لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
«النيل في خطر» جرس إنذار مبكّر قرعه كامل الزهيري
صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب منذ عام 1980م، في الحقبة الساداتيّة عن (العربي للنشر والتوزيع) في القاهرة، ويشير كامل الزهيري في مقدمة الطبعة الأولى إلى أن ظهور الكتاب كان نتيجة رحلة البحث الطويلة في الوثائق التي اقتضاها الإعداد لكتابه السابق «مزاعم بيغن. الرد عليها بالوثائق» الذي صدر عام 1978م، فظهر «النيل في خطر» الذي يحاول «كشف وتفنيد مشروع صهيوني خطير هو مشروع شراء مياه النيل وتحويلها إلى صحراء النقب»، ويؤكّد أن الكتاب الأخير أخطر من الأول؛ لأنه لا يتعلق بتصحيح حقائق التاريخ فحسب، بل يتعلق بالخطر على المستقبل. يمكن القول: إن الكتاب بحث معمّق في الجغرافيا السياسية، وفي الوثائق التاريخية فضلًا عن لمحات من الخصائص الأنثروبولوجية، برؤية علمية قانونية، ومنهج استقصائي جادّ.
يعود الزهيري الحقوقي والكاتب اليساري الكبير، ونقيب الصحفيين صاحب الشعار المعارض «إسقاط عضوية نقابة الصحفيين كإسقاط الجنسية» إلى أحداث عام 1903م لحظة وصول تيودور هيرتزل إلى القاهرة يوم 23 مارس، ومعه كل ما يلزم لمشروعه التاريخي، المتضمن توطين اليهود في شبه جزيرة سيناء، بوصفها الجسر الواصل إلى فلسطين، وجرّ مياه النيل إليهم، لتكون سبب الحياة في موطنهم الجديد، وكان ذلك كله تحت عباءة الإنجليز، حيث تمكن هيرتزل، بكتمان شديد من تمرير المشروع، على الرغم من الصراع بين الخديو عباس الثاني وكرومر، وبين مصطفى كامل والإنجليز، وبين الإنجليز والفرنسيين، وبعيدًا من أعين الصحافة المصرية، حيث كانت أحداث أقل أهمية بكثير، تحظى بانعكاساتها في جريدتي اللواء والمؤيد.
هيرتزل يبحث في المدوّنات
لم يوفّر هيرتزل جهدًا لتحقيق مشروعه، ومشروع إسرائيل برمّتها، فاستعان برجال الدين، وبالصحفيين، وبالكتّاب والباحثين مثلما استعان بالسياسيين والعسكريين وأصحاب رؤوس الأموال. وقد اعتمد في معارفه حول المنطقة على رحلات المستشرقين، ومدوّناتهم، ولا سيما على كتاب البريطاني براملي «صحراء التيه» الذي كتبه بعد استكشافه ربوع سيناء وصحراء التيه، قبل الاحتلال البريطاني ببضع سنوات، ونشرته كامبردج 1871م. تكمن خطورة مشروع هيرتزل في أن اللجنة أخفت أنه لتوطين اليهود، كما أنها قللت جدًّا من عدد السكان في سيناء، وثمّة تقارير خاصة به لا تزال غائبة، وهو على الرغم من عدم تحققه الفعلي، شكّل نواة للمشاريع المائية، ثم الحيوية كلها التي لها علاقة بأطماع إسرائيل في الماء العربي، التي كانت العامل الأساس لبناء كيانهم الاستيطاني على أرض فلسطين العربية.
انبثق مشروع جونستون من تلك الفكرة الصهيونية؛ إذ استند جونستون إلى كتاب للمهندس الأميركي لودر ميلك «فلسطين أرض الميعاد» 1945م، الذي يعلن فيه إيمانه بضرورة إنشاء إسرائيل، وإعادة إحياء الحضارة الزراعية التي أقامها الأنباط، الذين سكنوا سيناء وجزءًا من الأردن، وكانت عاصمتهم البتراء، وعلى الإسرائيليين القيام بهذه المهمة.
مغامرة السادات وتسويغاتها
بُعثت فكرة هيرتزل من جديد في عهد السادات 1974م، الذي اتخذ لها أكثر من تسويغ أيديولوجيّ، فقد وعد بتحويل مياه النيل إلى صحراء النقب عبر سيناء، عبر ترويج إشاعات تقول: إنّ مياه النيل تفيض عن حاجة مصر، وإنّنا «نقذف إلى البحر المتوسط بأكثر من ستة مليارات متر مكعّب من المياه العذبة». ويبتدع السادات تسويغًا آخر، لكنه ديني هذه المرة؛ إذ يتعلّل بسقاية الحجيج إلى القدس، ثم يأتي إلى التسويغ السياسي، فيقول: «ونحن نقوم بالتسوية الشاملة للقضية الفلسطينية، سنجعل هذه المياه مساهمة من المسلمين تخليدًا لمبادرة السلام…».
لقد وعد السادات مدّ إسرائيل بالمياه إلى القدس مرورًا بالنقب، مقابل وقف النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وغزة، وإزالة المستوطنات القائمة، وإسكات المستوطنين في النقب. جاء ذلك بالاتساق مع فكرة إليشع كالي، خبير المياه الإسرائيلي، ورئيس تخطيط هيئة المياه في إسرائيل، الذي اقترح لحلّ أزمة المياه القائمة، والقادمة في إسرائيل، شراء مياه النيل بعد السلام، ولا شك في أن فكرة كالي التي أطلقها عام 1974م، تستند تمامًا إلى أفكار هيرتزل التي وضعها عام 1903م.
ظهرت بعد صدور الطبعة الأولى للكتاب مجموعة من المقالات لخبراء وإعلاميين مصريين تؤيد وتضيف إلى ما جاء فيه، ضمت إلى الطبعتين الثانية والثالثة، وفيها مقال آخر للزهيري بعنوان: «النيل في خطر، ومصر أيضًا»، نشر في صحيفة الشعب في 16 سبتمبر 1980م، يقول فيه كاتبه: إنّ هذا الموضوع لا يقلّ خطورة عن موضوع اتخاذ قرار حفر قناة السويس في مصر… وإن موضوع النيل، «ستكون له جوانب عسكرية في المدى البعيد»، ونحن نتساءل بقلق: هل أصبح المدى البعيد قريبًا؟
«نهر النيل في المكتبة العربية»
دفاع عن حق تاريخي بشهادة التاريخ والعلماء وحكام دول وإمبراطوريات
سمير مُندي – ناقد مصري
صدر كتاب «نهر النيل في المكتبة العربية» لمؤلفه محمد حمدي المنياوي عن الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة 2021م، وكان الكتاب قد صدر في طبعته الأولى عام 1966م عن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (المجلس الأعلى للثقافة حاليًّا). والآن تعيد سلسلة «ذاكرة الكتابة» طباعته، في ظل أوضاع تاريخية استثنائية يمر بها النهر، وسط صراع على مياهه بين دولة المنبع (إثيوبيا) ودولتي الممر والمصب (السودان ومصر).
هذه الأوضاع حاضرة في الكتاب، سواء من خلال المعاني التي تحملها إعادة الطبع، ثم إعادة قراءة الكتاب في ضوء أوضاع مغايرة. أو من خلال إشارة مُقدم الكتاب إلى «فترة حساسة» يمر بها النيل في تاريخه، وتاريخ مصر معًا، «فترة تحاول فيها بعض الدول تهديد الأمن القومي المصري من بوابة نهر النيل، ومن نافذة الأطماع التي تريد الاستئثار بمياه النهر الخالد، وتعريض دولتي المصب (مصر والسودان) لأخطار الجفاف والجدب». وبخلاف هذه الإشارة المقتضبة والغامضة إلى سياق الصراع الحالي، فإننا لا نعثر، في مقدمة الكتاب، على تفاصيل تربطه بلحظته الحاضرة المصيرية. كما أننا لا نعثر، في متنه، أيضًا، على صراعات شبيهة في الماضي نقرأ في ضوئها مجريات هذه اللحظة. إذن فما موضوع هذا الكتاب الذي تُعاد قراءته في سياق أحداثٍ لم تجر له في حسبان، ولم تكن ضمن أولوياته وموضوعاته التي تناولها؟ وكيف يمكن أن نقرأه في ظل هذه الأحداث الآن؟
ربما تكون «حياة» النهر هي المناسبة الوحيدة المشتركة التي تجمع بين طبعتَيِ الكتاب، الأولى والثانية. فإذا كان الكتاب هو احتفاء بسيرة النهر وتاريخه في المؤلفات العربية التي كتبها رحّالون وجغرافيون ومؤرخون عرب، فإن هذا الاحتفاء هو بمنزلة دق لجرس الإنذار حول «حياة» النهر، الذي لولا حياته، ما كانت حياة مصر وشعبها. طالما أن الكتاب يسلط الضوء على هذه «الحياة» بوصفها مصدر وأصل حياة بلد وُصف بأنه «هبة النيل».
فبخلاف الحضارات المتعاقبة التي ازدهرت على ضفافه على مر القرون، وبخلاف الدور الذي يؤديه من الناحية الاقتصادية، فإن النيل يُعَدّ سببًا قويًّا من أسباب قيام وحدة سياسية واجتماعية في مصر. يقول المؤلف: «لقد كان نهر النيل خيرًا وبركة على كل مصر في جميع نواحي حياتها. فإلى جانب أنه وهبها جزءًا كبيرًا من الأرض كانت من قبل تغمره مياه البحر، وهو الدلتا، فهو قد ربط بين أجزائها مما ساعد على قيام وحدة سياسية واجتماعية، كما كان من الناحية الاقتصادية العامل الوحيد في ازدهار اقتصادها الذي ظل إلى اليوم يقوم على الزراعة، وهذه بدورها تتوقف كلية على ماء النيل لندرة المطر بها». إلى ذلك فإن الكتاب، بما هو عليه من استعراض لمؤلفات ترصد علاقته التاريخية بمصر، هو بمنزلة دفاع عن حق تاريخي في النهر بشهادة التاريخ، وبشهادة علماء وحكام دول وإمبراطوريات تعاقبوا على حكم مصر.
منابع النيل
وفيما يبدو، لم تكن «منابع» النيل، يومًا، حجة في إثبات هذا الحق التاريخي أو نفيه. ليس أدل على ذلك مما يسوقه المؤلف من أن منابع النيل، على أهميتها، لم تُكتشف إلا في منتصف القرن التاسع عشر. قبل ذلك تخبط المؤرخون والرحّالون والجغرافيون العرب في تفسيرات شتى جانَبَها الصوابُ؛ اللهم إلا في مرات نادرة وعلى نحوٍ غامض. ولم تكن هذه المرات النادرة، في أحسن أحوالها، إلا نقلًا لرواية «بطليموس» اليوناني الذي تحدث عن «خروج النيل من جبل القمر».
حتى إن بعض حكام مصر قديمًا لم يستطيعوا أن يقيّموا، على نحوٍ صحيح، مدى صحة تهديدات قد تُستخدم فيها منابع النيل كسلاح سياسي، جراء جهلهم بالمنابع الأصلية للنيل. يقول المؤلف في واقعة تاريخية تلتقي، وإن بطريق الخطأ، مع ما يمكن أن يمثله استخدام هذه المنابع سياسيًّا: «وعندما علم الإسكندر أن أردشير الثالث (358-337) ق. م أحد ملوك فارس فكر في تجفيف نهر السند، الذي كان يعتقد أنه المنبع الحقيقي للنيل، حتى يؤدب بذلك العصاة المصريين أمر الإسكندر قائد أسطوله نياركوس أن يبني أسطولًا ليعود به إلى مصر عن طريق السند والنيل، كما أنه كتب إلى أمه أنه اكتشف منابع النيل. ولكنه سرعان ما علم أن نهر السند وهداسيس يصبان في المحيط، وأنه لا علاقة لهما بالنيل».
أما الشعراء فلهم رأيهم الخاص في «منابع» النيل وفي فيضانه. فهذا حافظ إبراهيم «شاعر النيل»، مثلًا، ينظر إلى النيل بوصفه مِلكًا لمصر من «المنبع حتى المصب». فهو القائل: «النيل منبعه لنا ومصبه/ ما إن له عن أرضه تحويل». أما أحمد شوقي فقد تساءل عن «منابع النيل»، مرجحًا التفسير الديني الذي يرى أن النيل ينبع «من الجنة من أصل سدرة المنتهى»، على نحو ما تناقل بعض المؤرخين العرب؛ يقول شوقي:
«من أي عهدٍ في القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تُغدق
ومن السماء نَزَلْتَ أَمْ فُجِّرتَ مِن
عليا الجِنان جداولًا تَترقرق».
تحذير من العواقب الوخيمة
سوف يبدو الباب الثالث الذي خصصه المؤلف، بالكامل، للحديث عن «فيضان النيل» وأثره بالزيادة أو النقصان على حياة شعب مصر، بمنزلة تحذير من العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنجم عن المساس بمنسوب النيل. فإذا ما نقص منسوب النيل عن الزيادة السنوية المعروفة تاريخيًّا ﺒ«وفاء النيل»، فإن الجدب والقحط والمجاعات تصبح خطرًا يهدد مصر وشعبها.
فكيف، يا تُرى، يمكن أن يكون عليه فيضان هذا العام، بعدما قامت إثيوبيا بالملء الثاني لسد النهضة أوائل يوليو الماضي؟ هل ينقضي العام، من دون أن نشهد «وفاء» النيل، فيكون عامًا استثنائيًّا، في تاريخ النهر، وتاريخ مصر «هبة النيل»، كما قال هيرودوت؟
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
0 تعليق