كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
فرنسا بين أسئلة السياسة وأسئلة الثقافة
بالنسبة لِمَن عاش، مثلي، في فرنسا أزمنة مُتقطعة ثم مدة مُسترسلة مِنْ 2000-2021م، تظل أسئلة الثقافة مُترابطة مع أسئلة السياسة كلما حاولتُ أن أستوعبَ مسار هذا البلد الذي كان له دور أساس في بناء الأزمنة الحديثة في أوربا، وتشييد إمبراطورية استعمارية لا تزال تدر خيراتها، كما كانت ثورة فرنسا سنة 1789م، وامتداداتها على يدِ نابليون بونابرت، بوابة عبرتْ أوربا من خلالها إلى أفق احترام حقوق المواطن، وضمان حرية الاعتقاد والتفكير، واستبدال الديمقراطية بحُكْم الاستبداد…
ولأن فرنسا عرفتْ عصر الأنوار طوال القرن الثامن عشر، بفضل ازدهار الفلسفة والعلوم وشيوع الفكر العقلاني، واعتناق طبقة بورجوازية مُستنيرة الفكرَ الإصلاحي لفلاسفة الأنوار، فقد ساندتِ التغيير وفتحتِ الطريق أمام ازدهار الصناعة والفلاحة، وسُرعان ما أضحتْ نموذجًا للتقدم والتطور بمقياس الحداثة والتحديث، مُستفيدة من توسعاتها الاستعمارية -وبخاصة في الجزائر- لكي تبسط نفوذها على الأقطار العربية التي احتلتْها جاعلة من ثقافة «الأنوار» حَجَرَ الزاوية عند تسويغ غزواتها الاستعمارية، وتكييف النخب في الأقطار المُستَعمَرة مع هذا النموذج الأوربي المتفوق آنذاك، الذي كان يبدو كأنه عصا سحرية كفيلة بنقل الشعوب «المتخلفة»، سجينة العصور الوسطى، إلى فُسحة الحضارة الجديدة التي ارتبطتْ بتفوق «الغرب».
في مفهوم المثاقفة
بالنسبة لي، أنا الذي عايشتُ مدة من استعمار المغرب، وتعلمتُ في مدرسة وطنية باللغة العربية أساسًا، وتعرفتُ إلى التراث العربي، وتابعت من قرب نهضة الأدب والفكر في مصر منذ خمسينيات القرن الماضي، أصبح السؤال الشاغل لديّ يتعلق بـ«المُثاقفة»؛ أي تلك الجوانب المادية والمعنوية التي يمكن أن أتفاعل معها في ثقافة «الآخر» لكي أستوعب حضارته، وأحافظ في الآن نفسه على الجوانب المُكونة لشخصيتي وعلاقتي بمجتمعي وثقافتي العربية التي بدأتْ محاولاتِ النهوض منذ نهاية القرن التاسع عشر من دون أن تستطيع التخلص من سلبية عصور الانحطاط وجُمودِ الفكر الماضوي.
بطبيعة الحال، صوْغ سؤال المثاقفة على هذا النحو لا يخلو من تبسيطٍ وسذاجة؛ لأن التفاعل وتبادُل التأثير في مجال الثقافة والحضارة أكثر تعقيدًا، ولا يخضع للرغبة الفردية أو الجماعية، بل تتحكمُ فيه جدلية التاريخ وتوجهات الصراعات الجيوبولتيك، ومصالح الناس المُتجابهين في سيرورة المثاقفة وبناء الحضارة العالمية. لأجلِ ذلك، لخصتُ التطلعات التي كانت تراودني وتراودُ جيل ستينيات القرن العشرين عبْر الفضاء العربي في بضع كلمات؛ لكي أستحضر ذلك التطلع الذي كانت تتخايَلُ لنا ملامحه دون أن تكون شروط إنجازه مُتوافرة، سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، في الأقطار العربية آنذاك.
بعبارةٍ ثانية، هذا المفهوم للمُثاقفة المتوازنة، الإيجابية، المُسعفة على تقليب التربة في المجتمعات العربية، هو ما أصبح أفقًا تسعى إليه النخبُ العربية الطامحة إلى الإصلاح وبناء شروط النهضة بعد تحقيق الاستقلال عن المستعمِر. ويُخيل إليَّ وأنا أستعيد الماضي البعيد والقريب، أن هذا السؤال ظل، في جوهره، قائمًا لديَّ أطرحه على نفسي أيضًا وأنا أتأمل مسار فرنسا منذ ثورة 1789م إلى سنة 2021م، لكي أدرك الإشكالية المركبة التي تعيشها فرنسا من خلال جدلية السياسي والثقافي، ومن خلال الصراع المُحتدم بين ضرورة إصلاح الديمقراطية والنزوع إلى الشعبوية والانغلاق داخل الذات، وأيضًا مُواجهتها لمقتضيات بناء ثقافة تناسب الرقمنة والذكاء الاصطناعي وحماية البيئة…
لذلك أرى أنه من دون استحضار هذا التداخل والتشابُك بين ماضي فرنسا المجسد لقيمٍ إنسانية كونية، وأيضًا لممارسة استعمارية لا تزال نُدوبُها تشهد على الإرث التاريخي السلبي، لا يمكن، من دون هذا الاستحضار، أن ندرك أبعاد الأسئلة المطروحة في فرنسا وتعقيداتها المنذرة بالانفجار إذا لم تجدْ طريقها إلى التغييرات الضرورية في مجالي السياسة والثقافة.
بداية الخلل
ما برَز في فرنسا خلال العشرين سنة الماضية، على المستوى السياسي، هو اختلال مَكانة ِالأحزاب ودور رؤساء الجمهورية في ضبط السيرورة الديمقراطية والحفاظ على تداول الحكم بين يمين ويسار. وهذا ما تجلى بعد رئاسة فرانسوا ميتران اليساري وجاك شيراك اليميني. بَعْدَهُما، تكاثرت انتقادات النظام الديمقراطي التمثيلي وانتقاد الهيئات المُنتَخبَة العاجزة عن تقليص الفوارق الطبقية، وإنصاف الفئات الاجتماعية التي توالدتْ في سياق الليبرالية الربحية، وتطور وسائط العمل التقنية.
وقد أدى فُقدان الثقة في النظام الانتخابي وفي الحزبيْن الكبيريْن، التقليدييْن إلى انشقاقات وخصومات، كما سمح لحزب أقصى اليمين الذي أنشأه «لوبينْ» أن يتسع ويتمدد عندما ترأسَتْه ابنته ماري لوبينْ، مُستفيدة من أخطاء رؤساء الجمهورية الثلاثة: ساركوزي وهولاند وماكْرونْ. نتيجة لذلك، أصبح الشرخ متسعًا داخل المجتمع الفرنسي الحامل في ثناياه لعناصر الانفجار الكامن في آلاف الأفارقة والمغاربيين والمسلمين الحاملين الجنسية الفرنسية والعائشين في ضواحي المدن الكبرى على الهامش في شروط مُزرية عُرضةً للعنصرية؛ وفي تضخم وطأة الفوارق الاجتماعية التي أدتْ إلى بُروز حركة «الستْرات الصفراء» سنة 2019م، المُطالِبة بتحقيق المساواة، وإعادة الاعتبار لأعمال الخدمات والصيانة والتطبيب… وهي حركة جذرية في مطالبها أدتْ إلى اصطدامات عنيفة بين أعضائها وعناصر الشرطة والجيش.
لكن العنصر اللافت في رئاسة «ماكرون» وما يُصاحبها من اضطرابات ومناقشات حامية الوطيس، هو أن فوْز هذا الرئيس الشاب في انتخابات 2017م، تم بطريقة أذهلت الجميع؛ لأنه لم يكن يتوفر على حزب سياسي، وأطلّ على الساحة حين عيَّنه سلفُه فرانسوا هولاند وزيرًا للمالية، ثم قدم استقالته سنة 2016م، ليُفاجئ الجميع بترشحه للرئاسة وفوزه غير المتوقع، بعد أن أفحم رئيسة اليمين المتطرف خلال مقابلة تلفزيونية فاصلة.
مَجيءُ ماكرون إلى الرئاسة كشفَ المستور من ثغرات النظام الجمهوري الديمقراطي في فرنسا؛ لأنه أوضح الضعف الذي أصابَ الحزبيْن الكبيريْن، الاشتراكي والجمهوري، وأبرز تطلعَ فرنسا إلى قيادات وبرامج سياسية تستجيب لتحولات المجتمع ولِمَطالب الشباب والأغلبية الصامتة. إلا أن خطة ماكرون في الوصول إلى الحكم كانت تنطوي على رهانٍ لم يتحقق؛ ذلك أنه اعتمد على مجموعات من خريجي الجامعات والمعاهد المتخصصة في العلوم والاقتصاد، وبنى خِطابه على انتقاد اليسار واليمين، ووَعَدَ بسياسةٍ تُجاوز هذا التصنيف، وتقدم حلولًا ذرائعية تحتكم إلى العقل…
غير أن ممارسة الرئاسة سرعان ما كشفتِ التعثرات وازدياد السخط والتمرد على ممارسة الرئيس للسلطة بطريقة فردانية، ولجوئه إلى تقريب شخصيات يمينية يُشركها في الحكم، بعد أن اتضح له وللجميع أن حزبه «إلى الأمام» لا يتوفر على جذورٍ اجتماعية تجعله يجتذب المصوتين في الانتخابات البلدية والإقليمية، كما هو الحال بالنسبة لأعضاء الحزبيْن التقليدييْن اللذيْن استطاعا، خلال الانتخابات المحلية الأخيرة، أن يُبرهِنا على أنهما لا يزالان يتوفران على جذور اجتماعية مكنَتْهما من إقصاء حزب رئيس الجمهورية! وإذا أضفنا إلى ذلك، حادثة الصفعة التي وجهها مواطنٌ إلى ماكرون، خلال زيارته لإحدى البلدات الفرنسية في شهر يونيو الماضي، أمْكنَنا أن نقيس إلى أي حد فقدتِ السياسةُ والقيمُ الجمهورية الفرنسية رمزيتَها وهيْبَتها.
ما يهمني من الإشارة إلى الثغرات والهزات التي اعترتِ الحقل السياسي الفرنسي على امتداد عقود عاصرتُها، هو تأكيد ما نبَّه إليه المفكر والسياسي الفرنسي «ألكسي دو توكفيل» (1805- 1859م) صاحب كتاب «عن الديمقراطية في أميركا» الذي تَنبَّه وهو سَليلُ الأرستقراطية، إلى الصعود البطيء للمُساواة منذ القرن الثالث عشر، بوَصفها عنصرًا ضروريًّا لحفظ توازن المجتمعات وتعبئة طاقاتها. وعنصر المساواة الاجتماعية ثم السياسية هو جوهر مشروع الديمقراطية لثورة 1789م في فرنسا، وثورة أميركا (العالم الجديد) في 1787م. إلا أن الحِس السياسي النافذ لدى توكفيل دفعه إلى السفر إلى أميركا لدراسة وتحليل ذلك النظام المتميز الذي سيصبح امتدادًا وتوسيعًا لمفهوم «الغرب» خارج أوربا. ولم يفُته أيضًا أن يحلل الفجوات التي تتهدد النظام الديمقراطي في كلا البلديْن، مُوضحًا أن الفرق بين التجربتيْن هو أن أميركا أصبحتْ ديمقراطية، بينما ظلتْ فرنسا في حالةِ ثورة كثيرًا ما اقترنتْ بالعنف (في أزمنة كثيرة من القرن 19). والذي يهمنا، هنا، من تحليلات هذا المفكر الألمعي، هو أنه انتبه منذ ذاك إلى أن تفوق النظام الديمقراطي لا يحميه من مخاطر تُضعِفه، وهو ما يستدعي المراجعة والتصحيح باستمرار لحماية المبدأ الأساس المُتمَثل في الحِفاظ على المساواة الاجتماعية والسياسية، والحوار الصريح السلمي…
تفاعل الثقافي والسياسي
بالفعل، هذه الإشكالية العويصة التي تتحكم إلى حد بعيد في مصاير الشعوب، هي التي وجدتُها تحظى باهتمام واسع في مجال البحث والفكر من لدُن الفلاسفة والمفكرين والمبدعين الفرنسيين بصفةٍ عامة. وهو ما يُفسر لنا ظهور عدد هائل من المؤلفات والأطروحات والحوارات حول علاقة «السياسي» بـ«الثقافي»؛ أيْ ذلك التفاعل المستمر بين التصور السياسي النظري، والتصور القيمي المَبدئي الذي تبلورُه الثقافةُ لتحقيق الأهداف السياسية للدولة. والواقع أن متابعتي للحقل الثقافي والأدبي في فرنسا، أكدتْ لي صلابة هذا الحقل ومدى قُدرته على التجددِ وتوسيع دائرة إشعاعه سواء داخل فضاء «الفرانكفونية» أو عبْر أقطار العالم؛ ذلك أن المؤسسات الجامعية ومراكز البحث المتخصصة، وتكاثر دورِ النشر، والإقبال على القراءة وكثرة الجوائز المشجعة للإبداع والإنتاج الفكري، كل ذلك يمنح الحقلَ الثقافي الفرنسي استقلالًا ذاتيًّا ودينامية مُتجددة تستوعب الأسئلة المتناسلة التي يصُوغها المفكرون والمبدعون والفنانون والقُراء…
ويُصاحبُ هذه الحركية الثقافية الدائبة محافل ومنابر ومجلات وبرامج إذاعية وتلفزيونية تؤطر هذا الإنتاج، وتفسح المجال للتعريف به ومُناقشته وغرْبَلتِه. وإذا كنتُ أثمِنُ هذه الحيوية المتدفقة في الجِدال والحوار سواء في مجال القضايا السياسية والاجتماعية أو في مضمار الثقافة والإبداع، فإنني أسجل أيضًا سلبيات التضخم المفرط في فتح الأبواب على مِصراعَيها لمناقشة قضايا سياسية أو ثقافية لا تنتهي إلا لتبدأ؛ وهو ما جعل بعض الملاحظين الأذكياء يُسمي هذه الظاهرة بـ«مجتمع التعقيب» société du commentaire؛ حيث إن دمقرطة الثقافة تسمح لأي مُواطن أن يتدخل عبْر الإذاعة أو التلفاز أو وسائط الاتصال الاجتماعي ليُدلي برأيه ويُعلق على ما سمِعه أو قرأه، من دون أن يكون مُستوعبًا للإشكالية. بل إن التعقيب المتسرع قد يُغري مسؤولين في الدولة ويجتذبهم، مثلما حصل مع وزيرة التعليم العالي التي أطلقتْ مُصطلحًا غير دقيق لِتَصِفَ أساتذة جامعيين بأنهم من أقصى اليسار ويتبنوْن في الآن نفسه أفكار المُتعصبين «الإسلامويين»، Islamo-gauchiste؛ والتناقض صارخ في هذا التعقيب لأن الجامعات الفرنسية لها قوانين وتقاليد لا تسمح بأن يستخدم الأساتذةُ البحث العِلمي لمُساندة مواقف أيديولوجية لا تستقيم مع المنطق ومع قِيَم الجمهورية. وكل هذا يندرجُ ضِمنَ الثغرات المرتبطة بالنظام الديمقراطي التي تستدعي التصحيح باستمرار.
بالفعل، كثير من القضايا والخلافات السياسية في فرنسا تجدُ حلولًا لها مِنْ خلال تدخل المثقفين والمفكرين والباحثين في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة الذين يُبرزون مبادئ الجمهورية، ويُذكرون بمرجعية القيَم الكونية التي ارتبط بها مسارُ الديمقراطية الإيجابي. ويمكن أن نسوق مثالًا على ذلك، جُملة من التقارير التي أعدها باحثون ومفكرون بطلبٍ من رئيس الجمهورية، لإضاءة قضايا مُعتمة وشائكة تُحسَبُ ضمن الحصيلة السلبية للإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية. ونسوقُ مثالًا على ذلك، التقرير الذي أعده المؤرخ بنجمانْ سْتورا عن الإرث السلبي لاحتلال فرنسا للجزائر (1830- 1961م) والمذابح التي رافقتْ تلك الحقبة. وقد أقر التقرير بحصول وقائع دامية خلفتْ آلاف الضحايا من الجزائريين، ولا تزال آثارها ماثلة في النفوس وفي الذاكرة الشعبية مما يعوق إقامة علائق «طبيعية» بين الجزائر المُستقلة ومُستعمِر الأمس…
على هذا النحو، وأنا أستحضر بعض الإشكاليات التي تواجه فرنسا اليوم والمتصلة بترميم المجتمع وحماية قيَم الجمهورية من التآكُل والتدليس، مُشيرًا إلى المعضلات التي ورثتها الإمبراطورية عن مُمارستها الاستعمارية، أجدُني أمام نموذج ملموس لدولةٍ تُصنفُ ضمن «الدول الراقية»، لكنها تخضع لقانون العصر المحتوم الذي يفرضُ مُراعاة المساواة بين المواطنين، وتأمين العيش، وحماية البيئة، ومقاومة الأوبئة والجائحات، والتسلح بالعلم المتطور، وتعميم الثقافة والفنون، واحترام حقوق وذاكرة الشعوب الأخرى… بعبارةٍ ثانية، مثلما أن الفرد اليوم أضحى يشعر أنه مقذوف وسط عالم مليء بالكوابيس والمُعضلات المستعصية على الحل، فإن الدولة والمجتمع مُحاصران بمعضلات مُستعجلة تتطلب مراجعة وحُلولًا تأخذ في الحسبان إصلاح الديمقراطية وجعلها شاملة للأقليات، والقبول بدور المجتمع المدني في نقد أجهزة الدولة وتقويمها، وجعل الثقافة وسيلة لتطوير الوعي ومحاورة العالم.
أسوقُ مثالًا على ما يشغلني ثقافيًّا، حاليًّا، وأنا أتابع جَهْدَ الإمكان ما تَحْبَلُ به الساحة الثقافية الفرنسية، ذلك المشروع الكبير الذي انطلق خلال شهر يونيو الماضي في المركز الثقافي «بومبيدو»، تحت عنوان: «برلمانُ الروابط» Parlement des liens. إنه مشروع نظمه صاحبا دار النشر «الروابط التي تُحرر» وَمَعَهُما أكثر من خمسين كاتبًا ومفكرًا ومبدعًا، توزعوا في شكل موائد حِوارية كل واحدة تضم كاتبيْن من اختصاصات معرفية وعلمية متباينة (علم النفس، اقتصاد، اجتماع، تاريخ، رواية، البيئة، جغرافيا، علوم، سياسة…) والجمهور يختار ما يناسبه من الموضوعات ويتابع الحوار عبْر السماعات. وقد اتضح لي من خلال الاستماع والمناقشة، أن هدف هؤلاء المثقفين والمفكرين الفرنسيين يرمي إلى بلورة أسُسِ «مجتمع الروابط» الذي يجسد ما يجب أن يتحقق داخل كل مجتمع من تجاوُرٍ وتفاعلٍ بين مجالات وروابط بشرية وغير بشرية، تشكل جميعها تمفصُلاتٍ تؤثر وتوجه المجتمع.
ويتضح هذا الترابط والتأثير المتبادل عندما نُسائل العلائق القائمة بين الحقوق والاقتصاد، بين عِلم البيئة والزراعة، بين الديمقراطية والتنظيمات السياسية، بين البيولوجيا والعلوم الفيزيقية… ومن الواضح أن هذه الدعوة إلى كشف الروابط الكامنة والمُوجهة للحياة البشرية والاستفادة من تفاعلها، قد استفادتْ من كتابات وتحليلات المفكر والفيلسوف إدغار موران الذي احتفل يوم 8 يوليو الماضي بعيد ميلاده المئة، والذي حلَّلَ على امتداد عقود «الفكر المُعقد»، وألح على ضرورة استعمال «المنهج المُركب»؛ لأنه يأخذ في الحسبان الروابط الظاهرة والمُستتِرَة التي تُشكل جدلية التأثير المتبادَل والمُخصِب…
في هذه الحِقبة من حياتي، وأنا أرتادُ منطقة الشيخوخة التي تجعلني أرتد إلى أعماق النفس والذاكرة مُسترجعًا ما عِشتُه كشريطٍ سينمائي تتراكبُ صورُه ومشاهدُه فوْقَ بعضها، أجدُني وسط متاهةٍ أبحث عن نقطة ارتكازٍ، عن رؤية مُلتئمة تُسعفُني على مُعانقة تصورٍ يمنحني بعض الطمأنينة داخل عالمٍ يضج بالحركة والكوابيس والتحولات المُتناسِلة، أكثر مما يمنحني مَضاءَةً لليقين.
لذلك، يُخيل إليَّ، وأنا أتابع المشهد الثقافي والسياسي في فرنسا، أن هناك وعيًا جديدًا، كوْنيًّا، يشمل «المتحضرين» و«المتخلفين»، يطمح إلى المراجعة وتصحيح الانحرافات والتوجهات العنصرية والهُوياتية المتطرفة… حينئذٍ أقول مع نفسي: لعل المجتمع الذي أنتمي إليه يُسرع الخُطى ليصحح مسار الديمقراطية، ويُعيد الاعتبار للثقافة والمثقفين والمُبدعين؛ لأنهم الأداة الضرورية لِبلورةِ مفهوم فاعِل وإيجابي للمثاقفة، ولأن موقعهم الطبيعي هو أن يكونوا على رأس القافلة لِمُجابَهة المستقبل الغامض.
لاليكْ/ فرنسا:1/7/2021
المنشورات ذات الصلة
لم يتم العثور على نتائج
لم يمكن العثور على الصفحة التي طلبتها. حاول صقل بحثك، أو استعمل شريط التصفح أعلاه للعثور على المقال.
0 تعليق