مر الفصول: «أنتظرُ/ إذْ لا يَسعُنيْ/ سوى الانتظارِ». وإذا كان الانتظار ينطوي على تعبير عن الشوق والأمل، لكنه قد يتحول إلى زمن قحط وفصول يأس ليصبح بالتالي نوعًا من فوات الأوان. وهو إذا يعبر عن انقطاع مع لحظة ما في الحاضر، فهو توقع وترقب وتعلق بلحظة آتية: «مر الغُرَباءُ أمامَ شُرفَتي/ اِبْتسمَ بعضُهم/ سألَني بعضُهم إنْ كنْتُ/ بانْتِظارِ أحدٍ». هذا الانكشاف أمام الآخرين العابرين: أن تكون متلبسًا بالانتظار، يتحول إلى نوع من العري الروحي والعار النفسي أو على الأقل ينال من الهيبة: «كمِ امْرأةٍ مِثلي كسَرَ الانْتِظارُ هَيبَتَها/ وجعلَها تقِفُ في السنَواتِ/ كحِصانٍ يَتألمُ دونَ أنْ تُطلقَ عليه/ رَصاصةُ الرحْمةِ».

ثمة انتظار بينولوبي ذو مسحة إغريقية وهو ما يتجلى كذلك في قصيدة «من انتظار لآخر… هكذا تبعثر ليلها» حيث نداءات السفن البعيدة ومشقة الأسفار، وانتظار الغائب الذي لا تتعرف عليه عند عودته، وثمة انتظار لمستقبل صورة الذات منعكسًا في مرآة الآخر عبر تداخل الأزمنة بين الأجيال كما في «قصيدة المرمر الداكن» بحوارية بين الجدة والحفيدة. وهي في الحقيقة حوارية داخلية ربما من طرف واحد وليس بين طرفين، لأن الحفيدة التي كانت طفلة ستصبح جدة.

على رغم أن السمة الفنية الأوضح لشعر نجوم الغانم هو الإيجاز في العبارة والكثافة في الفكرة، فإننا نجدها أحيانًا تميل إلى السرد والاستفاضة، كما في قصيدة «مملكة الظنون» وهي قصيدة رؤيا تنتمي لعالم السحر وذات فضاء غيبي تميل فيها إلى التدفق الحر للغة وغرابة في الصور والمشهدية وتصور خلالها بعبارات لاهثة تتناغم مع إيقاع هروبها رؤيا كابوسية بلغة تقترب من الهلوسة، مشحونة بأجواء عالم كافكوي، عالم علوي في الظاهر لكنه في الجوهر ينطوي على كثير من مشاهد علم سفلي يزخر بحالات الهروب والمطاردة والمتاهة ويوجز إلى حد كبير محاولاتها في الخروج من مأزق سحيق: «فجأة تحولتْ إحدى الغيماتِ إلى امرأةٍ تتقدمُ نحوي وأنا أركض بحثًا عن مأوى، أصِبتُ بما يُشبه الحب؛ لكنها كانت تتعقبُني من قلعة إلى قلعة، من غرفة إلى غرفة، صرختُ لا تتقدمي أكثرَ سوفَ تسحقني كهرباؤكِ، تركتها في إحدى الحجرات جالسة ً كمُدرسةٍ من العصور الغريبة تحتسي الدروسَ وتبكي، تحتسي الدروسَ والفصْلُ خالٍ إلا من الأدراج بينما أنا في الخارج مَنكودة ٌ، أصعَدُ سلمًا وأهبط سُلمًا آخر بحثًا عن كهف».


رمزية‭ ‬الليل‭ ‬في ‭‬‮«‬ليل‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬الليل‮»‬
ودلالاتها‭ ‬المتشعبة

محمد‭ ‬آيت‭ ‬لعميم ‬ناقد‭ ‬مغربي

«ليل ثقيل على الليل»، عنوان ينطوي على دلالات ترميزية، بحيث يصير الليل محملًا برموز عديدة، تجعله في التجربة الشعرية لنجوم الغانم مسؤولًا عن توليد شبكة من المعاني والدلالات المرتبطة بالتجربة الذاتية وبالعوالم الباطنية للذات الشاعرة. دلالات تتولد من دقة الإنصات لصمت الأنا في عزلتها الشامخة، وفي هواجسها، إنصات يحاول الغور في بئر الأعماق، حيث ماء المعنى في أكثر من موقف ومحطة في الديوان ينهمر مطرًا، أو ينبجس من عين أو يتطامن فوق أمواج المحيط. يحضر الليل ومشتقاته، ويحضر الماء، وتلك متلازمات لاشعورية متواترة في ذاكرة الشعرية العربية، فغالبًا ما يستدعي الليل البحر، فهذا امرؤ القيس يقول عن ليل الهموم: وليل كموج البحر أرخى سدوله/ عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي.

الليل ورمزية البحر مكونان يحبلان بأجنة دلالية، تنمو في أكثر من اتجاه، فهذا حكيم المعرة يلتقط هذه العلاقة الوطيدة بين الليل والبحر والصحراء يقول: ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان/ هرب النوم عن جفوني فيها هرب الأمن عن فؤاد الجبان/ قال صحبي في لجتين من الحندس والبيد إذ بدا الفرقدان/ نحن غرقى فكيف ينقدنا نجمان في حومة الدجى غرقان.

سنعمل في هذه الدراسة على استجلاء هذه الرمزية الليلية في ديوان «ليل ثقيل على الليل» للشاعرة الإماراتية نجوم الغانم، التي جمعت في تجربتها بين فنين يعتمدان الصورة بوصفها هوية مؤسسة لجوهر الفن، هما الشعر والسينما، هذا التجاور بين هذين الفنين يتفاعل بشكل قوي لدى الشاعرة، حيث نلمس، سطوة المشهدية، والمقاطع، وحسية الصور، والسرد، واللقطة، كلها مجتمعة في بناء القصيدة لديها، ناهيك عن الانسيابية، في حركية القصيدة، مما يضفي على تجربتها نوعًا من الحيوية في تمثل العالم الخارجي، والعالم الباطني لديها.

وسيكون دليلنا في هذه النزهة في مسالك الحديقة المتشعبة لتجربة الشاعرة الإنصات لقولها الشعري واستنطاق منطوقه ومفهومه، مرتبطين بالتجربة الحسية التي تتعرف بها الشاعرة عن العالم، وكيف يتكشف لها من خلال الإمساك به عبر اللغة والصورة والتخيل، ولن نقف عند الرمزية المكرسة والمألوفة، بل سنعمد إلى إزالة غبار الألفة عن طبقات الغرابة التي يؤسسها القول الشعري الذي يسعى إلى الانفراد والتفرد، وبذلك فإن النص الشعري لديها يبني متخيله الخاص وأسطورته الشخصية من خلال طبيعة العلاقات التي يشكلها النص بين عناصره البارزة والمخفية، فبين هذين المستويين سيتكشف لنا عمق ما تريد الشاعرة إيصاله لقارئها المفترض.

الازدواجية الرمزية لليل

توقفت الكتابات التي تناولت رمزية الليل، عند الطابع المزدوج لهذه الرمزية، كما فعل ذلك جيلبر دوران، في كتابه الرائد، «البنيات الأنثروبولوجية للمتخيل» وكما فعل غاستون باشلار، في كتابه «الماء والاحلام» و»الأرض وأحلام يقظة الراحة» وفي «لهب شمعة»، فتحيل رمزية الليل إلى الخوف المتجذر القادم من السواد الذي ورثناه عن الأسلاف الأوائل، وإلى القلق الذي يعترينا من مواجهة الفراغ والصمت المطبق، ويحيل أيضًا إلى الجانب المظلم للأشياء (الظلام، السديم، الجحيم)، ومن هذه الناحية اكتسبت هذه الرمزية نوعًا من السلبية، إذ الليل معتم ومظلم، وخطير ومضلل ومقلق.

هذا الجانب الثقيل من الليل، كما أشار إليه عنوان الشاعرة التي لها نصيب من الليل في اسمها، فالنجوم لا تسطع إلا في الليل، فهناك جانب بخفة هائلة، يوحي به الليل، فهو  مناسب للتأمل، وهو لحظة للتجدد والانبعاث، فهذه الازدواجية في رمزية الليل نستشفها من وظائف الليل والسمات التي تميزه، من خلال مرونة الاستعمال، وتعدد الجهات التي يشير إليها، إذ يمكن لليل أن يكون رمزًا للنوم والموت، ولكن أيضًا يرمز لليقظة الروحية وانبعاث الحياة من بطن الظلمة، إذ الضوء لا يمكنه أن يوجد إلا وسط الظلام، فمن الليل يبزغ القمر والنجوم، والفجر بضيائه، وبه تظهر توهجات الشمعة والشعلات الملتهبة، ويبزغ منه أيضًا العديد من العناصر التي ترمز للوعي والتي نحاول اختراقها عبر فوضانا النفسية.

فالليل رديف المجهول، والسديم الذهني، والكوابيس، هذا الوجه المتوحش في الليل يفرض علينا أن نضيئه ونروضه. وفي الثقافة العربية، يحيل الليل إلى الأسرار، وأيضًا إلى الليونة والأنوثة، ومن ثم اشتق منه العرب اسم ليلى، التي كانت ملهمة الشعراء، لما لليل من أسرار وخبايا ومكنونات. وليس الليل بالضرورة رديف الكسل واللانشاط، فهو يشكل لحظة مثلى للكتابة والصلاة والتأمل، إذ يمكنه أن يتحول إلى لحظة لليقظة النشيطة، والملاحظة الدقيقة، واتخاذ القرارات الصعبة، كما أن لحظات الأرق القاسية، غالبًا ما تكون منتجة، والأمثلة على ذلك لا تعد ، فلسان الدين بن الخطيب ذو الوزارتين، ويقال له أيضًا ذو العمرين، لإصابته بأرق مزمن، غالبية كتبه الخالدة ألفت في هذه الحالة العصية، حيث الليل نهار، وأيضًا الكاتب العالمي بورخيس كان مصابًا بالأرق وكتب في هذه الوضعية نصوصًا خالدة. وقد أشار غاستون باشلار لهذا الارتباط بين الليل والكتاب، بقوله: «أسهر وحيدًا في الليل مع كتاب مضاء بلهب شمعة، كتاب وشمعة- إنهما جزيرتان مزدوجتان للضياء- يواجهان عتمات مزدوجة، عتمات الروح وعتمات الليل» (غاستون باشلار، «لهب شمعة»).

اقتناص تموجات الروح

أظهرت الشاعرة نجوم الغانم في مجموعتها «ليل ثقيل على الليل»، مكنونًا شعريًّا، عبر اختيارها الجمالي لقصيدة النثر، التي أفسحت لها المجال لتتكئ على تجربتها الحياتية وتنحت منها صورًا جديدة، بشحنات تقتات من دقة الملاحظة، واقتناص تموجات الروح والبحث عن صيغ تعبيرية تلائم هذه التموجات، كما تمكنت عبر غوص عميق في بئر الذات من استيلاد تداعيات موضوعاتية تعمل على تشبيك حقول دلالية متشاكلة، بمنطق شعري يجعل العبارات تتصادى فيما بينها محتفظة بنوع من الملاءمة بين عناصر الصورة والخيال المشكل لها فجاءت مجموعتها الشعرية منتظمة في موضوعات يسلكها خيط ناظم يحافظ على تماسك التجربة ووحدتها، فعلى الرغم من التنويع في طرائق الكتابة، بين الطول والمقطع، والفقرات المضغوطة، فإن الفضاء النصي ينهل من معين واحد، تظهره دلالات عناوين النص الأساسية والفرعية، فالمجموعة انتظمت في العناوين الآتية: ماء المساء، شتاءات تغرس دبابيسها في قلوبنا، الأيام المفزعة، بيوت زجاجية وأخرى، الضوء يشرب في الفضاء ويتمدد، الحكايات تفتح كتابها… المدن تقرأ، من دفترها ذي الأوراق البنفسجية.

الليل مولدًا للمتخيل

إن اشتغال الليل في ديوان نجوم الغانم، يعد النواة المتحكمة في نمو المتخيل الشعري في هذه التجربة، فمنذ الوهلة الأولى، يتكرر الليل في العنوان، لتبئير هذه الموضوعة، التي جاءت مصاحبة للثقل، ومن ثم فإن ما سيتناسل عن العنوان الذي ينطوي فيه عالم الديوان وينضغط، كله يوحي بهذه الجانب المعتم من الليل، وما يصاحبه من وحدة وعزلة ومخاوف وهواجس، فالإهداء لم يتقصد أحدًا، بقدر ما تم إهداء العمل برمته «إلى الليالي الوحيدة، الجديرة بكل هذا» (الديوان، ص2). ثم يأتي العنوان «ماء المساء» ليؤكد فرضيتنا التي أومأنا إليها في البداية، وهي المصاحبة بين الماء والليل، فالماء في هذا السياق يحيل إلى رمزيته المدمرة والمرتبطة بالقسوة، وهذا ما يفصح عنه العنوان الدال في القصيدة الموالية، تحت عنوان «شتاءات تغرس دبابيسها في قلوبنا».

لنتأمل هذه المقاطع من النص، حتى نقف على ما ذهبنا إليه في هذا السياق حول ليل القصيدة في هذه المجموعة الشعرية، ففي قصيدة «ماء المساء، قصائد نمت فوق الجدران» ندرك منذ الوهلة الأولى أننا في جو من العزلة داخل الغرفة، التي نمت فيها هذه القصائد، فهذه الوحدة القاسية المرتبطة بوجع الفقد، والانتظار، والأرق، وهواجس الخيانة، والعجز عن النسيان، ستخيم بظلالها على دلالات النص وليليته، تقول:

«لنطرق باب الليل فإن أجابت أرواحه فلأنها مستيقظة/ ولأنها مستيقظة/ فستصغي لصوت خوفنا الذي يشبه/ صراخ الطيور المهاجرة في العتمة/ كل منا يشبه الآخر عندما نفر/ ويكون علينا ألا تترك أثرًا/ في مكان/ ولا حتى في ذرة هواء/ لنطرق باب الليل/ ونحلم أنه سيفتح لنا/ كقلوب الأمهات/ يشتعل قلبها بالريبة/ وينطفئ الأمل في صوتها/ تنتظر أن يداويها ملكوت الله، أو أن يبتلعها موج المحيط، لأنها/ لم تعد تقوى على احتراف النسيان/ كقلوب الأمهات التي تنام باكرًا/ لئلا تكيد لها اليقظة/ تضع قلبها بقربها على الطاولة/ وترجو الأحلام أن ترفع صلواتها/ الخافتة إلى سماء مفتوحة/ تطمئن للحظة/ ثم تهب من فراشها مذعورة بالظنون/ توجه إصبعها مهدد الليل/ برميه بنار حزنها لو تركها تكتوي بجمر الخيانة/ كسائر الأمهات تقبل أن تخزها/ شوكة الموت على أن يقتل قلبها سكين/ الغفلة» (الديوان ص8)

فباب الليل مدخل يسمع منه صوت الخوف الشبيه بصراخ الطيور المهاجرة في العتمة، فاستدعاء الطيور يتشاكل مع الرغبة في التحرر من الأثر، من ثقل الذكرى، والرغبة في المعراج الليلي والحلم بفتح ابوابه، لتصل الصلوات الخافتة إلى سماء مفتوحة، فبوح الشاعرة في هذا المقطع مسكون بالريبة والإحساس بالخيانة وانطفاء الأمل، حيث أصبحت بين خيارين، إما أن تداوى من كل هذه الآلام في ملكوت الله، أو أن يبتلعها موج البحر، مرة أخرى يظهر البحر وموجه وسط العتمة الليلية، رامزًا لجانبه المظلم والمدمر، بحيث يرتبط في النص بالرغبة في الموت، فالشاعرة «كسائر الأمهات تقبل أن تخزها شوكة الموت، على أن يقتل قلبها بسكين الغفلة» (الديوان ص8)

تتواتر في المجموعة صور الفقد والانتظار، فتقفز إلى الذهن صورة بينيلوب التي تخيط الذكريات في انتظار عودة أوليس إلى إيثاكا، هذه الصورة النموذج تختفي وراء صيغ تعبيرية في القصيدة، فالمرأة التي تشبه نفسها، «تستلقي بانتظار أن يأتي» (الديوان ص 27) فهي: «تنتقل بين الظلال بين ظلال الحكايات وخرائب التواريخ لم تنته حربها من القساوة ولم تتحرر أزقتها من الكوابيس». (الديوان ص27)

يظهر المكان والزمان في تجربة الشاعرة محفوفًا بالمخاطر، فالحياة تتحول إلى مصيدة وإلى محيط للغرق، وكأن المياه كلها بلون الغرق على حد تعبير سيوران، فالآخر: «يطاردها كقرصان، يريد لها أن تغرق في محيط الحياة». (الديوان ص26)، والطريق توصل الشاعرة إلى حافة الخريف، «وكم مرة غررت بي خرائط الطريق وكنت اتبع حواس الفصول فتتساقط أجفاني كأوراق الخريف»، صورة تشي بعمق الإحساس بالتيه وبالنهايات الكئيبة، ضمنها تلك الصورة التي تتساقط فيها الأجفان التي تحمي العين من القذى، كما تتساقط أوراق الخريف، للدلالة على موت ونهاية لحياة كانت مفعمة بالخضرة، حتى الأيام معادية هوجاء تخبط خبط عشواء، لتمحو الذكرى. تقول: «تقترب الأيام ببصيرة الأعمى وتدوس ما تبقى من الذكريات» (الديوان ص11)، «وإذا كانت الأيام العمياء تدوس ما تبقى من الذكريات معلنة توقف كل شيء، حيث هناك تعلمنا أن لا شيء لنا ولا حتى أحدنا للآخر» (الديوان ص24)، فإنها أيضًا فخ تعلق فيه الروح، «الروح المعلقة كسمكة في سنارة الأيام/ تهزها الريح فتتساقط زعانفها/ تتساقط أجنحتها وقشرها وعيونها/ معلقة في الوقت، ترقص في الهواء/ وتنسى إن كان الموت قد فاز بها أو لازالت باقية لعقاب الحياة» ( الديوان ص 27 )

موضوعة السأم والوحدة والقلق والأرق

تستشعر الذات الشاعرة في أكثر من مقطع وفي أكثر من نص في مجموعتها مرارة الخيبة، والإحساس بالسأم، جراء عزلتها ووحدتها في غرفة بدأت تتقلص كي تجعلها في قوقعة، وقد مرنت قولها الشعري كي يتسع لكل هذه الأحاسيس، وتنويع نمط الخطاب حولها، ويدل هذا الإمعان في تنويع الصيغ الحاملة لهذا الكم الهائل من الأحاسيس القاسية، على وعي عميق بالتجربة المعيشة، وعلى القدرة على اقتناص العبارة الملائمة لإخراج تلك الشحنات من مكامنها، فموضوعة السأم والوحدة، والقلق والأرق، تتواتر بشكل مستمر، وتتشكل عبر وفرة الصور والأخيلة التي تمتح موادها من المعيش أو من التخيل الميتافيزيقي، وغلبة تشخيص المعنوي، وإضفاء نوع من الحياة على الأشياء، والمادة الصماء، ففي هذا المقطع الذي يشتمل على بعض من عناصر التيمات المهيمنة، وعلى طريقة بناء الصورة الشعرية، التي نلمس فيها عناصر مشهدية وسردية نلحظ قوة الشاعرة في التحكم في عالمها الشعري وطرائق صوغه، تقول: «السأم شقيق الوحدة/ والوحدة تطيل تنورتها/ كل يوم شبرًا/ تضيق الأوهام ذرعًا بي/ فتذرع دمي مثل نمل جائع/ ثمة حفيف يقترب تتحرك أقدام على/ الدرج».

فالذات الشاعرة، الواقعة تحت تأثير صدمة جرح عميق تفننت في تصويره وكانت تحذوها الرغبة في النفاذ إلى الأعماق من أجل تشريحها واستنفاذ ممكناتها التعبيرية والتصويرية، من خلال تأمل ينحو نحو اقتناص تحولات الكائن أمام وطأة الانتظار والغياب والفقدان، مما يجعل هذه التجربة الذاتية تصير شمولية وموضوعية، مما جنب التجربة الإيغال في الغنائية، وهذا المنحى يجعل القارئ يتفاعل مع نص نجوم الغانم، لأنه قد يجد ذاته في لحظة من لحظات هذه التجربة، التي تتحدث عن المشترك الإنساني، تقول: «أغفو بين الألم والألم/ لأستريح من وهم الانتظار/ أحرس النهار من أوله حتى أقصاه/ مسمرة هناك في جناح الغرباء/ بانتظار صدى قد يأتي وقد لا يأتي» (الديوان ص146)

فالهجر والانتظار، لحظات يعيشها الإنسان في مجرى حياته، لكن اقتناص هذه اللحظات وإضفاء شعرية حولها، وإخراجها من نطاق الثقل النفسي إلى خفة القول الشعري هو ما يعطي للتجربة الشعرية فرادتها ونوعيتها وتميزها، ولكي توصل الشاعرة لنا هذه الأحاسيس المشتركة، ببصمة ذاتية تلجأ إلى المجاز في إسناد العلاقات بين الكلمات، لتولد منها معنى خاصًّا، فلكي تحدثنا عن أرقها والاحساس بوطأة الهجر، تستدرجنا عبر دروب ومسالك، مفعمة بالحركية وخلق المشهدية، تقول: «يغرر بي النوم/ فتساوره نفسه أن يرحل/ متكئًا على أطراف أصابعه/ يدفع الصمت في الحجرات/ ويوصد الباب/ تاركًا للهجر ما شاء من الدهور/ لبناء أعشاشه في شجرة القلب/ تمنحه الظلمة شالها/ وأقدامها/ وتشق له المحيط كعصا موسى ليعبر/ كان ذاهبًا للسفر منذ متى وهو ذاهب إلى/ السفر؟» وفي تنويع آخر حول موضوعة الأرق، تحدثنا الشاعرة عن مأزق آخر حيث تغادر الأفكار في ليل الأرق الطويل، «في الليل تأخذ الأفكار كتابها/ وتذهب هي أيضًا/ وأتساءل أما من كائن/ يمكن أن يسهر معي» (الديوان ص147)

هذا الخوف من الليلة البيضاء والصفحة البيضاء، تروضه الشاعرة باللجوء إلى العد لتنشيط الذاكرة، حتى لم يعد يطيعها العد. فالأيام تمر في غياب أسمائها، والزمن يقضمها باحتيال، حتى أنساها قصتها، لذلك فهي تحتاج إلى نوع من الترويض لترميم ذاكرتها، «كم على الإبقاء على عادة سرد أجزائها لتنشيط ذاكرتي وكيف سأرتب ما يسقط منها لتكتمل القصة». (الديوان ص17)

للإمعان في تعميق صور الأرق الليلي، واستدعاء القمر، كثيرة هي الصور التي ارتبطت بالقمر ورمزياته، وقد استحضرها الشعراء في لحظات نفسية مختلفة، وكل لحظة تصبغ القمر بحمولتها النفسية لتنعكس على صفحة القمر، فهذا ابن المعتز يجلد القمر في إحدى لحظاته النفسية التي ارتبطت بالقمر، وأحوجته للسهاد: يا سارق الأنوار من شمس الضحى/ يا مثكلي طيب الكرى ومنغصي أما ضياء الشمس فيك فناقص/ وأرى حرارتها بها لم تنقص لم يظفر التشبيه منك بطائل/ متسلخ بهقا كلون الأبرص. (ابن المعتز، الديوان).

لكن نجوم الغانم تنظر للقمر نظرة مغايرة، ولا تحمله مسؤولية أرقها، بل تقدمه بنظرة عميقة لمفهوم هشاشة الزمن، تقول: «القمر يسير فوقنا/ ويهبنا ظله/ فنخطو فوق مراياه ونخشى/ أن تنكسر تحت أقدامنا/ فنجرحه/ أو نخدش تراب الأرض/ القمر يشق دربه بيننا/ ويذهب للنوم/ نحن لا نستطيع» (الديوان). إن استدعاء  القمر كمرآة، استعارة متجذرة، في الأدبيات الأصيلة، يذكر بورخيس إحدى الاستعارات، تصف القمر بأنه مرآة الزمن، للدلالة على هشاشة هذا المكون الزمني المسؤول على الدورة الزمنية، وعلى التحول، فنجوم الغانم تمكنت من العثور على هذه الاستعارة، من خلال إحساسها بهذه الهشاشة، التي لمحناها في أكثر من موضع في ديوانها، مما يجعلنا نذهب إلى أنها تنحت صورها من خلال غوصها في بئر الذات، والإنصات لمياهها العميقة، فهي تخشى أن تكسر مرايا القمر فتخطو على الظلال باحتراس، كي لا تجرح المرآة، أو تخدش التراب، متأملة سير القمر لكي يغفو، كطفل، فيما هي تحرس الليل ويستمر الأرق والسهاد. ويعود القمر للظهور في لحظة أخرى يصير ضوؤه مصدرًا للأنس وغزل الحكايات، لتذكرنا نجوم بقصة بينيلوب بحبر خفي، تقول: «العابر يلتقط ضوء القمر/ ليغزل به حكايات أخرى للمساء ويداوي/ العتمة الجاثمة فوق البحيرة» (الديوان، ص45).

يأتي القمر كمحفز على غزل الحكاية، وهذا يذكرنا بتقاليد الحكي التي كانت تتم في الليل، ولا تروى بالنهار، حكايات تقوم بوظيفة استشفائية، تذكرنا بالحكاءة الليلية شهرزاد التي داوت ظلمة نفسية شهريار الدموي. حضور العتمة الجاثمة على البحيرة، صورة عميقة تحبل برموز ظلامية ضاربة في اللاشعور، فالبحيرة المظلمة، تتواتر بكثرة في الرموز الظلامية، لقد برهن باشلار، معتمدًا على الدراسة الجميلة التي قامت بها ماري بونابارت، أن إدغار ألان بو، كان شاعر «البركة الموحلة» المميز. ولون الحبر يرتبط عند الشاعر بالمياه الجنائزية المشبعة برعب الليل . وكما يقول باشلار، فإن المياه عند إدغار بو، هي جنائزية للغاية، وهي المثال الجوهري للظلمات، والمادة الرمزية للموت. هكذا تتوصل المياه لأن تصبح دعوة مباشرة للموت (البنيات الأنثربولوجية للمتخيل، جيلبير دوران، ص70). يتواتر في ديوان نجوم الغانم كل هذه الرموز الظلامية والليلية، بكل هذه الحمولات الجنائزية، فالبحيرة دائمًا معتمة، والليل يستدعي الحبر، تقول:

«خرجت من حبر الليل إلى حليب/ النهار» (الديوان، ص130)، حيث إن هناك رغبة في الانعتاق من محبرة الليل السوداء، إلى تغذية الروح بحليب النهار، وتصطبغ الأشياء التي هي في الأصل جميلة، باللون الأسود وتتشح به، تقول: «والآن أيمكنني أن أذهب؟/ أحمل سلتي من كرز الأيام الأسود/ وتوت الفجر الداكن/ أأذهب بهذه الباقة من الآلام التي/ منحتني إياها السنوات مدعية/ أنها ستعينني لأن أكون روحًا/ طيبة» (الديوان ص37)

للموت حضور قوي في الرمزية الليلية عند الشاعرة نجوم، وكأنه انعتاق، فقد رأينا كيف حضر القمر في أكثر من سماء لديها، ونعلم أن القمر «يمثل في الواقع المظهر المأساوي الأول للزمن، ففي حين أن الشمس تبدو شبيهة بذاتها دائمًا، باستثناء بعض حالات الكسوف النادرة، ولا تغيب إلا مدة قصيرة عن أعين الناس، نرى القمر كوكبًا يكبر ثم يصغر ويختفي، إنه كوكب مزاجي يبدو خاضعًا للزمن وللموت» (جيلبير دوران، ص76). نجد في الديوان إحالات لهذه الرمزية المقلقة للظلام والليل، وتنعكس على الاختيارات التصويرية عند الشاعرة، بحيث يختار لاشعور النص لديها علامات تعمق هذه الموضوعة، تقول: «النافذة المثبتة في الجدار/ كسماء متسخة منذ قرون/ سربت لنا ما استطاعت من خيوط/ الصباح بعد أن ذاب الضوء في الظلمة/ وصارت الأصوات غائمة كأننا/ ذهبنا للرحيل بأرجلنا/ فوجدنا الرمل يفتح فمه لأحلامنا».

وفي مقطع آخر، تقول: «ويمكننا أن لا ننام لتبقى/ أنفاسنا مفتوحة العينين/ قابضة على اليقظة كطوف/ يديرها في الماء كيف يشاء/ لن ندع أعيننا تخوننا بالفرار/ إلى النعاس/ سنتشبث بالموج ونجذب معنا/ طوفنا ليلتهمنا البحر/ فيبلل الله أرواحنا بالموت/ ونذهب إلى قيامته» (الديوان ص 23) لليل تجليات، وكما سبق الذكر فالرمزيات ذات بعد مزدوج، حيث نرى الليل في قصيدة «الربع الأبيض من الليل» أنه سيلقي برحاله في الجوار لتسمع أنفاسه تهبط في قلبها، لتصيبها دوخة العتمة الثقيلة وقساوة الصمت الرابض عند قدميها، سيطول ذلك الليل، بينما هي تلوح لكائناته الخفية وأشباحه كي تتقاسم معها المساء، إنها لن تدرك قيمة تلك العتمة إلا بعد وقت متأخر، فهي عتمة لا تفارق ولا ترافق، إنها حين ستفعل هذا مع العتمة «ستطلق شهقة النجاة وتنظر حولها وحينها ستعرف أن الليل اكثر رأفة من ضوء النهار» (الديوان ص 50).

الرمزية التدميرية لليل

لقد تجلت فرضيتنا التي انطلقنا منها حول الرمزية التدميرية لليل المنطوية على مصاحباتها، كالحبر والقمر والمياه السوداء، والبحيرات المعتمة، والبحار المحتقنة، التي تدور في فلك الرعب والموت، في قصيدة «قلب العالم»، حيث عمدت الشاعرة لتشريح التحولات التي أحدثها النفط تقول: «لم نعرف ذلك البحر المحتقن/ بخوف أمهاتنا إلا بعد أن رفع/ رأسه عاليًا وأكل أقدام الأوطان/ تلاطم قرب بيوتنا/ رمى عليها موجه الملبد/ بالقار الأسود/ وأخذ أسماكنا/ قالوا الحرب آتية/ لم تأت بجنودها/ ولكن أرسلت لنا ذخائرها/ عرفنا أن المعركة يمكن أن تقتلنا/ دون أن تهبط على أرضنا/ صلت الجدات ليموت النفط/ وصلى العالم لئلا يستجيب الله/ لهن» (الديوان ص44).

على سبيل الختم، تمكنت الشاعرة من صوغ عالمها التخييلي مستثمرة جل الرمزيات الليلية في ازدواجيتها، وبحسها الشعري وذائقتها، وشغلت متخيلها إلى حدوده القصوى كي تتجول في المسالك المتاهية لليل وللأعماق الباطنية في الذات الشاعرة، وديوانها «ليل ثقيل على الليل» ينطوي على معانٍ ودلالات تحتاج وقفات مطولة، كي يبوح بكل مكوناته ومكنوناته.


وثائقيات‭ ‬نجوم‭ ‬الغانم
بين‭ ‬سردية‭ ‬البناء‭ ‬وشِعرِية‭ ‬المُعالجة

إبراهيم‭ ‬الملا ‬شاعر‭ ‬وكاتب‭ ‬إماراتي

احتفظت وثائقيات نجوم الغانم بقدرتها على الإغواء البصري انطلاقًا من وعي جمالي تماهت في متنه وهوامشه أطياف ومرجعيات القصيدة والسينما والتشكيل والموسيقا، وكأنها وثائقيات تنحت في الكتلة الجامعة بين الواقع والمجاز، وبين المرئي والمتخيّل وبين المشخّص والمجرّد.

وكأني بنجوم أيضًا تطارد شغفها الذاتي وسط أدغال بصرية، تفرضها طبيعة الفِلم الوثائقي باعتباره: «ضمير السينما»، والناطق باسم المهمّش والمغيّب والمسكوت عنه، اللصيق أيضًا بشخوص استثنائيين تناوبت عليهم ظروف العزلة والانكفاء والغربة بشقيها المكاني والوجودي، واستطاعوا التكيف مع هذه الظروف وترويضها وتجاوز تحدياتها من خلال الانشغال الإبداعي والاستغراق المهني، وبخاصة تلك الانشغالات الخاصة بالأنثى، وسط محيط محتشد بتابوهات اجتماعية، وأحكام ثابتة وجبرية وانتقائية في معظم الأحيان، عطفًا على ما قدمته أفلام نجوم الغانم من إضاءة مكثّفة على مواقع أثيرة يتدفق منها التاريخ وتتراكم فيها «النوستالجيا».

تتنفس أفلام نجوم الغانم في هذا المناخ المشبع بالجدل والصدمة والجمال، لأنها وثائقيات تنبش في روح الأشياء والشخوص والأمكنة، لا تكتفي بالانطباع الخارجي، ولا تناور في منطقة محايدة، بل ترتحل إلى ما وراء الصورة، وتجتهد بشكل حثيث للانفلات من صرامتها، إنها تجوس في متاهة المعنى، لا في وضوح المقصد، مستعينة «بآلات ذهنية حادة» لصنع مادتها الفلمية، محاطة بهذا الهاجس المحتدم فيها، والمتطلّع لصياغة مشروع يُؤبِّد المنسيّ والغائب والمتسرّب من حضن الذاكرة والزمن، ويحيل القصص المتفرّدة بمحتواها الإبداعي والإنساني، إلى قصص حية ومتماوجة ونابضة في وعي المشاهد، في بصره وبصيرته أيضًا، لقد تخطّى هذا المشروع مركزيته الذاتية الحالمة، وبات مؤثرًا في المهرجانات السينمائية ومنصات العرض التي شاركت فيها نجوم محليًّا وعربيًّا وإقليميًّا، لقد استند مشروعها في تأكيد حضوره على خطابه الحميمي والجمعي في آن، وعلى نمطه التفاعلي أيضًا، وأسلوبه التعبيري، وهاجسه الثقافي.

الاندماج بين «الرؤية» و«الرؤيا»

إن المتتبع لتجربة نجوم الغانم منذ اشتغالها على الأفلام الروائية القصيرة في أواخر التسعينيات، وحتى آخر أفلامها التسجيلية الطويلة، يجد أن التطور التصاعدي في أعمالها، لم يكن نتاجًا لحماس فردي، أو لرغبة شخصية في اختبار أدواتها الإبداعية داخل حقول تعبيرية متنوعة، بل جاء هذا التطور أو النضج الفني نتاجًا لاختمار وتراكم ومداومة وبحث متواصل عن طاقة الاندماج بين «الرؤية» و«الرؤيا»، فالرؤية هي بنت ملامسة ومعاينة وقياس، بينما الرؤيا هي بنت تخييل وتخلّ وطهرانية شعرية وأنطولوجية، ومن هنا فإن التحام التشخيص بالتجريد، سيخلق دون شكّ تناغمًا مثيرًا للدهشة بين الأنداد والأضداد والمتناقضات، إنه هذا التباين الجمالي النابع من فهم الأبعاد العميقة في المساحة الخصبة بين الشيء وجوهره، وبين العابر وأثره، وبين الضوء وظله، وبين النص وصورته.

انشغلت نجوم منذ بداية عملها في إنتاج الأفلام التسجيلية، بسؤال مركزي يمس الهوية والمكان والروح الجامحة لشخوص مجهولين، وآخرين معروفين، ولكن لم يخترق أحد من قبل طبيعتهم الخارجية، لينفذ إلى دواخلهم، وينقّب عن أسرارهم، وآلامهم وأفراحهم وتصوراتهم، وأسئلتهم الحارقة، ولحظاتهم الحميمية، وتجلياتهم الغائبة عن الرصد الحقيقي، وعن الانتباه الواضح والمسدد إلى عمق هذه الشخصيات، وإلى أصل شغفها وغوايتها وتميزها.

فبمشاركة الباحث والشاعر خالد البدور، رمت نجوم الحجر الأول في المياه الراكدة للفِلم التسجيلي بالإمارات، من خلال فِلمها القصير: «بين ضفتين» ثم واجهت التحدي الأكبر والأهم في هذا المجال من خلال فِلمها التسجيلي الطويل: «المريد» لتتوالى أفلامها بعد ذلك في سياق تصاعدي ومتفرع فنيًّا وموضوعيًّا من خلال أفلام مهمة حظيت بجوائز وإشادات نقدية ومتابعات إعلامية في المهرجانات والمناسبات الفلمية المتعددة التي شاركت  فيها، ونذكر من هذه الأفلام: «حمامة»، و«أمل» و«صوت البحر»، و«عسل ومطر وغبار» و«سماء قريبة» و«أحمر أزرق، أصفر»، و«آلات حادة» والتي استطاعت من خلالها نجوم أن تضع بصمة إبداعية لاهبة على الساحة السينمائية بالإمارات، وأن تحقق نقلة نوعية في التعاطي مع الفِلم التسجيلي، وتخليصه من النمط التلفزيوني المكتفي بالشكل الظاهري والانطباعي لموضوعاته.

هنا قراءة مكثفة لعدد من وثائقيات نجوم الغانم الأخيرة، والتي امتازت بسردية البناء، وشعرية المعالجة، ضمن اجتهادات فنية جامعة بين الكشف والترميز، والبوح والتأويل، والإظهار والتورية، والاستئناس والنقد. في فِلم «عسل ومطر وغبار» تأخذنا انتباهات الحنين إلى تخوم مرهفة، ونداءات قادمة من طفولة الأرض والذاكرة الجمعية، عندما تقتفي نجوم أثر جامعي العسل في جبال الإمارات، استنادًا إلى دراسة للكاتب والشاعر الإماراتي عبد العزيز جاسم، ليضيء الفِلم على التقنيات الفطرية للعسّالين المحليين، اعتمادًا على حدسهم المكثّف، وخبراتهم التراكمية المتوارثة، ودربتهم الذاتية المعنية بقراءة إشارات الطبيعة وعلاماتها، مثل دلالات الطقس، ورسائل نجم (سهيل) من أجل اقتناص الذهب السماوي في جوف المغاور وحضن الكهوف ومساكن الأشجار.

يستهل الفِلم مشاهده النوستالجية بالتركيز على فضاء سمعي وبصري مزدحم بأزيز النحل وحركته وكأننا ننصت لتراتيل غامضة ومألوفة في آن، يتداخل المشهد الضاجّ بحيويته، مع صوت خارجي للراوية الشعبية وهي تشرح تأثير ظهور نجم سهيل في أصحاب المهن القديمة مثل البحارة والمزارعين وصائدي العسل في الحقول والجبال، حيث يتحوّل هذا النجم الشاخص في المخيلة الشعبية إلى أمثولة للخصب والبشارة والولادات الجديدة في الذات والمكان.

يتتبّع الفِلم أثر ثلاث شخصيات رئيسة هم: غريب اليمّاحي، وعائشة النقبي، وفاطمة النقبي، في ثلاث مناطق بالإمارات، والتي ظلت مدة طويلة محمية من أضواء المدينة وضجيجها، وهذه المناطق هي: دفتا، ووادي سنا، وشيص، أما ظلال وانعكاسات عنوان الفِلم «مطر وعسل وغبار» فكانت موزّعة برشاقة على مفردات الحياة اليومية لهؤلاء الشخوص وتلك الأمكنة.

تستنطق الكاميرا هنا دواخل الشخصيات الثلاث، وترصد تدفقات الحكي والضحك والحزن والانتشاء، والبصيرة والحكمة، والبساطة المتحررة من ثقل التردد ومجابهة تلصّص الكاميرا وفضولها، وكان للمونتاج المتماهي مع الحكايات المروية على لسان الشخصيات الثلاث دورٌ في الربط بين الصيغة الشفهية للراوي والصيغة البصرية للمخرجة، وحملت أغلب المشاهد دلالات موحية ورسائل ضمنية لإنقاذ الموروثين المادي وغير المادّي في المكان، وحمايتهما من التغيرات الهائلة في المنظومة البيئية بعد هجمة التلوّث والتمدد العمراني والتوسع الصناعي، والخوف بالتالي من ضياع واندثار الكثير من مكتسبات الطبيعة الفطرية، وملامح الحياة القديمة، وانقراض المهن التقليدية المنبثقة من عمق التاريخ وطول الجغرافيا، والمتصلة أيضًا بأرواح كبيرة ظلت وفية لإرثها وجذورها قبل أن تداهمها الانعطافات المفاجئة والتحولات العنيفة التي أربكت هدأة المكان، وقست كثيرًا على ما تبقى فيها من بهجة وجاذبية وافتتان.

تجربة فنية جامحة

في فِلم «أحمر، أزرق، أصفر» تتناول نجوم الغانم التجربة الإبداعية والحياتية للفنانة التشكيلية الرائدة نجاة مكي، ضمن مشروعها السينمائي المتواصل لتوثيق المسارات الجمالية والإنسانية لشخصيات نسائية اختارت الانحياز «للاستثناء» وعدم الخضوع للشرط الخارجي المعيق لحريتها، والمناوئ لرهانها على الاستقلالية والتفرد.

يرصد الفِلم التجربة الفنية الجامحة لنجاة مكي والمكتنزة باقتراحات لونية ونحتية ساهمت في تطوير الفنون المعاصرة بالإمارات، وتحقيقها قفزة نوعية أسلوبًا وممارسةً، حيث تتسلل الكاميرا إلى بواعث الشغف الذاتي لدى الفنانة، واشتغالها المرهف على تلبية نداءاتها الروحية وامتلاك لغتها الفنية الخاصة، لتكون هذه اللغة هي سمة ومناخ وهوية المنجز الإبداعي الثري للدكتورة نجاة مكي. تم تصوير الفِلم بين الإمارات وفرنسا، وعملت فيه نجوم على الولوج إلى الحياة الشخصية للفنانة، وإضاءة مساحات لم يسبق التطرق لها حول المكامن والدوافع التي جعلت من الفنانة مكي نسيج وحدها في المشهد التشكيلي المحلّي، من خلال حضورها المستقل والمتطوّر في الوقت ذاته، ضمن مسيرة طويلة وممتدة زمنيًّا وإجرائيًّا.

يتلمّس الفِلم أيضًا التأثيرات والمصادر التي استقت منها نجاة مكي ثقافتها وثيمات أعمالها، واطمئنانها لوعيها الخاص بقيمة وأهمية الفن، وبفيوضاته الجمالية على المتلقّي، كما يلقي الفِلم الضوء على الصعوبات التي واجهتها الفنانة سواء في حياتها اليومية، أو في طرحها لموضوعاتها المختلفة عن السائد، ويوثّق الفِلم في جانب كبير منه المدة التي أقامت فيها مكي بمدينة الفنون بباريس مدة أربعة أشهر، ضمن برنامج إقامة الفنانين، ليفصح الفِلم عن أهمية البيوغرافيا في قراءة تطورات الشخصية أفقيًّا وعموديًّا، وكذلك ملاحقة التفاصيل اليومية وحتى الهامشية في حياة الفنان، من أجل الاقتراب من طقوسه وفهم شخصيته ومنابع إبداعه.

وبدا فِلم «أحمر، أزرق، أصفر» وكأنه يقرأ الحالة التشكيلية العامة في المكان انطلاقًا من تجربة نجاة مكي الشخصية، حيث يفتح لنا منافذ كبيرة للغور في خفايا ومسارب الفن التشكيلي، خصوصًا ما يتعلق بالجوانب التجريدية والشعرية التي تميل وتنتصر لها نجاة مكي، وجاءت المادة البصرية للفِلم متخمة بالظل والضوء واللون، وكأنها مادة متماهية مع حركة الفرشاة وإغواء «الباليته» والفضاء النحتي والبصيرة المتحفزة لليد وللآليات الذهنية لدى الفنانة. نجح الفِلم في الاقتراب من دواخل الشخصية المبدعة، وملامسة دوافعها ومرجعياتها التي صنعت وكوّنت لديها هذا الألق الروحي والبريق المعرفي، وهذا الانتماء المطلق للفن، والقراءة المختلفة للوجود.

عالم سحري يحتفل بعزلته

في فِلم «سماء قريبة» توثّق نجوم الغانم السيرة الذاتية والمهنية لأول مالكة إبل في الإمارات تقرر المنافسة بسباقات (مزايين الإبل) وتحديدًا المزاد الخاص بالإبل في أبوظبي، وهي فاطمة الهاملي التي يكتمل وجودها الأصفى والأنقى وسط «سفن الصحراء» ذات الدلالات المكتنزة بحضورها في مخيال البدو، وفي مشهدية القوافل القديمة ورحلات المقيظ بين السواحل والواحات الداخلية، يأخذنا الفِلم بمعية البراري البكر، المُشرعة على التأملات، وعلى دهشة متجددة وموعد سحري مع سماء قريبة، تكاد تلامس نجومها تراب الوجد، يجسد الفِلم مقولة (فاطمة الهاملي) الصادرة من حدس أنثوي فائض بالحنان، كما بالشموخ المندلع من الرمال العالية وكأنها قامة من ذهب.

يتلمس فِلم «سماء قريبة» تلك التفاصيل المرهفة في العلاقة العاطفية الجوّانية المتبادلة بين فاطمة وبين النوق والجمال والهجن المحيطة بها في مزرعتها، والتي تخاطبها فاطمة بشيفرة بدوية وفطرية خالصة، وعلى رغم اندفاعة فاطمة الهاملي وعزيمتها وقوة شخصيتها في أثناء المسابقة ومزايدات البيع، إلا أننا نكتشف في مسارات الفِلم وتنقلاته الزمنية، أنها امرأة مسكونة بالوجع والفقدان، خصوصًا في المشاهد التي تتحول فيها الكاميرا إلى ما يشبه مرآة للبوح ورجع الذكريات، لا تقاوم فاطمة دموعها عند أول مواجهة مع تبعات الموت والغياب، واستحضار صورة زوجها الراحل، وصورة والدها الذي ورثت منه القوة الذاتية والثبات على المواقف، تبوح فاطمة للكاميرا بكثير من آلامها، عندما انفصل والدها عن أمها، واضطرت أن ترافقه وهي ما زالت في الخامسة من عمرها، وكيف عزز هذا الانفصال القسري إحساسها بالوحشة، الذي انعكس تاليًا على تكوين شخصيتها المستقلة، واتخاذ قراراتها والإصرار على تنفيذها في مجتمع ذكوري ومحيط تقليدي يضع المرأة دائمًا في الهامش، وفي حيّز الاستلاب والإقصاء.

وتبدو المفارقة واضحة عندما تستخدم فاطمة هاتفها النقال وتتعامل مع وسائط التواصل الحديثة، بينما هي غارقة في ضباب الماضي، ومنهمكة بهذا العالم السحري المحتفل بعزلته حتى آخر حبة رمل في ليل الصحراء الطويل، مفارقة ستذوب تدريجيًّا في الحرارة العاطفية والدفق الوجداني والفضول والكبرياء والشغف الذي تختزنه فاطمة، وتعبّر عنه بشفافية يخالطها طموح لا يمكن له أن يصطدم بسقف أو حاجز، تطمح فاطمة إلى أخذ «مطيّتها» معها وأن تسافر وتمثّل الدولة في بلدان العالم المختلفة لتقول للجميع إن المرأة الإماراتية وبزيّها التقليدي وقدرتها على التحدي، تستطيع تخطّي المستحيل، وتذويب الوهم المتصلب في أذهان كثيرين.

استطاعت نجوم الغانم أن توازن بين الحدث الخارجي المحيط بالشخصية الرئيسة، وبين التقاطاتها الذكية للنوازع الداخلية فيها، وأن تقتنص من خلال زوايا الكاميرا وإمكانياتها تلك الأبعاد الموحية في الطبيعة الصحراوية، مستخدمة اللقطات العلوية القارئة لقاموس الكثبان والتلال، واللقطات الأخرى المقرّبة والمتجاوبة مع التفاصيل الجسدية للإبل والهجن، ولحضورها الحميمي في المعيش اليومي لأهل الصحراء، كي تحرّر تاليًا الصوت الخفي والظلال المتوارية والحدوس المنزوية في دواخل فاطمة الهاملي نفسها.

سرد بصري ومرئيات ناطقة

في فيلمها «آلات حادة» نرى نجوم الغانم وقد أوفت بوعدها في الكشف عن عوالم ومناخات وفضاءات الفنان التشكيلي الرائد حسن شريف من خلال عمل موغل وبانجذاب عاصف نحو المختبر الإبداعي الثري لهذا الفنان الإشكالي والاستثنائي صاحب الرؤى التحطيمية والأخرى الإشراقية، والتي نراها مبثوثة في مشاهد الفيلم بجرأة وصرامة، وبصيغة تهكمية وخادعة في أحيان أخرى، خديعة مماثلة لوقوف الفيلم نفسه على البرزخ الفاصل بين وجود الفنان المشتبك آنيًّا مع الصورة كروح وذاكرة، وبين غيابه الأكيد والقاطع كحضور وجسد.

يخترق فيلم «آلات حادة» الحدود الافتراضية بين التوثيق كبرهان على حالة مضت، وبين التقاط اللحظة الحية، والعيش فيها، وتلمّس تفاصيلها الحارة والطازجة، إنها الديمومة المتواصلة لقامة فنية عالية وشائكة ما زالت تعمل على رغم غيابها على المستوى الذهني للفنانين الشباب المنتمين للتيار المفاهيمي، ما زالت شخصية حسن شريف تغري المعنيين بالفن المعاصر لملء فراغات نقدية كثيرة فيها وحولها، وبخاصة أنها شخصية شهدت نضالًا فكريًّا مريرًا وطويلًا، وعاشت مغامرة التجريب الفني إلى أقصاه، وإلى آخر مدياته المتجاوزة لعنصر الفقد ذاته.

تجول كاميرا نجوم الغانم وسط مرئيات ناطقة داخل ورشة حسن شريف بمنطقة البرشا في دبي، تتحرك الكاميرا في مشاع بانورامي داخل المكان، وبنفاذية مبرّرة في خيالات صاحب المكان، وكأنها تقدم سرديات بصرية لا فكاك من سطوتها وغوايتها، وبخاصة أنها تترافق مع سجالات الفنان نفسه، مع بوحه واعترافاته وتعبيره عن فلسفته ورؤيته للوجود ولتأثير الفنون في هذا الوجود، بوح متمهّل واستعادي، شائق وشاهق، تصدّره مراجعات ذاتية وحكايات طفولة بائسة، وأساطير وخرافات وأحلام وقصص شكلت ملمح البراءة المتوحشة فيه، وطبعت الخدوش النقية في دواخله.

جاءت الفواصل الشعرية التي كتبتها نجوم الغانم في الفيلم، من أجل التمهيد لانتقالات مشهدية تتحرك بخفة ورشاقة وسط غابة من العلامات والعناوين والمحطات التي تشكّل في النهاية «كرونولوجيا» حسن شريف، يأتي الشعر هنا بصيغته الكاليغرافية كنصوص وتأملات بدت مثل كتل بصرية موزعة بوعي يلامس النسق التركيبي في الأعمال الأخيرة لحسن شريف، وبما يتطلبه هذا النسق من بناء أو تجهيز يتعدى الشكل النهائي للعمل، ويذهب بعيدًا نحو ضفاف وآفاق يشتغل فيها التأويل، ويسافر فيها الوعي إلى ما وراء اللوحة، وما وراء المنحوتة.

خضع فيلم «آلات حادة» لسطوة الفنان، لكاريزما تسكنه بالأحرى، كاريزما لا يدّعيها، ولكنها مطبوعة فيه، ومحيطة به مثل هالة مسترخية، ومثل ضوء أليف، لا يملي الفيلم على الصورة اجتهادات وإضافات تأتي من خارج الكادر، فكل العناصر البصرية فيه مصاغة على حجم وقياس المركز الذي تشعّ منه الفيوضات والرؤى والتحولات المشتبكة بسيرة حسن شريف والذي بدا في الفيلم وكأنه عصيّ على التصنيف، وأن الانعطافات القوية والهبّات العاصفة في حياته هي التي كوّنت شخصيته المتمردة على الأطر الاجتماعية والقوالب الفنية، إنه فنان يعيش يوميا لحظة التغيير، كما أن تكنيكه في إنتاج أعماله الفنية هو تكنيك قائم على مراوغة الزمن، وكسر تراتبيته المتراوحة بين الماضي والراهن والمستقبل، موضحا في ثنايا الفيلم أن فلسفته الفنية قائمة على الجمع بين المتناقضات، والمزاوجة بين الأضداد، فهو يجمع بين الربط والقطع، والبتر والوصل، وكأنه يمارس لعبة شهرزاد في سرد حكاياتها اللانهائية أمام شهريار، مشيرًا إلى أن مفهومي الفراغ والهدر هما مفهومان مهمان في آلية إنتاج الأعمال التشكيلية المعاصرة.

يخبرنا الفيلم أننا أمام شخصية بذلت كل ما تملك للعيش في فضاء «الكونتراست» المولّد لجماليات التباين والافتراق، والانهدام والانبعاث، والصلابة والهشاشة، والغريزة والقانون، والحرية والخذلان، تماما في تلك المسافة الذهبية التي تتّسع فيها المعاني وتضيق فيها العبارات، إنها «قوة الروح» التي تمتّع بها حسن شريف كي يهتدي بالغموض كلّه في الوضوح كلّه، ويرتفع فوق الجميع، متفرّدا واستثنائيا ولا يشبهه أحد.


مرايا‭ ‬الذات في‭ ‬تجربة‭ ‬نجوم‭ ‬الغانم

عزيزة‭ ‬الطائي ‬ناقدة‭ ‬عمانية

الحديث عن التجربة الشعرية للسينمائية والكاتبة الإماراتية نجوم الغانم، يقودنا إلى أبرز تحولات الرؤية المتكاملة في أعمالها الإبداعية. ولسنا هنا معنيين بكتاباتها الصحفية، أو منتجها السينمائي، بل سنخصص الشهادة للحديث عن إبداعها الشعري الذي يعكس منتج جيل حقبة على مدار نصف قرن من الزمن خرجت من ظلاله الشاعرة نجوم الغانم، وشاعرات من الإمارات يلتمسن الحداثة الشعرية، وحققن شهرة ملحوظة أمثال: ظبية خميس، وميسون صقر، وصالحة غابش، وصولًا إلى شيخة المطيري وسليمة المزروعي، وحمدة العوضي، ولا تزال الساحة ترفد بأخريات حققن حضورًا إبداعيًّا وحراكًا تنافسيًّا في المشهد الثقافي الإماراتي.

ولقد شكل اسم نجوم الغانم بين هؤلاء جدلًا في بنية القصيدة والثيمات الشعرية التي تطرقت لها؛ خاصة إذا أدركنا أنها ذات تنوع إبداعي يتأرجح بين تقديم سيناريو الحكاية دراميًّا، وتشكيل الصورة المتخيلة شعرًا؛ مما جعل من دلالات هذا التغاير والتجاوز تتقارب فيه الدوال الإبداعية متكاملة بين الرؤية الشعرية، والمشهد الدرامي، حيث نستمع لصوت «الأنا» المسيطرة على العالم من شرفة الواقع: «أنظرُ للمدى / الأسوارُ شاهقةٌ / والأحزانُ كذلك».

تحولات المجتمع

يلحظ القارئ لمنتجها الشعري – حتى الآن – تجلي حضور الذات الأنثوية الشاعرة وعلاقتها بالمجتمع (الناس، والمكان، والزمان)، وتشكيل الصور المشهدية من ذاك المزيج بين الرؤية الحسية والبصرية معًا؛ مما يسر لها إبراز تحولات المجتمع، وتأثيره في الأنثى بكل ما يحمله من انكسار وانحسار في تقادم متزن بين الأصالة والحداثة، بين القرية والمدينة، بين الموروث والمستورد؛ وأثر ذلك في حياة جيل من الإناث في مجتمع شرقي له إرثه وأعرافه الخاصة به. فهي قادرة على تصوير انكسارات الذات الأنثوية، ومد جسور متينة للحوار مع مجتمعها، وإسقاط تساؤلاتها للعالم قاطبة وفق رؤية شعرية جديرة بالنظر، مستلهمة ذلك كله من فسحة الأمكنة الساكنة في ذاكرتها، راصدة انعكاس الزمن بين عشية وضحاها؛ لكأنها ترسم لوحة مشهدية، أو تجسد فِلمًا سينمائيًّا قوامه الصورة الشعرية المتخيلة. إيمانًا منها أن البوح بالكتابة هو المخرج من المأزق الذي تعيشه الأنثى في بلد يتقدم ويتطور ويتسامق: «لأبدأ الكتابةَ / يكفي أنْ أعد قدح القهوة / وأوصد البابَ / أنْ أخونَ الجموعَ لوهلة / فقط لوهلة».

فنجوم الغانم مشحونة بألم الأنثى وانكساراتها، وعذاباتها المضطربة مقابل حلمها الذي يسير بها صوب قدرتها على تحقيق الذات، ومواصلة إثبات وجودها الإنساني مع كل بارقة نفسية تدفعها إلى مد التواصل الموازي مع الآخر/ الرجل من جهة، ومع ثوابت المجتمع من جهة أخرى، وهي بهذا تكرس الضمير الجمعي، لأنها على يقين أن الصوت الجمعي أكثر صدى على المتلقي، وأبلغ تأثيرًا في الصوت المجتمعي: «نعبرُ مثل ظلالٍ على حجرِ الطريق/ تتعقبنا انكساراتنا الشقية/ ويفرقنا سيف الفصول/ نمضي/ نقبضُ على التنهيدةِ الهاربة/ من صدورنا كي لا ينتبه إليها أحد».

هذا ما تراه نجوم الغانم في الخلاص المتاح لذات الأنثى، هو القبض على معاناتها لحفر مأزقها الوجودي. فمن الشقاء الذاتي الذي تأتى من المأزق المجتمعي، لا سبيل لها إلا القبض على جراحها والمضي بأحلامها. مما هيأ لها الانطلاق عبر تلك الظلال. كما تقترن في عالمها الفوضوي بجنونه واضطرابه الرغبة في الانفلات من واقعه الضبابي، والمظلم: «سيدةُ الرثاء/ غرفتي البارعة في اليقظة/ تقترضُ مني عزلتي/ متى؟ الآن/ وأنا، أغالبُ الحيرةَ في مصيرِ الخليقة / أيتها الحمقاءُ التي أخليتُ لها الكرامات / أكادُ أسمعُ مشاوراتِ الرعود تدنو / لتعلنَ انفجارها في ليلة».

هذا الدفق الشعري كله يمنحنا سلاسل متغايرة، ومتكاملة في تجربة شعرية سينمائية تنحو صوب التنامي والتكثيف. فالمتأمل في قصائدها منذ ديوانها الأول، تستوقفه حميمية التجربة، ووضوح الرؤية، وسلاسة التعبير؛ مما مكن أصالة تجربتها المراوحة المستمرة بين الصوت الذاتي النابض بالصدق، والتحرر من ثوابت المجتمع وقيوده؛ ناهيك عن الصوت الجمعي المهموم بالواقع العربي، وبقضايا العدل والحرية والمساواة، ففي قصيدة «على أعتاب الأسرار المؤجلة» تصور مشهدًا سابرًا من الذات إلى المجتمع: «نائم/ وجهه في اضطراب/ فضاؤه ملوث بالظنون/ قال للأسطورة: / ماذا كان يفعل السحرة بأرجلهم الطويلة/ قرب الخلجان؟؟؟ / عاصف بالمهالك/ يستدرج النبوءة/ مقدمًا لها صندلًا من حطب الجنة/ سيد في عربة تجدف ذهب السماء / سيد يبدد الفصول بأبهة / فإذا ما اعتكرت الشواطئ بحوريات البحر المنتحرات / تنازعه أسراره المؤجلة».

هوية الأنثى

تبلغ قصائد الغانم ذروة التركيز والشاعرية، فهي حريصة في دواوينها على إبراز أفق جديد من حيث تكوين رسم الصورة، وبنية قوام القصيدة، وطبيعة المعجم الشعري المتجدد بين ديوان وآخر. سنجد أن تكرار المعاني التي تؤسس لهوية الأنثى جلية؛ إلا أن هذا التكرار يعتمد على فرادة المعنى في السياق بين نص وآخر، بل بين ديوان وآخر؛ وكأنها تريد إضاءة العتمة الكاشفة عن ذاك الحيز الضيق بين تجسيد جسد القصيدة، ومشهد تجسده السينما حد التوازي والتناقض في آن عند بلورة هذه البنية الشعرية في صورتها المركزة، والتي تتحول فيها الغنائية إلى شظايا شعرية مثقلة بتبئير ذات الأنثى، وما تكشف عنه من توترات تختلج في نفسها كجسدها وتوترها وعشقها وأمومتها وحلمها وثقافتها، بل كيانها بأكمله، وهويتها الأنثوية وعلاقتها بالآخر.

«ذاتَ سهرةٍ/ غفوتُ ململمةً قلبي في ثوبي/ كانت الليالي تُخاتلني لتُجهزَ عليَّ/ فيما كانت الأقمارُ التي عشقتُها تتدبرُ الأمر/ والنجومُ تناولُها الشفرات/ استيقظتُ/ وجدتُ الأحلامَ مذبوحةً كعصافير/ وتحت وسادتي عُدةُ الموت». هكذا تتجلى «الأنا» الأنثوية في هذا الصوت الراسخ الذي يتصدره ضمير المتكلم، جاعلا من «الأنا» هي الفاعل الوحيد في النص، ومحيلًا كل المؤثرات المتفاعلة في بنية النص إلى مفعولات تجهلها الذات الشاعرة؛ مما جعل الفعل الشعري يتفاعل مع الفعل الجسدي لدرجة التماس الخفي ميتافيزيقيًّا وحسيًّا.

إن التجربة الشعرية عند نجوم الغانم لها وظيفتها التي تزداد تصويرًا وعمقًا كلما ازدادت كثافة ونصاعة، الأمر الذي جعل قصائد كل ديوان من دواوينها له فرادة الرؤية، لأن الشاعرة تدرك أنها امرأة تعبر عن منظورها الخاص، ورؤيتها المتفردة إلى العالم من حولها. مما جعل قصائدها تعبر عن تحققها الاجتماعي، والذاتي كامرأة تملك زمام تحققها الإبداعي النصي، وكشاعرة لها تجلياتها الخاصة بها.


وصفٌ‭ ‬لِمَا‭ ‬هي‭ ‬فِيه

أحمد‭ ‬الشهاوي ‬شاعر‭ ‬مصري

الشاعرةُ نجُوم الغانم لم تترك خُطوتَها الأولى أو الأخيرة على رمل الصحراء في بلدها الإمارات: «لا ملامحَ لأجسادِنا فوق الرَّملِ/ لسْنَا هُناكَ/ولم يعُد لنا مكانٌ هُنا». بل حفرَتْ ذاكرةً جديدةً للقصيدة العربية في المكان الذي عاشت فيه (مع اثنتين أخريين هما ميسون صقر، وظبية خميس، اللتان عاشتا بين القاهرة والإمارات)، وخرَجتْ منه إلينا، ومن حُسن الحظ (لها وللمُتلقِّي) أنها أصدرتْ أغلبَ كُتبِها الشعرية «خارج المكان» الذي احتواها؛ ولذا وصلت قصيدتُها إلى المُتلقِّي العربي، وبخاصة الشعراء والمهتمون بالشعر الجديد في البلدان العربية.

كما كان لارتباطها المبكر بمجلات طليعية، وشعراء مهمين يكتبون نصًّا مُغايرًا ومُختلفًا في منطقة الخليج العربي أو خارجها أكبر الأثر في النضج الشعري، منذ ديوانها الأول «مساء الجنة» 1989م، حين كانت في السابعة والعشرين من عمرها، وهي السن التي نشر فيها أغلب الشعراءِ العرب، وهذا النشر المبكر جعل نصَّها مُتاحًا، كما منحها فُرصةَ تعميقِ تجربتها، ومُساءلتها، وتقليب أرضها، والخوض في طرقٍ مُتنوَّعةٍ في الكتابة، وبخاصة أنها مقلة نسبيًّا في النشر، وليست غزيرة الإنتاج مثل الشاعرتين ميسون صقر أو ظبية خميس، وربما تأتي هذه القلَّة (ثمانية كُتب شعرية)؛ بسبب ذهابها نحو مجالها الذي درَستْهُ أكاديميًّا، وتخصَّصتْ فيه، وهو السينما كِتابةً وإخراجًا.

ولا شكَّ أنَّ من يُطالع شعرَ نجُوم الغانم (1962-) سيلحظ مدى التأثير العميق والمباشر لفنون السينما في نصِّها، وظهور المشهدية فيه بجلاءٍ وسطوعٍ، مُستخدمةً تقنيةَ التقطيعِ والحذْفِ والاهتمام بالصورة والتشكيل البصري، وهو رافدٌ مهمٌّ أغنَى تجربتها، وجعلها تتصلُ أكثرَ بتراثِها المحلي، والبيئة وكائناتها، والمكان الذي يتردَّدُ صداه داخلها، وهو مكان ليس خارجيًّا، بل هو باطني بشمسِه وظلالِه، وما يحملُ من ذكرياتٍ وأطيافٍ وأحلامٍ، والزمن الساكن والمتحرك، أو بمعنى آخر الثابت والمتحول الذي عاينتْهُ منذ طفولتها وحتى آخر جُملةٍ شعريةٍ كتَبتْها:

«لم يعُد بإمكاني حتَّى استعادة الأزمنةِ/ وما عُدتُ أفهمُ/ لماذا علينا/ الانتحارُ في المدَاراتِ ذاتها/ ونحنُ نعرفُ أنَّ أجسامَنا تزدادُ هشاشةً/ كلما رشقناها بالجِراحِ/ ولماذا على الليالي/ أن تبيض في شيْبِ/ الصَّباحاتِ/ وتذبلُ سعفةُ المكانِ/ فلا يبقَى لدينا ما نقتاتُهُ».

«ظننتُ أنَّ البيوتَ أوطاننا/ الأحلامَ أشجارها/ ونحن الفُصولْ».

الحنين لأول منزل

نجوم الغانم وهي تكتبُ عن المكان الآخر المُتعيَّن أو المُتخيَّل، لا يضيعُ المكانُ الأولُ، ولا يغيبُ، ويظلُّ حاضرًا بتاريخِهِ وظلالِه التي لا تبهتُ في الروح أبدًا، حتى وإنْ تلاشى أو تشوَّه، أو ضَاعَ أثره الفيزيقي.

جرَّبتْ نجومُ الغانم أشكالًا شتى في الكتابة الشعرية؛ فكتبتْ- مثلًا – الكتابَ القصيدة، كما في «الجرائر» (جمع جَريرة، وهي الجِنايةُ والذَّنْبُ)، وهي لم تنس أن بعضَ أسلافِها من الشعراء مثل ابن الرومي، الفرزدق، النابغة، الأحوص وسواهم، قد تناولوا «الجرائر» في كتاباتهم: «ونازلِ دارٍ لا يُريدُ فِراقَها *** سَتُظْعِنُهُ عمّا يُريدُ الجَرائِرُ» النابغة (… – 18 قبل الهجرة/ 605م). و«الجرائر» صدرتْ في كتابٍ سنة 1991م. كما كتبتِ النصَّ القصيرَ الذي يشبه الشذرة، أو هو شذرةٌ بالفعل، وليس «الهايكو» كما ظن البعض، و«القصيدة البورتريه» التي تنهل من الفن التشكيلي كأنَّها تلم تفاصيلَها الحياتيةَ الدقيقةَ التي تلتقطُها بخبرة عينِ السينمائية العليمة، ومعرفة العارف المهجُوس بما وراء الأشياء، ويومياتها العادية في لوحةٍ هي للفسيفساء أقرب.

(ذلك الفن الذي اهتم بتفاصيل الأشياء والخوض في تلافيف أعماقها، نافذًا من خلال المواد الجامدة إلى معنى الحياة، إنه فنُّ التلاحُم والتشابُك الذي عبَّر في دلالاته عن أحوال أمةٍ …): «كقصيدةٍ أثملتها اللغةُ/ أخطُو نحو التماثيل/ وقلبي يهفّ لرذاذِ الماءِ/ باحثةً عن أبجديةٍ/ لقول المعاركِ المُصطخبةِ في رأسِي».

الصورة الفنية

نجُوم الغانم شاعرةٌ تسيرُ «للأنحاء كُلها»، متيمةً ومشغولةً «بالأفعال والصفات»، تواصلُ دائمًا رحلتَها عبر ذواتها، وأزمنتها التي تحضرُ بقوةٍ، لديها خبرةٌ شعريةٌ، تستطيعُ بها أن تحرِّرَ نصَّها من أثقاله، وتجعله متقشِّفًا؛ كأنه مشهدٌ سينمائيٌّ، أو لوحة تشكيلية تجريدية، واضحة المعالم والعناصر، لا زخرفةَ فيها ولا تعقيدَ.

تكتبُ الصورةَ الفنيةَ التي تسعى إلى تمامها وكمالها، عبر قطعٍ صغيرةٍ مُتنوِّعةٍ تقطعُها، وتحكِّكُها وتصُوغُها ثم تنفخُ فيها من رُوحها القلقة، مُؤلَّفةً من أشكالٍ كثيرةٍ تستخدمُ فيها ألوانًا شتَّى، بحيث يخرجُ النصُّ الشعري في النهاية من تحت يديها مُتماسكًا، ومصنُوعًا أو مخلُوقًا من عناصر كثيرة أسطورية وصوفية وباطنية ومكانية، ونجوم الغانم في مجمل نصوصها تجمع نثارها وشظايا روحها، وتنظمها في حبل روحها الهش أو المتين– سيان عند الشاعر– لتعطي في المحصلة أشكالًا كثيرة داخل النص الواحد، مع المحافظة على الإيقاعين اللوني والبصري في تكوين الوحدة الشعرية التشكيلية التي تظهر لمن يتلقى النص في النهاية، كما أنها لا تغفل إيقاع الخط المنساب أو المتقطع أو المحذوف أو غير المرئي: «هلْ صارتْ أَصابِعيْ خَبيرةً بمَواضِعِها/ على الجُدْرانِ حينَ أَسيرُ/ مُغْمَضةَ العينَينِ/ أَيُمْكنُنيْ تَعَلُّمُ فَتْحِ خزائنِ الحِكْمةِ».

نجوم الغانم شاعرةٌ لم تُضِعْ «حاسّةَ المعرفة»، لكن سؤالها هذا هو ما يشكِّلُ قلقًا لمتابع تجربتها الشِّعرية، على الرغم من أنه سؤال قديم كانت قد طرحته شعريًّا قبل سنوات، لكنه يظل قائمًا؛ فالخوف هاجس مزمن ويلح في تعاقبه: «أينَ وضعَتْني الْمُفْتَرَقاتُ؟ / ماذا سقَطَ أيضًا في مُنتصَفِ/ المسافةِ غَيرُ كلماتِ القصائِدِ/ غيرُ الحُبِّ مِنْ جَوفِ القلبِ».


الذاهبة‭ ‬إلى‭ ‬السينما
بتحريض‭ ‬من‭ ‬الشعر

بهاء‭ ‬إيعالي ‬شاعر‭ ‬وصحافي‭ ‬لبناني‭ -‬‭ ‬محمد‭ ‬أبو‭ ‬لوز ‬صحافي‭ ‬أردني

تتنقل الشاعرة والسينمائية والتشكيلية نجوم الغانم بين ثلاثة عوالم إبداعية، انتقالاً يحكمه اتساع الرؤية وضيق العبارة، وإحدى وسائل توسيع العبارة هي التعبير عن الرؤى بقوالب متعددة داخل اللغة الفنية نفسها، وقد دفعت الصُّدف بنجوم الغانم لأن تسبح في ثلاثة جداول تنبع من النهر الكبير نفسه. ولأن الإبداع بالنسبة لها مغامرة فلسان حال تحليقها بين الأنواع الفنية يقول: إذا غامرت «فلا تقنع بما دون النجوم».

توزع نجوم الغانم أوقاتها بين هذه الفضاءات، فتذهب إلى الفِلم بتحريض من القصيدة وتعالج الداء بالرسم، كما فعلت مع السرطان. وبالشعر والفن والسينما تلتقط العابر وتدفع به إلى طاحونة الزمن لتُخلده في صورة شعرية من الكلمات أو الصور، كما تتجاوز بهذه الأدوات الفنية هشاشة النفس باحثة عن فضاء أقل صخبًا. تجربتها المتنوعة لفتت الانتباه وقوبلت بالحفاوة التي تستحقها.

هنا شهادات لعدد من الشعراء والكتاب حول تجربة الشاعرة الإمارتية.


التي‭ ‬تكتب‭ ‬لترشق‭ ‬الوجود بغضبٍ‭ ‬وعتابٍ‭ ‬طويلين

العربي‭ ‬رمضاني – كاتبٌ‭ ‬وروائي‭ ‬جزائري

تستدعي الشاعرة نجوم الغانم رموز الطبيعة لتجاوز هشاشة النفس والبحث عن فضاء أقل صخبًا، ويأتي حضور الليل والبحر والقمر كتجلٍّ لرغبةٍ عارمةٍ في تبديد ثِقل الوجود بلغة بسيطة، لكن صورها الشعرية الكثيفة تتخذ مشهدًا يتفرع إلى صورٍ لا تكسر أفق الانتظار بقدر ما تترك إيقاعًا جماليًّا متميّزًا لدى القارئ. ومن هنا يتجلّى الشعر عند نجوم فسحةً مناسبةً لمناجاةِ الغيم والملائكة والطفولة الأولى لهندسة عالم السكينة المتحرر من ركام الحُزن والخيبة.

في ديوانها «ليل ثقيل على الليل» تبحث الغانم عن ذاتها في مدن تشبه مخيلتها المكتظة بالمطر والغيم والثلج والعصافير. بيلباو، مونبلييه وحواضر أخرى، كانت رصيدًا كثيفًا بالحياة الملونة، وبكلماتٍ تنساب بهدوءٍ قدمت على ضوئها الشاعرة لوحاتٍ موغلةً في التنوع والثراء الجمالي ومستجيبةً لرغبتها في قتل الليل وتجاوز الانكسارات في المدن اليابسة، كما تصفها من خلال التركيز على تفاصيل إنسانية هاربة لم تغفلها الشاعرة ونقلتها بصيغة يوميات.

وفي ديوان «ملائكة الأشواق البعيدة» تحاول الغانم تجاوز البُعد ورسم الأشواق المُشتعلة دومًا واستذكار لحظات الحب العابرة، وذلك في استدعاءٍ لا ينقطع للقمر والبحر والعزلة وسطوة الليل في تأجيج المشاعر، فتدون هواجسها الدائمة وأعطاب الروح، وتكتب لترشق الوجود بغضبٍ وعتابٍ طويل أو مساءلةٍ لفظاعةِ ما يعلق في الروح من كدمات عميقة.

بنضج المرأة تراقب الحياة والأشياء وتلتقط العابر إلى طاحونة الزمن وتُخلده بصورةٍ شعريةٍ لا تكف عن السيلان، مُثبّتة في جدارٍ شاهقٍ يلامس القمر ومطوقٍ بالأشجار وغير بعيدٍ من البحر.

«لا وصف لما أنا فيه»، هنا تعود الغانم مرّةً أخرى إلى صخبِ المدن وثرائها الطبيعي والإنساني بحثًا عن أفقٍ يتجاوز اليباس، وبعدسة الشعر لا تخطئ في جمع صخبِ الحياة وتفكيكه وربطه بالذات ورصد تفاعلات كل ذلك، وباللغة تسكب روحها المتوجسة والحالمة على مساحة من البياض الهارب من عتمةٍ ثقيلةٍ تلاحق حياتها الآخذة في التكرار بشكل يجعلها أكثر تمردًا. ويتعزز دور الحب في شذراتها الشعرية بشكلها القصير والسردي الطويل نسبيًّا، وتنسج في هذا الديوان جملةً هائلةً من الحالات النفسية من قبيل الانكسار والحلم والرجاء والرغبة لتصل إلى بوحٍ عارٍ يتناوبُ بين العدمية والتمسك الصارخ بالطبيعة لكونها رمز الحياد والنقاء واللون المفضل للشاعرة في تلوين بشاعة وجودية متجذرة وسد ثقوبٍ واسعةٍ في جدار الحياة.


عرابة‭ ‬صناعة‭ ‬الفِلم‭ ‬الوثائقي في‭ ‬الخليج

علا‭ ‬الشيخ

نجوم الغانم من الشخصيات التي تستحق إعطاءها صفة تخصها، فهي فعلًا «عرابة صناعة الفِلم الوثائقي» ليس في الإمارات فقط، بل في الخليج كله، وليس كل من صنع فِلمًا تسجيليًّا أو وثائقيًّا يستحق أن يطلق على نفسه تسمية مخرج، لكن الحال يختلف مع الغانم التي، على الأقل في صناعتها، تدرك الفرق بين التسجيلي والوثائقي، وتدرك معنى خطورة هذا النوع من الأفلام. هي التي بدأت كغيرها مع صناعة الفِلم الروائي القصير، لكنها أدركت سريعًا أن عليها إعطاء قيمةٍ لصناعة الوثائقي في ظل شبه انعدامٍ لهذه الفئة من الأفلام في الخليج العربي.

نجوم الغانم، الشاعرة والفنانة الحساسة، وهذه الحساسية هي التي، على ما يبدو، تقودها إلى الشخصيات التي تريد أن تحكيها وتقدمها للناس. ومع فِلمي «الحديقة»، و«آيس كريم» الروائيين القصيرين، بدأت تخطو نحو عالم الصناعة، وبدأ من شاهد تلك الأفلام يلمس أنه أمام مخرجةٍ تريد أن تقدم المختلف، وهذا فعلًا ما حصل، لتنقل بعدها إلى صناعة فِلم «ما بين ضفتين»، عام 1999م. ترصد من خلاله حكاية ضفتي خور دبي.

عقب هذا الفِلم ابتعدت الغانم قليلًا من المشهد، لتعود مع «المريد»، أول فِلم وثائقي طويلٍ من إنتاجها وإخراجها، وفيه تحدثت عن الشيخ عبد الرحيم المريد، أحد مشهوري المتصوفين الإماراتيين، وكان هذا في عام 2008م. وبعد هذا التاريخ تحديدًا استطاعت الغانم أن تكوّن لها اسمًا ضمن أسماء صنّاع الفِلم الوثائقي في المنطقة، ولم تتأخر كثيرًا، عن فِلمها التالي «حمامة»، عام 2010م، والذي تناول حكاية البلاد عبر الشخصية الرئيسة في فِلم «حمامة الطنيجي»، امرأة يكفي أن ترى وجهها والخطوط فيه لتدرك معنى رواية التاريخ عبرها، تحديدًا منطقة «الذيد» في الشارقة.

ومن هذا الفِلم تحديدًا، تدرك أن ثمّة خطًّا تريد أن تتطور فيه الغانم، عن طريق الشخصيات التي تريد من خلالها أن تروي ما حدث وما يحدث وما هو المتوقع، شخصيات نسوية بامتياز تحضر معها، كما «حمامة»، و«الأمل»، و«سماء قريبة» الذي عرف فيها المشاهد قصة أول مالكة إبلٍ تخوض مسابقات المزاد الذي يقام في العاصمة أبو ظبي، وقدمت أيضًا فِلمها الوثائقي «عسل ومطر وغبار» (2016م) الذي لا يقل عذوبة عن الشعر الذي تصفه. وفي عام 2018م ذهبت الغانم وكاميراتها وإحساسها إلى عالم الفنان التشكيلي الراحل حسن الشريف، الذي غادر قبيل عرض الفِلم الذي تناول حياته ويومياته، ضمن وثائقي حمل عنوان «آلات حادة».

عادة ما يتم تعريف نجوم الغانم بالشاعرة، ولكن من يتتبع مسيرة وطريقة صناعة أفلامها الوثائقية يدرك أن الحس السينمائي في داخلها أصيل، فهي السينمائية الشاعرة، حتى في قصائدها تشعر وكأنك أمام صف شعر يصلح لأن يتحول يومًا ما إلى فِلم، فشعرها بحد ذاته سينما.

ناقدةٌ سينمائية فلسطينية


البحث‭ ‬عن‭ ‬خلاص‭ ‬فردي

محمد‭ ‬ميلود‭ ‬غرافي

لا حدود للشعر موضوعاتيًّا وفنيًّا في تجربة الشاعرة نجوم الغانم. فمنذ مجموعتها الشعرية الأولى «مساء الجنة» مرورًا بـ «منازل الجلنار» و«ملائكة الأشواق البعيدة» و«لا وصف لما أنا فيه» و«ليل ثقيل على الظل» و«أسقط في نفسي»، وهي تحفر في مدارات الشعر بما يقتضيه الوعي بزئبقية الكائن الشعري وغموضه الفاتن وانفلاته الآسر من تخوم الشكل كمعطى سابق عن التجربة الشعرية أو كقاعدة موروثة عن أنماط الشعر العربي قديمه وحديثه. وإذا كان ثمة شيء قارّ في تجربة نجوم الغانم فهو ذلك الحبل السُّرّي الذي يربط بين مجموعة شعرية وأخرى في توافق دال على تطوير التجربة دون المساس بجوهرها.

هكذا يشكل المساء بؤرة الزمن الذي يحظى أكثر من غيره باحتفال خاص. إنه المساء الذي «يقصر في الغياب» ويضخم الشعور بالوحدة، المساء الذي «يطل كأرملة/ تمضي ليلتها ترشف القهوة/…لكنها لا تنام/ خوفًا من أن تزداد عليها الوحدة»، أو هو ذاك المساء الذي تنكسر عليه أحلامنا «ونحن مازلنا في أول الليل»… وهذا كله استقراء لحالات نفسية تؤثث شعريًّا لتجربة البحث الدائم عن خلاص فردي أو جماعي وفلسفيًّا للتأمل في كينونة المصير البشري في عالم تفك فيه الحياة «شرائطها/ من حول قلوبنا/ وتتركنا بين الموت والموجة».

لذلك يظل الحزن هو أحد هذه العناصر الثابتة في الفضاء الشعري لنجوم الغانم. لكنه حزن لا تستكين فيه ذات الشاعرة ولا ذوات الآخرين إلى الأسى والاستسلام، بل يتحول في غالب الأحيان إلى حافز على المضي قُدُمًا على رغم العتمات وضبابية الأفق «الآن سأسير لأنني/ لم أعد أعرف كيف أعود…» «لن أسقط من جديد/ وإن فعلت فإنني/ سأحلم بيدك تمتد لترفعني…». وإذا تأملنا معجم المجموعات الشعرية كلها لنجوم الغانم سنجد «الضوء» و«الشمعة» حاضريْن بقوة في كل تلك العتمات وتلك الأماسي الحزينة.

ما يميز تجربة الغانم أيضًا هو أن الأنا لا تحيل دومًا على ذات الشاعرة. كأننا بنصوص نجوم الغانم تقاوم تلك النرجسية التي تطغى على الشعر العربي وتحوله إلى سِيَرٍ ذاتية لشعرائها. هذه الأنا هي في أحيان كثيرة أنا متكلّم آخر لا تريده الشاعرة أن يتماهى بالضرورة معها أو مع تجربتها الخاصة.

لذلك قد يكون هو المسافر الذي لا ينتبه إليه أحد و «لا تفتح له الأبواب» أو بكل بساطة ذاك الأنا الجماعي الذي يعبر عنا جميعًا. لذلك تتعدد الضمائر في نصوص الشاعرة في أخذ ورد بين المتكلم (فردًا أو جماعة) والمخاطب والغائب (فردًا أو جماعة أيضًا).

وفي خضم هذه التحولات التي تنفلت من قيد النمطية والمألوف والتي تحتفي بحرية تامة في اختيار الشاعرة لموضوعاتها الموغلة في جزئيات الحياة وتقلباتها النفسية والموضوعية، ثمة اشتغال على النصوص الشعرية بلغتها وصورها ككائنات «خارج حدود التوقع» (كما يقول عنوان إحدى قصائدها)، وهو بلا شك ردّ اعتبار مهم للدهشة كعنصر جمالي فعال في تشكيل النص الشعري وضمان قوته في ذائقة المتلقي.

من اللامتوقع مثلًا أن يوهمنا ضمير المتكلم في إحدى نصوص مجموعتها الشعرية الأولى على أنه ذات الشاعرة قبل أن تصدمنا نهاية النص في لعبة لغوية ماكرة بعكس ذلك تمامًا: «علّمْتُكَ ارتكاب الملابسات/ منحتك سيفي وسرج القصيدة/ وإذْ آمركَ أن تُخلي النهار من كهولته/ فلأنّي أبيح لك الفتنة/ زاهدًا في القتال. أنا/ أنا عروة بن الورد/ ماذا دهاك؟»

شاعر ومترجم مغربي مقيم في فرنسا


قصائد‭ ‬تتعالى‭ ‬فيها‭ ‬أصوات‭ ‬الوجوه

محمد‭ ‬يويو

حين يتوافق الشعر مع الصورة، متحركة كانت أو ثابتةً وإن في أبسط مدلولاتها، يثبت حضورًا وهوية خاصة أقرب إلى الواقع بحسب طبيعة الباعث، وربما تجاوز إلى المواجهة والتحدي مع قيم يدافع عنها، وما سواها اُعتدّ تحريضًا وخطورةً على مركزية الذائقة، وفعلًا أكثر فداحة يضمر في تضاعيفه ردمًا لأسسٍ مضمّخةٍ بأنسامِ العقيدة الآمنة. فهذا الشرود عن بيت الأب وتجنيد بلاغة الريشة والصورة في بيت الجدة خدمة للشعر، يجعل من الكلمة شباكًا خفية تتصيد الجمال والهدوء، وينم عن حنكة ودهاء ومخاتلة ترنو إلى عقد علاقة انفعالية للصورة في تجلياتها الثلاثة. ترتسم مقومات محددة لتجربةِ نجوم الغانم، وتتكشف من ثناياها طبيعة هذه الشخصية الساكنة المربكة بكثرة اللافتات والأقواس ووجوه الرماد، في محاولة لتوثيق مقبرة الذاكرة من رواسخ وممسوخات وملامح تتشكل بالقطعة الألفين، لتُظهر عمقًا إنسانيًّا ونسقًا ممتزج العناصر، وذلك في حياة رخيّةٍ تجد مسرحها في محافل أرواحٍ وحناجرَ تحدّ من أجيج نقمتها في اليوم الأوحد مكتفية بالإشارة والتلميح دون الإحاطة والاستقصاء، مع الإبقاء على كينونةٍ لا تشذّ لغتها عن معياريّةٍ أصيلة، بنفحةٍ حداثيّةٍ تتحدى منطق الكتابية والتصويرية، فتتلاقح مع الأدب العالمي وتتأثر بتكنيك الشذرة الشعرية.

تتعالى في قصائد نجوم الغانم أصوات الوجوه، وجوه أطفالٍ ونساء وجنادب وملائكة، في مغامرة شعرية تضوّعت وجدانيتها في تأليفاتٍ للقيم الخالصة، وإذا كانت السينما والتشكيل ضروبًا من الكلام، وإن اختلفت أدوات التعبير، فهي تتناغم على نحوٍ أحدث وقعه الخاص في النفس، على نحوِ صورٍ ملتقطةٍ بعنايةٍ تعبّر بواسطتها عن عوالمها الخبيئة تحريكًا وسموًا في ذاتية مواربة. وبين كثرة الشواهد، وخلف ضباب الموسيقى القصصية، تتعانق تقاطعاتها مع القلق الوجودي الدفين، ولا تكتفي بالمرئي، بل يتخلّلها جولات ماورائية على حافة التعب، جولاتٌ تتّصف بروحانيّةٍ عميقة لا سيما عندما يبدو الحضور مهدّدًا، لتستنفر الذات المبدعة مخيالها ويحضر السؤال الذي لا يغيب «والآن، أيمكنني أن أذهب؟» وهي بهذا أقدرُ على التوغل بالخيال الإدراكي تارّةً والخيال الوجداني طورًا إلى هذا العالم بأستاره المجهولة في تساؤلٍ ملحاحٍ عن كنهِ الموجودات وإعادة تشكيل حقيقتها. «أستقبل شلالات السماء/ وبروقها/ أمنحها شعري/ وثيابي/ وزوجي الذي أضعته منذ قليل/ وألقي إلى الضفاف بصرخات الفرج المجلجلة». لتنطلق إلى معارج الاستيحاء بما تلهمه ضروب الأحاسيس وجمل المرئيات.

شاعرٌ وصانع محتوى مغربي


تكتبُ‭ ‬قصائدها‭ ‬وهي‭ ‬تمشي

فاروق‭ ‬يوسف

نجوم الغانم شاعرة سفر، أسفارها هي البنية الداخلية لما تكتب والمحيط الذي يتغير وقعه بين حالة حزنٍ وأخرى، لا وقت لديها للوصف ولا وقت لاكتمال العلاقة التي تقوم بين المسافرة والكائن الشعري الذي يسكنها، كما لو أن هواءً شعريًّا ينحرف بها عن المواجهة. إن المواجهة الحقيقة هي أن ما يُرى ليس بالضرورة ما يُعاش، فالشاعرة غالبًا ما تكون في مدينة لتكتب عن أخرى. «أيتها البلاد لا أفهم كم أخفيك وكم أستعيدك»، وهي لا تُخفي أو تستعيد المدن التي تمر بها أو تغادرها باعتبارها أمكنة للتحول بقدر ما تتأبط الزمن، بكل حالاته، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، لا لشيءٍ إلا لأنها تثق بأشياء كثيرة كلها تصدر عن الشعر. ولأن الشعر يسكن الأزمنة كلها ولا زمان له، فإن ما يتسلل من مشاعرها ليس حنينًا، وهي حين تتذكر تبدو كما لو أنها لم تفرغ بعد من التلذذ بوقع الحدث. غير أنها في الوقت نفسه لا تأبه كثيرًا بـ «ما تركناه خلفنا»، فلا شيء يخفف عنها شعورًا عميقًا بالغربة، حتى الحب بنظرها هو ضربٌ من الغربة، وغالبًا ما يعبئه سوء الفهم بحكايات متضاربة. ثمّة حقيقة واحدة هي الأكثر وضوحًا في شعر الغانم وهي الغربة، غربتها الشخصية، غربتها عن الصورة التي تجد نفسها محورًا لها.

يُخيل إليَّ أن يوميات الشاعرة مليئة بالتجارب البصرية التي لا تُخفي مصادر إلهامها، حتى وإن تحوّلت إلى لغةٍ مختلفة. الغانم مولعة بالتركيب، تركيب المشهد الذي تسعى إلى أن يكون القاعدة التي تبني عليها قصيدتها. كما أن الطبيعة تشكّل خلفيةً متماسكةً لذلك المشهد. غير أن سيّدةً تكتب قصيدتها وهي تمشي لا بد أن تستوحي لغتها من المطر والأشجار وحجارة الطريق والمشاهد التي تمر بها، ففي كل جملها هناك شيء مما يُرى، وهو الشيء الذي يمكن ألا تقول عنه شيئًا، غير أن رائحته تظل ممسكة بكلماتها. قصائدها هي نتاج الأماكن التي عاشت فيها أو مرت بها، ونجوم الغانم شاعرة مسافرة بين المدن وبين المعاجم، كل خطوة منها قصيدة وكل قصيدة هي فكرة عن كلامٍ لم نقله من قبل.

شاعرٌ وناقدٌ عراقي


كأنها‭ ‬الفراشة

نصار‭ ‬الحاج

«أرتقبُ الأصدقاء/ لأنني أتذكرُ/ أنَّ لي روحًا/ تقوى على الابتسام معه».

الكتابة عن الشعر ليست نزهة سهلة ولا هي لغة تسلّم مفاتيحها دون غوصٍ عميقٍ، وتواصلٍ يتخلق من خلال الإمساك بخيوط التجربة الشعرية التي امتلكت أدواتها وأنتجت منجزًا شعريًّا حقق جمالياته وفنياته وتقنياته الملفتة، لكن بلا شك الكتابة عن الشعر هي نزهةٌ ممتعةٌ بين عوالم لا تنتهي من الجمال الدافق في حقول الكتابة، إنها السير على أسلاك الروح الشفافة ومداعبة السيول المنهمرة في وديان الشعر النقية. وهذا هو الحال مع تجربة الشاعرة نجوم الغانم التي ظلت ومنذ سنوات تسقي تربة الشعر من دمها وتبذر قصائدها في حقول الشعر فاكهة لضوء الحياة.

إنها كتابةٌ في حقل المحبة وتجوال في سماء زاهية تأخذ القارئ بخطفة رشيقة منذ الوهلة الأولى وعبر عناوين شعرية ملهمة مثلما هي عناوين الكتب شعرية لنجوم الغانم التي أخذتني إلى عوالمها برقة النسيم المنعش، ومنها «ملائكة الأشواق البعيدة»، «ليلٌ ثقيلٌ على الليل» و «لا وصف لما أنا فيه». عناوين تقول إن هذا شعر وليس نوعًا أدبيًّا آخر، إنه الشعر وحده بكامل شغفه وروحه العابرة لعوالم الحياة وما فيها من حركة لا تهدأ وملامسة كل جامد وأنسنته والدخول معه في خطاب موغل في الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، كأن تقول: «سأدع كل شيءٍ في مكانه/وحتى الغبار/الذي تكدّس فوق الأشجار…» لتعرف هي أيضًا كم تتألم أجسادُنا حين لا يمسها أحد. ونجدها في موضع آخر تهربُ إلى البحر وتدعو النوارس لتقاسمها الصلاة وفطور الصباح.

نجوم الغانم تهدي كتبها الشعرية إلى الليالي الوحيدة الجديرة بكل هذا، وإلى الحياة حتى عندما تقسو وتكتب ما بين الموت والموت في الهجرات وتلويحاتها وتقول:

«أيقظتني العاصفة/ كزائرٍ لوحته الأسفار/ سألتني موقدًا ورداءً دافئًا/ كشفتُ لها قلبي / فعبرت الأوطان».

تلك هي الكتابة الشعرية عند نجوم الغانم، كشفٌ متواصلٌ للمخبوء، ومغامرةٌ جسورةٌ في الذهاب بالشعر إلى حريته الكاملة، عابرًا كل الدروب الشائكة والمناطق الوعرة إلى رؤى جديدة ومخيّلة شاعرية شرسة في اقتناص جملٍ شعرية باهرةٍ ومبتكَرةٍ، قادمةٍ من ينابيع شعرية دافقة تلامس الروح بيسر، وتبلّلُ اليومي وقهره الفاجر بقصائد ندية وشفافة ونقية لا يشغلها سوى إنجاز كتابةٍ شعرية تسهم في تنقية أرواحنا واللجوء للغةٍ أكثر بوحًا وشغفًا، تحقق سمو الشعر وجوهر رسالته بوعيٍ صارمٍ وبذخٍ تمتلكه الشاعرة نجوم الغانم وتفصح عن كل ذلك كتابتها الشعرية المبذولة عبر دواوينها.

شاعرٌ سوداني


شمعة‭ ‬تتراقص في‭ ‬المشهد‭ ‬المتجمد

محمد‭ ‬صرخوه

«جاءت تقرأ مايكل أنجلو/من السقف حتى أخمص قدمي آدم/رأسها ملقى فوق كتفيها/وجسدها يلتف في دائرة بلا محور/كانت مصلوبة في أيقونات الأروقة/لكنها سعيدة/جاءت تتأمل القبة وملائكة الفردوس/وتردد لحنًا شرقيًّا».

يخضع النص (أيّ نص) لمحور الطاقة اللغوية، بقطبَيه السالب النثري والموجب الشعري، وما بينهما تأتي النسبة والتناسب. ولعل أكثر ما يحدد مقدار الميل الشعري في لغة ما، هو مقدار الكثافة، وما يندرج تحتها من أدوات، كالإيحائية والرمزية، والتي تعتمد غالبًا الكناية كأداة مثلى في صنع طبقات التأويل.. تحقيق هذه العناصر ذات الميل الشعري في النص يشبه إلى حدٍّ كبير ضربات الحظ في لعبة قمار.. حيث تصطف عناصر متشابهة في صدفةٍ أو لحظة ما، فيكون الناتج فيضانًا.. أو رياضيات بمنطق شعري، يكون فيه العدد الناتج من عملية جمع 1+1 مساويًا مئة وتسعة وتسعين.. وذلك ما يدعوه جون كوين بصدع النظام.

تحضر هذه الرياضيات الشعرية بجودة عالية في نصوص نجوم الغانم، ذات الاعتماد شبه الكلّي على المشهد اللحظي. إذ غالبًا ما تعتمد مبدأ الفقرة الواحدة في نصوصها.. تكتب الجمل ذات الشحنة المنخفضة بشكل نثري صريح وبسيط.. ثم تختم بشحنة صاعقة.

تقول نجوم الغانم: «على المقهى الرصيفي/تحدثنا قليلًا/راقبنا العربات وسائقيها/المارة/والمترجلين/كان علينا احتساء قهوتنا سريعًا/قبل أن تتدحرج أمواج الليل صوبنا/وتضيّعنا أبواب المدينة الغريبة».

بين تعصب المتحجرين الذين قد يحجب الشعر نفسه عنهم في هذه والمنفلتين الذين يرونه شعرًا دون معرفة السبب.. تظهر رياضيات النص.. تبدأ نجوم الغانم فقرتها بجمل يغلب عليها الطابع النثري المباشر من «المقهى الرصيفي» حتى بلوغ «قهوتنا سريعًا».. وحيث يعتقد المتتبع لمسار الطاقة اللغوية ذات الإيقاع الهادئ المباشر أن الخاتمة ستأتي نثرية، تفتح نجوم الباب على أمواج الليل.

لا تنتمي دحرجة الأمواج ولا الأبواب التي تضيّع أهلها.. لمنطق الجمل النثرية السابقة عليها. الأمر الذي أحدث الصدع في المنطق الرياضي للنص بشكل متقن لتنقلب الشحنة السالبة موجبةً دون حاجة لما يقوم به بعض الشعراء في نصوصهم من تمهيد وتفسير وإيضاح لا يزيد نصوصهم إلا ورقًا.

لعل ما يميّز نصوص نجوم الغانم أيضًا هو اعتمادها على تجميد اللحظة، وتحريك عناصرها كما فعلت في نص مستهل هذا المقال، بما يكفي من قدرة على التوصيف لإحداث العمق في المشهد المتجمد وإيجاد البعد الثالث للصورة.. الأمر الذي يحسب بجدارة لنجوم ويميز تقنيتها في التصوير عن تقنية القدماء الذين كانوا يرسمون الصورة كما هي جاثمة على لحظتها بالقليل من المكيجة لإظهارها جميلة.. أما نجود فقد تميّزت بتطوير الفن التصويري في النص من خلال تحريك العناصر في المشهد الواحد دون إحداث تتابع زمني.

شاعر وكاتب كويتي


ذات‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬العالم

صبحي‭ ‬موسى

بدأت نجوم الغانم كغيرها من أبناء جيل الثمانينيات بكتابة قصيدة التفعيلة حيث كانت الموجة السائدة عربيًّا وقتئذ، على رغم وجود قصيدة النثر منذ الخمسينيات والستينيات، لكن الاعتماد عليها كموجة أساسية في الشعر العربي الحديث تأخر إلى منتصف التسعينيات، مما جعل كثيرًا من أبناء الثمانينيات يصدرون دواوينهم الأولى في إطار النص التفعيلي، ثم سرعان ما تحولوا إلى النص النثري الذي احتل موقعًا متميزًا في المشهد الشعري مع تسعينيات القرن، فكان أول أعمال الغانم «مساء الجنة» الصادر عام 1989م منتميًا لقصيدة التفعيلة روحًا وإيقاعًا ولغة، وفيه قدمت نفسها للوسط الثقافي الإماراتي والعربي بوصفها صوتًا جديدًا قادرًا على الإضافة الشعرية، صوتًا ينتمي إلى منجز النص العربي الحديث منذ وضعت نازك الملائكة وبدر السياب وصلاح عبد الصبور قواعده، حتى وصلت روافده إليها كشاعرة شابة.

وسرعان ما أصدرت بعد عامين ديوانها «الجرائر»، وهو في عوالمه أقرب إلى قصيدة التفعيلة، لكنها مع الديوان الثالث «رواحل» كتبت النص النثري، فانتقلت من العام إلى الخاص، ومن الكلي إلى الهامشي واليومي، وراحت الذات تتجلي بوضوح، كأنها كانت تبحث عن قصيدة النثر كي تتلاقى معها، وتنتج من خلالها صدق التجربة الشعرية المتوهجة بداخلها، والتي مزجتها بحس سريالي معبر عما يجتاح النفس من هموم وهواجس: «صرت ُ مثل سُلحفاة ٍ عجوز ٍ على سطح كوكب وعر ليس بيني والفضاء سوى ريح عاتية وغيومٍ مزيَّنةٍ بالماس. فجأة تحوّلـَتْ إحدى الغيماتِ إلى امرأةٍ تتقدّمُ نحوي وأنا أركض بحثا عن مأوى».

هكذا تشكلت ملامح قصيدة نجوم الغانم وفق سياق قصيدة النثر، سواء من حيث الشكل أو الرؤية الداخلية، كاشفة عن ذات قلقة لا تقر في مكان، لديها هواجسها التي لا تنتهي، هذه الهواجس التي تسربت في سياق نص أقرب للطرح السريالي، مما خلق خصوصية واضحة لنصها الشعري ضمن ما يكتب في نهاية الألفية الثانية.

مع بداية الألفة الجديدة، وتحديدا عام 2000م، قدمت نجوم ديوانها الرابع «منازل الجلنار»، الذي تخلصت فيه تمامًا من روح قصيدة التفعيلة وإيقاعها ولغتها، لتقدم نصًّا نثريًّا خالصًا، تتجلى فيه الذات بوصفها مبتدأ كل شيء ومنتهاه، وحيث التفاصيل الصغيرة هي الأدوات التي تعبر بها عن علاقة الذات بهذا العالم، حيث الذات الشاعرة تتجسد فيما يحيط بها من أشياء، لتعبر عنها بوصه جزءًا من روحها، أو أن روحها هي التي تسكن فيها، وليصبح البعد النفسي أحد أهم الركائز في النص الشعري لديها: تركتُ الليل/ يُشعل لملائكته كبريت الموت/ وانزويتُ في ركني القديم/ أتهجى الأصدقاء/ الذين انسلـوا كصوف من/ سجادة السنوات،/ الجدَّات اللاتي أخذن قمحهن/ وخبز الصباح الساخن معهن/ واختفين.

توالت الأعمال التي أكدت على أن نجوم الغانم أحد أهم الأصوات الشعرية في عالمنا العربي، فصدر لها «لا وصف لما أنا فيه»، ثم «ملائكة الأشواق البعيدة» و«ليل ثقيل على الليل» و«أسقط في نفسي»، حيث ترسخت المدرسة الشعرية المعبرة عن الشاعرة وجيلها وما تلاهم من أجيال، لتكون الغانم إحدى أيقونات هذا النص، بدءًا من الانحياز إلى السرد كتيمة أساسية في الكتابة، مرورًا بالرؤية الرومانسية للذات والعالم، وصولًا إلى اللعب مع الزمن بوصفه المعبر هذه الرؤية: لا أحدَ يَعرِفُ السنواتِ مِثلَنا / نَرعاها في فِناءِ بيتِنا / وحينَ يَضيقُ الفِناءُ / نُخَبِّئُها في أحْشائِنا / حتّى يَلْتبِسَ الأمرُ علَينا / فنَظُنُّها أَجِنّتُنا.

شاعر مصري

المنشورات ذات الصلة

صناعة النخب في الوطن العربي

صناعة النخب في الوطن العربي

صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...

1 تعليق

  1. عثمان فارسي

    من فضلكم اريد مقال المدن الذكية حلم ام وهم

    الرد

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *