كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المنفى مآل حزين
قاعة فسيحة باذخة المظهر، غمرها ضوء ساحب كأنه يستعجل الليل، تناثر في مداها «نقّاد» عرب جمعتهم ندوة عن المنفى، تقدموا باجتهادات مختلفة، لساعات أربع، واستحقوا الاستراحة.
طالعني الصديق الدكتور كمال أبو ديب ضاحكًا بسؤال مشروع: توقّعنا منك توصيفًا للمنفى الفلسطيني، وخرجت بحديث عن طه حسين، مساويًا بين العمى والمنفى، معتبرًا العمى منفى والأعمى منفيّ عن عالم المبصرين، فما الفارق بين منفى اللاجئين وغيره من المنافي؟
أجبت: المنفى يتوزّع على البشر جميعًا، ومنفى البعض أشد قسوة من غيره، وأن المنفى الفلسطيني الأكثر بؤسًا بين المنافي المتنوعة، أكملتُ: إنه إقامة في اللاإقامة، جاءت به مصادفة ظالمة، تزيحها مصادفة أخرى، يحوّم فوقها خطر وتهديد ومجهول، والأخير الأكثر رعبًا. كأنها إقامة فوق الماء، تهتز حين يشاء عدو للفلسطينيين، يراهم كمًّا نافلًا وقصف حياتهم ليست بجريمة.
وأكملت أيضًا: قالت لي التجربة إن المنفى يُعاش ولا يُعرَّف، حال الحكايات، يفيض معناها على سردها، أكان شائق العبارة، كما كان يقول معلّم اللغة العربية، أو ركيك الكلام، يحبط فضول ويجهض معنى العبارة. وتجربتنا يقصِّر عنها الكلام الشائق والركيك معًا لأنها مستمرة.
ردّ الصديق كمال: تعريف يبعث على التأمل، يختلف عن منفى طه حسين، ينقل السؤال من الحوار الممكن إلى استبطان لا يمكن القيام به، تضيء معناه حكايات اللاجئين لا المجازات وبلاغة «السيميولوجيا». استدعى هذا إلى ذاكرتي حكاية، لم تفارقها على أية حال، بعيدة بُعْد أيام الصبا الأولى، سجلها في دفتر تلميذ فلسطيني سيئ الخط، وحفظها في دفتر تقادم، غزاه التلفُ، وظل محتفظًا به، كأنه «رائد يعلّم صاحبه»، كما تقول العرب، مع شيء من الانحراف والتحريف.
لم يكن بلغ العشرين، يعمل معلمًا ابتدائيًّا في قرية مجاورة، مرتفعة باردة، «سقط في مقلاة الحياة»، بلغة غسان كنفاني في «رجال في الشمس»، ليعول أمًّا وإخوة من سكان «الجليل الأعلى»، ساقتهم النكبة إلى ضواحي «القنيطرة» في الجولان السوري. فقدوا رموز الأمان وهجسوا بأمان عربي الربوع، علمتهم الأيام، لاحقًا، أن الأمان المستديم وَهْم من أوهام الفلسطينيين الكثيرة. كان محمود درويش استهلّ شعره بديوان «عصافير الجليل»، طبعه مرة واحدة وآثر نسيانه، وظل «الجليل» مقيمًا في أشعاره.
كان صديق أيام الصبا الأول، كما ألزمني السرد المنضبط أن أقول، يكبرني بسبع سنوات، من «معارف العائلة»، بلغة زمان رحل، وكانت العائلة، كما أتخيّلها الآن، ناحلة العدد والعدّة، بلغة معلم اللغة العربية القديم، تشكو الغربة وقلة الزوّار، تنشد شيئًا من الأمان، استعاضت عن رموز خضراء سابقة بهوامش الطريق. كان الصديق الذي أحرقته الحكاية يلقى ترحيبًا من أمي، تمازحه وتتبّسط معه، فبينها وبين أمه قرابة، تبادله الحكايات تكريمًا لزمن لن يعود ولذكريات تسير إلى الأفول. كنا في ذاك الزمان نقول: «بلادنا» ونتحمّل «الهجرة العابرة» كحمّى عارضة قابلة للشفاء. أذكر زياراته، وهو الناحل الأميل إلى القصر، القليلة التكاليف، موادها قصص وأمنيات، أتصوره خجولًا، يقطع المسافة بين قريتين ويحتفظ بحذائه نظيفًا، حتى تخيلت أنه يقصدنا حافيًا ما زلت أتصوره يتكلم عن «وحدة المصاب»، وأعي المعنى ناقصًا، يردده بصوت رفيع لم ينتزع اعتراف الرجولة، ويمر على عدد اللاجئين القليل في قرى الشركس والتركمان وثقل الضجر والغربة. كان يبدو عندها، بشعره الأشعث وملابسه الواسعة تلميذًا ضاق بالمدرسة وعصا المعلم العجوز القاهرة. جاء مرة، وقد دخل عمله سنته الثانية، مرتاح الوجه، كأنه يبتسم، زار أمه وأخته، وحمل إلى أمي سلامًا، ردت عليه بكلام دامع. خرج ولم نره بعد ذلك، وجاءنا «خبره».
نبهت إلى موته الكلاب
حفظ الدفتر القديم المهترئ الأطراف السطور الآتية: «مات أكرم لا كبقية البشر، مات محترقًا ببرده، انتبهت إليه الكلاب قبل البشر، شمّت رائحة «شياط» اقتربت من بيته ونبحت طويلًا. حين جاء البشر وجدوا أكرم متكوّمًا فوق «البريموس»، تغطى ببطانية، سقط وجهه فوق بريموس الكاز واحترق، انتشرت رائحة وجهه المحروق وجمعت الكلاب، ولولا الكلاب لتفحم رأسه. قال الناس: حرقه البرد، وقتلته رائحة الغاز، ونبهت إلى موته الكلاب. وقالوا: مسكين لاجئ صغير مثواه الجنة، ونشروا عن موته حكايات وتحوّل أكرم إلى حكاية…».
تعلّمت من جبرا إبراهيم جبرا في روايته «صيادون في شارع ضيق» كلمة «القتار». عندما عدت إلى القاموس، والقواميس العربية كثيرة، وجدت أنها: رائحة الشواء. وتذكرت أن معلم القرية الفلسطيني مات «مشويًّا». وهو الذي كان يقول لأمي بلهجة صفدية: «أطيب لحمة مشويّة توجد عندنا، في صفد»، وتثني على كلامه، وترتاح إلى صوته الرفيع الذي لم تعترف به الرجولة. أذكر أن سكان القرية صاروا يقولون بعد حين: «هذا رجل سيئ الحظ، يشبه حظ الفلسطيني الذي ناحت عليه الكلاب».
بكيت أكرم طويلًا في تلك الأيام، وعلمتني الأيام أن أبكي غيره، وأن البكاء مواساة للروح وبوح وكبرياء…. سأعرف بعد حين أن المنافي متعددة الأشكال، وأن أضيف إلى ضحايا المخيمات مفكرًا إيطاليًّا لامعًا يدعى: أنطونيو غرامشي، اغتاله طاغية معتوه الحركات. تذكرته لأنه جمع بين نبل الهدف وكآبة المآل، كما لو أن «أكرم» غدا مثالًا أقيس عليه أحوال المعذبين.
أذكر أنني تعرفت إلى اسم الإيطالي في السادسة عشرة من عمري في مجلة من باعة «كتب الرصيف»، الذين كانت «أوراقهم تفترش زوايا الشوارع في دمشق الخمسينات»، في أيام الجمعة والعطل الرسمية، «يتهاودون» في ثمن الكتب، فإن كان وجه الشاري مألوفًا اكتفوا بقليل القليل. كانت مجلة لبنانية لا أذكر تمامًا إن كانت «الثقافة الوطنية»، التي كان يشرف عليها حسين مروة ومحمد دكروب، أو أخرى لكنني أذكر، في الحالين، اسم شاعر لبناني الدكتور ميشيل سليمان. لفت نظري في صاحب «فلسفة البراكسس»، كما سأعرف لاحقًا، اسمه الذي تتداخل فيه حروف: الغين والراء والميم والألف، خفيفة على الأذن لطيفة الإيقاع.
كنت حفظت من «القرآن الكريم»، آية موحية بليغة قدسيّة الصياغة: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا». هكذا حفظتها من أمس بعيد إلى اليوم. حين شرح المعلم المعنى، قال: الغَرَام هو الحِمْل الثقيل، وعطفت الغرام على الهوى وتعلّقتُ بالكلمتين.
رغبة في حياة كالآخرين
الإيطالي في صورته المنشورة في المجلة بدا كبير الرأس قصير العنق، وكأنه أحدب. عرفت أن مرضًا أصاب الصبي «السردينيّ» ومنع عنه النمو. إذا عُطف اسمه على رأسه ونظّارته الطبية استثار الرحمة والتعاطف. بيد أن ما استقر في قلبي موجعًا باح به في رسالة من سجنه الطويل إلى أخت زوجته الروسية «تاتيانا ششت» -ثانيًا تخفيفًا- تأسى فيها على مصيره ورغبته الضائعة في حياة كالآخرين، مستقرة تستدفئ بالأولاد وحكايات الشتاء وزوجة قريبة.
كان المرض قد تقدم في رئتيه، بعد أن قتله موسوليني «قتلًا منهجيًّا» لم يعدمه بل زجّه أحد عشر عامًا (1926- 1937م) في زنزانة عالية الرطوبة تستهلك صدره قليلًا قليلًا وتقوده إلى هلاك أخير «بلا ضجيج». الرجل الذي أرهق نفسه بمقالات لا تنتهي ورفض نشرها في كتب ظنّ أنه سيخرج من سجنه حيًّا، «السياسي اللامع» الذي أنشأ حزبًا عماليًّا دعاه «الأمير الجديد» اعتقد في سجنه أن رفاقه خانوه، والمفكر الذي كتب «كرّاسات السجن»، وهي عدة مجلدات، نشرت مبتورة بعد موته، فالفيلسوف الذي كان شغوفًا بتفاصيل اللغة رأى «الهيمنة الفكرية» طريقًا إلى بناء سلطة جديدة وعهد بأمرها إلى المثقفين.
كان مثقفًا مختلفًا، ساءل أحوال المثقفين ووزعهم على مقولات مختلفة: المثقف العضوي، التقليدي، الجمعي، الريفي… اشتقهم من دورهم الإنتاجي ومساهمتهم في بناء «الكتلة التاريخية»، التي توحّد مستويات المجتمع المختلفة، بعيدًا من تبسيط الراحل الكريم محمد عابد الجابري.
كان غرامشي يختصر الظواهر المعقدة في اقتصاد لغوي نجيب، كأن يقول: الفن معلمٌ من حيث هو فن لا من حيث هو فنّ معلم، أو… سياسي محترف يريد أن يضع كتابًا في الفلسفة، لا ضرورة لذلك، فلسفته قائمة في ممارساته السياسية أو أن يقول: المعرفة العالِمة تصلح المعرفة العفوية التي تصلح بدورها المعرفة العالمة.
ولكن ما الذي يجمع بين الإيطالي، الذي اكتفى في سجنه بأربعة كتب شخصية وقاموس، ومعلم القرية الفلسطيني؟ بداهة، ليست «فلسفة البراكسس»، إنما هو التاريخ الذي يتقدّم إلى حيث يشاء ولا يضبطه أحد. ولا يكترث كثيرًا بالعدل والظلم. فالأول حرقه الصراع بين الحاكم الذي يحسن التأديب والخطابة وبين المفكر الذي يستنطق علم الجمال والسياسة. أما الفلسطيني فاحترق بردًا وغربة، أحرقه رغيف الخبز في قرية باردة لا تعرف زيتون «الجليل الأعلى» وأحرقته الصدف الغاشمة. معنى نفى في «لسان العرب» تساقط. الرجل الإيطالي «تساقطت أحلامه»، نُفي عنها ونُفيت عنه، والمعلم الصغير نُفي وسقط حقه في أرضه.
الإيطالي الشهير ماكيافيللي كان يسأل: كيف تستولد إمارة جديدة من إمارة غائبة، وغرامشي كان يسأل: كيف تبني مفاهيم المثقفين مجتمعًا صالحًا؟ كفى الناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت نفسه بأسئلة ترتاح إلى «متعة اللغة»، وقال: «إن دور المثقف أن يتحمل هامشيته».
المنفى حرمانٌ ونقصٌ وعجزٌ، والمنفي يعرف أحواله من نظر غير المنفيين إليه.
المنشورات ذات الصلة
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
الفلسطيني: صعوبات كتابة سيرة ذاتية
هل يستطيع فلسطيني أن يكتب سيرة ذاتية؟ يبدو السؤال في البداية بسيطًا قوامه ذاكرة قوية أو معطوبة وقدرة على السرد بلغة...
0 تعليق