كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المحلِّل النفسي رونيه كاييس: لماذا لا ينبغي تفسير مسألة الأخوة بعُقدة أوديب؟
يبدو أن مفهوم «عقدة الأخوة» مستبعدٌ أو ثانوي في الفكر النفساني، فهو غير مذكور في المؤلفات الأساس الموضوعة من أجل تحديد مفهومات التحليل النفسي، فلا نجده في «معجم التحليل النفسي»، 1967م، لصاحبيه لابلانش وبونتاليس(١)، ولا في «موسوعة التحليل النفسي» التي صدرت سنة 1993م تحت إشراف كوفمان(٢)، ولا في «المعجم العالمي للتحليل النفسي» الذي صدر سنة 2002م تحت إشراف دوميخولا؛ ولا نجد هذا المفهوم مذكورًا إلا في مقال تحت عنوان: «العقدة العائلية» لصاحبه ج. ب. كايو المنشور في: «معجم التحليل النفسي الجماعي والعائلي»، 1998م(٣).
مع ذلك، نفترض أن المحللين النفسيين تأخروا في تطوير التصورات التي دشنها سيغموند فرويد (1856- 1939م)، وميلاني كلاين (1882- 1960م)، وجاك لاكان (1901- 1981م) بخصوص موضوع الأخوة. وعلى سبيل التمثيل، هل يمكن أن نغفلَ الإشارة اللافتة من مؤسِّـس التحليل النفسي إلى هذه العقدة التي لم ينتبه إليها إلا من خلال الاشتغال بالأدب والأدباء: فهناك دراسة عند فرويد تحمل عنوان: «ذكرى من الطفولة في مؤلَّــف غوته: الشعر والحقيقة» 1917م(٤)، وهي مساهمة تستحق الاهتمام؛ بسبب اسم غوته الذي له أهميته، فالأمر يتعلق بأكبر كاتبٍ في اللغة الألمانية. لكن ما يهمنا أكثر أن فرويد تفرَّغ لدراسة ذِكْرى من ذكريات الشاعر تعود إلى السنوات الأربع الأولى من حياته: حين رمى الأواني العائلية من النافذة لكي يحتجَّ، بلا علم منه، على هذا الحدث المزعج: ميلاد أخيه الأصغر؟
يمكن أن نشير بسرعة إلى بعض الأسماء والأعمال على أن نتوقف بقليل من التفصيل عند محلل نفسي معاصر كرّس أبحاثه منذ نهاية السبعينيات إلى اليوم لموضوعة الأخوة، موضحًا لماذا يمكن الحديث عن عقدة الأخوة وما الذي يميزها من عقدة أوديب: إنه المحلل النفسي المعاصر رونيه كاييس. لكن قبل ذلك دعونا نستحضر بعض الأسماء والأعمال الأخرى المعاصرة التي يعود إليها الفضل أيضًا في إعادة تدشين تلك التصورات النفسانية الأولية بخصوص موضوع الأخوة:
i. ميشال سولي (إشراف): إخوان وأخوات (1981م): هذا كتاب جماعي أشرف على إعداده وتنسيقه المحلل النفسي ميشال سولي (توفي سنة 2012م). وهو مؤلَّف جماعي يدرس العلاقات بين الإخوان والأخوات، انطلاقًا لا من حالات طبية فحسب، بل من المحكيات والإنجيل، ومن أعمال فرويد وحياته(٥).
ii. بول- لوران أسون: إخوان وأخوات، دروس في التحليل النفسي (1998م): هو كتاب للمحلل النفسي والأستاذ الجامعي الفرنسي المعاصر بول – لوران أسون، ويقع الكتاب في جزأين: الأول بعنوان: الرابط اللاواعي، ويتناول موضوع الأخوة انطلاقًا من الحالات الطبية، والجزء الثاني بعنوان: الروابط وكتابتها، ويتناول الأخوة وكتاباتها (في المحكيات الدينية والأدبية). ومن أسئلته الأساس: ما الذي يقع بين الأخ وأخيه، بين الأخ وأخته، بين الأخت وأختها؟ هل للأخوة وضع اعتباري في اللاوعي؟(٦)
iii. أوديل بورجينيون وآخرون: الأخويُّ (1999م)، مؤلَّف جماعي تولّى المتخصص في علم النفس المرضي أوديل بورجينيون مقدمته وخاتمته وفصله الأول، في حين تولى مباحث فصليه الآخرين محلّلون نفسيون آخرون. وهو يوضح الفارق بين العالم الأبويّ والعالم الأخويّ، ويكشف النقاب عن التمثلات اللاواعية للأخوي، ويعالج مسألة الأخوي من خلال حالات طبية والحكايات الخرافيات والتراجيديات الإغريقية (مثلًا: معنى أن تكون ابنًا لأخيك في مسرحيات سوفوكليس؟)(٧)
رونيه كاييس في كتابه: عقدة الأخوة
نزعم أن الفضل يعود إلى المحلل النفسي الفرنسي المعاصر رونيه كاييس لا في إعادة الاعتبار إلى مسألة الأخوة فحسب، ولا في تطوير التصورات التي دشنها سيغموند فرويد وميلاني كلاين وجاك لاكان، بل في الذهاب بعيدًا بالمسألة إلى حد اعتبار الأخوة عقدة لا تقلّ أهمية عن عقدة أوديب، مركَّبًا مستقلًّا عن مركّب أوديب ومتداخلًا معه في الوقت نفسه؛ وفوق ذلك، فرونيه كاييس شرع مبكرًا في معالجة مسألة الأخوة؛ فمن نهاية السبعينيات من القرن المنصرم إلى اليوم، أصدر عددًا مهمًّا، كمًّا وكيفًا، من المقالات والمؤلفات حول موضوع الأخوة الذي لم يكن بكل هذا الحضور حتى عند فرويد وكلاين ولاكان: ففي سنة 1978م، نشر مقالته الأولى في الموضوع تحت عنوان: «الصور والمركبات الأخوية داخل السيرورة الجماعية»(٨). وفي سنة 1986م، نشر مقالة أخرى في الموضوع بعنوان: «أشكال الصور الأخوية في بعض حكايات الأخوين غريم»(٩). وفي سنة 1992م، نشر مقالة بعنوان: «عقدة الأخوة، مظاهر نوعيتها»(١٠). وفي سنة 2003م، نشر مقالة بعنوان: «عقدة الأخوة والروابط الأخوية»(١١).
ولم نقدم هنا إلا بعض المقالات التي تتناول بطريقة مباشرة موضوع عقدة الأخوة، مع أن ثمة مقالات غير قليلة، فردية وجماعية، عالج فيها رونيه كاييس مسألة الجماعة العائلية، ومسألة الأخوة في علاقتها بالموت والحداد؛ إلا أن أهم مؤلَّف كرّسه للموضوع هو هذا الذي صدر سنة 2008م بهذا العنوان الدال: «عقدة الأخوة»، وأعاد نشره في طبعة جديدة سنة 2017م وهي التي نعتمدها في هذه المقالة.. وهذا الكتاب هو الذي سنقدم هنا أطروحته وخطوطه العريضة(١٢).
افتتح رونيه كاييس مقدمة كتابه: «عقدة الأخوة» بكلمة توضح أنه يدافع منذ سنوات عدة عن الأطروحة الآتية: أن عقدة الأخوة هي عقدة حقيقية، بالمعنى الذي صاغ به التحليل النفسي بنية العقدة ووظيفتها داخل الفضاء النفسي للذات اللاواعية؛ فعقدة الأخوة لا يمكن اختزالها في عقدة أوديب، كما لا يمكن حصرها في عقدة الدخيل؛ ولا تتحدد سمات هذه العقدة في الكراهية والحسد والغيرة، فهي تضم هذه الأبعاد، لكنها تضم أبعادًا أخرى أكثر أهمية: الحب والتناقض الوجداني والتماهي مع الآخر، الشبيه والمختلف. ولذلك، فهي عقدة لها ما يميزها على مستوى التنظيم كما على مستوى الوظيفة: بنيتها منظَّمة بواسطة التنافس والفضول، بواسطة الانجذاب والنفور، بواسطة ما تشعر به ذاتٌ تجاه هذا الآخر الذي يحتل في عالمها الداخلي مكانة الأخ أو الأخت(١٣).
إشكالية التفوق البنيوي لعقدة أوديب على العُقَد الأخرى
عند رونيه كاييس، لا بد من توضيحين: أولًا- تضمّ عقدة الأخوة شكلين متعارضين: شكلٌ بدئيٌّ، وفيه تقام علاقات مع الأخ أو الأخت كأنه/ كأنها شيء جزئيٌّ ملحَقٌ أو موصول بالجسد الأمومي المتخيَّل؛ والشكل الثاني هو جزءٌ من الثالوث الماقبل- أوديبي والأوديبي؛ وبهذا المعنى، فعقدة أوديب هي عاملُ تحويلٍ لعقدة الأخوة البدئية. ثانيًا- لا بد من التمييز بين عقدة الأخوة والروابط الأخوية، فالأولى تنظِّم الثانية التي لها تأثيرات حساسة بشكل خاص، تتجاوز العائلة إلى الجماعات والمؤسسات(١٤).
أما عقدة الأخوة والتحليل النفسي، فإن رونيه كاييس يسجل «أن الأعمال نادرة جدًّا حول الإشكالية النفسانية الخاصة بعقدة الأخوة. وبخصوص هذه المسألة، فإن تفكير فرويد كان حاضرًا، لكنه كان مترددًا، فقد كان يسجل المسألة لكنه لم يكن يدعمها، وهو كله كان منشغلًا بإرساء التفوق البنيوي لعقدة أوديب النووية على كل العقد الأخرى»(١٥). ومن دون أن نضع هذا التفوق موضع سؤال -يقول كاييس- فإنه التفوق الذي لا ينبغي له أن يجرِّد عقدة الأخوة من فرادتها وخصوصيتها: فعقدة الأخوة جزءٌ من بنية الرغبة عند الأبوين، وهي جزء من تلك الخلفية التي تقف وراء عقدة أوديب، وهي جزء من عقدة الأخوة عند الأبوين. وبهذا المعنى، فعقدة الأخوة تتقاطع باستمرار مع عقدة أوديب، وهي لا تكفّ عن عبور الطريق الذي تسلكه هذه الأخيرة: ففي تراجيديا سوفوكل، ستظهر عقدة الأخوة بعد أن أصبح أوديب ضائعًا وجريحًا جراء مأساة قتل الأب والزنا المحرَّم بالأم؛ وأنتيغون وأخواها، أبناء أوديب وإخوانه، وجوهٌ تربط بطريقة غير قابلة للانفصال بين العقدتين(١٦).
هذه الاعتبارات هي التي تبيّن لماذا سيكون مهمًّا أن نعيد بناء مفهوم عقدة الأخوة، وأن نعيد إدراجه داخل المتن النظري للتحليل النفسي، وداخل الممارسة الطبية الإكلينيكية، وأن ننتبه جيدًا إلى نوعية هذه العقدة وخصوصيتها من أجل أن تحتل المكانة اللائقة بها(١٧).
ويعود رونيه كاييس في نهاية مقدمته ليوضح عناصر ومفهومات مركزية في كتابه، منها بالأساس:
أولًا- يسجل في البداية أن «عقدة» في معناها العام تعني مجموعة من العناصر العديدة والمتمايزة، المتداخلة والمحشورة كلها داخل مجموع معين. أما من منظور التحليل النفسي، فإن العقدة هي مجموع منظَّم من تمثلات وتوظيفات لا واعية، تشكلت انطلاقًا من الاستيهامات والعلاقات البين-ذاتية حيث يحتل الشخص مكانًا بوصفه ذاتًا راغبة في علاقة بذوات أخرى راغبة، وهو ما يجعل من التعقّد والصراع خاصيتين من خصائص العقدة. أما عقدة الأخوة، فهي تعني تنظيمًا أساسًا للرغبات العشقية والنرجسية والموضوعانية، وللكراهية والعدوانية، في اتجاه هذا «الآخر» الذي تعترف به ذاتٌ بوصفه أخًا أو أختًا(١٨).
ثانيًا- يُبرز هذا التعريف المذكور آنفًا أن عقدة الأخوة لا تطابق بالضرورة الوجود الواقعي للروابط الأخوية. فالروابط الأخوية تنتمي إلى مستوى آخر من التحليل: فهذه الروابط هي التي تقوم بتفعيل العلاقات بين مختلف عُقد الأخوة والأخوات عندما تكون هناك علاقة بينهم. وما يهمّ كاييس في أبحاثه هو كيف تؤدي عقدة الأخوة دور الناظم النفسي اللاواعي للروابط الأخوية في معناها الضيق كما في معناها الواسع(١٩). وبهذا، فإن عقدة الأخوة والروابط الأخوية يشكلان مستويين من التحليل الذي يكون موضوعه مقولة الأخوي، مع ضرورة العمل على إيجاد تمفصل بين الاثنين. ولهذا سيُكَرّس كاييس القسم الأول من كتابه لعقدة الأخوة، على أن يكون القسم الثاني خاصًّا بالروابط الأخوية والجماعات الأخوية(٢٠).
ما يهمّنا هنا هو القسم الأول الخاص بالعقدة الأخوية، الذي يتألف من ستة فصول. إنه قسم يوضح في فصله الأول كيف كان مفهوم عقدة الأخوة حاضرًا في التحليل النفسي بوصفه مفهومًا مهملًا أو ثانويًّا أو إضافيًّا تكميليًّا(٢١)، وذلك من خلال الأسماء والمرجعيات الآتية:
فرويد وسؤال الأخوة
يوضح كاييس أن تفكير فرويد وإنْ كان مترددًا بخصوص هذا السؤال، فإنه كان يمنحه مكانة مهمة في مجموع أعماله، وذلك من خلال ثلاثة محاور(٢٢):
انطلق المحور الأول منذ 1895م، حين بدأ فرويد يلاحظ كيف يشكّل قدوم منافس إلى هذا العالم تهديدًا للأخ الأكبر، وكيف تتملكه مشاعر الغيرة والكراهية تجاه هذا الدخيل وتجاه الأم التي فرضت عليه هؤلاء الدخلاء من الإخوة والأخوات، بل كان فرويد يستحضر، في رسالة وجهها إلى صديقه فليس بتاريخ 3 أكتوبر 1897م، كيف كانت مشاعره هو نفسه تجاه أخيه الأصغر عند ميلاده وعند مماته بعد ذلك بأشهر. لكن فرويد سيعود في سنة 1909م، بخصوص حالة «هانس الصغير» ليتحدث من جديد عن تأثيرات قدوم أخ صغير في الحياة الجنسية والذهنية للأخ الذي جرى إنزاله عن عرشه(٢٣). وهكذا، فقد كان واضحًا في هذا المحور الأول أن «فرويد كان يشدّد على السقوط النرجسي والأثر الصادم الذي يؤدي إليه قدوم أخ أصغر أو أخت صغرى إلى هذا العالَم. فالطفل لم يعد هو مركز العالَم، وتستحوذ عليه الغيرة والكراهية تجاه هذا الدخيل الذي طرده من ذلك الموقع الذي كان يتمنى أن يكون له في قلب والديه»(٢٤). ولكن ذلك سيكون أكثر وضوحًا في دروس فرويد حول مداخل التحليل النفسي، وفي دراسته لظواهر من الحياة اليومية، حيث تبنى فكرة توسيع عقدة أوديب لتشمل عقدة أوسع تستحق الانتباه: العقدة العائلية. فبعد ميلاد أطفال آخرين سيكون هذا التوسيع ضروريًّا(٢٥). وفي كل الفقرات التي وضعت العقدة العائلية موضع سؤال، نلاحظ هذا الترابط الذي يقيمه فرويد بين عقدة أوديب وعقدة الأخوة، لكنه لا يتردد ولا يسمي هذه الأخيرة حتى لا يضطر إلى تحديدها بالنظر إلى عقدة أوديب التي يمنحها الصدارة(٢٦).
وسينطلق المحور الثاني مع مؤلَّف: الطوطم والطابو (1912– 1913م)، مبتكرًا تمفصلًا بين تنظيم الروابط الأخوية والعلاقات الجماعية الأخوية والروابط الاجتماعية، منتبهًا إلى الكيفية التي تحولت بها الكراهية بين الإخوة إلى تضامن ضد الأب، بشكل يكشف، بطريقة غير مباشرة، مسألة التمفصل بين عقدة أوديب وعقدة الأخوة(٢٧).
أما المحور الثالث، فهو الذي يوفر المواد من أجل تأسيس مفهوم عقدة الأخوة: وإن كانت هناك إشارات مهمة في مؤلفات فرويد الأولى، تفسير الأحلام (1900م) بالأساس، فإن كاييس يوضح أن الدراسة التي كرّسها فرويد لرواية: «غراديفا» هي التي وضع فيها أسس ما سيسمى في وقت لاحق ومتأخر جدًّا: عقدة الأخوة. فهذه التسمية: «عقدة الأخوة» لم تَخُطّها ريشة فرويد إلا مرة واحدة، وكان ذلك سنة 1922م وهو يتحدث عن الغيرة «الطبيعية»(٢٨).
ألفريد أدلر: إنزال الأخ الأكبر عن عرشه وعقدة النقص عند الأخ الأصغر
لقد منح أدلر (1930م)، في نظر كاييس، مكانة خاصة لهذا الفعل الذي يصدر عن الأخ الأصغر في اتجاه الأخ الأكبر: إنزاله عن عرشه؛ ما يعني أنه قبل ميلاد أخ أو أخت، فإن الأخ الأكبر كان وحده مركز اهتمام والديه، وأنه بعد ذلك الميلاد عليه أن يقتسم ذلك الاهتمام مع هذا الرضيع الذي يستحوذ لمدة معينة على الانتباه كله من خلال العناية الكبيرة التي يتلقاها من الأبوين. وهو ما يجعل الأخ الأكبر يحاول بكل الطرق أن يسترجع الأفضلية التي كانت له في علاقته بأبويه كما في علاقته بإخوته. وفي هذا الصراع، فإن الأخ الأكبر الذي جرى إنزاله عن عرشه سيحتفظ بمجموعة من الخصائص: الاستقلالية، والقدرة على التنافس، والتحفظ؛ أما الأخ الأصغر «المحروم من ولاية العرش»، فإنه يواجه الأخ الأكبر بعلامات النقص والدونية، باحثًا عن تعويض ذلك في صورة تدل على «إرادة القوة»(٢٩).
ميلاني كلاين: عنف الاشتهاء.. والأخ أو الأخت بوصفه/ها شيئًا جزئيًّا
يتعلق الأمر هنا بالاشتهاء الأولي في الأشهر الأولى من الحياة، أي ذلك الاشتهاء الموجَّه إلى ثدي الأم من أجل إفراغه وتدميره؛ لكن المفهوم سيتوسع ليشمل أشياء أخرى غير الثدي، وعلى رأسها أشياءُ جزئيةٌ الأخُ واحدٌ منها(٣٠). وتؤكد ميلاني كلاين أن الاشتهاء يكشف عن تمظهرات السادية؛ إلا أن رونيه كاييس يشدد على أن هناك بعدًا مازوشيًّا أيضًا، لا ساديًّا فحسب: فالاشتهاء يعني أن أجعل الآخر يرى الشيء الجزئي الذي أملكه من أجل أن أجعله يتألم، لكنه يعني في الوقت ذاته أن أثير عند هذا الآخر الرغبة في تدميري(٣١). لكن الفكرة الأساس التي تؤكدها كلاين بخصوص الاشتهاء هي أن هذا الاشتهاء هو غير الغيرة أو الطمع، لأن نواته الأساس هي: أريد أن أمتلك ما يمتلكه الآخر لكي أكون ما هو عليه؛ وبهذا المعنى، فإن الاشتهاء هو من المكونات الكبرى للتماهي الإسقاطي: أن أكون ما يكونه الآخر، وإلا فلا بد من تدميره(٣٢).
في نظر كلاين، الغيرة تتأسس على الاشتهاء، لكنها تختلف عنه؛ ذلك لأن النواة الأساس للغيرة ليست بأن أكون كما يكون الآخر، بل أن أمتلك ما يمتلكه الآخر؛ أما الطمع فهو في نظرها ما هو غير قابل للإشباع، لأنه رغبة تتجاوز ما تحتاجه الذات، وتستهدف إفراغ ثدي الأم واستنزافه(٣٣).
يسجل كاييس أن تصور كلاين يربط الاشتهاء والغيرة والطمع بعقدة أوديب، والعلاقات بأعضاء العائلة الآخرين، الإخوة والأخوات، تُعالَج من خلال هذه العقدة، ما يَحول دون الكشف عمّا يخصّ عقدة الأخوة(٣٤).
جاك لاكان: عقدة الدخيل والثالوث الماقبل- أوديبي
انطلق انتباه لاكان إلى سؤال الأخوة، منذ أطروحته في الطب سنة 1932م وصولًا إلى مقالته المنشورة سنة 1938م حول العقدة بوصفها عاملًا ملموسًا في السيكولوجية العائلية، بحيث نجده يعرّف عقدة الأخوة من خلال التجربة التي تخوضها الذات في بداياتها عندما تتعرّف إلى إخوتها، وهو يفكر في عقدة الأخوة بوصفها عقدة الدخيل، أي ذلك الشكل البدئي للعلاقة بالآخر، هذا الذي سيتحول مع الأيام إلى منافس ثم إلى شبيه بالذات بعد ذلك. وهو يسجل أن عقدة الدخيل (الأخ أو الأخت الحديث/ة الميلاد) لها دور بنيوي في تشكّل الأنا(٣٥). وفوق ذلك، فإن عقدة الدخيل، من خلال مأساة الغيرة، تعمل على تنميط المشاعر الاجتماعية، وتجعل الذات تتعرّف إلى الغير الذي يتلبّس حالة الأخ؛ وتتشكل الأنا وتؤسس اختلافها من خلال تماهٍ متناقض وجدانيًّا مع شبيهها، تماهٍ مصنوع من الغيرة والتنافس والتعاطف؛ ما يختزله لاكان في قولته: الغيرة لا تمثل تنافسًا حيويًّا بل هي تماهٍ ذهني(٣٦).
وفي سنة 1956م أدرج لاكان مفهومًا لا يخلو من غموض في نظر كاييس: الثالوث الماقبل- أوديبي، لأنه يبدو كأنه محطة سابقة ومعارضة للمحطة الأوديبية؛ فهي محطة تتميز بعلاقتها الثنائية بين الطفل والأم، كما تتميز بهذا الثالوث الذي يحدد لاكان عناصره على الشكل الآتي: أمّ- طفل- فالوس، وهذا الأخير يتحدد بوصفه موضوع رغبة الأمّ الذي يتماهى معه الطفل. لكن الأب في هذا التنظيم الماقبل- أوديبي لا يؤدي دور المانع؛ ذلك لأنه في الثالوث ما قبل أوديب، المنافس هو هذا الشيء الجزئي الذي يتمثل في الأب نفسه كما قد يتجسد في أخ صغير أو أخت صغيرة، وبهذا فلا فرق بين هذه العناصر الثلاثة في هذا الثالوث السابق على ثالوث أوديب؛ لأنها تتقدم في صورة أشياء جزئية(٣٧).
جان لابلانش وثالوث التنافس
يسجل كاييس أن لابلانش (1970م) ساهم في توضيح ما يخصّ عقدة الأخوة في علاقتها بالثالوث الأوديبي(٣٨): ففي تعليقه على حالة «الطفل الذي تعرّض للضرب»، يوضح أن الأمر في هذه الحالة لا يتعلق بثالوث أوديب: الأنا- الأب- الأم، بل يتعلق بثالوث تنافسي هو ما يميز عقدة الأخوة: الأنا- الأبوان- أخ أو أخت؛ موضحًا أن هذا الثالوث التنافسي لا يأتي في وقت لاحق بعد ثالوث أوديب، كما قد يتصور بعضهم(٣٩).
ويسجل كاييس أن افتراضات جاك لاكان وجان لابلانش هي التي قدّمت أدوات مفهومية تحدد الخصوصية النوعية لعقدة الأخوة، لكنه يوضح أن العمل من أجل التنظير لعقدة الأخوة قد بقي ضعيفًا إلى حد ما في التحليل على الرغم من كل ما ذكره آنفًا، وهو ما يفرض مواجهة الصعوبات والعوائق التي تمنع التفكير في عقدة الأخوة من داخل حقل التحليل النفسي(٤٠).
ومن هذه الصعوبات والعوائق، يستحضر كاييس بشكل سريع ما يتعلق بعقدة الأخوة الخاصة بفرويد نفسه من خلال علاقته بإخوته وبوَسَطِه العائلي، لكنه يفضل في هذا القسم من كتابه التركيز على العائق الذي يتعلق بالمسلمات التي ينطلق منها فرويد، وأولها أن عقدة أوديب هي العقدة النووية التي لها وظيفة بنيوية داخل النفسية الإنسانية، وأن العقد الأخرى كلها تتفرع عن هذه العقدة النووية، وأنها عقدة تتجاوز تاريخ الأفراد ومعيشهم؛ لأنها تنظم العلاقات بين الجنسين كما بين الأجيال، وتضمن انتقال الأطر الرمزية للثقافة وللحياة النفسية من جيل إلى جيل. والسؤال الذي يشغل رونيه كاييس هو: هذه القيمة الأولية التي أعطيت لعقدة أوديب، وهذا التركيز الذي وقع على مسألة الأب، ألم يعملا على إغفال هذا البعد الخاص بعقدة الأخوة عند تأسيس التحليل النفسي كما عند تطويره(٤١)؟
وفي نظر كاييس، إذا كنا سنحصر مسألة الأخوة داخل التنظيم الأوديبي، فلا داعي للحديث أصلًا عن عقدة الأخوة: فالمطلوب هو التفكير في هذه العلاقات الجدلية بين العقدتين، والكشف عن الخصوصية النوعية التي تميز عقدة الأخوة(٤٢). ومن أجل رفع هذه العوائق وتجاوز هذه الصعوبات، يقترح كاييس أن نستخرج من تراث التحليل النفسي الخصائص النوعية التي تحدد ما يَعدُّه عقدة، وأن نوضح الشروط التي تسمح بالحديث عن عقدة الأخوة، مع بيان ما يميزها من مفهومات أخرى (الروابط الأخوية، الإخاء…)(٤٣).
وهكذا، فمن جهة أولى، ومثل عقدة أوديب، تسمح عقدة الأخوة بتصور بنيوي للعقدة التي تشير إلى تنظيم نفسي داخلي في صورة ثالوث؛ ومن جهة ثانية، كل الكائنات الإنسانية تكون خاضعة لاستيهام زنا المحارم؛ ومن جهة ثالثة، إذا كانت عقدة أوديب تؤدي دورًا أفقيًّا في بناء نفسية الإنسان في علاقته بأبويه، فإن عقدة الأخوة تؤدي دورًا عموديًّا في بناء نفسيته في علاقته بإخوته وأخواته؛ وهذان المحوران، الأفقي والعمودي، يتقاطعان ويتنازعان ويتجاذبان ويتصارعان، لكن لا يمكن لأحدهما أن يوجد من دون الآخر، مع إمكانية افتراض أن عقدة أوديب هي التي تتحول مع المستقبل من الأيام إلى عقدة الأخوة؛ ولا بد، من جهة رابعة، أن نسجل أن لعقدة الأخوة وجودًا وخصوصية مستقلَّين عن الروابط الأخوية.
خصوصية عقدة الأخوة
في نظر كاييس، هناك عوائق أخرى، ذات طبيعة إبستيمولوجية ومنهجية ومؤسسية، لا يمكن رفعها إلا إذا تبنينا أطروحة جديدة تفترض: من جهة أولى، أن العقدة هي ناظمة من الناظمات النفسية اللاواعية للروابط، لكل الروابط: العائلية، الثنائية، الجماعية؛ ومن جهة ثانية، أن الروابط الأخوية يجري تنظيمها، من الناحية النفسية، بواسطة عقدة الأخوة(٤٤). ومن أجل تجاوز تلك الصعوبات والعوائق، يقترح كاييس ثلاثة محاور لتحليل عقدة الأخوة: موضوع المحور الأول هو عقدة الأخوة بوصفها عقدة الذات اللاواعية؛ ويفترض المحور الثاني ألا نخلط بين عقدة الأخوة والروابط والعلاقات الأخوية؛ ذلك لأن عقدة الأخوة يمكن أن توجد من دون أن يكون هناك في الواقع أخٌ أو أخت، ومن هنا اختلاف هذه العقدة عن عقدة أوديب؛ أما المحور الثالث فهو يتناول الخطابات الجماعية (الأساطير، الحكايات الخرافية، المسرح، الرواية، السينما…) التي تستلهم عقدة الأخوة(٤٥).
وختامًا، فبعد تحديد الخصوصية النوعية التي تميز عقدة الأخوة من عقدة أوديب، سينتقل كاييس في الفصول اللاحقة من مؤلَّفه إلى استحضار الحالات الإكلينيكية الخاصة بهذه العقدة، فكما كان فرويد يدعم تحليله لعقدة أوديب بعدد من الحالات الطبية، فكاييس هو الآخر يعمل على دعم أطروحته بعدد من الحالات الطبية الملائمة؛ وكما كان فرويد يستحضر عددًا من الأعمال الأدبية والفنية من أجل دعم الأولوية التي يمنحها لعقدة أوديب، فإن كاييس هو الآخر يستشهد بالأساطير والحكايات الخرافية والقصص الديني، وبالأعمال المسرحية والروائية والسينمائية، من أجل دعم أطروحته حول عقدة الأخوة؛ لكنه لا يتوسع في هذه الأخيرة كما يتوسع في تحليل الحالات الطبية؛ وهذا مفهوم، فنحن أمام محلل نفسي قادم من التحليل النفسي، ومادته الأساس هي الحالات الطبية، أما الآداب والفنون والخطابات الثقافية الجماعية فهي مادة ثانوية لا تحتل إلا مكانة جزئية في مؤلفه، وإن كان يعد هذه الخطابات الجماعية محورًا ثالثًا مهمًّا في تحليل عقدة الأخوة.
هوامش:
(1) J. Laplanche et J – B. Pontalis, Vocabulaire de la psychanalyse, PUF, Paris, 1967.
(2) Sous la direction de P. Kaufmann, L’apport freudien, Eléments pour une encyclopédie de la psychanalyse, Bordas, Paris, 1993.
(3) Vocabulaire de psychanalyse groupale et familiale, tome
Editions du Collège de Psychanalyse groupale et familiale, Paris, 1998.
(4) S. Freud : “Un souvenir d’enfance dans Fiction et Vérité de Goethe”; Texte originalement publié en 1917 ; Traduit de l’Allemand par Marie Bonaparte et Mme E. Marty, 1933. L’article est publié dans l’ouvrage intitulé : Essais de psychanalyse appliquée. Paris : Éditions Gallimard, 1933. Réimpression, 1971.
(5) Michel Soulé : Frères et sœurs, Editions sociales françaises, Paris, 1981.
(6) Paul- Laurent Assoun : Frères et sœurs, leçons psychanalytiques, Anthropos, Paris, 1998.
(7) Odil Bourguignon et coll. : Le fraternel, Dunod, Paris, 1999.
(8) René Kaïs : «Imagos et complexes fraternels dans le processus groupal», Le Groupe familial, 81, 1978, 72-78.
(9) René Kaïs : «Figures des images fraternelles dans quelques contes des frères Grimm», Le Groupe familial, III, 1986, 25-32.
(10) René Kaïs : «le complexe fraternel, Asoects de sa spécificité», Topique, 50, 1992, 263- 300.
(11) René Kaïs : «Le complexe et le lien fraternel», Le Divan familial, 10, 2003b, 13-17.
(12) René Kaïs : Le complexe fraternel, Dunod, Paris, 2008, 2017.
(13) – René Kaës : Le complexe fraternel, Dunod, Paris, 2008, 2017, p1.
(١٤) نفسه.
(١٥) نفسه، ص3.
(١٦) نفسه، ص 3- 4.
(١٧) نفسه، ص4.
(١٨) نفسه، ص 4- 5.
(١٩) نفسه، ص6.
(٢٠) نفسه ص7.
(٢١) نفسه، ص11.
(٢٢) نفسه، ص12.
(٢٣) نفسه، ص 12- 13.
(٢٤) نفسه، ص13.
(٢٥) نفسه، ص14.
(٢٦) نفسه، ص15.
(٢٧) نفسه.
(٢٨) نفسه، ص 15- 16.
(٢٩) نفسه، ص 17.
(٣٠) نفسه، 91.
(٣١) نفسه.
(٣٢) نفسه، ص 91- 92.
(٣٣) نفسه، ص 92.
(٣٤) نفسه.
(٣٥) نفسه، ص 18- 19.
(٣٦) نفسه، ص19.
(٣٧) نفسه، ص 19- 20.
(٣٨) نفسه، 20.
(٣٩) نفسه، 21.
(٤٠) نفسه.
(٤١) نفسه، ص 22.
(٤٢) نفسه، ص 23- 24.
(٤٣) نفسه، ص 25- 27.
(٤٤) نفسه، ص 28- 29.
(٤٥) نفسه، ص 33- 37.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق