كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
من مهمات كتابة التاريخ العربي
يمكن القول: إن موضوع كتابة وفهم ومكانة التاريخ العربي مثل إشكالية نقاشية، طالت منهجية سرده، ومكانته الفكرية، ومدى هيمنته على الحاضر العربي، ومدى أهميته النهضوية للمستقبل العربي، وأخيرًا نوع ارتباطه بالهوية العروبية وبالأيديولوجية القومية العربية الحديثة.
وفي اعتقادي أن ذلك سيظل معنا لسنين طويلة قادمة إلى أن تصل الأمة العربية، إلى حل مقنع ومترسخ في الواقع لهويتها الجامعة ولوحدتها القومية ولمكونات ثقافتها الأساسية.
وإذا كان هناك من يشك في أهمية التاريخ لبناء الأمم، فليتمعن في الاستعمال المكثف لتاريخ مليء بالأساطير الدينية المختلقة وبالأكاذيب المتخيلة، الذي برر به الغزاة الصهاينة احتلالهم الاستيطاني لفلسطين العربية وتشريد شعبها العربي في المنافي، ونجاحهم في إقناع أجزاء مهمة من عالمنا الحاضر، وعلى الأخص العالم الغربي، بقبول ذاك التاريخ وبالتالي ذلك الاحتلال الاستئصالي العرقي كحق تاريخي لاسترجاع أرض كانت في الأصل ملكًا لمعتنقي الديانة اليهودية؛ إنه مثل ساطع لتزوير كتابة التاريخ بامتياز وجعله أساسًا انتهازيًّا لمشروع سياسي استعماري.
تطور كتابة التاريخ
كانت كتابة التاريخ في الماضي، عند العرب وغيرهم، سردية في شكل سيرة القادة والحكام، الحقيقية والمتخيلة، أو في شكل أساطير حربية أو دينية. ولأنها كانت جهودًا فردية ظلت في أغلبها جزئية تتحدث عن هذا الحدث من هذا الجانب أو ذاك، وعند العرب عن هذه القبيلة أو تلك العائلة الحاكمة المهيمنة. وكان هناك إهمال واضح للشعوب وللأناس العاديين ولكثير من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لصالح الجوانب السياسية والعسكرية. وبالتالي لم يكن تأريخًا اجتماعيًّا تكامليًّا شموليًّا، مترابطة أجزاؤه لإبراز العناصر الحضارية في تاريخ المجتمعات. إذن لم يكن علمًا قائمًا بذاته ولا حتى جزءًا أصيلًا من علم معترف به.
لكن تلك الصورة قد تغيرت، في أوربا منذ قرون عدة وفي بلادنا العربية منذ القرنين التاسع عشر والعشرين، عندما اقتحم الفلاسفة حقل التاريخ وأوجدوا مدرسة فلسفة التاريخ لاستعمال منهجيات الفلسفة في الحكم على التاريخ، ثم ترسخت مدرسة التاريخ الاجتماعي التي أعطت أهمية لدراسة وكتابة التاريخ الكلي من خلال دراسة مؤسسات وأنشطة الاجتماع الكلي في ذلك التاريخ، اقتصادًا وسياسة وثقافة وعلمًا وفنونًا وعمارة وغيرها. وبتفاعل فلسفة التاريخ بمنهجية التاريخ الاجتماعي انتقلت كتابة التاريخ من السردية إلى الوضع الحالي، حيث أصبح التاريخ علمًا تحليليًّا نقديًّا تركيبيًّا للأشخاص وللأحداث وللثقافة وللقيم السائدة، أي لحضارة معينة، في زمن معين، في مكان محدد.
ومن حقنا، نحن العرب، أن نفاخر بمجموعة فذة من المؤرخين العرب الذين تصدوا لمهمة ذلك الانتقال النوعي لكتابة تاريخ العرب، وأغنوا أساليبه ومنهجياته ومكوناته. وكمثال فقط، إذ القائمة طويلة جدًّا ولها كل الاعتبار، نذكر أسماء عبدالعزيز الدوري وصالح العلي من العراق، ومحمد عابد الجابري من المغرب العربي، وهشام جعيط من تونس، وقسطنطين زريق من سوريا.
مهمة كتابة التاريخ في الحاضر
الهدف من تلك المقدمة وسرد تاريخ مسيرة كتابة التاريخ كان الوصول إلى هذه النقطة الأساسية: وهي أننا نتحدث عن كتابة تاريخنا العربي بطريقة علمية اجتماعية فلسفية نقدية كلية؛ من أجل أن تؤدي تلك الكتابة إلى تحقيق أهداف حداثية يتطلبها الواقع العربي الحالي المفجع، لتعينه على الخروج من حالات التمزق والتخلف الحضاري والاستسلام المذل التي تعيشها حاليًّا أمة العرب، كما يعيشها كل قطر عربي بصور خاصة به. ولما كان تفسير التاريخ وفهمه هو عملية تفاعل وتجاذب بين المؤرخ وحقائق التاريخ فإن الجهة التي ستتصدى للقيام بهذه المهمة، وهي أكثر من مؤرخ واختصاصي وتضم شتى التخصصات الفرعية في علم التاريخ وعلوم الاجتماع والإنسانية، يصبح أمر تكوينها وتمويل عملها والجهة التي تضع لها ضوابط عملها أمرًا بالغ الأهمية.
وما يهمنا من تلك المهمة التأريخية العربية هو تحقق الأهداف الآتية:
أولًا- إظهار التمازج والتفاعل والتأثيرات المتبادلة فيما بين مسألتين: التأريخ العلمي لتاريخ العرب القديم والحاضر من جهة، والمشروع القومي النهضوي العربي بتلاوينه وتجلياته من جهة ثانية، وعلى الأخص بالنسبة لجانبين من ذلك المشروع القومي النهضوي وهما هدفا الوحدة العربية والتجديد الحضاري.
دراسة التاريخ القديم من أجل إبراز دور ذلك التاريخ في تكوين وإغناء مسيرة الهوية العروبية المشتركة عبر القرون، من خلال إظهار الأدوار الإيجابية في العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية واللغوية والدينية في مسيرة ذلك التاريخ الواحد، ودراسة التاريخ الحديث لتقديمه ليس كتاريخ عبء ويأس وحصيلة ونقد استشراقي لبناء الشعور بالنقص في الذات العربية، وإنما كتاريخ حافز على الانتقال إلى جعل دراسته، كما بين المؤرخ توينبي، كتحدٍّ حضاري عربي لتوليد رد فعل حضاري عربي مجدد ومنقذ، بما فيه التوجه نحو القومي المشترك في حقول الثقافة والاجتماعي والاقتصادي، ثم السياسة في تدرجها الوحدوي.
وعندما تنتهي تلك المهمات سيصبح الانتقال إلى مشروع الأمة العربية/ الدولة القومية أوضح وأكثر موضوعية وأشد قبولًا. وسيكون أقوى جواب على المتشككين والمترددين والمعادين لوحدة هذه الأمة، سواء من أوساط الاستعمار والصهيونية أو من جانب بعض المنغلقين الأنانيين العرب.
ثانيًا- إن ذلك المشروع القومي يجب ألا يؤخذ كرفض لكتابة التاريخ الوطني لهذا القطر العربي أو ذاك. ولكن سيهمنا مقدار دمج الوطني في مسيرة التاريخ العام المشترك كمعين ومنقٍّ وحافز وليس كعائق ومتصادم ومشوش، كما سيريده الخارج المعادي أو الداخل المشوش بالمظالم المؤقتة في هذا القطر أو ذاك.
والواقع أن الكتابة العلمية الموضوعية الكلية للتاريخ الوطني الجامع الموحد لمكونات الدول العربية الوطنية الحالية، التي يراد لها أن تنقسم وتتجزأ أكثر على أسس قبلية أو مذهبية أو عرقية، أصبحت لا تقل أهمية عن المشروع القومي المشترك الذي نتكلم عنه. ذلك أن بعض كتابات التاريخ الوطني غير العلمية والموضوعية، بل المنتقاة والمنحازة، هي أحد أسباب الصراعات والانقسامات التي رانت مؤخرًا على المشهد الوطني العربي في كثير من أقطاره.
وبالمثل يأمل الإنسان أن تساهم الكتابة الموضوعية العلمية للتاريخ العام في تصحيح أية نقاط ضعف في ذلك التاريخ الوطني وتنقيته من أية أهداف خبيثة.
ثالثًا- يأمل الإنسان أن تقود كتابة التاريخ العربي المشترك إلى جعله جزءًا من مقررات دراسة التاريخ في المدارس والجامعات، كما اقترحته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم مرارًا في الماضي.
في أجواء الضياع الحالية أصبحت تلك الخطوة مهمة جدًّا لإعادة ثقة الشباب والشابات العرب في الضرورة الوجودية لوحدة أمتهم ووطنهم العربي الكبير. ومن المؤكد أن تلك الخطوة ستساهم في إعادة تعريف وتنقيح العديد من الكلمات والشعارات، التي تراكمت في أدبيات السياسة والفكر العربي الحديث تأثرًا بما طرحته أوربا من جهة، ورغبة بعضهم في مزاحمة الوطني للقومي من جهة أخرى. وبالطبع هناك مهمات أخر قد يرغب بعضهم في تحققها، لكننا معنيون بالمهمات المفصلية والأهداف العائقة المستقبلية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق