كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أدب الطفل وتحديات المستقبل
الكتابة للطفل ليس عملًا سهلًا؛ لأنه ليس مجرد متلقٍّ عادي يمكنه أن يستوعب كل ما يقدم إليه، ومن ثم فإنه يحتاج إلى دراسة نفسية جيدة لمختلف مراحل نموه، فإذا كان الطفل في سنيه الأولى لا يعرف غير مفردات بيئته وواقعه، فإنه في مرحلة التعليم الابتدائي يعشق الخيال والفانتازيا والرغبة في اكتشاف العالم، هذا الأمر الذي يتغير في المرحلة من 12 إلى 17 من عمره، حيث يعود إلى الواقع من جديد، محاولًا فهم مشكلات العالم الواقعي، باحثًا عن كيفية التعامل معه.
ولم يعد الطفل الذي لديه خمسة أعوام الآن بوعي الطفل نفسه الذي كانت لديه خمسة أعوام حين انتهت الألفية السابقة؛ فالطفرة الحادثة في وسائل التواصل وما لازمها من ثورة تقنية لم تلغ دور القراءة لدى الطفل، لكنها فتحت مصادر تلقي المعرفة على اتساعها أمامه، وهو ما خلق حالة من العشوائية في المعرفة لديه، وهو ما يستدعي تعاون دور النشر والمعنيين بالكتابة للطفل وأساتذة علم نفس الطفل في تأمل الأمر، والبحث في كيفية ترشيد معرفة الأطفال بما يتوافق مع طبيعة مراحلهم العمرية واحتياجاتها.
لكن ذلك ليس التحدي الوحيد، فقد خلقت التحولات الكبرى في السنوات الأخيرة تأثيراتها الواضحة في الجميع، ولا يمكن عدّ الطفل بمعزل عما جرى من حوله من حروب وثورات وربما فوضى في بلاده، فنفسية الطفل البيضاء تحتفظ بكل شيء في داخلها، وهو ما يستدعي تعاملًا فكريًّا ونفسيًّا مختلفًا معه عن أقرانه في البلدان الأخرى، وهو ما يجعل الكاتب للطفل أمام سيل من التحديات، في مقدمتها الدعم اللازم لاستمرار الكتابة الحقيقية والجادة في مواجهة الكتابات الاستهلاكية التي يسعى وراءها العديد من دور النشر التجارية، فضلًا عن تطوير كاتب أدب الطفل قدراته التنافسية مع تطبيقات اللوح الرقمي، بما تملكه من إبهار صوتي وموسيقي ورسوم متحركة، وما تبثه الترجمات التي راجت مؤخرًا من قيم لا تتناسب مع ثقافة الطفل وقيمه العربية.
كل هذه التحديات جعلت أدب الطفل في بلداننا العربية أمام منعطف صعب، لا يمكن الخروج منه بغير التخطيط الجيد لمستقبل الطفل، عبر العناية بالأنشطة الخاصة به، وتغيير مناهجه الدراسية، وجعلها تعتمد على العقل النقدي، حيث القدرة على الدهشة وإثارة السؤال، لا على التلقين والنقل، وبما يسمح لقدراته الإبداعية بالانطلاق.
ولا يعني ذلك التنازل الكامل عن مجمل تراثنا الفكري والأدبي، فما زال التراث العربي يحتوي على العديد من الأساطير والمرويات الأدبية القادرة على جذب الطفل وإثارة خياله، فضلًا عن تزويده بالقيم الثقافية اللازمة لتعزيز روح التسامح وقبول الآخر، هذا التراث الذي يمكن إعادة تقديمه بما يتوافق مع التقنيات الحديثة وتطبيقاتها الجديدة، بحيث لا يخرج العرب من معادلة أدب الطفل ولا يتنازلون عن أفضل ما في تراثهم العظيم.
في هذا الملف الذي تكرسه «الفيصل» لأدب الطفل، يكتب نخبة من أبرز الكتاب الذين عرفوا بالكتابة للطفل، عن القضايا والتحديات والمستجدات التي يواجهها هذا الأدب الصعب.
دور الأدب في تنمية شخصية الطفل
العربي بنجلون – كاتب أطفال من المغرب
ليس من قبيل المبالغة أو التهويل، إذا قلنا إن العالم العربي يجتاز منعطفًا صعبًا، لا ينجو ويسلم منه إلا (السائقون الماهرون)! هذا المنعطف، يفرض التأني والتروي، والتفكير الجيد في المستقبل، والتخطيط المحكم! إذ يُخْطِئ من يظن أن هذا المستقبلَ سيُبنى في شهر أو سنة، إنما في عقود؛ لأن هدْمَ بيتٍ متآكلٍ (سهلٌ) لكنَّ بناءَه من جديد، يفرض صبرًا جميلًا، ومُددًا من ثلاثة إلى أربعة عقود، قياسًا على دولٍ سابقةٍ، كاليابان والصين وسنغافورة، على سبيل المثال! فماذا عسانا نفعل، ونحن أمام الأمر الواقع؟!
دعونا نستحضر شموعًا وقناديلَ، فربما تضيء لنا المنعطفَ جيدًا، لنمرَّ منه بسلام. وهي ليست ضربًا من الخيال، أو أضغاثَ أحلام، بل مُستقاةٌ من الواقع، ومن دول كانتْ إلى عهد قريب خاملةَ الذِّكْر، لا تُذْكر بتاتًا، فأصبحتْ، بين عشية وضُحاها، نمورًا قويةً، تهدد السِّباعَ والدَّناصيرَ!
في ثَمانينيات القرن الماضي، زار وفد من مسؤولين صينيين أميركا، وطرحوا في حوار، عَرَضًا، سؤالًا على وزير التعليم: كيف أصبحتم تتزعّمون العالمَ، وتتربّعون على عرش اقتصادياته، ولكم في كل قارة موطئُ قدم؟! فأتى جوابه على السَّجية: فكرنا طويلًا، ووجدنا ألا سبيلَ لنا إلا (العنايةَ الفائقةَ بالطفل) فإذا أهملناه، فقدنا رجل الغد، الذي يقود التنمية. لكنْ، كيف سنعتني به، أي ماذا سنقدم له، كي ننشئه ونبني شخصيته؟! وكانتِ الإجابةُ من علماء النفس والاجتماع، أنْ نهيئ للطفل تعليمين: تعليمًا نظاميًّا، وتعليمًا ذاتيًّا. فالنظامي هو الذي يتلقاه في مدرسته، والذاتي هو الأنشطة الموازية، التي يمارسها في مراكز الرياضة، ومعاهد الفنون، ومكتبات المطالعة، لكنْ…!
وهنا توقف الوزير قليلًا، يأخذ نفسه، لأن في (لكنْ) يكمُنُ السرُّ، ثم أردف قائلًا: يجب أن تعطى للطفل في مجالاتُ الإبداع والقراءة، جُرُعاتٍ من أدب (الخيال العلمي) تنشط ذهنه، وتفتح عقله، وتحلق به في سماء الخيال، أي نبتعد مسافةً من (الثقافة النقلية) ونلقي به في بحر (الثقافة العقلية)!
وصدْقا قال الوزير الأميركي، فالثقافةُ التي تسود، حاليًّا، هي الثقافة النقلية، أي «بضاعتنا رُدَّتْ إلينا». ثقافةُ الْمَضْغ والاجترار، وبالتالي، لا ننتج شيئًا، عدا القيل والقال. وهي ما نلقنه لطفلنا، سواء في المدرسة والمنزل، أو في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، وحتى الرقمية!
ولمّا عاد الوفد الصيني، قرر أن يغير كلَّ المناهج والبرامج والوسائل التعليمية والتربوية. لكنْ، لا تظنوا أنه استغنى أو تخلى عن تراثه الأدبي، وهو البلد الآسيوي الغني بالأساطير، والحكايات الخيالية، والأدب العجائبي والغرائبي… بل نفخ فيه من روحه، ليجعل منه (إكسيرَ الحياة) لطفله! وبالمناسبة، لا ننسى أن الصين في حقبة الثمانينيات، وأنا أذكر ذلك، كانتْ تترجم كتبًا صينية إلى اللغة العربية، في مجال القصة، ومجال العلم، ومجال الرواية… وكانت تُصدر منها ملايين النسخ، وتوزعها على العالم العربي من الماء إلى الماء بأسعار بَخْسةٍ، أكثرَ مما تنتجه وتطبعه الدول العربية مجتمعةً! وها هي الصين، الآن، تغزو القاراتِ بنتاجاتها الصناعية، وفي كل المجالات التي تخطر ولا تخطر بالبال، وكل ذلك، نتيجة العناية بالطفل!
العناية بالثقافة العقلية
إن التطور الكبير الذي شهدته أميركا والصين ودول أوربية وآسيوية، لا يعود إلى التغيير في المناهج والبرامج فقط، أو إلى العناية بالثقافة العقلية، وبالأنشطة الموازية، وسواها من المواد والوسائل التربوية والتعليمية الناجحة… إنّما إلى تغيير نظرتها إلى الطفل (عن قناعة تامة) وبالتالي، إلى المُواطن، كعنصر فعّال في التنمية. وهنا أستحضر مثالين حيين:
الأول، عكسته السينما العربية في شريط طويل: «آخر الرجال المحترمين» الذي مثّل بطولتَهُ الفنان الراحل نور الشريف في شخص (أستاذ) تاهتْ عنه طفلة في حديقة الحيوان، فاتصل بالوزير، ظانًّا أنه سيستنفر كلَّ أجهزته بحثًا عنها. لكن مديرَ ديوانه، استغرب من طلبه قائلًا: «هل تريد أن تخبر الوزير عن طفلة ضلّتْ طريقَها؟ لماذا تعطي لقضية تافهة هذه القيمة الكبرى؟!» وأصبح هذا الأستاذ، في نظر الموظفين، مختلاًّ عقليًّا!
والمثال الثاني من اليابان، فقد أرادتْ هيئةُ سكة الحديد أن تغلق إحدى المحطات النائية، بعد أن لاحظتْ أن المسافرين بها قلّوا، لكنهم عدلوا عن قرارهم، عندما علموا أنّ طفلةً (قرويةً) ما زالتْ تتابع دراستَها، فعدّلوا مَواعِيدَ القطار مع ذهابها وإيابها من المدرسة. كذلك، فإن ميزانية التعليم وثقافة الطفل في أميركا، تحتل المرتبة الثانية، ولا تقبل المناقشة، لأنّ أيَّ تخفيض فيها، يعني (تفريطًا) في (صناعة الإنسان) الذي يُشكِّل عمادًا قويًّا للبلاد.
إذن، من هنا نبدأ، ومن الطفل ننطلق، ولن تفيدَنا الحلولُ الترقيعيةُ، فهي وإن كانتْ ضروريةً، راهنا، لأنها تسد الثغراتِ، فإنّها، قَطعًا، لن تحلَّ مشكلاتنا العويصةَ، ولن تجتازَ بنا المنعطفَ الصَّعبَ! وإذا كان بعض منْ لا ينظرون بعيدًا، يرى أن العناية بالطفل، عِبْءٌ ثقيلٌ، يُرهق ثرواتِ البلاد، فإنه ينسى أن كل الكوارث الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي نشهدها آنيًّا، سببها الأساس، هو إهمالنا له. فما الذي يجعل العالمَ المتطورَ يهتم بالطفولة، أكثرَ من أي مرحلة في حياة الإنسان؟ وكيف تتحقق التنميةُ الشاملةُ من تربيتنا وتعليمنا للطفل؟ وكيف نغادر الكهفَ المظلمَ، لنقف أمام الشمس؟
من الواقعية إلى الخيال الحر
لقد اكتشف العلماءُ أن الإنسان، عند ولادته، يتوافر على مئة مليار خلية في مخه، وتكون هذه الخلايا حية ونشيطة في بدايتها، وهي المسؤولة عن كل العمليات الذهنية والنفسية والحسية التي يمارسها الإنسان، شريطة أن تظل حية ونشيطة. ولكي تبقى كذلك، عليه أن يزاول، منذ طفولته الأولى، أنشطة متنوعة، كالقراءة والرياضة والفنون… وإلا فإن هذه الخلايا، ستتلاشى شيئًا فشيئًا إلى أن تندثر، فيستحيل على الإنسان إحياؤها وتنشيطها من جديد. ومن ثَمَّة، يستحيل عليه أن يندمج في مجتمعه، وأن يمتثل لقوانينه وأخلاقياته، ويحافظ على تراثهِ وعلى وطنه، وأن يسهم في تنميته وترقيته، لأنه أصبح مشلولًا، لا يتوافر على خلايا فاعلةٍ، وبالتالي، يصبح عالةً على البشرية. ولذلك، نُلحُّ على العناية بالطفل، طيلةَ السنواتِ الستِّ الأولى (على الأقل) لأنه بعد ذلك، يتخذ طريقه بنفسه، فإذا تعود، في هذا الطور الأول، أن يعتمد على قدراته الجسمية والعقلية والسلوكية، سهل عليه أن يجتاز المراحلَ الباقية. فهذه المرحلة، هي الأهَمُّ والأساسُ في بناء شخصية الإنسان، وما سيأتي، ليس إلا ترسيخًا وتكريسًا لما تلقنه وتعلمه في أثنائها.
إذا كانت المرحلة الأولى، سميتُها بـ (الواقعية)؛ لأن الطفل فيها يتأقلم مع بيئته، ويندمج فيها، فإنه في المرحلة الثانية، من سِتٍّ إلى تسعِ سنواتٍ، ينتقل إلى (الخيال الحر) ليشحذ ذهنه، ويوسع عقله، بما يطالعه، أو يسمعه من قصص خيالية، كالحكايات العجيبة. وهنا، أتذكّر ما قاله ألبرت آينشتاين عن الذكاء، الذي يُوَلِّد الابتكارَ والاختراعَ، فيقول إن الذكاء هو الذكاء، عندي أو عندك، سواء كنت أوربيًّا أو آسيويًّا أو أفريقيًّا، لكنْ ينبغي أن يتنامى، منذ السنوات الأولى من حياتنا. والحقيقة أن آينشتاين يريد أن يدفع عن نفسه تهمةً، وهي أنه (ورِث الذكاء) أو ما كان له ليُنجزَ نظرياتِهِ العلميةَ، لو لم يرِثِ الذكاءَ، كأنه يُسَيَّر من قوى خفية، ونتيجة ذلك أن من لم يرِثِ الذكاءَ لا يستطيع أن يتفوق، مِمّا سيعطي ذريعةً لكل خاملٍ. وفي حوار آخر، يُرجع الفضلَ في تنمية ذكائه إلى أمه، التي كانت تحكي له قصصا، شحذت بخيالها ذكاءه، ونَمَّتْ شخصيتَهُ.
نستنتج أن القراءةَ هي الوجبة اليومية، أي الطعام الذي يغذي خلايا المخ، ويُحَسِّن عملَها، هذا دون أن نشير إلى قيمتها في تزويد المتلقي الصغير بالمعارف والمعلومات واللغة، وما إلى ذلك. فالثقافة النقلية، تقتل الخلايا، وتقضي على الذكاء، وتُعَوِّد العقلَ على الكسل والخمول والتلقي المجاني، وتحرمه من نعمة التفكير والتخييل. فينبغي تأسيسًا على ما مضى ترسيخُ (الثقافة العقلية) التي تحفز الطفل على الملاحظة والتساؤل والغربلة والنقد، وتنأى به عن الحفظ والتخزين والثقة العمياء!
وليس هناك ما يحرك هذه الثقافةَ العقليةَ، غيرَ الأدب، كالحكايات والقصص والأساطير والنوادر والرحلات والأشعار. لأن من الخيال الذي يُغَذِّي عقولَنا، نستطيع أن نأتي بشيء جديد، وبدونه سنظل ندور في حلقة مفرغة! غير أن جرعات الخيال، ينبغي أن تكون محسوبةً بدقة، لا تتعدى الْحَدَّ، وإلا انْقَلبتْ إلى الضد؛ فهي كما أشرنا تمتد ثلاثَ سنواتِ، لينتقل الطفل بعدها إلى المرحلة الثالثة، التي نسميها بـ (الواقعية الثانية) من سِنِّ التاسعة إلى الثانيةَ عشرةَ، حيث تستأثر القضايا العلميةُ والاجتماعيةُ والتاريخيةُ باهتمامات الطفل… ويحاول فيها تحديدَ معالم شخصيته المستقبلية، وإثبات ذاته، بالتعبير عن آرائه ورؤيته لمحيطه والعالم.
هناك من يريد، عبثًا، أن يستعجل النمو، فيحرق المراحل، ضد الطبيعة. فالطفل في مراحله الأولى، يعيش طفولته، بلعبها وشغبها، باذلا طاقتَهُ الجسميةَ والنفسيةَ، في اللعب والحركة والتواصل والتفاعل مع الآخرين، وفي تلقي العلم والمعرفة، لا أنْ نمهد له الطريقَ، باكرا، إلى التكنولوجية الحديثة، من ألعاب آلية، وشبكة رقمية، وأشرطة من الخيال العلمي… لأن كل تلك الوسائل، تبسُط بين يديه (وجباتٍ) ناضجةً من الأفكار، دون أن يُشَغِّلَ فيها عقله، أي تسرق منه الفكرَ والخيالَ، وتُبْطِل لديه الرغبةَ في الاكتشاف والابتكار والإبداع، فضلًا عن الأمراض النفسية والصحية والاجتماعية، التي تصيبه منها.
كاتب الأطفال لا بد أن يدرك واقعهم
يعقوب الشاروني – كاتب مصري
في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كنت في المرحلة الابتدائية، وبدأت التوسع في القراءة وأنا في التاسعة من عمري، لم يكن أمامي ما يسمى «مكتبة للطفل»، كنت أقرأ ما يقرأه الكبار، وعلى وجه خاص سلسلة «روايات الجيب»، وكانت كلها مترجمة، عرفت من خلالها أحدب نوتردام والحرب والسلام وغيرهما، كما قرأت روبنسون كروزو وجلفر في ترجمات كاملة، ثم اكتشفت شغفي بالمسرح، وبدأت أكتب التمثيلية مع القصة القصيرة، وعندما وصلت إلى المرحلة الثانوية، أصبحت رئيسًا لفريق التمثيل في مدرستي، ومع بداية المرحلة الثانوية، اكتشفت كنوز روايات نجيب محفوظ ومسرحيات توفيق الحكيم في مكتبة أخي الأكبر يوسف الشاروني، كما بدأت أقرأ الدراسات النقدية حول القصة والرواية والمسرحية، ولا أتذكر أني وجدت عندئذ سطرًا واحدًا يشير إلى ما يسمى «أدب الأطفال»!
وعندما حصلت عام (1960م) على جائزة الدولة الخاصة التي تسلمتها من الرئيس جمال عبد الناصر، كان ذلك عن مسرحية للكبار، وكان عمري (29) عامًا، وعندما جاء ابني وابنتي للحياة، بدأت أحكي لهما أشهر حكايات الأطفال العالمية، مستعينًا بشرائح الصور الثابتة (البروجكتور) عشرات القصص مثل سندريلا وذات الرداء الأحمر والجميلة النائمة، وعندما تركت عملي في القضاء عام 1967م، حرصت على أن أقدم حفلاً أسبوعيًّا للأطفال في قصر ثقافة مدينة بني سويف، معتمدًا على تقديم هذه القصص من خلال الحوار والمشاركة مع مئات الأطفال، فاكتشف الأطفال قدراتي على التواصل معهم من خلال القصص، هكذا قررت أنه إذا كنت قد نجحت في الكتابة للمسرح، فإن هناك جانبًا كشفه لي الأطفال خلال التجربة معهم، لقد اكتشفت أسرار الكتابة من خلال تجربتي المبكرة مع المسرح والتمثيل وكتابة المسرحيات، ثم ممارستي قص الحكايات في حفلات قصور الثقافة.
هناك شبه إجماع على خطورة ترك صغار الأطفال أمام الشاشات، بسبب التلقي السلبي، لذلك تنبه المشاركون في تقديم كتب الأطفال إلى الدور الأساسي لمختلف حواس الطفل في التعامل مع الكتاب، فبدأت ثورة حقيقية في تقنية كتب صغار الأطفال، تهدف إلى إشراك أكبر عدد من حواس الطفل في التعامل مع الكتاب، فتزايد إقبال معظم الأطفال الصغار على الكتب الموجهة لسن ما قبل المدرسة، إنها كتب تم إبداعها لتناسب أطفالاً لم يتعلموا القراءة بعد.. كتب يقرأها الأطفال برؤية صفحاتها أو أجزاء منها تتجسم وتتحرك، تختفي وتظهر، وباللمس بالأصابع، والاستماع إلى الموسيقى والأصوات، ومشاهدة الأضواء، بل وبالشم أيضًا، فبهذه الوسائل يدرك الأطفال العالم، ويستطلعون ويتعلمون ثم يبدعون، وهو ما نطلق عليه «القراءة بالحواس الخمس»، التي تجذب صغار الأطفال بعيدًا من الشاشات.
توجد الآن في معظم الدول العربية مسابقات بجوائز سخية، في مختلف مجلات الكتابة للطفل، ولا شك أن هذه المسابقات خلقت تنافسًا واسع النطاق بين أصحاب المواهب الذين لديهم اهتمام بالكتابة للأطفال، فتزايد عدد ما يصدر من كتب للأطفال، لكن لابد من تشجيع قيام حركة نقدية نشطة في مجال أدب الطفل، كي نحقق ما نرجوه من تقدم يواكب تغيرات العصر وتحدياته، هذه الحركة النقدية يمكنها أن تقدم لنا عينًا على ما يجري في العالم في مجال أدب الطفل، وهو كثير ومتسارع ويسابق الزمن في التطور والإبداع.
فجوة في التطوير
كبرى دور النشر التي تخصص جانبًا من اهتمامها لنشر كتب الأطفال، أصبحت اليوم تضارع في مستوى إنتاجها الورقي أفضل المستويات العالمية، والدليل على ذلك حصول عدد من الكتب العربية الموجهة للأطفال على جوائز عالمية، مثل جائزة معرض بولونيا الدولي، لكن لا تزال هناك فجوة كبيرة بيننا وبينهم في تطوير كتب الأطفال، تلك التي أطلقنا عليها «كتب القراءة بالحواس الخمس»، والتي تسود حاليًّا عالم كتب الأعمار الصغيرة في أوربا وأميركا، وقد يرجع هذا إلى ارتفاع تكلفة إنتاج هذه الكتب، وعدم تفهم الأسرة العربية للدور المهم لهذه الكتب في إنشاء علاقة حب بين الأطفال والكتب منذ شهور حياتهم الأولى. أصبحنا في حاجة إلى اختيار روائع أدب الطفل في الأدب العالمي لترجمتها إلى اللغة العربية، بعيدًا من العشوائية في اختيار ما يتم ترجمته، وفي حاجة إلى أمانة الترجمة، وجودة العبارة المناسبة لعمر الطفل الذي يتوجه إليه الكتاب، وذلك لكي تدخل الترجمة في إطار «أدب الأطفال» مثلما دخل النص الأصلي في إطار الأدب في لغته الأصلية، وهو ما بدأت تقوم به مراكز الترجمة في العالم العربي.
قيم التربية
كلما كان كاتب الأطفال على دراية بواقع الأطفال الاجتماعي والنفسي والبيئي واليومي، اختار موضوعات أعماله من بين ما يعيشه الأطفال في واقعهم أو خيالهم، فإذا كان الفن يأتي أولاً في مجال إبداع أدب الطفل، فلا يمكن فصل الفنان الذي يكتب للأطفال عن المربى الذي يدرك أثر كل كلمة يكتبها على القارئ الصغير، إن مؤلف أدب الأطفال، إذا كان مسلحًا بالرؤية الواعية لقضايا مجتمعه وقضايا الطفولة، فلابد أن يساهم ما يكتبه في التربية والتغير المجتمعي. لكننا نعود فنؤكد أن أية قيمة تربوية أو اجتماعية يتضمنها العمل الأدبي، لابد أن تأتى من خلال الفن، وليس على حساب الفن، إن الدنيا تتغير من حول الأطفال، ولابد لكاتب أدب الطفل أن يتنبه لهذه التغيرات.. ونتيجة لهذا تظهر معظم الاتجاهات الجديدة في أدب الأطفال العربي أو العالمي.
النشر الإلكتروني يفتح آفاقًا جديدة لكتابة الطفل
وفاء السبيل – كاتبة سعودية
بدأت الكتابة للطفل منذ أكثر من ٣٠ عامًا عندما كنت محررة ثم رئيسة تحرير لإحدى مجلات الأطفال خارج المملكة، وعندما كتبت في مجلة الشبل مع الأستاذ عبدالرحمن الرويشد- رحمه الله- كانت تلك البدايات الأولى، ومرحلة للتجريب واختبار قدرتي على إنشاء نصوص للأطفال. ولكن بدايتي الحقيقية التي منحتني الثقة لأسمي نفسي كاتبة للأطفال كانت في عام ٢٠٠٠م عندما فازت مجموعتي القصصية «حكايات أمونة» بجائزة إبداعات المرأة العربية في الشارقة، والتقيت فيها كاتبة الأطفال المصرية فاطمة المعدول، حيث كانت ضمن لجنة التحكيم، وهي كاتبة مشهورة ولها ثقلها في عالم الكتابة للأطفال.
واصلتُ بعدها الكتابة والتأليف، ولم تكن تجربة متقطعة كما يظن بعض النقاد، فلدي نصوص كثيرة ولفئات عمرية مختلفة، ولكنني لا أنشر لأسباب مختلفة، منها انصرافي للبحث العلمي وللعمل الميداني في مجال ثقافة الطفل. وآخر أعمالي المنشورة قصص الأنبياء للصغار جدًّا الجزء الأول بالشراكة مع صديقتي وشريكة دربي فاطمة الحسين ونشرتها دار أسفار، ووجدت إقبالًا كبيرًا من الجمهور، وصدرت منها الطبعة الثانية. وفي هذا العام ٢٠٢١م صدر الجزء الثاني للسلسلة من الدار نفسها.
كتبت مسرحيات كثيرة بعضها أصيلة وبعضها الآخر مستمد من التراث العربي والعالمي، ومُثلت على مسرح العرائس أو مسرح الطفل الحي من خلال مسرح مكتبة «كان يا ما كان» للأطفال بمدينة الرياض. أما المستقبل ففيه الكثير الذي سيخرج إلى حيز النور، وستكون فيه تجارب جديدة أرجو أن تسهم في حركة التأليف للأطفال في المملكة.
بكل تأكيد، تواجه الكتابة للطفل تحديات كبيرة إذا لم تتجه للتغيير وتواكب العصر، وتوظف التقنية لخدمة النص الأدبي. النشر الإلكتروني يفتح آفاقًا جديدة للكتابة للطفل، تكون أكثر جذبًا وتفاعلًا مع الجمهور. أما إذا ظلت تحصر نفسها في الوسائط التقليدية كالكتاب وغيره فإنها ستعاني من هجر الجمهور المستهدف، خاصة مع تقصير المربين في توظيف الأدب في حياة الأطفال، فكثير منهم لا يراه ضرورة ولا يبذل جهدًا في ذلك.
مبادرات فردية
كثير من الجهود الموجهة لتشجيع الكتابة للطفل تأتي من مبادرات فردية أو من مؤسسات مدنية، والمؤسسة العربية الرسمية تحبو حبوًا، ولعل المستقبل يكون أفضل. وتظل معظم المبادرات منحصرة في الجوائز التشجيعية ذات الأثر القصير الأمد، وإن كان فيه جهود لإنشاء بعض الجمعيات أو المجالس، ولكن أثرها محدود ولا ينهض ليكون مشروعًا شاملًا على مستوى الوطن العربي.
لا شك أن هناك نهضة أدبية واضحة على مستوى الوطن العربي في الكتابة والنشر، وحتى على مستوى المملكة. وهناك دور نشر عربية عريقة ظلت لعقود ممتدة تواكب كتاب الطفل العالمي، وتنقل كل جديد ومميز إلى اللغة العربية، وتنشر نصوصًا عربية خالصة لأدباء مميزين تتلاءم مع بيئة الطفل العربي وحاجاته. لقد أصبحنا نجد كتبًا عربية لمعظم الفئات العمرية وإن كانت القصص المصورة لفئة ٦-١٠سنوات هي الأكثر، كما أن الأديب بدأ يخوض في موضوعات جديدة يفرضها العصر ويقدمها بأساليب شائقة تجذب الطفل، وبعيدة من الوعظ والإرشاد الذي ساد في مرحلة سابقة.
دور مركزي لدور النشر
ولكن كل هذا يقصر بنا عن المنافسة على المستوى العالمي. إن صناعة الكتاب لا يكفي فيها وجود نص جيد؛ إذ هو فقط المادة الخام التي تحتاج إلى صقل وسبك وتزيين. إن شكل الكتاب برسوماته وتفاصيل إخراجه لا يقل أهمية عن محتواه، لذا تلعب دور النشر دورًا مركزيًّا في صناعة الأدب سواء في مرحلة إعداده أو في المرحلة التي تليها وهي كيفية إيصاله إلى الجمهور. يمكن أن نقسم دور النشر الخاصة بالكتابة للطفل على فئتين: فئة تجارية بحتة لا تعنى بالمحتوى، وتروج لقيم الاستهلاك، وهي المنتشرة في كل مكان، في أكشاك الأسواق المركزية وفي محلات القرطاسية. وهذه أشبهها بوجبات الأكل السريع التي فقط تشعر الطفل بالشبع دون أن تضيف إليه ما يفيد بل قد تضره. وفئة أخرى ذات رسالة، تسعى للنهضة والتغيير، وتواجه في ذلك صعوبات كبيرة لوجستية من المؤسسات الرسمية التي تفرض قيودا وتضع عراقيل، أو صعوبات أخرى ذات علاقة بطباعة الكتاب نفسه وتوزيعه، وتكاليف ذلك باهظة، طبعًا هذا إذا توافر النص الجيد والرسام المبدع.
وكل هذه تحديات كبرى تعيق النشر الجيد على نطاق واسع، ومن ثم تبطئ عجلة النهضة الأدبية لأدب الطفل. ولعلني هنا ألمح إلى دور النشر السعودية المتخصصة للأطفال، وما تقوم به من جهد واضح وملموس أوصلت فيه كتاب الطفل السعودي إلى المنافسة العربية، بعد أن تأخر كثيرًا. ويقف وراء ذلك- في معظم الأحيان- جهود كبرى تبذلها الأديبة السعودية التي تتخذ زمام المبادرة وتخوض هذا المجال على رغم صعوبته وتكاليفه الباهظة. فهناك دور نشر برزت على الساحة اليوم تملكها أديبات سعوديات بذلن فيها الغالي والنفيس من أجل أن يصل الكتاب الجيد إلى الطفل السعودي، ويعبر عن هويته ويتماشى مع بيئته ويتلمس حاجاته والمحتوى المناسب له. وأنا متفائلة جدًّا بالمستقبل القريب، خاصة مع الجهود التجديدية في وزارة الثقافة، ومع رؤية ٢٠٣٠ التي أحدثت نقلة نوعية شاملة على شتى المستويات.
الأطفال والمخيلة
رحلة الحكايات في الألفية الثالثة واكتشاف الذات
لنا عبدالرحمن – كاتبة لبنانية
يبدو العالم الذي نعيش فيه بالنسبة لأطفال الألفية الثالثة أكثر ازدحامًا، وإغراء، وضجيجًا. عالم يختلف عن ذاك الذي عرفته أجيال آبائهم وأمهاتهم، بروافده المحدودة التي كانت مقتصرة على شاشة تلفزيون ملونة، وبرامج للأطفال لها وقت محدد، ولا تبث على مدار اليوم كما يحدث الآن، إلى جانب حضور عادي للقصص والمجلات التي تُؤلف حكاياتها بين الكلمات والصور.
لم تعد هذه المصادر هي الحاضرة فقط في عالم الأطفال منذ دخولنا في عصر العولمة، بل غدت الروافد التي تحاكي الطفولة وتسعى إلى التسلل لمخيلة الأطفال كثيرة جدًّا ومتنوعة، بل إن كثرتها تسبب بلبلة وتشتتًا بالنسبة للأهل، وتدفعهم لمزيد من الرقابة حول أطفالهم.
بيد أن كل هذه المصادر والروافد الموجهة للطفل ترتكز بشكل أساس، سواء في الماضي أو الحاضر على عنصر أولي يرافق الطفل منذ بدايات تشكل وعيه، ألا وهو «الحكاية»، فقد ظلت الحكاية الينبوع الخصب الذي يجذب الطفل لينهل منه، ويساعد على اكشاف مواهبه وما يحب في هذا العالم، سواءً من أيام حكايات الجدات ودلالاتها التعليمية الهادفة، وصولًا إلى زمن الفضائيات الموجهة للأطفال، وقنوات يوتيوب، وبرامج تعليم الرسم والأغنيات والموسيقا واللغات عبر الأجهزة اللوحية.
لم يعد الطفل الآن الذي له من العمر خمسة أعوام، يمتلك الوعي نفسه الذي كان لطفل آخر تربى مثلًا في مطلع أواخر الألفية الماضية، فالتطورات التقنية السريعة التي حصلت من حولنا في العالم كله ساهمت في حدوث تحولات معرفية أثرت في نمو الطفل وتشكل وعيه، لذا إن جعل الأطفال يحبون الكتابة والقراءة يُمثل تحديًا كبيرًا بالنسبة للأهل، في زمن تبدو فيه المغريات أكثر تدفقًا من إقناع الطفل بالقراءة، أو بالانضمام إلى ورشة للكتابة الإبداعية.
المخيلة والرسم بالكلمات
علينا أن لا نُغفل أن الأطفال لديهم مخيلة حرة، خصبة، لا تتشكل الروابط فيها بشكل منطقي كما يحصل في عالم الكبار، وإذا اعتبرنا أن أولى تجليات هذه المخيلة يبدأ في الرسم، حين يتعلم الطفل كيف يُمسك بالورقة والقلم والألوان ويرسم بشكل بسيط ما يدور في مخيلته، فإن اللحظة التي تسأل فيها الطفل عن مدلول رسوماته فإنه سوف يسارع ليحكي لك عما يقصده من وراء الرسمة، فالخيال بالنسبة للطفل يُمثل متعة كبيرة، كما تحمل رسومات الأطفال تسجيلات لانطباعاتهم عن الحياة، وعلاقاتهم بمن حولهم من أفراد الأسرة، وما نسميه اجتماعيًّا «براءة الأطفال»، هو في حقيقته النفسية ردات فعل فطرية لم تخضع لتشذيب نتاج ضغط المجتمع، وهذا ما يفقده الطفل بمرور الوقت وكلما تقدم خطوات في عبور عتبات الطفولة.
وإذا كانت القراءة تُشكل بالنسبة للأطفال اللبنة المعرفية الأهم منذ بدايات وعيهم، مع الكتب الألفبائية الصغيرة بأحرفها وألوانها الجذابة، وتطورها بين عام وآخر، واستبدال الحروف بالكلمات، والكلمات بالجمل والحكايات، فإن هذا التدرج الذي يبدأ عند البعض مع صوت الأم أو الأب يقرأ الحكاية للطفل الصغير، يتحول بمرور الوقت إلى قيام الطفل نفسه بهذا الفعل وادراكه فطريًّا أن القراءة هي إحدى بواباته نحو العالم الكبير الغامض والمجهول. إن حضور الوسائل التقنية الحديثة من هاتف محمول وجهاز لوحي وغيرها، لم يلغِ دور القراءة في حقيقة الأمر بقدر ما شعَّب مصادر المعرفة، وأربك بشكل ما ذهن الطفل الخصب القادر على هضم كل ما يتلقاه. حضور الكتاب الإلكتروني مع الصورة الملونة، يشكل جاذبية أكبر بالنسبة للعديد من الأطفال، مقارنة بالكتاب الورقي المطبوع. وفي ظني أن هذا الأمر يستحق التوقف طويلًا لدراسته وتأمله سواء من قبل كُتاب الأطفال، أو دور النشر العربية الموجهة للأطفال. فالسؤال عن القضايا التي نحتاج أن نتوجه بها للطفل العربي جديرة بأن توضع على قائمة أبحاث وملفات تأخذ في حسبانها تطبيق نظرياتها على مئات من الأطفال العرب من مختلف البلدان بغرض الوصول إلى استيعاب ما يدور في ذهن الطفل.
فالأطفال كائنات بصرية جدًّا، خاصة في عصرنا هذا الذي يقوم على الصورة، إلى جانب قدرتهم على تشكيل ذاكرة سمعية في حال اعتيادهم على سماع القصص. لقد أحدثت التغيرات العلمية والعصرية والاجتماعية، بل والسياسية التي عصفت بالعالم العربي، تحولات كثيرة لا يمكن استثناء الطفل منها، خاصة في الدول التي تعرضت لحروب وهجرات، وهذا بلا شك يؤثر في رؤيته للعالم بعد حدوث اهتزازات في الثوابت من حوله. وإذ كانت غاية الكتابة عمومًا هي المحاكاة ومنح الأمل، فإن تجليات محاكاة الواقع، وزرع الأمل والإيمان بالغد بالنسبة للأطفال يجب أن تتبلور عبر الحكايات التي نقدمها لهم، بمضمون وأسلوب بعيد من السذاجة، بل يعزز مخيلتهم الخصبة ويوازي طموحاتهم وتطلعاتهم العصرية بغرض مساعدتهم على استيعاب ما يدور حولهم، وتوجيههم للسلوك الأخلاقي السليم بأسلوب حكائي بعيد من الوعظ المباشر الذي يُنفر الأطفال.
ألعاب الكتابة وتأثيراتها
لا يمكن أن تكون الكتابة بالنسبة للطفل مهمة إلا إذا كانت عملا ممتعا، فالخيال والألعاب والضحك هي الطرق المضمونة للتسلل إلى ذهن الطفل. إحدى تمارين الكتابة تقوم على عرض صورة طفل ضاحك أمام الأطفال وسؤالهم عما يرون فيها، ما السبب الذي يدفع الطفل إلى الفرح ، ويكون عليهم الحكي أو كتابة ما يشاهدونه في حال كانوا في سن يسمح لهم بالتعبير المكتوب، يكشف هذا التمرين البسيط تركيبة الطفل من الداخل، وتساعد الكلمات البسيطة التي يصف بها الصورة على إدراك طبيعة رؤيته للعالم الصغير من حوله: أسرته، مدرسته، رفاقه، وبالتالي يساعد هذا التدريب على ترشيد الطفل سلوكيًّا ومعرفيًّا وتقويمه في حال احتياجه لذلك.
يلحظ المراقب للأطفال في سنواتهم الثماني الأولى مدى عشقهم لابتداع شخصيات خيالية، وإيجاد حكاية وواقع متخيل لهذه الشخصيات؛ يُشكل الطفل عالمًا متكاملًا لأبطاله الذين يكونون في الأغلب من الحيوانات أو الكائنات المتخيلة، وهذا يتجلى واقعيًّا في اختيار أنواع الألعاب بما يتوافق مع مخيلته، على سبيل المثال قد يجذب عالم التنانين، بحكاياته ومسلسلاته، وألعابه مخيلة أحد الأطفال لمعرفته أكثر، ولاختلاق حكايات مؤلفة من أسرة التنانين؛ لقد خبرت مثل هذه المواقف وشهدتها لعدة أعوام مع ابني « عمر» ورفاقه، وكيف تتشكل نواة العلاقة مع كائن ما يصير حضوره مهمًّا وداعمًا في حياة الطفل، إذ تستطيع الأم أو المربية المشرفة على الاعتناء بالأطفال عبر هذه الحكايات اكتشاف الميول التي يفضلها الطفل سواء في الألعاب أو في بدايات تشكيل وعيه بالحياة من حوله، وإذا كانت الكتابة عن أبطاله وحكاياتهم تشكل موهبة مبشرة بالنسبة للطفل وتحتاج إلى رعاية واهتمام، كي تؤتي ثمارها لاحقًا، لأني مؤمنة جدًّا أن الأطفال الكبار بين (13- 17) عامًا، يمتلكون قدرة كبيرة على سبر أغوار الأطفال الآخرين، والكتابة عما يشغل اهتمامهم ويعبر عن مكنوناتهم.
تأتي أهمية ورش الكتابة، ودورها في الـتأثير في الطفل انطلاقًا من قيامها بعدة أدوار فعالة تترك انعكاسًا ملموسًا على سلوك الطفل وردود أفعاله، خاصة لدى الأطفال الذين لا يحسنون التعبير عن أنفسهم بشكل دقيق. خلال ورشة الكتابة التي يكون الهدف منها أساسًا منح الطفل مساحة حرة تمامًا ضمن وسط بيئي (مكاني) يحاكي مخيلته الطفولية في اختيار الألوان والرسومات التي تشغل مساحة القاعة، كي ينطلق ويعبر عن أفكاره، وتخيلاته، وأحلامه، وطموحاته، ويكون على المشرف الاستماع لكل طفل والإنصات بعمق له ولكل ما يقوله، والانتباه لدفع الطفل الأكثر انطواءً إلى المشاركة أكثر من بقية الأطفال، وذلك بغرض منحه ثقة بالنفس، من المفترض أن تعمل الورشة على تشكيلها، أو تعزيزها وإظهارها للعلن.
المنافسة والعلاج بالفن
خلال ورشة الكتابة للأطفال التي يتجاور معها الرسم أيضًا، بحيث يرسم الطفل رسمة توافق بطله أو حكايته المتخيلة، يواجه المدرب إحساسًا تنافسيًّا مكتومًا لدى الأطفال، ولعل أكثر الأحاسيس النفسية المؤذية بالنسبة للطفل هو شعوره بأن المشرف يفضل طفلًا آخر ويمنحه اهتمامه أكثر، يترك الإحساس التنافسي بين الأطفال خلال ورشات الكتابة والرسم ظلالًا سلبية، سوف نجدها منعكسة في الحكاية التي يكتبها الطفل والتي تقدم بشكل ما فعلًا غاضبًا بشكل غير مباشر، أو عبر إحدى الرسومات التي يجسد فيها غضبه أيضًا، وإحساسه بأنه لا يحظى بالاهتمام المطلوب. فالغرض من الورشة أولًا وأخيرًا هو كشف ما يمور في نفسية الطفل إلى جانب تعزيز مواهبه وثقته في نفسه.
في ورشة الكتابة للطفل، ليس على الكتابة نفسها أن تكون عملًا إلزاميًّا، لأن هذا سوف يُنفر الأطفال من التردد على الورشة أو تكرارها. فالورشة كي تحقق غايتها الحقيقية عليها أن تُغرق الأطفال في حالة من الاستمتاع والضحك قبل أن تنقلهم إلى مرحلة ثانية لصياغة حكاية بسيطة في البداية، تتضمن أسئلة ساذجة في ظاهرها مثل الطلب من أحد الأطفال مشاركة رفاقه بإحدى الشخصيات الخيالية التي ابتدعها ثم سؤاله: «ماذا حدث له؟ أو من هم أصدقاؤه، وهل سيبقى معهم أم سوف يسافر؟» يطرح المدرب أسئلة من واقع تكوين مجموعة أفكار عن كل طفل في الورشة، بحيث تُساعد الأسئلة الطفل على تخيل بطل وحكاية وحدث بشكل تلقائي وبسيط، غايته فتح باب القصة المكتملة بالنسبة للطفل كي يدرك أن أفكاره مهمة، وأنها تتشكل وثمة من ينصت لها.
قص ولصق
هناك تمرين آخر يمكن للمدرب القيام به، وهو اختيار مجموعة من الصور: ساحر، جني، مصباح، أميرة، فارس، تنين، كنز، عملاق، بطل يركب الأمواج، رائد الفضاء، عالم في مختبره، طبيب يعالج الجرحى.. إلخ، يختار ثلاث أو أربع صور ويعطيها لكل طفل، ويطلب منهم كتابة أو سرد حكاية مستلهمة من هذه الصور. ومن الممكن للمدرب مساعدة الطفل بإعطائه جملة أو عدة كلمات مفتاحية تساعده على تكوين الحكاية. في بعض الحالات يتحول هذا التمرين إلى وسيلة معرفية يمرر من خلالها المدرب إجاباته عن أسئلة علمية تشغل بال الأطفال، وذلك حسب مرحلتهم العمرية مثل: «أين تكون الشمس في الليل؟»، أو «لماذا لون السماء أزرق؟»، «من أين تأتي النجوم؟»، «هل الصحون الطائرة حقيقية؟»، «لماذا لا يظهر القمر مكتملًا كل يوم؟».
أحيانًا يطرح الأطفال أسئلة، إجاباتها الحقيقية تفوق قدرتهم الذهنية على الاستيعاب، حينها يكون على المدرب إن لم يتمكن من تقديم الإجابات وأخذ الطفل نحو منطقة مرحة، الاستعانة بكتب علمية مبسطة الشرح توجز الفكرة وتقدم للطفل ما يُشبع مرحليًّا أسئلته.
اليوميات
بين عمر ( 9- 13)، تبدو محاولة إقناع الطفل بتسجيل يومياته البسيطة تجربة مهمة، سيكون ممتنًّا عليها فيما بعد، وقد نجحت في معظم الحالات، إذ على ما في ظاهر هذه التجربة من بساطة، فإن الطفل سوف يُسجل من خلالها العديد من التفاصيل المعرفية والحياتية والاختبارات التي يجريها في المدرسة ويكتشفها في حصة العلوم، بالنسبة للطفل إن زراعة بصلة، أو بعض حبات من العدس في قليل من القطن المبلل ومشاهدتها وهي تنمو تمثل تجربة مهمة، وهكذا سوف يجد في هذه اليوميات أشياء صغيرة ملهمة، وقد ترافقه هذه العادة في سنوات المراهقة والشباب وتقوده إلى عالم الكتابة.
أدب الطفل المتعة، والمعرفة، والخيال
لؤي حمزة عباس – كاتب عراقي
ننظر للعالم مرةً واحدةً، في الطفولة. ما يتبقّى ذاكرة فحسب.
(لويس غلوك، ت: عبدالهادي سعدون)
من بين الآداب الإنسانية، ينطوي أدب الطفل على سمة خاصة لكونه أدب المسرّة، وهي السمة التي يتقاسمها كلٌّ من كاتبه وقارئه على حدٍّ سواء، فالمسرّة التي تبعثها الكتابةُ عادةً تجد حضورها الأمثل مع أدب الطفل، لما يميّزه من خواص تجعله قريبًا من النفس التي طالما وجدت في الطفولة سعادةً لا تنقضي، الشعور الذي يزداد قوةً ورسوخًا كلما تقدّم الإنسان في العمر، فالطفولة فردوس الحياة المفتوح على الدهشة، وأدب الطفل ممارسة هدفها القبض على الدهشة والعمل على بلورتها في نصوص إبداعية تمثّل لقرائها مصدرَ إشعاع لا ينقضي.
يقول هنري كومانجو متحدّثًا عن الأثر الذي يتركه أدب الطفل في نفوس قرّائه مهما امتدَّ بهم الزمان: «إن المرء في سن النضج ينسى الكتب التي يقرؤها، ولكن قصص الطفولة تترك أثرًا لا ينمحي»، وكلُّ كتابةٍ لأدب الطفل، بهذا المعنى، محاولةٌ لاستعادة أثر خاص تُرك على أرض الطفولة، ونحن لا نُنتج أدب الطفل إلا تحت شجرة المسرّة التي أينعتها في نفوسنا قراءاتنا الأولى، الشجرةُ التي تظلُّ مورقةً أبدًا، تُزهر وتؤتي ثمارها مع كلِّ كتابةٍ جديدة.
والسؤالان اللذان يتجدّدان بتجدّد الأنواع الكتابية للطفل: ما أدب الطفل؟ وكيف يمكن التمييز بينه وبين أدب الدهشة عمومًا، العجائبي منه والغرائبي؟ وإذا عُرف الأدبُ على إنه مجموعة الأعمال الشفاهية والمكتوبة التي ترمي لتحقيق هدفٍ ذي طبيعة جمالية، فإن أدب الطفل هو «كلُّ خبرةٍ لغويةٍ ممتعةٍ لها شكلٌ فني يمرُّ بها الطفل ويتفاعل معها فتساعد على إرهاف حسِّه الفني، وتعمل على السمو بذوقه، ونموّه المتكامل، وتساهم في بناء شخصيته، وتحديد هويته، وتعليمه فن الحياة»، إن للمسرّة التي يُحدثها هذا الأدب أهدافًا بعيدة ومقاصد سامية منها ما هو نفسي ذو بعد تربوي، ومنها ما هو اجتماعي ذو بعد إنساني عام، وهي جميعًا تصبُّ في (فن الحياة) الرفيع، وتتحقّق هذه الأهداف بشرط تفاعل الطفل مع أنماط الخبرة التي تقدّمها النصوص، خبرة أنتجتها عوامل مشتركة فكرية ومادية، يعمل كتّاب أدب الطفل على استثمارها في ما يتطلّعون لإنتاجه من نصوص شعرية ونثرية تذهب بعيدًا في تأمل تجارب الإنسان وقد أصبح الكون على سعته وشموله ميدانًا لخيالاته، فهو مثلما ينظر إلى أعماق الكون متخذًا من السماوات البعيدة ومجرّاتها مسرحًا لمروياته، ينظر إلى أعماق النفس الإنسانية بما تحمله من أمنيات وأحلام ورغبات ليعبّر عن ذلك كلِّه بعد أن ينسج خيوطًا لغوية دالة قوامها المتعة والمعرفة، وإذا كانت كلٌّ من المتعة والمعرفة تعدان شرطين من شروط الأدب العامة، فإنهما في أدب الطفل تمثلان ركيزتين لا ينهض بغيرهما هذا الأدب ولا تتأسس عوالمه.
خصائص جوهرية
إن ما يحمله أدب الطفل من «مألوفية الدهشة» عامل افتراق وتمييز بينه وبين أدب الكبار الذي لا يتعاطى مع عوامل الدهشة إلا بمقدار تُهيئ له من القناعات والمسوغات ما يجعل ما هو غير مقبول مقبولًا، في حين لا تكون الدهشة في أدب الطفل إلا خصيصة جوهرية يُبنى عليها هذا الأدب ويُنتج عوالمه، فحديث الطيور، وانتقال الأشجار من مكان إلى آخر، وهبوب الرياح بعد الاحتكام لرغباتها، وسقوط الأمطار واشتعال النار وسواها من مظاهر الطبيعة وتفاعل عناصرها الحية وغير الحية، مقدمات بديهية في عالم يستمدُّ محكياته من تصورات الطفولة الحرة وعلاقاتها المرنة، ويعمل على استثمارها في خلق عوالمه التي لا تقف عند قوانين الواقع ولا تُعنى بمحدداتها بقدر ما تكون معنيةً بتغذية خيال الطفولة الخصب والاحتكام لمجالاته الواسعة، الأمر الذي جعل كتابة أدب الطفل مغامرةً جماليةً مرهونةً بمنظور الطفل للعالم وكائناته المختلفة، تنبثق من تصوراته الواسعة وتنتظم في ضوء ما يظن ويعتقد، وهي مغامرة تجلوها أنماط الخبرة الإنسانية وسبل التجربة التي لم تقف عند حدٍّ من حدود المعرفة بما يجعل من هذا الأدب مجالًا لأسئلة الطفل وقد أخذته الدهشة أمام أبسط مظاهر الكون وعلل عناصره، وذلك لا يكون إلا بتعامل خاص مع الخيال، أبرز عناصر أدب الطفل وأكثرها تأثيرًا.
إن القدرة على تشكيل صورة ذهنية لشيء غير موجود التي تبلور حدَّ الخيال، تُعدُّ ركنًا أساسًا من أركان الإبداع الموجّه للطفل، ومنه الأدب الذي يفتح الآفاق أمام ممكنات التخييل والابتكار لمواجهة عقل الطفل ومحادثة نفسه وتأمين ما يتطلعان إليه من دهشة لا تقف عند قوانين الواقع ولا تستجيب لها، وبذلك كان الخيال في أدب الطفل متقدمًا على الخيال في ضروب الأدب الأخرى، وكثيرًا ما توجّه النقد لتوصيف الخيال في أدب الكبار حينما يبلغ درجةً متقدّمةً من الابتكار بـ «الخيال الطفولي»، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن دراسة أدب الطفل من منظور الخيال وفاعليته تعود، لا شك، بكثير من الجدوى على فهم هذا الأدب وإدراك خواصه الإبداعية، إن فاعلية الخيال، بما فيها من أبعاد ذاتية وأخرى موضوعية تهيئ مساحةً جماليةً صالحةً للابتكار واستنهاض علاقاتٍ جديدةً بين عناصر الواقع مما يجعل منه واقعًا جديدًا في عالم جديد يبعث الدهشة والسرور في نفس الطفل ويمنحه من المعرفة ما يرتقي بقدراته الذهنية، بعد أن يصبَّها في أوعية لغوية ساحرة.
خيال ما قبل الفن الرقمي
ويمكننا أن نتساءل، عند هذه النقطة، عن القيمة التي يمثّلها الخيالُ في أدب الطفل، في مقابل أشكال الخيال التي تعمل الفنون الرقمية على ابتكارها وشحن ما تقدمه من أشكال سردية مختلفة بها، لنكون في النهاية في مواجهة ضربين من التجسيد الخيالي، يمكن اعتماد الفن الرقمي Digital Art بوصفه لحظة الفصل الزمني بينهما، خيال ما قبل الفن الرقمي وخيال ما بعده، ومن نافلة القول بواحدية الخيال بوصفه فاعليةً جوهريةً مشتركةً بين مختلف العلوم والفنون والآداب، مثلما هو واحد في كلِّ زمان، ما يتغير فيه أشكاله التي تتجدّد بتجدّد العلوم وتقنياتها، وهنا ينبثق سؤال على مستوى من الأهمية: كيف لأدب الطفل المكتوب أن يستعيد قوة الخيال وفاعليته كما تجسّدت في الأنماط الخرافية الأولى التي توارثتها البشرية جيلًا بعد جيل، وكيف لنا أن نُنتج، مرّةً أخرى، أدب طفل يحمل من القوة والتأثير الخيالي ما حمله أدب الدنماركي هانس كريستيان أندرسن على سبيل المثال، وقد كتب «عن الطفل في دواخلنا جميعًا، هذه النواة التي لها في الغالب مدخل مباشر إلى المخفي في شخصياتنا، ولكن المستوى المؤثر فينا دومًا، والذي يخاطب في الوقت نفسه تفكير الكبير الناضج».
إن سؤالًا مثل هذا يدعونا للتفكير، من جديد، بماهية أدب الطفل والنظر إلى فاعلية ابتكار العوالم السردية فيه، وتأمّل قدرته على تركيب عناصره لإنتاج التنوع والثراء اللذين يميزانه، إن العامل الأهم في تحديد سبل الخيال هو تأمين صلة جديدة مع الطفل نفسه تُبنى على مستجدات علوم النفس، والتربية، والاجتماع، والإفادة من منتجات علوم الاتصال الحديثة، فالخيال لا ينفصل عما تحققه العلوم والفنون والآداب من مبتكرات في فهم الإنسان، إنما يعمل على تغذيتها وفي الوقت نفسه يتغذى على ما تحققه من خطوات تقوم بالأساس على ما يقترحه من «علاقة جدلية بين الواقع واللاواقع، بين الحضور والغياب، بين الوجود والعدم، بين ما هو شخصي وما هو كلي، وثم تتكشف منجزات الخيال الابداعي عندما يهبنا صورًا تعبّر عن علاقة الإنسان بالعالم»، لتكون تلك نقطة الانطلاق لتجديد الكتابة في أدب الطفل بوصفه أحد أهم ضروب الأدب وأعلاها منزلةً وجمالًا.
غياب النقد وتفاوت في مستوى الجودة
عبدالمجيد زراقط
بدأت تجربتي في كتابة أدب الأطفال عندما كنت في قريتي، حيث أسكن في بيت بعيد عن بيوت القرية، وأجد في حكي حكاياتٍ لابني ما يلبِّي حاجته ويجيب عن أسئلته، وبعد أن هُجِّرت إلى بيروت، في أثر اجتياح العدو الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وجد ما حكيته طريقه للنشر في مجلة «سامر» البيروتية، ولقي ما أنشره قبولًا، وهو في تلك الآونة «حكايات مخدتي»، و«مذكرات دوري»، فواصلت الكتابة والنشر في سامر والعربي الصغير وماجد وحمد وسحر والمشعل وعلاء الدين وقطر الندى وكل الأسرة، ثم أسهمت في تأسيس عدة مجلات مختصة بأدب الأطفال، وكتبت القصة القصيرة والقصة المصورة والمسلسلة والرواية، ونشرت معظم ما كتبته في مؤلفات يزيد عددها على الخمسين مؤلفًا.
أنا باحث وأستاذ جامعي، وأخشى أن أنطلق في كتاباتي الإبداعية للصغار والكبار من منظور نقدي، وقد استطعت لدى مشاركتي في وضع مناهج قسم اللغة العربية في الجامعة اللبنانية جعل أدب الأطفال مقرَّرًا، ودرسته عدة سنوات جامعية، وألفت كتابين في تاريخ أدب الأطفال العربي ونقده، وما زلت أكتب في هذين المجالين، وأنشر ما أكتبه، وأجد متعة في ذلك.
ليس في لبنان مؤسسة رسمية تنشط في مجال أدب الطفل، والأمر متروك للمؤسسات الخاصة، ومنها مؤسسات تربوية كبرى بعضها طائفي، مما يتيح لهذه المؤسسات الخاصة، أن تنشط بحرية في فضاء من التنافس، وبخاصة أن سوق النشر اللبناني عربي، مما يجعل دور النشر تراعي شروط هذا السوق، فتحرص على تجويد إنتاجها، أما المؤسسة الرسمية العربية فهي جيدة مثل العربي الصغير في الكويت، وماجد في الإمارات، وحمد وسحر في قطر.
ويمكن القول إنه توجد غزارة في إنتاج أدب الأطفال العربي، وتفاوت في مستوى الجودة، وغياب للنقد، كما يمكن القول: إن كثيرًا مما يُنتج جيد على مختلف المستويات، وبعضه يرقى إلى مستوى عالمي، وإن كان لي أن أقدم ما يؤكد قولي هذا، فهو إنتاج الأديب الكبير يعقوب الشاروني الذي أثرى مكتبة أدب الأطفال العربي والعالمي بإبداع خالد، وأمثاله ليسوا قليلين في أكثر من قطر عربي، وطبيعي أن يوجد اختلاف بين ما كُتب في مرحلة سابقة عما يكتب الاَن، فهو الآن يمر بمرحلة جديدة يواصل فيها التأصيل وتركيز الخصوصية والتجريب، إضافة إلى ما سوف تمليه عوامل «الثورة الإلكترونية» الماضية في التطور.
كاتب وأكاديمي لبناني
تحوُّل الكاتب إلى طفل لعبة صعبة
جبير المليحان
الكتابة الناجحة لقصة الطفل من أصعب أنواع الإبداع السردي؛ ذلك يعني أن تكون، وأنت الكبير المتمرس في بناء الكلمة، أن تتحول إلى طفل بنفس الرؤية المباشرة لتفاصيل الحياة. الحياة عند هؤلاء الصغار، في السن والتجربة، لعبة؛ فكل شيء حي، يتحرك، يلعب يضحك، يفرح، يتألم.. وله صوته، وموقفه مما حوله، موقفه العقلي ومشاعره. هذه القدرة على التقمص من أصعب الأشياء على الكاتب.
كاتب النص القصصي الموجه للطفل عليه فعل ذلك، بعد تسلحه بخصائص النمو النفسي واللغوي للفئة العمرية المستهدفة من النص، بعيدًا من المباشرة، والتدخل ككبير فاهم في رسالته التي يضمنها لهدف تربوي أو قيمة ما. لم أكن أكتب للطفل حتى تزوجت وجاء أطفالي. فاستفاق طفلي القديم وأنا أحكي لهم الحكايات قبل النوم. ثم شرعت بكتابتها ورقيًّا. وبدأت أحكيها لأطفال الأسرة كلهم عند اجتماع الأسرة الكبيرة في جمعتنا الأسبوعية. الأطفال هم الحكم في جودة القصة أو فشل النص. أعرف ذلك من خلال نظرات وبريق أعينهم. أما إذا أخذوا يلتفتون أو يتحدثون فأعرف أن نصي قد انحدر إلى الفشل.
الكتابة للطفل في ظل الاكتساح الإلكتروني تواجه مصاعب جمة، وتقريبًا لا أحد يلتفت إليها. الطفل لديه الآن كل وسائل اللهو التي تجعله لا يسمع ولا يفكر ولا يعي وهو منساق أمام أجهزته. إنها مشكلة كبيرة للأسرة والمجتمع. مشكلة جيل كامل ينشأ بعيدًا من أن يرى.
الكتابة للطفل في عالمنا العربي تكاد تنعى! ويهال عليها تراب النسيان؛ والكميات الهائلة من كتب الأطفال وقصصهم التي تملأ الأسواق والمكتبات والمعارض أغلبها زيف ووهم فهي إما مؤدلجة، تلقن الطفل القيم والنصائح وكأنه راشد كبير. ويطل على كاتبها بمواعظه بين سطر وآخر. أو أنها تسوق للخرافات والخزعبلات والسحر والوهم والبطولات الزائفة. إنها بعيدة من أن تشكل فكرة السؤال أو الدهشة في عقل الطفل. ولذلك لا قيمة لها.
دور النشر المتخصصة في الكتابة للطفل فعلًا متطورة تقنيًّا، لكنها متورطة فيما تقدمه من مادة غير مبنية على المعرفة والعلم. هذا جانب. والآخر: أن أغلب من يكتبون قصة الطفل بالذات يكتبون من وجهة نظرهم ككبار موجهين وواعظين، ودون سلاح بمعرفة دقيقة لقاموس الطفل اللغوي، ومراحل نموه النفسي والعقلي.. إنها عبء على تكون وتطور هذا الكائن الجميل الذي سيكبر وقد امتلأ بالحياة والأسئلة والإبداع.
كاتب سعودي
الحاجة إلى معيار دقيق
فاضل الكعبي
الكتابة للأطفال كما أراها من أهم وأخطر وأحوج الأعمال البنائية والتنموية والتطويرية لبناء الإنسان وتهذيبه باتجاهات الجمال ومعاني الحياة السوية والفاعلة، وقد جعلت تجربتي المتخصصة في هذا الميدان والتي تجاوزت أكثر من 45 عامًا في الكتابة للطفل إبداعًا متنوعًا في الشعر والقصة والمسرحية وروايات اليافعين، والتي أصدرت خلالها ما يقرب من 200 كتاب، وعن الطفل أدبًا وثقافة ومسرحًا في الدراسات الفكرية والنقدية الفاعلة أصدرت ثلاثين كتابًا، هي الآن من بين أبرز المراجع المتخصصة في هذا المجال.
هناك تحديات عديدة تواجها الكتابة للأطفال، والتي تتطلب مواجهتها بمزيد من الإبداع والتميز والتشويق، وللأسف أغلب المؤسسات الرسمية المعنية بأدب الطفل وثقافته لم تقدم ما يطمح له الطفل ولا المعنيون بالكتابة له، وظلت كتب الطفل على هامش اهتمامات هذه المؤسسات في عموم الوطن العربي، وأغلب دور النشر العربية للأسف الشديد تتاجر بنتاج أدب الطفل العربي، كما تعتمد الترجمة على عواهنها لأنها تعفيها من الالتزامات المادية للكاتب المحلي، مع أن كثيرًا منها غث وغير مناسب لثقافة طفلنا العربي.
معايير علمية
الكتابة للطفل قبل عقدين من الزمن في عالمنا العربي غير الكتابة الآن، فقد تطورت واتسعت منافذها وآليات نشرها، لكن مشكلتها أنها مازالت تحتكم إلى التجريب والاجتهاد بوعي وبغير وعي، وبين هذا وذاك تظل الكتابة للطفل في حاجة إلى المعيار الدقيق في كتابتها وآليات وصولها للطفل المتلقي، وهذا ما يجب أن يفعله النقد، لكن للأسف الشديد هذا النقد مفقود الآن، وقد سعيت قبل سنوات لإيجاد معايير علمية وفنية دقيقة لخلق نقد متخصص، حتى تمكنت من ذلك، وأكملت دراسة مهمة صدرت في الشارقة عام 2013م بعنوان «أدب الأطفال في المعايير النقدية: دراسة في الأسس والقواعد الفنية والنقدية لفن الكتابة للأطفال»، لكن مازال هناك قدر كبير من العشوائية يسود معالم الكتابة للأطفال، ودوافع ذلك تأتي من أسباب عديدة منها ما يختص بالكاتب نفسه ومنها ما يختص بالناشر وأسباب أخرى تتعلق بالقارئ ذاته، ولو أتينا لتفسير هذه الأسباب وشرحها بدقة وموضوعية لاحتجنا لمساحة أخرى وأكبر مما هو متاح لنا، ولكننا كنا قد تعرضنا لهذا الأمر ودرسناه وتحدثنا عنه بسعة أكبر خصوصًا في كتابنا الموسوم «أدب الأطفال بين الظاهر والمسكوت عنه» الصادر في دولة الإمارات عام 2017م، وفيه مجموعة آراء وأفكار وشهادات في راهن أدب الطفل العربي، وكتابنا الآخر في هذا الاتجاه الموسوم «قراءات نقدية في أدب الأطفال العربي» الصادر في القاهرة عام 2020م وغيرها من كتب أخرى عديدة لنا في هذا المجال.
كاتب وناقد عراقي
نحتاج أفقًا واسعًا
فاطمة المعدول
لم أكتب إلا بعد 23 عامًا من العمل مع الأطفال، من خلال ورش ومسرح الطفل، ومن خلال عملي مديرة لقصر ثقافة مختص بالطفل وفنونه، فلم أكتب من خلال تصوراتي ولا من خلال الأهل أو المدرسة أو الجامع أو الكنيسة أو غيرها، ولكن من خلال التعامل المباشر مع الأطفال، وقد ناقشت خلال تجربتي عشرات الموضوعات كالإسكان والإدمان وغيرها، ولكن بطريقة جذابة ومبهجة، بدأت رحلتي مع الكتابة للطفل في أوائل التسعينيات، وحصلت أول أربعة كتب لي على جوائز، وكان اهتمامي بشكل دائم بالعمل والبيئة، وأنا أعتبر نفسي كاتبة هاوية، لذا ليس لدي خطة بما سأقوم به في المستقبل.
الكتابة للطفل تواجه تحديات مختلفة مع الاكتساح الإلكتروني الذي نعيشه الآن. نقرأ في المكتبة الخضراء فنجد مصائب جمة عمن قتل زوجته أو قطع يده أو غير ذلك، نحن في عصر يكره التمييز بين الأقليات والأعراق، وهذا ما أتحدث عنه دائمًا مع من يكتبون للطفل، أقول لهم إن عليهم بالقراءة، فهذا ما يجعل لنا أفقًا واسعًا، لذا فأنا لست قلقة من الاكتساح الإلكتروني على ما يكتب باللغة العربية، والكتابة ستظل في مكانتها، لأن الطفل لديه رغبة دائمة في الحكايات الخيالية، وعلى كاتب الأطفال أن يقدم ما يدهشهم، ويبتعد عن الكتابة الكئيبة، حينها سيتعامل مع كتابته القائمون على التطبيقات.
هناك العديد من المشروعات المهمة للطفل في العالم العربي، فالشارقة لديها مشروعات جيدة، والإمارات لديها جائزة جيدة، لكن لا يوجد مشروع متكامل، وفي تصوري أن أفضل مشروع للطفل قدمته سوزان مبارك، لم يكن المال أجمل ما فيه، فالكتب الفائزة كانت توزع على طلاب المدارس، ويستفيد من المشروع الناشر والرسام والمؤلف وصاحب المطبعة، والناشر أصبح شريكًا أساسيًّا في أدب الطفل، إذ يتحمل مجازفة كبيرة بنشره كتبًا مكلفة، وهناك كثير من دور النشر التي وقفت إلى جانب أدب الطفل، كالشروق ونهضة مصر والمصرية اللبنانية وإلياس وذات السلاسل في الكويت وغيرها، وجميعهم أخذوا جوائز من معرض بولونيا.
كاتبة وناقدة مصرية
أحلم بكتابة قصة تخاطب أطفال العالم أجمع
هند خليفة
تجربة الكتابة للطفل من أجمل التجارب التي عشتها في حياتي. يتجسد فيها عشقي للكتابة والطفولة، ويلتقي فيها تخصصي الأكاديمي في علم اجتماع الطفولة بشغفي للكتابة للأطفال. بدأت الكتابة في سن مبكرة، وأنا في الثامنة من العمر، وكنت أرقب والدي – رحمه الله – وهو يقضي وقتًا طويلًا جالسًا خلف مكتبه يقرأ ويكتب. أختلس النظر إليه ويحلق خيالي في الأسطر التي يكتبها… مع الأيام حذوت حذوه وأصبحت الكتابة واحة الراحة التي أسكن إليها وتقربني من نفسي فتتجدد طفولتي بين الأسطر.
لكي تكتب للطفل لابد أن ترى الطفل بقلبك، لا بعقلك فقط. ما زلت أحلم أن أكتب قصة تخاطب الأطفال في العالم أجمع، وتجد لها مكانًا في المكتبات والمسارح والسينما. وما زلت أتعلم كيف أكتب للطفل، لكي تكون كاتبًا ناجحًا للطفل لابد أن يستمر شغفك مشتعلًا، وأن تنفتح على الأدب الناجح والتجارب المتميزة، ولابد أن تتجدد بما يحاذي تجدد الأطفال لكي تكسب ثقتهم واهتمامهم.
في عصر الرقمنة، شهدت القراءة انحسارًا لاسيما عند الأطفال والشباب، إلا أن جمهورها لا يزال موجودًا، ولذا في ظل هذا التنافس فإن مواصفات الكتاب الجيد أصبحت مختلفة، العصرية والجودة في الحبكة والإخراج والإبداع والابتكار، جميعها سمات مطلوبة في كتب الأطفال اليوم. وتجد هذا التجدد والجودة والجاذبية متوافرًا في كتب الأطفال الأجنبية إلى حد بعيد، وبعض الإنتاج العربي.
حدث تطور ملحوظ في الكتابة للطفل في الإنتاج العربي، وهناك بعض دور النشر المتميزة في المملكة ودول عربية أخرى. إلا أن استمرارية الحفاظ على المستوى تتطلب الدعم المؤسسي والاعتراف بالحاجة إلى التعلم والتطوير، وأيضًا التواضع من قبل الكاتب ودور النشر. كما أن الكتابة للطفل تحتاج إلى التأني في إصدار الكتاب، وقضاء وقت أطول في دراسة خصائص الطفولة في المراحل المختلفة، والاقتراب من الأطفال والكتابة من منظورهم لا من منظور الراشدين.
بعض دور النشر تنفق مبالغ كبيرة على إخراج الكتاب من حيث الورق والألوان والإخراج، إلا أن ما يأتي بين دفتي الكتاب لا يخاطب فكر الطفل وخياله وحياته، ولذلك فإن التطوير لا يقتصر على الجانب المادي، بل أيضًا في الجانب التربوي والإبداعي.
كاتبة سعودية
على كاتب الأطفال أن يضع المسطرة جانبًا
نجلاء علام
بدأت الكتابة للأطفال في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وامتدت هذه الرحلة لسنوات سواء على مستوى التأليف القصصي والروائي والمسرحي للأطفال، أو على مستوى الإشراف على إصدار الكتب مثل سلسلتي: كتاب قطر الندى، وتبسيط الأدب العربي للناشئين، أو إصدار مجلات الأطفال مثل رئاستي لتحرير مجلة قطر الندى التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية.
وفي هذه الرحلة تعلمت من الطفل المتلقي، فالكتابة للأطفال يجب أن تكون سريعة الإيقاع، فالطفل ملول بطبعه، وأن تكون اللغة بسيطة، ولكنها مُعبّرة، فانتقاء اللفظ فارق عند الطفل، ولن يغفر الطفل للكاتب إن وجد المعنى مبهمًا، وأن يكون الموضوع مشوقًا وجديدًا، وعلى كاتب الأطفال أن يضع المسطرة جانبًا، ويبدأ في الحكي بشكل يبدو تلقائي. وفي رأيي أن ارتباط الكتابة للأطفال بتحديات صناعة كتاب الطفل في وطننا العربي هو المشكلة الحقيقية التي تواجه أدب الطفل، ويمكن توضيح هذه العلاقة من خلال عدة نقاط هي:
– بعض المؤسسات الرسمية، تنظر لأنشطة الطفل بعامة سواء نشر الكتب والمجلات وغيرها كنشاط تكميلي، يمكن في أية لحظة تقويضه لصالح بقية الأنشطة، والحقيقة أن الطفل هو صناعة المستقبل، وما نزرعه اليوم داخل أطفال الوطن العربي يرسم صورة هذا الوطن في الغد.
– التوزيع مشكلة كبيرة تواجه كتب الأطفال، ونحتاج لحلها بشكل جذري من خلال المكتبات الثابتة والمتنقلة، والتوزيع الإلكتروني، وكثرة المعارض، وإنشاء مكتبة في كل مدرسة ونادٍ للأطفال.
– ارتفاع أسعار كتب الأطفال بسبب ارتفاع أسعار الخامات والورق، مما يجعل معظم دور النشر الخاصة تعزف عن إصدار كتب الأطفال.
– بعض دور النشر تنظر لأدب الأطفال على أنه حدوتة قبل النوم، فإذا كانت وظيفة الحدوتة قديمًا أن تجعل الطفل ينام، فإن وظيفتها الآن أن تجعل الطفل يصحو ويتساءل وينقد ويتعلم ويكتسب خبرة وينمي خياله ولغته.
كفتا ميزان
هناك شغف دائمًا بالمقارنة بيننا وبين الغرب فيما يخص الكتابة للطفل، ومن وجهة نظري نحن وهم كَفّتا ميزان، لديهم الخيال والقدرة على الحوار مع مفردات الطبيعة والانسلاخ من التوجيه المباشر، وطرْق مناطق جديدة في أدب الطفل، ولدينا الاستلهام من التراث القصصي، وتوظيف القيمة الإيجابية والقصة المجتمعية والحكي الممتع، ومعالجة قضايا منطقتنا العربية والمشهدية وتعدد الدلالة.
ناقدة مصرية
وعي الطفل طور من الكتابة له
ضحى عبدالجبار
بدأت تجربتي بالقراءة للطفل، وكان ذلك عندما كنت طفلة، وعندما تخرجت من الجامعة عملت في دار ثقافة الأطفال التي تُصدر مطبوعتين للطفل هما «مجلتي» و»المزمار»، بالإضافة إلى كتب الأطفال، فدخلتُ عالم الأطفال من باب العمل، فتدربت على الكتابة للطفل على يد أمهر كُتّاب الأطفال، أنا الآن كاتبة أطفال على مدى (16) عامًا، كتبتُ العديد من السيناريوهات والقصص، وأنا الآن مدير تحرير لمجلة من أعرق مجلات الأطفال وهي «مجلتي»، وأسعى الآن للمشاركة في تجمعات أدباء وصحفيي الأطفال كافة، وأعمل جاهدة لخدمة هذه الفئة العمرية لكل المجتمع.
تواجه الكتابة للطفل في ظل الحضور الإلكتروني الكثيف تحدّيات كثيرة، فالطفل في زمننا، زمن الهاتف المحمول والحاسوب والبرامج الإلكترونية، في صراع مع نفسه، فهل يقرأ الكتاب والمجلة المطبوعين أم يذهب إلى الأجهزة الإلكترونية التي أصبحت متاحة في كل وقت ومكان، وتطلعه على كل الأشياء المفيدة وغير المفيدة، وتعلّمه الألعاب وتسلّيه بكل الطرق النافعة والضارة، ومع كل الأسف نجد الطفل يفضل الإلكترونيات مبتعدًا عن الأشياء المطبوعة، وعلى رغم هذا التحدي أرى أن الكتابة للطفل ستنتصر، لأن كثيرًا من دور النشر الخاصة بالأطفال تحاول تقديم مطبوعاتها إلكترونيًّا، مما يحقّق رغبة الطفل في تمسكه بجهازه الإلكتروني، واطلاعه على ما يُكتب ويُنشر له من قصص وموضوعات توعوية وثقافية وإرشادية جميلة.
هناك مشروعات مهمة مقدمة من خلال المؤسسة العربية لتشجيع الكتابة للطفل، وسأتحدث عن المؤسسات العراقية على اعتبار أنني عراقية، وأعرف مدى الاهتمام في العراق بهذه الشريحة من المجتمع، فهناك اهتمام بدعم وإصدار العديد من المطبوعات التي تخاطب الأطفال، هناك الآن ما يُقارب تسع مجلات تقريبًا كلها موجهة للأطفال، وتصدر ورقيًّا وإلكترونيًّا، هذا بالإضافة إلى السلاسل القصصية والشعرية الكثيرة.
وبكل تأكيد الكتابة للطفل في العالم الآن متطورة وجميلة جدًّا، وبصراحة استطاعت أن تتغلب على المترجم، بدليل أننا كنّا نلجأ إلى الترجمة كثيرًا، أمّا الآن فنحنُ نقلل من الترجمة لوجود المؤلف، أنا أتحدث الآن طبعًا عن النشر في صحف الأطفال العراقية، لأنني أعمل فيها وعلى اطلاع بما يُنشر.
صعوبات راهنة
هناك اختلاف بين الكتابة الراهنة والكتابة منذ عشرين عامًا، والاختلاف يأتي في الدرجة الأولى من تفكير الطفل، وسببه التطور الإلكتروني وأجهزته، ما جعل الطفل يفكر في كثير من الأشياء المختلفة، حتى أن أسئلته الآن أصبحت كثيرة ومثيرة ومختلفة عن أسئلة الطفل في السابق، وهذا استوجب تغيير طبيعة الكتابة بما يلبي متطلبات أفكاره.
كاتبة عراقية
التراث لا يشحذ خيال الطفل
لينا كيلاني
نشأتُ في بيئة أدبية كنت ألتقي فيها مشهوري حملة القلم، جعلتني هذه البيئة أنتمي إلى عالم الحرف في عمر مبكر، كنت أقرب فيه إلى الطفولة واليفاعة، وذلك عندما بدأت أنشر قصصًا للأطفال في واحدة من أهم الصحف الرسمية في سوريا وهي صحيفة «تشرين»، وتوالت من بعدها خطواتي نحو أغلب مجلات الأطفال في الوطن العربي.. وهكذا عُرفت كاتبة للأطفال، وفي مراحل تالية انتقلت بقارئي الذي لم يعد صغيرًا إلى رواية الشباب، ومن بعدها تجرأت ودخلت عالم أدب الخيال العلمي، مستفيدة من اختصاصي العلمي، ثم رواية الكبار، والقصة القصيرة. ورغم عدد مؤلفاتي الكبير، والذي وصل إلى (165) مؤلفًا ما بين قصص الأطفال، وروايات الشباب والكبار، والخيال العلمي إلا أنني أرى نفسي ما زلت في بداية طريق طويلة تمتد أمامي أكثر كلما كثرت خطواتي فيها.
أمام كاتب الأطفال فيما يتوجه به إلى طفل الألفية الثالثة تحديات كثيرة، فهذا الطفل نشأ في العصر الرقمي، وما عادت تقنعه قصص الغابة، وهو لم يتعرف إليها أصلًا في بيئته، بينما تقع تحت يده، وبصره مفرداته المعاصرة.. وهذا يتطلب خروج كتّاب الأطفال من عباءة النمطية التي سادت لوقت طويل. فالطفولة اليوم وقد تفتح وعيها مبكرًا، أصبحت بحاجة لخطاب جديد لا يستخف بقدراتها التي صقلها الذكاء الصناعي، والأجهزة الذكية، بينما أصبح الكاتب مطالبًا بنصوص تحاكي مفردات العصر حتى يستطيع أن يستقطب إليه القارئ الصغير، ثم يقنعه بما هو من داخل عقليته.
قدمت بعض المؤسسات العربية الرسمية مشروعًا مهمًّا لتحفيز ودعم وتشجيع الكتابة للطفل، وتحقق ذلك في بعض الدول العربية كامتياز لها، إلا أنه يظل إسهاما محدودًا، وليس بالقدر المطلوب منه في نطاق العالم العربي، وذلك باعتبار أننا مجتمعات فتية فيها أعداد كبيرة من الأطفال، وتستوعب نتاجًا أدبيًّا أكبر مما يطرح في الساحة.. ثم ماذا تحقق للكاتب وهو المبدع الأول لكل عمل طفلي؟ هل من مؤسسات تتبنى عشرات المبدعين من الكتّاب، أو أنها تمنحهم فرصة للتفرغ لمهمتهم الإبداعية؟ والناشر سواء أكان جهة حكومية، أم خاصة، ألن يحتاج إلى تسهيلات من نوع خاص، حتى يتمكن من إنتاج كتاب طفلي جيد مستوفٍ لشروطه من حيث الرسوم، والإخراج، والطباعة، ونوعية الأحبار التي يجوز استخدمها لمطبوعات الأطفال، وورق الطباعة؟ والأمر لم يتعد بعض الجوائز الأدبية التي تهدف إلى تشجيع كل من الكاتب، والرسام، والناشر، على رغم شروطها التي قد لا تكون مناسبة لكل من يرغب.
مازالت الكتابة للطفل في العالم العربي تفتقد إلى الابتكار الذي يواكب العصر قياسًا إلى ما ينتجه الغرب.. صحيح أنه أصبح لدينا مكتبة طفلية كبيرة ولاسيما في مصر، وسوريا، بتشجيع من الدولة إلا أننا مازلنا مقصرين في مواكبة التطور العلمي في القص بهدف إدماج الطفل العربي في عصره، والإجابة عن أسئلته حتى لا يكون مجرد مستهلك للحضارة في المستقبل، بل يشارك بها بما يؤسس له أدب الأطفال العربي. أما المترجمات فما زالت هي الأخرى تكتسح الساحة، وهي تبث قيمًا مغايرة، وتعبّر عن ثقافة قد لا تتلاقى كل أضلاعها مع الثقافة العربية. ومن جهة أخرى أقول إننا قد أهملنا التراث وهو يشع بالخيال، ولم نعطه ما يستحقه من الاهتمام، فهو يُنقل كما هو بتبسيط، وتقريب لأذهان الأطفال لا أكثر، إلا أن أطفال الجيل الرقمي لم يعد يشحذ خيالهم هذا التراث كما كان حال أجيال سبقت لم تولد في عصر الثورة الصناعية الرابعة، أو الثورة الرقمية، وهذا يدعو بدوره إلى إعادة النظر في التراث بإسقاطات معاصرة تعيد البريق لجواهره، وتصل الطفل بتراثه، وانتمائه، وهويته التي هي من ملامح وجهه.
كاتبة سورية
ينبغي ألا نغترب
أمل الرندي
ما زلت أتذكر أول قصة كتبتها للأطفال في الجامعة، حينها لم أكن أتخيل للحظة أن هذه القصة سوف تشق طريقي إلى عالم أدب الطفل، وأن هذا العالم سوف يسحرني ويوقعني في غرامه، ويصبح جزءًا من حياتي!
بمجرد أن اختار أستاذي في الجامعة، عميد أدب الطفل العربي يعقوب الشاروني، قصتي «الفيل صديقي»، لتنشر في مجلة «نصف الدنيا»، شعرت بأن أدب الطفل بات قدري، هو اختارني وأنا فتنت به، واجتهدت لأعطي فيه بكل طاقتي، فأنا أحب أن أجمع في قصصي بين القيم الأخلاقية والسلوكيات الإيجابية، في قالب قصصي ممتع للطفل لا يشعر فيه بالملل ولا الرتابة، ولا بتلقين المعلومة.
هذا هو المنهج الذي اتبعته في قصصي التي تعدت خمسًا وأربعين قصة، والحمد لله، فقد حصل كثير منها على جوائز، في الكويت وخارجها، وتدرس في مرحلة الطفولة المبكرة (رياض الأطفال)، والتقيت العديد من أطفال الوطن العربي، من خلال ورش متنوعة، ثم أطلقت «مبادرة أصدقاء المكتبة» في العام ٢٠١٨م، عندما كنت رئيسة لجنة أدب الطفل في رابطة الأدباء الكويتيين، وحققت المبادرة نجاحًا كبيرًا في عامها الأول، إذ جمعت المثلث الذي يحتاج إليه الطفل لتنمية ثقافته وحبه للقراءة (الكاتب- القصة- المكتبة)، وعلى رغم كل الظروف الصعبة أطلقنا جائزة «نجم مبادرة أصدقاء المكتبة» على المستوى العربي، فحركنا المياه الراكدة، وشجعنا الأطفال على القراءة، وتواصلنا معهم من خلال فيديوهات عُرِضَت على وسائل التواصل الاجتماعي، واكتشفنا مواهب في الشعر وسرد القصة، ففاز معنا أطفال من ١٢ دولة عربية.
عصر الصورة
الكتابة للطفل لم تعد كافية لتنمية ثقافته والارتقاء به، إذ علينا الالتقاء بالطفل بشكل مباشر، من خلال إقامة المزيد من الأنشطة التي تتيح لنا التحاور معه، واكتشاف موهبته، وتحريك حس الإبداع بداخله، والمساهمة في خلق جيل محب للقراءة والثقافة بشكل عام. هذا ما علينا أن نفعله ككتّاب عرب لأدب الطفل حيث تقصّر المؤسسات الرسمية، أو بالتعاون معها، ففي بعض الدول نلحظ اهتمامًا رسميًّا بأدب الطفل وإقامة كثير من الأنشطة، وفي بعضها الآخر نلحظ كثيرًا من الإهمال، وعلى الأدباء أن يكونوا حاضرين في الحالتين، ويؤدوا مهمتهم بكل روح إنسانية وبكثير من المبادرات، آخذين في الحسبان أهمية التطور التقني والإلكتروني في حياة الطفل، وأهمية أن ننتج قصصًا تفاعلية بمؤثرات صوتية وحركية لتزيد من متعة المعرفة لديه. فنحن في عصر الصورة والصورة المتحركة، ومن جهتي أصدرت بعض قصصي كرسوم متحركة، وعرضتها للأطفال.
شرك الماضي
هنا يأتي دور الناشر العربي، في إنتاج قصص تحاكي العصر، وتدخل في منافسة شريفة مع ما يحيط بالطفل، من وسائل لهو إلكترونية وألعاب قد تبعده من قراءة القصص، وفي الاهتمام بجاذبية كتاب الطفل من جميع النواحي، كي نحافظ على التواصل مع طفل اجتماعي يستطيع التعبير عن نفسه، بعيدًا من أي عزلة يمكن أن يقع في شراكها!
نحن اليوم أمام حياة جعلت طفل اليوم مختلفًا عن طفل الأمس، وأمام كتابة يجب أن تكون مختلفة عما مضى، وهذا الأمر شديد الحساسية، فعدم الاكتراث بتطور العالم يشكل خطرًا على نصوصنا، وإهمال التغيير الكبير الذي نعيشه اليوم ويعيشه الطفل أكثر منا، قد يوقعنا في شرك التمسك بالماضي، في حين أن المستقبل ينتظرنا، وأن الطفل الذي نكتب له ربما يكون أكثر سرعة منا في حركته نحو المستقبل.
كاتبة كويتية
سطو على المنتج الأجنبي
فرج بن دغيِّم الظفيري
كان الحضور الأكبر لي من خلال مجلات الأطفال منذ العام 1997م كاتبًا محترفًا في مجلات الأطفال (سعد، والعربي الصغير، وبراعم الإيمان، وماجد)، ثم رئيسًا لتحرير مجلة «باسم»، ثم «مَكِّيّ» و»فراس»، ثم محرِّرًا رئيسيًّا في مجلة «ماجد». وفي المجلات نشرت الكثير جدًّا من الأعمال، وبخاصة قصص الكوميكس بمختلف أنواعها، وابتكرت شخصيات جديدة، وربما من تلك الشخصية الشهيرة: شخصية لطيفة الظريفة، وجبلي، وشعلان، ومحبوب، وغيرها من الشخصيات في المجلات.
وفي السنوات الأخيرة توجّهت أكثر للتعاون مع دور النشر، وأصدرت كثيرًا من الكتب لمراحل عمرية مختلفة بدءًا من رياض الأطفال إلى اليافعين. ومن الكتب التي أعتزُّ بها كتاب «الأقدام الطائرة» الذي أصبح ضمن المقرر الدراسي لطلاب الصف الثالث الابتدائي في مدارس دولة الإمارات العربية المتحدة.
أبرز التحديات التي تواجه الكتابة للطفل هي قدرة الكتابة (كنص مقروء) على منافسة المحتوى الإلكتروني المقدّم للطفل، والذي لا يكتفي بالكتابة فقط، بل تتضافر معه عناصر أخرى رسمًا وحركة وصوتًا وإخراجًا مبهرًا.. إضافة إلى سهولة العرض ويسر التلقِّي، وهذا يوجب على الكُتّاب الحرص على الإبداع والتميّز الذي يجذب الطفل ويجعله يتخلّى عن ميزات الإلكتروني لصالح الورقي.
مشروعات كبرى
يمكن أن نعدَّ الجوائز المقدَّمة لكتاب الطفل من أبرز المساهمات المميزة من المؤسسات الرسمية، والتي تسهم في الارتقاء بكتاب الطفل وتدعم مسيرة تطويره وتميّزه، وهناك العديد من المشروعات التي ساهمت بشكل كبير في خدمة الكاتب والطفل، مثل مكتبة الأسرة، والقراءة للجميع، في مصر، 1001 عنوان، وتحدي القراءة، وهما مبادرتان انطلقتا من الإمارات، وأيضًا المعارض والمهرجانات المخصصة للأطفال وكتبهم، ولعل أبرز معرض ومهرجان هو «مهرجان الشارقة القرائي للطفل» والذي أصبح اليوم المهرجان الأشهر والأضخم عالميًّا.
دور النشر ليست على درجة واحدة، هناك دور نشر تعمل بمهنية، تستحق معها أن يقال إنها تعمل في صناعة النشر، بينما في الأغلب- ما يُسمى دور نشر- لا علاقة لها بصناعة النشر، بل هي أشبه بوسيط طباعة، إذ يُحمِّل الناشر (الطابع) تكلفة الطباعة على المؤلف، وفي هذه الحالة هو لا يهتم بالنص ولا بجودته ولا بترويجه وتسويقه، بل يهتم بالمبلغ الذي يستلمه من المؤلف، وهذا النوع من الناشرين يُسيئون لصناعة النشر.
في الغالب نحن ننظر إلى أفضل الموجود في الترجمة، ونحاول أن نقارن بينه وبين الكتاب العربي، والحقيقة أنه يوجد كتب عربية تستحق الإشادة، وتُضاهي الكتب المترجمة، لأن الأمر مرتبط بالإبداع، ولا علاقة له بموطن الكاتب أو قوميته، لكن على المستوى العام، ما يزال ما يقدَّم لأطفالنا دون المستوى المأمول، مع الإقرار بوجود جهود حثيثة للارتقاء بأدب الطفل العربي، وفي ظل هذا السعي، وقع البعض في نوعين من الاعتداء: الأول: الاعتداء بالسطو على المنتج الأجنبي وتقديمه على أنه من بُنيّات أفكاره، والثاني: اعتداء ثقافي: بنقل ما يخالف الثقافة العربية، والعادات والتقاليد الأصيلة، والحديث هنا ليس عن نقل المفيد في مجالات العلوم، وتطوير الفكر، وتبنِّي الإستراتيجيات والمهارات التي أفرزتها ثورة المعلومات، فهذا مطلب مهم، لكن المقصود هو المحافظة على الثقافة والهُوية العربية.
مزاوجة
نحن اليوم اختلفت لدينا ظروف الكتابة، ووسائلها، وظهرت تقنيات غيّرت المشهد بالكامل، وفي بعض الحالات لم تعد تنفع معه الوسائل والأدوات والأساليب القديمة، ولم يعد الطفل كما كان سابقًا، فطفل اليوم تقني، يتعامل مع التقنية بشكل كبير، والتقنية بالنسبة له صارت هي الملعب وبؤرة التركيز. وللحصول على اهتمام الطفل وجذب انتباهه إلى الكتاب، أصبح من الضروري اقتحام عالمه بأفكار مميزة، أو المزاوجة بين الكتاب والتقنية.
سأكتفي بملحوظات محدودة: ففي السابق كان العنصر الأبرز فيما يقدّم للطفل هو الجانب التربوي، ولعل أدب الطفل اليوم تجاوز ذلك، فصار ما يقدّم له أوسع من مجالات التربية بمفهومها الضيق، وصار في أدب الطفل ما يقدَّم للتسلية والمتعة، وما يقدّم لبناء المهارات المتنوعة، ومنها مهارات القرن الحادي والعشرين: مثل مهارات التفكير الناقد وحل المشكلات، والإبداع والابتكار، والتفاهم الثقافي المتبادل، بل أصبح للفلسفة حضور كبير لدى بعض دور النشر.
وبالنسبة لأسلوب الكتابة، انحسر أسلوب الوعظ والتوجيه المباشر، وأسلوب الكتابة التعليمي القائم على زيادة المفردات اللغوية للأطفال بوضع الشروح والكلمات المرادفة بين الأقواس أو في الحواشي، وكذلك الأساليب التقليدية في الكتابة، والمقدمات النمطية، والأوصاف الرتيبة، والقوالب الجاهزة لشخصيات القصص، وظهرت أساليب كتابة جديدة، تتعامل مع النص باحترافية أكبر، تكاد تختفي فيها الرتابة المعهودة في القصص.
مؤسس منتدى أدب الطفل- السعودي
التحدي في فكرة الكتاب لا في نوعه
أروى خميس
تجربتي لم تكن متقطعة، وبخاصة الكتابة، ربما الإصدارات صارت مؤخرًا متأخرة وذلك بسبب كورونا مع أنه صدر لي كتاب في ٢٠٢٠م، وكتاب آخر تم إصداره في ٢٠٢١م، وأتمنى أن يعود السوق لانتعاشه وتعود الإصدارات والمعارض لملء الأفق المستقبلي.
لو كان لكتاب الطفل في مكتباتنا ومدارسنا شأن أكبر منذ زمن لما صار الاكتساح الإلكتروني تحديًا على مستوى الأطفال والناشرين. فحتى لو تحول الكتاب للصيغة الإلكتروني هل سيكون له مكانة في حياة الطفل في مجتمعاتنا العربية؟ أجد أن التحدي في الفكرة وليس في الصيغة. حتى الآن لا يوجد مشروع مهم يحفز ويدعم الكتابة للطفل إلا على مستوى الإمارات وبعض المبادرات في بعض الدول العربية.
بالنسبة للمتابعين، نعم هناك عدد – وإن كان ضئيلًا- من الإصدارات السنوية التي قد تكون واعدة في الأدب العربي للطفل، تنمى خياله وتساعده على صياغة أسئلته الخاصة، ولكن المشكلة تبقى في توفير هذه الكتب في مكتبات الدول العربية ومدارسها وإيصالها للطفل والاحتفاء بها.
هناك عدد من دور النشر في العالم العربي التي تقدم كتبًا متطورة من ناحية النصوص والرسوم والإخراج، ولكن تظل أوعية نشر الكتب بشكل عصري ضعيفة جدًّا على مستوى جميع دور النشر، ولعل ذلك يعود للتكاليف العالية التي قد تصاحب التحول الرقمي بشكل محترف لكتب الأطفال الصادرة.
كاتبة وناشرة سعودية
أتمنى أن يثقف صانع الكتاب العربي نفسه
علي الزيني
منذ صغري وأنا أعشق الرسوم، كانت تلفت نظري أي رسمة في أي كتاب دراسي، ودائما كنت أحب الذهاب إلى المدرسة من أجل حصة الرسم، وأول عمل لي كان وأنا في الخامسة عشرة من عمري، في مصنع فساتين عرائس، كنت أرسم على الأقمشة «الباترن» الصغيرة الرسومات التي تكون على الفستان، ومن بعدها عملت في شركه عاديه بعد التخرج، لكن لم أحتمل العمل الروتيني، ولم أر نفسى فيه، فقررت أن أبدأ بتصميم الدعاية والإعلان والشعارات.
وفعلًا تعلمت برامج التصميم، وعملت شهرًا في شركه بدون مرتب، لم أكن أعرف أن هناك عملًا في رسوم قصص الأطفال، لكني وجدت إعلانًا يطلب رسامين، فذهبت وقدمت ضمن مجموعة كبيرة من الفنانين، وتم اختياري من بينهم، فعملت بعقد مدة 3 سنوات رسوم بسيطة، وقتها كنت قد التحقت بالجامعة المفتوحة، قسم الديكور، وفادتني كثيرا في التصميم وبدايات العمل، وحينها لم أكن معروفًا بشكل قوي في المجال، وانتهى العقد وبدأت بالعمل الحر على صفحة التواصل الاجتماعي. وضعت رسوماتي وبدأ يأتيني شغل رسومات بالتدريج، وفى المدة التي لم يكن يأتيني فيها عمل، وكانت بالشهور، كنت أرسل لدور النشر حتى لو رسمت دون مقابل.
ثم بدأت أدرس السوق وأتساءل ما الذي يجعل الفنانين الناجحين على هذا القدر من النجاح، وأخذت أطور من نفسي، أدرس أدوات الفنانين بشكل دقيق، وعامًا وراء عام وأنا أتطور، وأصبح الإقبال على أعمالي قويًّا. وفي سنة 2018م فزت بأول جائزة للكتاب العام بالشارقة عن كتاب «حلم أو اثنان» لدار نون، وفي 2019م جائزة اتصالات لفئة أفضل رسوم لكتاب «أنا أطير» لدار (أ ب ت) ناشرون، وفي 2020م جائزة دار الملتقى العربي عن فئة أفضل رسم عن كتاب «عدنان وطبق رمضان» لدار الياسمين، وأخيرًا 2021م جائزة اتصالات عن رواية لليافعين، رسمت الغلاف والرسوم الداخلية لها.
أرى أن الاطلاع والانفتاح ازداد في المدة الأخيرة كثيرًا، مما جعل من السهولة الاطلاع على ما يجري في الغرب وسرعة التقدم، فصرنا ندرس أدوات تطورهم بشكل أسهل بكثير من قبل، وأصبح هناك تعاون كبير بيننا، مما جعل لدينا القدرة على أن نصل لأدوات جديدة تصنع شيئًا مختلفًا يتميز به العمل العربي بشكل فريد وجديد، تمامًا كحضارتنا القديمة المميزة دائمًا بكل ما فيها.
الملحوظ أن صانع الكتاب العربي يجب أن يكون فنانًا وكاتبًا وراويًا واستشاريًّا وكل شيء، لكي يصنع تحت منظاره شيئًا جميلًا وراقيًا ويليق بعالمنا العربي، فأتمنى من كل صانع أن يثقف نفسه، ويشبع كل حواسه بكل ما هو مؤثر وغنى، ليصنع عملًا مميزًا وفريدًا نميز فيه أنفسنا، ويكون السائد هو الأجمل.
رسام كتب أطفال مصري.
كتابات ترقى إلى المستوى العالمي
عبده الزراع
دخلت إلى عالم الكتابة للأطفال بالصدفة، بعدما جربت واحتضنت مجلة «قطر الندى» التي تصدرها هيئة قصور الثقافة للأطفال، أولى تجاربي الشعرية والنثرية، بعدها التحقت للعمل بها سكرتيرًا للتحرير، ثم مديرًا للتحرير، ثم رئيسًا لتحريرها، وسرعان ما جذبني هذا العالم السحري بكل ما يحمل من زخم ثقافي ومعرفي نوعي، كنت شغوفًا بأن أحيط بكل دروبه، فعكفت على قراءة كل ما يقع تحت يدي من شعر، وقصة، ومسرح، ودراسات متخصصة في أدب الطفل وثقافته، وكان لفوزي بجائزة الدولة التشجيعية في شعر الأطفال عام 2003م، أثر كبير في توجهي كلية للاهتمام بكل ما يخص أدب الطفل وثقافته.
ولأن الكتابة للطفل الآن تعاني مشكلات جمة، وتواجه تحديات كبرى، في ظل انتشار الميديا الحديثة التي أخذت الطفل كلية من الكتاب ومن المجلة، وجعلته يلهث وراء هذه التقنية الجديدة والمبهرة، مما جعل المهمة تثقل كاهل كاتب الطفل، وأصبح لزامًا عليه أن يجود كتابته ويبحث عن الجديد والمختلف الذي يتوافق وعالم الطفل، كي يستطيع أن يعيده مرة أخرى إلى عالمه الأثير، بدلًا من تركه نهبًا لكل ما هو مستورد من الغرب، والذي يحمل في طياته عادات وتقاليد لا تتفق معنا، علاوة على ما يحمل من عنف، ومكر، وخداع ترسخ في الوجدان ثقافة مختلفة.
دور النشر الخاصة لا تقوم بدور وطني في مجال نشر كتب الأطفال، لأن الناشر يهمه التوزيع، ويضع عامل المكسب والخسارة نصب عينيه، وكتب الأطفال تكلف كثيرًا، لأنها ذات مواصفات خاصة، كما أنها تشاركية بين الكاتب والرسام، وبلا شك تختلف كتب الأطفال المترجمة التي تأتينا من الغرب عن كتب الأطفال العربية، سواء من حيث المضمون أو الرسومات المصاحبة أو جودة الطباعة والورق، ومن متابعتي لبعض روايات اليافعين الفائزة بجائزة «نيوبري» الإنجليزية، نجد أن الروايات لا تقل عن مئتي صفحة من القطع «الجاير»، ولا توجد بها إلا رسوم قليلة بالأبيض والأسود، وتطبع على ورق عادي، فهل يقبل أطفالنا برواية على هذا النحو، بالطبع لا، لأن الشعوب الغربية تعود أطفالها على القراءة منذ الصغر، مما يجعل الكاتب يتعامل مع الطفل على أنه قارئ محترف.
أخطاء بسيطة
هناك بعض الملحوظات حول الكتابة للأطفال، فقديمًا، كان كاتب الأطفال متأثرًا بالترجمة والاقتباس والتمصير عن الآداب الغربية، فكتب محمد عثمان جلال، وأحمد شوقي وغيرهما متأثرين بحكايات لافونتين الفرنسي، ثم اعتمد كامل كيلاني على ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة في كتاباته، ولم يكن يغير كثيرًا في الحكاية، فوقع في بعض الأخطاء والقيم التي لا يصح أن تقدم للطفل، لكن الأجيال الجديدة أصبحت أكثر وعيًا في التعامل مع التراث، على رغم أن معظمهم مازال يدور في فلك القديم، دون أن يتعب نفسه في البحث عن أفكار جديدة، ولكي نكون منصفين هناك بعض الكتاب المصريين والعرب استطاعوا أن يقدموا إبداعًا متميزًا كتابة ورسمًا يرقى إلى المستوى العالمي.
رئيس شعبة الطفل في اتحاد الكتاب المصريين
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
ملف رائع وجميل ومفيد ضم معظم الكتاب والنقاد في الوطن العربي وهم جميعا قامات كبيرة في مجال أدب الأطفال غير أن الجزائر كانت غائبة عن المساهمة في هذا الملف فنتمنى مستقبلا أن يكون لنا نصيب في مثل هذه الملفات خصوصا في مجلة عريقة هي مجلة الفيصل التي تتلمذنا على منشوراتها منذ أن تشكل وعينا القومي والفكري فللقائمين عليها كل التحية والمحبة والتقدير
فى المقالة الأولى أخطأ ألأستاذ الكاتب وذلك من وجوه:
الأول انه سقط فيما أراد نفيه واستثقاله والصاق تهمة التأخر به حين قال فالثقافةُ التي تسود، حاليًّا، هي الثقافة النقلية، ثقافةُ الْمَضْغ والاجترار، وبالتالي، لا ننتج شيئًا، عدا القيل والقال. فها هو يتبنى قولا لم ينتجه استقصاء علمى ولا استقراء واقعى لتاريخ أكابر العلماء.
الثانى ما استقر عند العلماء قاطبة خاصة المحققين منهم سيما المنصفين من المستشرقين والأصوليين من العرب والمسلمين ومن ذلك مقالة الأديب الرافعى إن كلام العلماء علم ومنبأة بعلم.
الثالث: فى منهاج القراءة المتبع وأنقل لك نص مقالة علامة البلاغة المعاصر محمد محمد أبو موسى فقد سمعته يقول ان أهم المهم أن تتعلم كيف استخرج العالم العلم وأن تتأمل كيف كان يعمل عقل صانعه وكيف أقام البناء الفكرى المتمثل كتابا بين يديك.
الرابع: هو استنتاج موطن الخلل فالخلل ليس فى النقل بل فى تفريغ الطفل من هوية يبنى عليها مستقبله وانتاجة الفكرى والعلمى فالثقافة (بالمفهوم الذى يفصلها عن الحضارة) من حيث مركباتها كلغة وقيما مستمدة من الدين هى منشأ الهوية والتى تولد فى نفس حاملها اعتزازا بهويته أو الما بتقهقر وتراجع مكانة أمته.
هذا والله أعلم