كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الخيال السوسيولوجي وإدراك معنى أن تكون في العالم
يتمتع البشر المعاصرون بميزة هائلة في قدرتهم «على التحرك إلى الخارج من الناحية المفاهيمية، لتشمل عددًا متزايدًا من القوى التي تؤثر في ظاهرة معينة، والوصول بعيدًا إلى الماضي، لاكتساب منظور للمضي قدمًا في المستقبل» (1959 C. Wright Mills, ص 3). تقدم هذه الكلمات أساسًا للخيال السوسيولوجي كما أنشأه ميلز وتوسع قدرة الإنسان على فحص الماضي من أجل الحصول على رؤية أوضح للمستقبل، وعندما يعتمد الخيال على قاعدة معرفية واسعة، يسمح بشكل غير مباشر لتصور كيفية التصرف والاستجابة بطريقة إيجابية وذات مغزى (McCoy 2012).
يمر العالم بالعديد من التغيرات والمشكلات الاجتماعية التي تحتاج إلى نظرة فريدة، ونوعية تفكير خاصة، وتطبيق الخيال السوسيولوجي يساعدنا على فهم هذه التغيرات والمشكلات وابتكار الحلول (1959 C. Wright Mills). الخيال السوسيولوجي مفهوم بسيط، ولكنه آسر، إنه ليس شيئًا جديدًا أو ثوريًّا، يصف ميلز المفهوم، ويصنع منه منهجية يمكن استخدامها من قبل علماء الاجتماع، والقادة، والمدرسين، والآباء، الذين يحاولون شرح القضايا الاجتماعية التي تبدو معقدة.
لفهم الخيال السوسيولوجي علينا أن نفهم الغاية منه أولًا، وهي أن يفهم الفرد تجربته في الحياة اليومية ومكانته الاجتماعية ويقدّر مصيره، عبر سياق المرحلة التاريخية التي يعيش فيها، حتى يتمكّن من التعرف على فرصه في الحياة، وبالتالي يتحقق الوعد الذي أطلقه الخيال السوسيولوجي، وهو استيعاب السياق التاريخي والسيرة الذاتية لحياة الفرد، وإدراك العلاقة بينهما في السياق المجتمعي الذي يعيش فيه.
ما الخيال السوسيولوجي؟
هو نوعية العقل الضرورية لاستيعاب حالة التفاعل الديناميكي بين الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه، وبين التاريخ والسير الذاتية، وبين العالم والفرد، عبر فهم واستيعاب نمط الحياة، ومسار تاريخ العالم، والربط بين متعة الحياة وما يحدث في المجتمع من تقدم أو تأخر.
إذًا، هل من الممكن القول إن الخيال السوسيولوجي هو القدرة على التفكير والقدرة على تحصيل المعلومات؟ في عصر المعلومات والتمكّن من التفكير والقدرة على الاستنتاج، يحتاج الناس إلى طريقة تفكير تساعد على استخدام المعلومات وتطوير عملية التفسير والاستنباط، من أجل فهم الإطار التاريخي الأوسع، بالنسبة للحياة الذاتية والحياة الخارجية، من خلال الانغماس في تجارب الحياة اليومية، وفهم الخصائص النفسية للجموع التي تعيش هذه الحياة، من أجل التمييز بين المتاعب الشخصية الناتجة عن الخبرة المباشرة للإنسان، وبين القضايا العامة الناتجة عن البناء الاجتماعي (C. Wright Mills 1959)، والوصول إلى «القدرة على ابتكار رؤى لما يجب أن يكون وما يمكن أن يكون في مجتمعنا، وفي الشوارع التي نعيش فيها، وفي مدارسنا» (Greene 1995, ص 5). وذلك من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة: (1959 C. Wright Mills).
أولًا، ما البناء الاجتماعي؟ وما أجزاؤه؟ وكيفية ترابط هذه الأجزاء؟ وما الفرق بين هذا البناء الاجتماعي وغيره من الأبنية الاجتماعية؟ ثانيًا، ما المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع بالنسبة إلى التطور الإنساني؟ وما ميكانيزمات التغير الاجتماعي الذي يمر به؟ ثالثًا، ما الملامح الطبقية للطبيعة الإنسانية للأفراد الذين يعيشون في هذا البناء الاجتماعي، ضمن هذه المرحلة التاريخية؟
وبهذا المعنى فإن الخيال السوسيولوجي، يمكّننا من القدرة على الانتقال من تصور لآخر، من التصور السياسي إلى التصور الاجتماعي، ومن التصور الاجتماعي إلى التصور السيكولوجي، من دراسة الأنظمة الدينية إلى دراسة الأنظمة الاقتصادية، إلى دراسة النظام الأسري.
لذا فمن الممكن فهم المتاعب الشخصية في شعور الفرد بأن القيم التي يعتنقها معرضة للخطر، في نطاق علاقاته الشخصية، داخل البيئة التي يعيش فيها، على أنها مسألة عامة، تتجاوز شعور الفرد إلى شعور جميع الناس، بأن القيم التي يعتنقونها باتت معرضة للخطر، على سبيل المثال المشكلات الاجتماعية المتعلقة بالفراغ، لا يمكن دراستها دون اعتبار المشكلات المتعلقة بالعمل وآثارها في الأسرة، إضافة إلى أن الخيال السوسيولوجي يقودنا إلى الاعتراف بأوجه القصور، والمآل، والقيود في الهياكل المجتمعية كافة التي تنظم حياتنا اليومية، وتعمل على مساعدة الأفراد على تصور ما يمكن أن يصبحوا عليه، ولماذا يكون هذا التحول أمرًا مرغوبًا فيه، بل ضروريًّا، في رؤية العالم الاجتماعي كمساحة لإمكانية الحركة، بدلًا من كونه كيانًا ثابتًا (Guyotte 2018)، ويؤكد ميلز أنه «لا يوجد أحد خارج المجتمع- السؤال هو أين يقف كل فرد داخله» (1959 C. Wright Mills, ص184). على سبيل المثال، لم تكن نظرة ميلز للمجتمع الأميركي في عام 1959م متفائلة للغاية، الحقيقة الإضافية المحبطة هي أن المجتمع الأميركي قد لا يلحظ حتى هذا التدهور العقلي، بسبب التراكم الواضح للأدوات التقنية والسلع الاستهلاكية خلال الازدهار الاقتصادي للتوسع بعد الحرب، بعبارة أخرى، قد تشتت الأشياء المادية التي نمتلكها التفكير النقدي والخطاب المدروس (Guyotte 2018).
أدرك ميلز أنه حتى في عصره، كان المجتمع يواجه احتمال أن «العقل البشري، كحقيقة اجتماعية، قد يتدهور من حيث الجودة والمستوى الثقافي» (1959 C. Wright Mills, ص175). ومفتاح التغلب على هذه المشكلة هو «مساعدة الفرد ليصبح رجلًا يثقف نفسه»، ومن الممكن تطبيق ذلك من خلال التفكير في الأشياء من وجهة نظر الآخر، من أجل الوصول إلى الفهم، كما عبّر ميلز «حتى تتسلق داخل منزله»، أي أن ينظر المرء إلى مجتمعه على أنه شخص غريب عنه يراه للمرة الأولى (McCoy 2012, ص 5).
الخيال السوسيولوجي كأداة تفكير
هي مهارة قيّمة يتعلمها الطلاب للتكيف مع تعقيدات القرن الحادي والعشرين، مما يؤدي إلى زيادة الوعي الاجتماعي واليقظة الواسعة، التي تساعد الطلاب على «العثور على أصواتهم الخاصة… والعثور على عيونهم وآذانهم» (Greene2010, ص11)، أي تثقيف العقول الشابة وتجهيزها للتساؤل والنقد والانفتاح على الاحتمالات الجديدة، عبر فتح فضاءات عامة يستطيع فيها الطلاب، الذين يتحدثون بأصواتهم ويتصرفون وفقًا لمبادئهم الخاصة، تعريف واختيار أنفسهم فيما يتعلق بمبادئ مثل الحرية والمساواة والعدالة، والاهتمام بالآخرين (Greene 2010).
لا يوجد نموذج توجيهي يجب اتباعه من أجل إيقاظ خيال المرء السوسيولوجي، كما لا توجد لحظة تعالٍ لشخص ما أفضل من شخص آخر. قد تبدأ لحظة الإيقاظ كون الشخص مجرد مراقِب شديد للتفاعل البشري، أو من قراءة رواية في الثقافة الشعبية، أو عبر الفنون والأدب والأفلام والموسيقا والمسرح، وقد دافعت Greene عن الفنون كمحفز لدفع المتعلمين نحو طريقة أكثر تخيلية للوجود، كما تساعد على عملية التحول إلى «الوسط الذاتي» الذي يربط بين البشر، باعتبار أنها مساحات ربط يمكن للأفراد من خلالها السعي وراء إمكانيات وبدائل جديدة نحو نهج أكثر عدالة وعالمية، إذ تخلق القوة الكامنة التي تنتجها الفنون طرقًا مختلفة للتفاعل مع واقعنا الاجتماعي، وتعزيز الترابط بين البشر، كوسيلة فعالة لإثارة حوار نقدي يتجاوز ما هو سطحي (1995 Greene ص 70).
التحدي الذي يواجه المعلمين هو رعاية قدرة الطالب على الاستماع بفاعلية إلى قصص الآخرين، والسير في مكان شخص آخر بشكل غير مباشر، وتعلّم دروس الحياة الحاسمة، تمامًا مثل Atticus Finch الذي يثير خيال ابنته للتفكير في إنسان آخر من خلال سؤالها أن «تتسلق داخل جلده وتتجول فيه» (Guyotte 2018)، ولتحقيق هذه الرؤية العميقة، يحتاج المعلمون إلى إنشاء أنشطة تعليمية تتيح للطلاب إيقاظ واستخدام الخيال السوسيولوجي لنقل أنفسهم عبر المكان والزمان من أجل «الدخول داخل جلد شخص آخر والتجول»، من خلال قوة عقولهم، التي تمكنهم من البدء في تحرير أنفسهم من القيود التي غالبًا ما تكون مشوبة بالتحيز، وذلك لاستكشاف عالم مشترك بين البشر، والأهم من ذلك أنها تُوسّع محادثتهم التي ترفع المشكلات الخاصة إلى قضايا عامة، والحقيقة هي أن المجتمعات من المستوى المحلي إلى المستوى العالمي، بحاجة إلى المشاركة في تطوير وإعداد عقلية عالمية للطلاب، تمكنهم من تحقيق رؤية أشمل للمجتمعات والثقافات الأخرى، وتقدير وفهم السلوك البشري والقضايا المجتمعية (Greene 1995).
كما يجادل ميلز في أن وظيفة المعلم هي أن يكشف للطلاب بقدر استطاعته كيف من المفترض أن يعمل العقل المنضبط ذاتيًّا، من خلال عدسة الخيال السوسيولوجي، عبر الحدود الجغرافية/ الثقافية، والتكيف مع الأحداث المجتمعية في الوقت الحاضر والمستقبل، والتشجيع على تثقيف الذات بمعرفة واسعة ومتعددة في العلوم الاجتماعية، بهدف قراءة الأحداث الاجتماعية في العالم التي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها فوضى متشابكة من الأخطاء الواقعية والمفاهيم غير الواضحة McCoy- 2012))، وتفترض (Greene- 2010) أن المعلم الذي يبحث عن حريته هو النوع الوحيد من المعلمين الذين يمكنهم إثارة الشباب للبحث عن أنفسهم، وبهذا المعنى، فإن فن التدريس هو، إلى حد كبير، فن التفكير بصوت عالٍ وواضح (1959 C. Wright Mills)، وهذا الدور لا يقتصر على المعلمين المحترفين، بل يتحمل جميع الأفراد مسؤولية كبيرة في تعليم الآخرين صغارًا وكبارًا، لأننا نفهم الآن أن جميع البشر حول العالم مترابطون جوهريًّا (McCoy 2012)، للوصل إلى «إدراك معنى أن تكون في العالم» (Guyotte 2018, ص 35).
أدوات يقظة الخيال السوسيولوجي
بدءًا بالخيال السردي، والذي هو القدرة على قراءة كلمات المنظرين والمؤرخين وعلماء الاجتماع الآخرين أو الاستماع إليهم، مما سيشرك الأفراد في وضع التعلم النشط، بحيث يمكنهم قراءة واستكشاف كيف ينظر الآخرون إلى قضية معينة، وأيضًا نقلهم عبر الزمان والمكان حتى يتمكنوا من السير في حذاء شخص آخر. ثم التفكير الشامل، ويعرّف بأنه أداة تفكير يمكن أن تعزّز قدرة الشخص على تتبع شبكات مشتركة من المعنى، عبر أطر منفصلة للقيم الثقافية والاجتماعية، يرى McInyre (2000) أنه يمكن تدريس التفكير الشامل، مع الأفكار والافتراضات خارج حدود موقع التفكير التقليدي.
وغالبًا ما أكدت Greene (1995) على أهمية الحوار باعتباره أداة حاسمة للخيال السوسيولوجي، يخلق مساحات التقاء للأفراد، وممارسة العمل الجماعي، كي «يشعروا بأنهم جزء من رقصة الحياة» (Greene 1995, ص72)، وتشير رقصة الحياة إلى تعددية الحالة الإنسانية، حيث يكون الاختلاف ضروريًّا للمجتمع، حتى عندما يتساءل المرء عما يعنيه المجتمع والمثل العليا التي قد ينشأ عنها، حيث المجتمعات، مثل الهويات كثيرة وغامضة ومتطورة، فمن خلال الخيال السوسيولوجي يمكننا تصور كيف يمكن للعلائقية والمجتمع أن يجتمعوا معًا في الاختلاف، وما الإمكانيات الموجودة فيهما (Guyotte 2018).
وبالتالي نصل إلى التخيل السوسيولوجي والذي هو قدرة المرء على النظر إلى المجتمع كشخص خارجي، وليس من منظور التجربة الشخصية والتحيزات الثقافية فقط (1995 C. Wright Mills)، كما يحثنا McIntyre-Mills (2000) على «التفكير في تفكيرنا» من أجل تطوير إدراك أن التوازن بين التنوع والقواسم المشتركة أمر ضروري، وأخيرًا يقدم ميلز الوعد بأن الخيال الاجتماعي سيمكن مالكه من القدرة على فهم تجربته الخاصة وقياس مصيره، فقط من خلال تحديد مكانه في فترته وإدراك جميع الأفراد في ظروفه (McCoy 2012)، وفهم ثقافة المؤسسات والقوى الاجتماعية في آن واحد ضمن الإطار التاريخي، كما أن تنمية الخيال السوسيولوجي تفترض التمكين الاجتماعي الناتج عن الفهم والمعرفة.
المراجع:
– W, Guyotte (2018) Aesthetic Movements of a Social Imagination: Refusing Stasis and Educating Relationally/Critically/Responsibly1University of Alabama, journal of Critical Questions in Education 9:1
– Greene, M. (2010). Prologue to art, social imagination, and action. Journal of, Educational Controversy 5 (1). wwu.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1100&ntxt=jec.
– Greene, M. (1995). Releasing the Imagination: Essays on Education, the Arts, and Social Change. San Francisco, CA: Jossey-Bass.
– McIntyre-Mills, J. J. (2000). Global citizenship and social movements: creating transcultural webs of meaning for the new millennium. Amsterdam: Harwood Academic.
– McCoy, Craig (2012) Awakening Students‟ Sociological Imagination, Kaplan University, USA, Contemporary Issues In Education Research, Volume 5.
– Mills, C.W. (1959). The Sociological Imagination. New York: Oxford University Press, Inc.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق