كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
على مسافة قريبة من أعمال المصوّرة الدانماركية ترينه سوناغورد
«كلّ الصور الفوتوغرافية تذكر أنك ستموت»(1). أن نلتقط صورةً فوتوغرافيةً فهذا يعني أننا نساهم في موت، أو عطب، أو تحويل الآخر إنساناً أو شيئاً. ومن خلال تقطيع اللحظة، وتجميدها تحديداً، فجميع الصور الفوتوغرافية شاهد على ذوبان لا رحمة فيه للوقت(2).
تسير ترينه سوناغورد(3)، المصوّرة الدانماركية، في طريق موازٍ لما تراه سوزان سونتاغ، لكنه أيضاً في اتجاه معاكس؛ فاللحظة التي تقبض فيها عدستها على المشهد تكون هناك حياة ما قد انبعثت في المكان، كأنها تقوم بفعل تحريك عجلة الزمن هنا، بخلاف ما للصورة الفوتوغرافية من فعل أساسي. والتكوين لا يكون محض قنص أو مصادفة، إنما هو آتٍ عن تأنٍّ كبير، ورصد عميق، يتوخّى الابتعاد، ثم التقرّب، ثم الدوران المستمر لاكتشاف المدخل الأكثر إبهاراً وكشفاً له. التقشّف مهيمن على الصورة، لكنه أحد العوامل الموظفة لديها بشكل متقن من أجل تحقيق لغة بصرية مكثفة وبليغة.
الاهتمام بالتفاصيل
تُعنى ترينه سوناغورد بالأجواء الصغيرة وتفاصيلها التي لا تكاد تُرى أو تُلحظ. (الدقة، والتقشّف، والرسوخ)، تكاد هذه الميزات الثلاث تصفها كما تصف المنهج الذي تتبعه في عملها.
كتابها الصادر حديثاً، الأنيق الباذخ الذي حمل عنوان (سكون)(4)، تضمّن سلسلةً من مجموعة مختارة من أعمالها للمعارض الثلاثة الأخيرة بين عامي 2007 و2013م: العنق الذهبي، وصور داخلية، والقناع، وفي جميعها نستشفّ سكوناً وتأملا وحيلةً في الاختيار، يشوبها غموض يدفعنا إلى التمهّل عند تلك الصور الفوتوغرافية التي تجمع بين فنّ البورتريه واللوحة الزيتية التي تعود بأجوائها وإتقانها إلى القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، ومن شأن ذلك -كما يُلاحظ- أن يُبرز مزجها الرصين الحاضر بالماضي.
تقول ترينه سوناغورد فيما يخصّ الهاجس الذي يشغلها في عملها في هذا المجال: إنها مهووسة بمحاكاة الفضاء الذهني للعزلة. وذلك يعني أن العالم الذي تراه لا يخضع للمرئي الممكن فيما نراه، وإنما يخضع لتصوّر تقوم هي بإضفاء مثالية ما عليه وفق عينها الفنية، وإدراكها، ومعرفتها.
(العنق الذهبي) هو عنوان المعرض الذي حوى سلسلةً من صور الفتيات اللاتي لا نرى منهن غير ظهورهن. و(العنق الذهبي) تسمية للقلنسوة، أو لجزء من غطاء الرأس كما يظهر في الصور، وهو بمنزلة إكسسوار من ضمن أطقم ثياب المرأة في الريف الدانماركي في منتصف القرن التاسع عشر: قطعة قماش من الحرير مشغولة بخيوط الذهب بمهارة تنمّ على فنّ متميز يقصد جلب الأنظار في الحفلات والمناسبات إلى مكانة المرأة رمزياً وزينتها بشكل متحفّظ راقٍ، خصوصاً بين عوائل النبلاء والفلاحين الميسورة الحال؛ إذ لا تملك الأغلبية من العوائل القدرة على اقتنائه. ويُذكر أن النسوة اللاتي يقمن بتطريز هذه القبعات كنّ يكسبن دخلاً يمكنهن من إعالة عوائلهن في تلك الحقبة بشكل جيد؛ لأنها مهنة نادرة تتطلب الجهد الدقيق والحرفية في أشغال الإبرة، والتعامل مع خيوط الذهب والفضة والحرير، وقد عدّ هذا المجال من أول المجالات التي ضمنت للمرأة عملاً حراً ودخلاً مستقلاً آنذاك.
تبرز ترينه سوناغورد حساسيةً عاليةً للضوء، ونقاءً لا متناهٍ في الصورة، من خلال قطعة الملابس الصغيرة التي تبدو في الصورة نقطة إشعاع منتصف الفراغ، وقد عمدت إلى اختيار أحجام كبيرة لصورها الفوتوغرافية المعروضة تأكيداً لضرورة التوغل في عوالم التفاصيل الصغيرة.
التداخل بين الأزمان في هذه السلسلة كان في إبقاء الفتيات على ملابسهن اليومية العادية مع ارتداء تلك القلنسوات التي تعود إلى أكثر من مئة وخمسين عاماً إلى الوراء.
خلف وأمام
في جوابٍ لها عن هذا المزج تذكر ترينه سوناغورد: «كنتُ مأخوذةً بالزمن في الصورة، إنه يشير إلى الخلف، لكنه يشير -في الوقت ذاته – إلى الأمام. عندما نرتدي الزيّ اليوم كأننا ندخل الماضي، لكن في هذه اللحظة».
ونحن لم نكن لنأبه للصورة إياها ونحن نتصفّح كتاباً تاريخياً عن الأزياء في عصور محددة، لكن تحريكها من زمن مضى بالطريقة التي اختارتها سوناغورد سلّط الضوء على قطعة مهملة سقطت من ذاكرة الناس، ولبثت طويلاً مخبّأة في متحف حتى عثرت عليها ذات مرة، وأعادت علينا سردها مثل قصة بطريقة شائقة آسرة. للعدسة فعل الاستبطان في تقديم الصورة كما للقلم في كتابة نصّ.
في سلسلة الصور التي حملت عنوان (صور داخلية) يظهر لنا ملمح إسكندنافي دانماركي بامتياز من خلال تلك الأجواء التي تكتفي بضوء قليل، وتوزيع متواضع لمكونات اللوحة. غرف واسعة مهجورة، وأبواب ضخمة عريضة مواربة، وضوء متسلّل من نافذة يكشف عن ممرّ طويل مظلم، ليس معروفاً أكان يعود إلى بيت تركه أصحابه أم أبعدوا منه. الظلّ والضوء، البارد والحار من الألوان، يقترنان لا محالة بلوحات وليم هامرسهوي(5)، الفنان الدانماركي الشهير بدكنة ألوانه، وفراغ لوحاته من الأثاث إلا القليل جداً منها، وتلك الخطوط الطويلة المستقيمة التي تحدد هندسة اللوحة في أضلع الشبابيك والجدران والسقوف، كما تمتاز بخلوها من البشر، عدا امرأةً وحيدةً تولّي ظهرها لنا، أو قد لا نفوز إلا برؤية جانب منها وهي منزوية في ركن قصيّ من اللوحة، كأن الوحشة والصمت والغموض يلفّ الأمكنة والبشر.
قد يطرح الكتاب سؤالا عما يجمع المرأة وتلك الصور الداخلية المهجورة في تلك المعارض الثلاثة؟
كما في سلسلة صور (العنق الذهبي)، التي التقطتها سوناغورد للمرأة بهدف جرّ المشاهد الى أمكنة أخرى من أجل رؤية واقع غير الذي يراه، كذلك في سلسلة (صور داخلية)؛ فما تريده -وفق قولها- هو استنطاق الصمت الذي يلفّ الأمكنة، والنبش فيها.
فيما يخصّ تقديم الكتاب، الذي جاء منفصلاً في منشور صغير تحت عنوان: (كيف نرى؟)، تذكر البروفيسورة مايك بال(6)، التي تناولت أعمال سوناغورد بدراسة نظرية مستفيضة لم تكن تخطّط لها عندما شرعت في كتابة التقديم؛ لأنها أخذت فجأةً بالعمل، ووجدت نفسها أخيراً تستعرض نظريات الفن في أوائل القرن العشرين، وتكتب عن فنّ التصوير الفوتوغرافي مقارنةً بأعمال سوناغورد، وعن طرائق الرؤية أو المشاهدة عامةً، تقول: إنها انتهت من خلال تقديمها العمل إلى فكرة أن غير المرئي يمكن أن يكون طريقاً إلى رؤية فضلى.
جزء من اللباس الشعبي
(القناع)، أو ما يُطلق عليه في اللغة الدانماركية: السترودة، هي السلسلة الثالثة التي تضمّنها الكتاب، والتي حوت صوراً لمجموعة من النساء والفتيات اللاتي يرتدين القناع بوصفه جزءاً من اللباس الشعبي. كلمة (سترودة) يُعنى بها كلّ ما نتأ وبرز، ولعل المقصود هنا طريقة لفّ الوجه، وتعصيب الرأس، فتبدو ذيول ربطة الرأس موتورةً، منتصبةً، بارزةً. وتعدّ السترودة الجزء الأساسي من زيّ المرأة الفانوية.
قامت سوناغورد -خلال ثلاث سنوات متتالية- بزيارة جزيرة فانو، التي تقع في الجانب الغربي من جتلاند، من أجل إنجاز مشروع معرضها الذي تضمن تصوير شابات الجزيرة بأزيائهن التقليدية.
درجة اعتزاز أهالي هذه البلدة بتاريخهم وتقاليدهم وأزيائهم كبير جداً، ويشارك في الاحتفال السنوي جميع ساكنيها بإحياء يوم تقليدي يعود بزمن البلدة إلى الوراء مئات الأعوام، ويشمل الطعام، والرقصات، والأغاني، وألعاب الأطفال التقليدية، وفي كل عام ترتدي المرأة الفانوية ثيابها الخاصة، وغطاء رأسها الخاصّ؛ ابتهاجاً بالمناسبة.
وبينما كانت قلنسوة (العنق الذهبي) ليست سوى مكمّل لزينة المرأة كان للقناع أو السترودة وظيفة مهمة، هي الحماية من الريح والشمس والرمال وفقاً لتقلّب المناخ؛ فأجواء الجانب الغربي من جتلاند لا تخلو من قساوة، وتطلّ فانو على بحر الشمال الذي تمتزج مياهه بالمحيط الأطلسي من جانب بريطانيا.
قوة المرأة
يُعرف عن المرأة قوتها في تلك المدن الساحلية؛ بسبب تحمّلها أعباء البيت، وجزءاً كبيراً من إعالة العائلة، في ظلّ غياب الرجال الذين يقلّ وجودهم في البيت بحكم طبيعة عملهم؛ إذ جلّهم يعمل في مجال الصيد وصناعة القوارب والسفن والتجارة البحرية. لا تستغني المرأة عن ارتداء القناع بوصفه جزءاً من زيّ العمل في مواسم الحصاد على سبيل المثال، أو شتاءً عند هبوب الثلج والريح في أثناء جلب الحطب والتبضّع وتأدية المشاوير اليومية الأخرى.
لا تظهر سلسلة الصور هنا تعقيداً شديداً؛ فقد اتّخذت الفتيات أمكنتهن على الكرسي، واستسلمن للكاميرا. تبدو خلفية الصورة تقليديةً طبيعيةً من دون مؤثرات أو افتعال ما، وضاعف هذا الانطباعَ تلك النظرةُ المنكسرةُ البعيدةُ الهاربةُ للفتيات والنساء في هذه السلسلة. إعداد الخلفية بهذه الطريقة، واتخاذ هذا الوضع المعين، يجرّ المشاهدين شعورياً إلى الدخول في زمن الصورة بشكل يكاد يكون قسرياً. هاجس المصوّرة يترسخ هنا في إشاحة الوجوه عن النظر إلينا، وإثارة فضولنا لمعرفة ما خلف هذه الثياب وأغطية الرأس. إنه زمن منقطع لا يعيش إلا اللحظة، لا يُظهر أدنى تأثر بالضجيج من حوله في العالم.
سلسلة الصور تجسّد المرأة في مراحل حياتية مختلفة بزيّها الفانوي، ومن الغريب أن المرأة تعتمد في خياطة ملابسها تفصيلاً واحداً لا غير، وليس مثيراً للعجب أن تستخدم المرأة زيّها ذاته بإضافات قطع وفق المناسبة، لكن تبقى القطعة الأساسية هي ذاتها بارتداء التنورة فوقها، أو التنورتين، أو أكثر وفق الحاجة والمناسبة والطقس.
الصور تم التقاطها جميعاً في علّيّة بيت، قريباً من شباك وتحت سقف خفيض في منطقة سوناهاو في فانو. في هذا البيت كانت النسوة يجتمعن ليرتدين ثيابهن، ويعصبن رؤوسهن، وينطلقن مغادرات استعداداً للاحتفال بالعيد السنوي للجزيرة.
تقول ترينه سوناغورد: «في زيارتي الأولى لفانو رأيت بعض الثياب الشعبية معروضةً في المتحف. دُهشت؛ فالأطقم كانت مثيرةً، والألوان كانت مركزةً، وقد صُنعت بعناية فائقة. لم يكن لديّ أدنى سابق معرفة بذلك. القناع كان مثيراً بصرياً، (الوجه المغطّى) كان مفاجئاً بالنسبة إليّ بما له علاقة بتاريخ الثقافة الدانماركية».
«أثارت اهتمامي تلك الأزياء والأطقم بما تحمله من معنى ورموز خاصة. زاويتي في النظر كانت إثنولوجية، وليس هناك من حديث عن دراسة للمكان أو الزيّ. بالنسبة إليّ كانت الجزيرة وثقافتها بمنزلة هيكل أو إطار لعملي؛ فصور المرأة ذات الأقنعة تحمل بين طياتها قصصاً ووصفاً وجودياً أكثر مما يمكننا الحديث عنه شخصياً».
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق