كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
التراث وقضاياه الإشكالية كما تراه الباحثة العربية
منذ نحو عقدين، ربما أكثر، برزت باحثات ينتمين إلى أكثر من بلد عربي، قدَّمْن دراساتٍ وأبحاثًا ومقارباتٍ، تحلَّتْ بقدر غير مسبوق من الجرأة، في مساءلة التراث وقضايا التجديد في الخطابات الاجتماعية والنفسية والدينية، متوسلات جهازًا مفاهيميًّا يستوعب جملة المصطلحات والمفاهيم الجديدة، التي تساعد في الخوض في مثل هذه المقاربات التي اتسمت بالعمق، والبحث عن زوايا جديدة لقراءة ظاهرة من الظواهر التي يحفل بها التراث على تنوعه.
استطاعت الباحثة العربية أن تلج إلى المسكوت عنه في هذا التراث، بما امتلكته من ثقافة مركبة ورؤية لا ترتهن إلى الماضي، بقدر ما تحتكم إلى الواقع وإكراهاته، وأثارت جملة من الأسئلة المهمة والشائكة، حول جوانب بقيت بعيدة من الأدوات الجادة للبحث العلمي، سواء فيما يتعلق بالمرأة أو المفسرين أو المحدثين، أو علم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ النسائي، والنسوية، والجندر ودراسات الجسد.
واجهت الباحثة العربية وتواجه تحديات كثيرة، منها ما يخص نطاق البحث وطبيعته، ومنها استقواء الرجل، باحثًا كان أو سواه، بمنظومة تقليدية ومحافظة؛ للحد من طموحات الباحثة العربية في تقديم قراءة مغايرة وخاصة، تفكك ما سبق أن قدمه بعض الباحثين، وتظهر ما فيه من تواطؤ مع السائد والمؤتلف، لا المختلف.
سعت الباحثة العربية إلى زحزحة سلطة الباحث الرجل، ونافسته في اقتراح تصورات وتفسيرات لقضايا بات مسلمًا بما فيها، وأعادت من جديد طرح الأسئلة حولها.
الباحثة العربية اليوم تحاول الانتصار للنساء، اللاتي بلغ عددهن الآلاف، وكانت لهن أدوار مهمة في علوم الحديث، من القرن الأول إلى القرن الثاني عشر الهجري، وإنقاذهن من التهميش الذي طاولهن لقرون، ومواصلة أداء الدور نفسه وإن في مستوى آخر.
«الفيصل» تكرس الملف في هذا العدد للجهود التي تقدمها الباحثة العربية، والوقوف على التحديات التي تواجهها في سبيل إثبات حضورها في الخريطة البحثية بتصنيفاتها المختلفة.
تعدُّد الخطابات النسائية حول الجنسانية
آمال قرامي – باحثة تونسية
أثار تناول الروائيات والكاتبات والدارسات للقضايا المتصلة بالجنسانية جدلًا كبيرًا في صفوف المتقبلين من نقاد وأكاديميين وقراء وغيرهم، وتباينت الآراء حول وجاهة تطرق الأكاديميات والمبدعات وغيرهن لموضوع الجنسانية، وأهدافهن من وراء الخوض في التابوهات، و«مشروعية» اهتمامهن بها. فرأى بعضٌ أن أعمال نوال السعداوي حول الجنسانية النسائية أو الجنسانية الذكورية تتسم بالجدة والجرأة، وتعكس تنوع المقاربات التاريخية والأنثروبولوجية والطبية والدينية وغيرها. بل إن السعداوي كانت رائدة في هذا المجال؛ إذ حللت مكانة الجنسانية في حيوات المصريين والمصريات ودورها في بناء العلاقات، ووضحت فهمهم المحدود لما تقوم عليه الجنسانية من ركائز إلى غير ذلك من القضايا.
وفي المقابل شن عدد من «العلماء» حملة ضد السعداوي؛ إذ رأوا أنها تدعو إلى ممارسة الرذيلة باسم تحرر المرأة، وتحارب القيم والعادات والتقاليد والأعراف والدين من خلال المطالبة بتجريم ختان البنات. وقد وضحت السعداوي في أكثر من مناسبة، العلاقة العضوية بين الخفاض والجنسانية والسلطة وانتهاك حرمة الجسد الأنثوي، مشيرة إلى انعكاسات هذا الطقس على العلاقات الزوجية وغيرها(١).
أما اهتمام الروائيات بالكتابة حول الجنسانية فقد عد محاولة للتموقع في عالم احتكره الأدباء، ورغبة في التسويق السريع لأعمالهن، بقطع النظر عن قيمتها الإبداعية وخدمتها لقضايا النساء. ويفسر إقبال «الغرب» على ترجمة هذه الروايات إلى أكثر من لغة، والشهرة التي تحققت لبعض الكاتبات بالنزعة الاستشراقية. فليس الكشف عما يجري في الفضاء الحميمي العربي الإسلامي إلا علامة على تماهي الروائيات مع الرؤية الاستشراقية، وشكلًا من أشكال التطبيع مع الصور النمطية والتمثلات التي تنتجها النسوية البيضاء والمستشرقون.
وبغض النظر عن ردود أفعال القراء والقارئات(٢) والإشكاليات التي تطرحها الأعمال النسائية التي تجرأت على الخوض في التابوهات، من حيث القيمة الفنية وأشكال التلقي فإن الكتابة حول الجنسانية تطورت على مر العقود، ولا سيما بعد ظهور جيل من الباحثات المتخصصات في علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ النسائي والنسوية والجندر ودراسات الجسد، اللواتي سعين إلى المساهمة في بناء المعرفة المتخصصة جنبًا إلى جنب مع زملائهم. فبرزت البحوث الميدانية والمؤلفات والدراسات(٣) التي تتناول الجنسانية في العالم العربي أو في المغرب أو لبنان وغيرها من المجتمعات. وتعددت المقاربات والمناهج التي تساعد على فهم بناء الهويات والعلاقة بالجسد والذات، والآخر، والممارسات والطقوس والسلوك والقيم والمعايير والوظائف والمفاهيم التي تحيط بالجنسانية.
وعلى عكس أعمال الروائيات التي أثارت ردود أفعال متباينة قوبلت أعمال الدارسات باهتمام كبير نظرًا إلى الإضافة التي حققتها، إما على مستوى بناء معرفة نوعية بالمجتمعات المدروسة، أو اختيار العينات من طبقات وبيئات مختلفة، أو على مستوى المقاربات المطبقة وغيرها(٤).
أما ما يسترعي الانتباه في الإنتاج العربي الصادر بشأن الجنسانية(٥) فهو ندرة بحوث المتخصصات في الشأن الديني. فهل يعود الأمر إلى طبيعة السياق المجتمعي الحالي الذي لا يتقبل خوض العالمات والداعيات والدارسات في هذا الموضوع، أم هو الخوف من رد فعل الجموع، أم إن المسألة تتعلق بترتيب الأولويات؟
مفتيات النساء وقضايا الجنسانية
لم يكن من اليسير على الجيل الأول من الداعيات الإسلاميات الخوض في موضوع الجنسانية، ولا سيما أنهن كن يقدمن دروسهن في المساجد العامة، أو يشاركن في البرامج الدينية في الفضائيات العربية مع زملائهن، ويحاولن انتزاع الاعتراف والتموقع بوصفهن عالمات مؤهلات للحديث عن أحكام الشريعة. ولكن ما إن ظهرت بعض البرامج المتخصصة في «فتاوى النساء»، القائمة على التفاعل بين الداعية والإعلامي/ة والجمهور حتى ألفت الداعيات أنفسهن مجبرات أو راغبات في توضيح بعض المسائل المتصلة بالعلاقة الجنسية، وعرض «رأي الدين» في بعض الظواهر والممارسات.
ولئن ارتأت أغلب الداعيات إعادة إنتاج المعرفة التي أنتجها السلف حول أحكام الجماع وآدابه، وعرضها بطريقة آلية من دون التبصر في مضمونها ومدى ملاءمته لأوضاع النساء، فإن بعض الداعيات ومدرسات الشريعة وغيرهن آثرن الانتصار للنساء ومواجهة الفكر الذكوري الذي يصر أنصاره على تحويل المرأة إلى موضوع لمتعة الرجل، فقدمن الحجج وانتقدن بعض الأسانيد والروايات والأحاديث والتفاسير(٦). نشير على سبيل المثال إلى آمنة نصير التي وضحت الأسباب الثقافية والاجتماعية للخفاض معتمدة في ذلك القراءة السياقية التاريخية، مُضَعِّفة عددًا من الأحاديث التي يعتمدها العلماء لتبرير هذه العادة(٧)، ونذكر أيضًا هالة سمير(٨) التي انكبت على شرح بعض المسائل المتعلقة بحرمان المرأة من المتعة بسبب العضل أو هجرة الزوج أو مرضه المزمن، وهي إذ تنتقد سلوك الرجال لا تتحرج من تأنيب المرأة المُعنَّفة التي تقبل بأداء «واجبتها الزوجية» على الرغم من إيذاء الزوج لها. إن العلاقة الزوجية تنبني، حسب هذه الداعية، على المودة لا الإيذاء، وهي في ذلك تلتقي مع الداعية محمد أبو بكر الذي ألحّ على المعروف والرحمة والمحبة والود والاحترام(٩).
وعلى الرغم من اقتحام الداعيات مجال المعرفة الدينية، وإقدام بعضهن على تناول موضوعات ذات صلة بالجنسانية فإن التحليل ظل محدودًا، ومحكومًا بضوابط فرضها الخطاب في الفضاء الإعلامي، ورقابة الأزهر وغيره من المؤسسات الدينية، ورقابة الزملاء، وطبيعة السياق الاجتماعي الذي انتشرت فيه ظواهر مختلفة مثل: العنف، وكره النساء، وغيرهما. يقول حيدر إبراهيم علي في هذا الصدد متحدثًا عن هذه «الاستثناءات القليلة»: إنها «لا تمثل قوى اجتماعية مؤثرة، بل تنافح ضمن هامش اجتماعي وثقافي ضيق»(١٠).
الدارسات النسويات: تحليل للجنسانية في علاقتها بالدين
تختلف هذه الفئة عن سابقتها من حيث التكوين والمرجعيات والتوجه الفكري. فبينما انتمت أغلبية الداعيات إلى المؤسسات الدينية مثل: الأزهر أو جامعة القرويين وغيرهما، فكن أستاذات أو حاصلات على شهادات في علوم القرآن والفقه والتفسير… كانت المنضويات تحت الفئة الثانية أكاديميات من كليات الآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانيات أو كليات القانون وغيرها من التخصصات. وهن إذ يقبلن على المساهمة في بناء المعرفة الدينية بالاعتماد على مناهج متعددة مثل: المنهج السياقي أو المقاصدي أو الفينومولوجي أو الحقوقي… يثبتن أنهن قادرات على تحرير حقل الجنسانية؛ أولًا: من هيمنة الثقافة السائدة التي ربطت الجنسانية بالعار والخجل، والجسد الأنثوي بالشرف، وثانيًا: من سلطة العلماء الذين مارسوا في الأغلب، التحيز الذكوري وجعلوا المرأة مُسيَّجة داخل دائرة الفتنة والغواية والشهوة، وعدُّوها في خدمة الرجل مؤدية لدور الإمتاع والمؤانسة.
تُعَدُّ عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي(١١) رائدةً في تناول موضوعات ذات صلة بالجنسانية؛ إذ أثبتت أن أصوات النساء وخبراتهن وتصوراتهن مبثوثة في كتب الحديث والفقه وغيرها، وأنهن ساهمن في بناء المعرفة الدينية من خلال رواية الأحاديث وتصحيح بعض المفاهيم (كاستدراكات عائشة). وذهبت المرنيسي إلى أن إقرار الفقهاء بفاعلية الجنسانية الأنثوية هو «اعتراف يؤدي إلى تفجير النظام الاجتماعي»(١٢)؛ إذ ظل هؤلاء يحذرون من انفلات ناقصات العقل والدين، ويدعون الرجال القوامين إلى ضبطهن. ولم تقتصر المرنيسي على دراسة السياق الذي أُنتِجَت فيه آراء الفقهاء، بل إنها انتقدت البنى الذهنية والاجتماعية المشكلة للجنسانية والمؤدية إلى التمييز بين الجنسين وعدم استيعاب الرجال لقواعد العيش معًا. إن الرجل في نظر المرنيسي، «لا يقدر على تصور علاقة الحب باعتبارها علاقة تبادلية وعميقة بين أنداد متساوين»(١٣).
وفي السياق نفسه أشارت ليلى أحمد إلى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان متعاطفًا مع النساء المطالبات بحقهن في المتعة الجنسية. ولم تكتفِ أميرة سنبل(١٤) بتوضيح آراء الفقهاء في الاغتصاب في الشريعة وسفاح القربى والزنا وغيرها من الممارسات، بل بيّنت الفوارق بين النظرية الفقهية وكيفية تطبيقها عبر العصور، وما ترتب على الإجراءات من نتائج تلحق الأذى بالنساء.
النسويات الإسلاميات العربيات وقضايا الجنسانية
يدرك المطلع على إنتاج النسويات الإسلاميات (أميمة أبو بكر، هند مصطفى، أماني صالح، نادية الشرقاوي،…) وهو إنتاج غزير، أن التطرق إلى موضوع الجنسانية لم يحتل حيزًا كبيرًا في هذه المؤلفات أو المقالات بل ظلت الموضوعات، في الأغلب، محدودة وتطرح في إطار إعادة قراءة النشوز، والقوامة، وضرب المرأة والعضل والعزل، وزواج المتعة ومفهوم المودة والرحمة والمعاشرة بالمعروف، وهي أعمال مندرجة في إطار رؤية ترى أن الاضطهاد الجنسي للنساء وحرمانهن من الحق في جنسانية سوية وآمنة لا يعبر عن الرؤية الإسلامية للجنسانية، بل هو محصلة الجهل بروح القرآن والتسليم باجتهادات «العلماء» الذين فسروا النصوص بطريقة حرفية تضمن امتيازات الرجال، وهم في ذلك لا يختلفون عن رجال الدين في الديانات الأخرى.
ويمكن أن نفسر هذا العزوف عن تناول قضايا الجنسانية بإيثار بعضهن تقديم الأهم على المهم وفق إستراتيجية ترتيب الأولويات في مجتمعات بخست النساء حقوقهن الأساسية، وخضوع بعضهن الآخر لرقابة المؤسسة الدينية، نشير في هذا الصدد، إلى الدارسات المنتميات إلى الرابطة المحمدية في المغرب اللواتي يُعانين من الضغوط الممارسة عليهن(١٥) فضلًا عن خوف بعضهن من حملات التشويه.
محاولات تأسيس خطاب نسوي مستقل
بغض النظر عن التكوين والتخصص واختلاف المرجعيات والتموقع وقيمة الأعمال أو الآراء الصادرة والأهداف الذاتية أو الأيديولوجية أو الدينية أو السياسية لتفعيل دور المرأة في مجال المعرفة الدينية، فإن ما يجمع بين الدارسات المهتمات بقضايا الجنسانية هو؛ أولًا: اقتناعهن بأن الخوض في القضايا المتصلة بالجنسانية بات ضروريًّا ولا سيما بعد تعقد نمط العلاقات وطبيعة الحياة وانتشار ظواهر جديدة وممارسات وسلوك مختلف عن المألوف، وشعور المسلمين/ات بالحيرة؛ ثانيًا: إدراك المطلعات على التاريخ الإسلامي أن المسلمات كن لا يتوانين عن طرح الأسئلة في هذه الموضوعات، مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من دون إحساس بالخجل أو الحرج؛ ثالثًا: وعي أغلبهن بالانحياز الذكوري في المعرفة الدينية التي صاغها الرجال حول النساء، وما ترتب عليها من تمييز وحيف؛ رابعًا: إصرارهن على أن الحديث حول الجنسانية لا يمكن أن يبقى حكرًا على الرجال، وأنه لا مسوّغ لمنع النساء من تناول هذا الموضوع؛ خامسًا: تجاوزهن عقدة الخوف من خسارة الموقع والسلطة بسبب حملات التشويه والتهديد.
أما أوجه الاختلاف فتكمن في؛ أولًا: تأكيد النسويات الإسلاميات والنسويات المهتمات بالإسلاميات ودارسات الجندر والدين أنه ليس على المرأة أن تتبع ما يفسره الرجل، بل يتعين عليها أن تُحصل المعرفة مباشرة من القرآن والعلوم الحديثة، وأن تعتمد المناهج الحديثة، ثم تنطلق في تأسيس خطاب تعمل من خلاله، على توعية المرأة بهويتها وحقوقها ودورها في المجتمع. وفي المقابل استمرت أغلبية الداعيات والمنتميات إلى المؤسسات الدينية في اجترار الآراء المحافظة، وتَعامَيْنَ عن معاناة النساء وبؤس حياتهن الجنسانية، أو قدمن معلومات تفتقر إلى الدقة والعمق.
أما عامل الاختلاف الثاني فيتمثل في أسلوب الكتابة، ودرجة الجرأة، وفي طبيعة المسائل المدروسة، وفي عمق التحليل وفي نوعية المقاربات. فبينما اكتفت الداعيات الإسلاميات والنسويات الإسلاميات في الأغلب، بالنظر في حكم الشرع في عدد من الممارسات وأنماط من السلوك…، وإعادة النظر في مفهوم المعاشرة والمودة والقوامة؛ اهتمت الدارسات النسويات المنشغلات بالشأن الديني والمتخصصات في الجندر والدين(١٦) بتحليل مسائل مختلفة مثل: نشوز الرجل وأثره في نفس الزوجة، والاغتصاب الزوجي، والجنسانية اللامعيارية والسياسات الجنسية في المجتمعات الإسلامية، والتمحيص في شهادات النساء، وأشكال تعبيرهن عن المتعة وغيرها.
لا مراء في أن الخطابات حول الجنسانية صارت اليوم متنوعة وتستدعي بحوثًا مستفيضة ومتعمقة، وهي تقيم الدليل على أن الرجل لم يعد مهيمنًا على كل الحقول المعرفية، فارضًا جندرة صارمة للعلوم والموضوعات والمقاربات. فقد أثبتت النساء على اختلاف انتماءاتهن، أن التشاركية قاعدة بناء المعرفة، وأن من حق كل إنسان أن يخوض في كل الموضوعات، ويعبر عن تصوراته/ها وفهمه/ها للنصوص والحياة والكون.
مراجع:
(١) يمكن الرجوع مثلًا إلى: الوجه العاري للمرأة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1977م، «امرأة تحت درجة الصفر»، بيروت، دار الآداب، 1977م. ومقال الاعتداء الجنسي على الفتيات الصغيرات، في «بينار إيلكاركان»، المرأة والجنسانية في المجتمعات الإسلامية، دار المدى للثقافة والنشر، سوريا 2004م، ص 327.
(٢) تقول الروائية السورية لينا هويان الحسن على سبيل المثال: «وبين وقت وآخر تنتقدني إحدى الكاتبات بسبب ما تسميه «الجنس الصريح» في روايتي «بنت الباشا». ولا أعرف كيف سنتطور ولدينا داعيات الثقافة اللواتي يرتبصن بما كُتب عن علاقة حب بين بطلة وحبيبها، كيف لي أن أكتب نصًّا منقوصًا؟ أحدهم وصف «بنت الباشا» على الإنستغرام بأنه يصعب تركها في البيت؛ بسبب احتوائها على مقاطع جنسية فاضحة. لينا هويان الحسن: داعيات الثقافة ينتقدن «الجنس الصريح» في رواياتي، القدس العربي بتاريخ 9-2-2021م، جميل فتحي الهمامي، أنا أكتب في الجنس إذن أنا كاتب عظيم، موقع الجزيرة بتاريخ 15-5-2019م، تاريخ الاطلاع 12-6-2021م.
https://www.aljazeera.net/blogs/2019/5/15/%D8%A3%D9%86%D8%A7-%D8%A3%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%B3-%D8%A5%D8%B0%D9%86-%D8%A3%D9%86%D8%A7-%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%B9%D8%B8%D9%8A%D9%85
(٣) نشير مثلًا إلى أعمال عبدالصمد الديالمي، (سوسيولوجيا الجنسانية العربية)، وسمية نعمان جسوس (بلا حشومة) من المغرب، وعبدالوهاب بوحديبة «الإسلام والجنس» من تونس، وسامية حسن الساعاتي من مصر (المرأة والمجتمع المعاصر)، وفوزية الدريع (مليون سؤال في الجنس) من الكويت، وبسام عويل (علم النفس الجنسي العيادي) من سوريا وغيرهم.
(٤) ولعل ما يلفت الانتباه في هذه الأعمال التفاوت الحاصل بين المؤلفات التي تناولت موضوع الجنسانية باللغة الفرنسية، والمؤلفات الصادرة باللغة العربية. فقد كان إنتاج المغاربيات بالفرنسية غزيرًا على خلاف المؤلفات الصادرة بالعربية. وليس اختيار الكتابة بغير اللغة الأم إلا حجة على وجود تحديات كثيرة في المجتمعات البطريركية والمحافظة، فكلما رامت الكاتبة تحويل الجنسانية إلى موضوع للتحليل والدراسة والنقد؛ حاصَرَها حارسو القيم والمعايير، واتهموها بأبشع التهم في محاولة لتصميتها، ومن هنا كانت الكتابة باللغة الأجنبية بحثًا عن فضاء آمن، فلا الجمهور هو نفسه، ولا التلقي هو ذاته.
(٥) نحن على وعي بأن المساحة المخصصة لهذا المقال لا تسمح بالتعمق في دراسة العينات وتقويمها. غاية ما أردناه لفت النظر إلى التطور الحاصل في مستوى أشكال الكتابة، وهوية الكاتبات، وطرائق التناول، وأشكال التلقي.
(٦) يمكن الرجوع إلى: صفاء الأسود، الجنسانية في خطاب بعض الداعيات الإسلاميات في الفضائيات العربية، رسالة ماجستير في النوع الاجتماعي والثقافة والمجتمع، تحت إشراف آمال قرامي، (عمل مرقون)، تونس 2019م.
(٧) الدكتورة آمنة نصير: كل الأحاديث التى تضمن ختان الإناث ضعيفة، https://www.youtube.com/watch?v=Uw3zMIr4EKI، بتاريخ 5-2- 2021م، تاريخ المشاهدة 15-6-2021.
(٨) جوزي بيطلب حاجات غريبة في علاقتنا؟ || د. هالة سمير تُجيب عليها «جوزك حلالك اعملي معاه كل حاجة»، بتاريخ 5-12-2019م، تاريخ المشاهدة 15-6-2021م.
(٩) متصلة تشكو بالتفصيل خيانة زوجها.. ورد قاسي جدًّا من الشيخ محمد أبوبكر، https://www.youtube.com/watch?v=GzbuIjKEdhs بتاريخ 12-2-2021م، تاريخ المشاهدة 15-6-2021م.
(١٠) حيدر إبراهيم علي، سوسيولوجية الفتوى: المرأة والفنون نموذجًا، مركز الدراسات السودانية، الخرطوم 2010م، ص 272.
(١١) تُصرّ أغلبية الدارسات على تصنيف المرنيسي في خانة النسويات الإسلاميات، ولكن تناولها للجنسانية هو، في نظرنا، أقرب إلى الطرح النسوي وطرح المهتمات بالجندر والدين من زاوية سوسيولوجية، وقد كان لنا معها حوار في هذا الشأن عندما قدمنا محاضرة في جامعة القنيطرة بالمغرب تناولنا فيها متعة النساء من وجهة نظر الفقهاء، وعقبت عليها المرنيسي.
(١٢) فاطمة المرنيسي، المفهوم الإسلامي حول الجنسانية الأنثوية الفاعلة، في: المرأة والجنسانية في المجتمعات الإسلامية، مرجع مذكور، ص41.
(١٣) فاطمة المرنيسي، العذرية والبطريركية، في: المرأة والجنسانية في المجتمعات الإسلامية، مرجع مذكور، ص 253.
(١٤) أميرة سنبل، الاغتصاب والقانون في مصر العثمانية والحديثة، في: المرأة والجنسانية في المجتمعات الإسلامية، مرجع مذكور، ص ص 339-359.
(١٥) نشير إلى الجدل الذي صاحب تطرق أسماء المرابط للمساوة في الإرث.
(١٦) نحيل مثلًا على بعض أعمال ألفة يوسف، ومؤلفنا: الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندرية (الباب الثالث)، دار المدار الإسلامي، بيروت 2007م.
الكتابة النسائية العربية ودراسة المُدَوَّنة التراثية الإسلامية
ريتا فرج – باحثة لبنانية
تُعَدّ الكتابات النسائية العلمية في مساءلة وقراءة وإعادة تأويل المُدَوَّنة التراثية ومصادرها من المجالات المعرفية المعاصرة، وبعيدًا من الإشكاليات القديمة الحديثة المُثارة حول ثلاثية المهمش الأنثوي والكتابة والمقدس، نظرًا لاضطلاع النساء منذ تاريخ مبكِّر في الإنتاج الأدبي والمعرفة الدينية في الحضارة العربية الإسلامية، خطابًا وتدوينًا؛ فقد اكتسبت إصدارات الباحثات العربيات منذ عقود زخمًا كبيرًا وحظيت بالاعتراف، في تخصصات، يُنظر إليها عادةً على أنها موقوفة لـــ«علم الرجال»؛ ولا سيما في دراسات الإسلام ومدونته.
إذا وضعنا أيَّ ظاهرة في الحقبة الطويلة للتاريخ، يمكن لنا أن نلحظ الحضور اللافت للنساء في المُدَوَّنة التراثية الإسلامية وإنتاجها وشروطها. ونفترض أن «فعل الكتابة» النسائية، بقي مؤثرًا حتى إبان الحِقَب التي غاب أو غُيِّب عنها التدوين النسائي، في زمن الاضطرابات الحضارية الإسلامية.
قدمت المسلمات إسهامات بارزة، في أبواب المعرفة الدينية، وبرهنت دراسات معاصرة حول القرون الأولى على وجود ثمانية آلاف امرأة اضطلعن في علوم الحديث والتفسير والفقه. وهذا يدل على الفاعلية النسائية في المعارف الإسلامية، ولكن في الأغلب تُهَمَّشُ لصالح الشخصيات الأبوية؛ علمًا أن كتب الطبقات والتراجم غنية بأمثلة عن المحدثات والمتصوفات والمفتيات والفقيهات، وتسجل المصادر وجود (26) فقيهة منذ مرحلة الإسلام المبكِّر حتى القرن السابع عشر الميلادي. وعلى الرغم من أن هذا العدد قليل، إذا قُورِن بعدد المحدثات، بسبب تقييد أدوار النساء في العلوم ومن ضمنها العلوم العقلية، لقرون طويلة، لكنه مؤشر جندري وثقافي وحضاري كاشف. ومن الأمثلة على ذلك: دهماء بنت يحيى بن المرتضى (ت: 837هـ/1434م)، من القرن الخامس عشر الميلادي، صنفت كتبًا منها: «شرح الأزهار» في فقه اليزيدية، أربع مجلدات، و«شرح منظومة الكوفي» في الفقه والفرائض، و«شرح مختصر المنتهى».
وتعد هذه العالِمة الفقيهة من الأسماء القليلة التي سجلت المصادر أسماء مؤلفاتهن وتراثهن المكتوب. والمؤسف أن العدد الأكبر من مؤلفات وكتب الفقيهات ضاع، والمعلومات عنها قليلة. ومن الظواهر الاستثنائية في التراث النسائي الصوفي الشفاهي المكتوب «الست عجم بنت النفيس البغدادية» «الأمية» العارفة التي أملت كتبها الثلاثة: «شرح المشاهد» و«كتاب الختم» (مفقود) و«كشف الكنوز» على زوجها، وكتابها الأول شرحٌ لـ«مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية» للمتصوف محيي الدين بن عربي (ت: 638هـ/ 1240).(١)
إن العودة إلى التاريخ لاستحضار تأثير النساء في صناعة المعرفة التراثية الإسلامية وإنتاجها، مسألة ضرورية لثلاثة أسباب؛ الأول: تأكيد الحضور النسائي التدويني المبكِّر، وإن كان ضئيلًا لصالح تضخم تدوين الرجال؛ الثاني: أهمية لفت نظر الدارسين والدارسات المتخصصات في الإسلام والجندر، إلى أن التفاوض الأنثوي مع المنظومة الأبوية، ساهم في بناء وتأسيس المُدَوَّنة التراثية وموقع المرأة فيها؛ الثالث: لا يعرف التاريخ القفزات والنهضات المفاجئة أو المباغتة المنفصلة عن سياقها الأبعد، فالظواهر وما يتعلق بها من تفسيرات وشروحات وإنتاجات معرفية، ليست وليدة الذاكرة القصيرة، وإنما لها جذورها العميقة؛ وما نريد قوله في هذا الصدد: إن فعل الكتابة النسائية في مجال المعرفة الدينية والتراثية في الإسلام ليس ظاهرة حديثة، بل له امتداداته وطبقاته.
إرهاصات الكتابة النسائية في القرن العشرين
في التاريخ المعاصر، تبرز نظيرة زين الدين (1908- 1976م) داعية حق المرأة بالاجتهاد في وجه الغلبة الفقهية البطريركية، وكانت رائدة في دعوتها؛ إذ سبقت المنضويات في الحركة النسوية الإسلامية التي تبرز فيها: آمنة ودود، وأسماء برلاس، ورفعت حسن، وأميمة أبو بكر، وعزيزة الهبري، وميسم الفاروقي، وزيبا ميرزا حسيني وغيرهن؛ فهي أول امرأة قدمت تفسيرًا نسائيًّا معاصرًا للقرآن؛ ونادت بـــ«المساواة القرآنية» بين الجنسين، فدرست هذه القضية الحيوية في كتابها «السفور والحجاب» الذي أثار عند صدوره عام 1928م ردود أفعال علماء الدين الإسلامي؛ بسبب ما تضمنه، وهو ما دفعها لإصدار «الفتاة والشيوخ» (1929م)؛ ردًّا على مهاجمي كتابها الأول، وعلى رأسهم الشيخ مصطفى الغلاييني صاحب «نظرات في كتاب السفور والحجاب».
تظهر في مجال الكتابة النسائية العلمية المنهجية المعاصرة، الأكاديمية والباحثة التركية نابيا أبوت (1897- 1981م) التي بدأت بكتابة أبحاثها ومقالاتها في الإنجليزية حول تاريخ المرأة المسلمة بدءًا من عام 1941م، وقد نُشِر لها مقالان: «ملكات العرب قبل الإسلام» و«النساء والدولة إبان ظهور الإسلام»، وفي العام التالي أكملت ثلاثيتها عن النساء في بداية العصر الإسلامي، التي ضمت كتابي «النساء والدولة في صدر الإسلام» و«عائشة حبيبة محمد». في 1946م، نشرت «ملكتان من بغداد: والدة هارون الرشيد وزوجته» وهو الكتاب الوحيد المنقول إلى العربية تحت عنوان: «المرأة والسياسة في الإسلام، نحو دراسة نموذجية في العصر العباسي: الخيزران أم الرشيد وزبيدة زوجته (تعريب: عمر أبو النصر، دار بيبيلون، لبنان، 1969م).
في الفضاء العربي(٢) اشتغلت باحثات ودارسات على المُدَوَّنة التراثية، تأريخًا وتأويلًا ونقدًا وتفكيكًا. يختلف انتماؤهن ومناهجهن، تبعًا لأوضاع تشكل وعيهن بالنصوص وأدواتها وخلفيتهن الأكاديمية، وكلما اقتربنا زمنيًّا يرتفع الخطاب النسوي النقدي للمصادر التراثية في الفقه والحديث والتاريخ والسير.
الكتابات النسائية حول المُدَوَّنة التراثية… اتجاهات ونماذج
نقترح تصنيف الكاتبات العربيات المشتغلات على المُدَوَّنة الإسلامية التراثية ضمن ثلاثة اتجاهات أو فئات أساسية مفتوحة للنقاش وقابلة للتطوير؛ الأول: الاتجاه النسوي التراثي المحافظ الذي أسس عدّته المعرفية على قراءة المصادر التراثية وتدوينها وإبراز «الأنثوي» الغائر أو المهمش فيها على قاعدة أن الإسلام أنصف المرأة، ومن بين ممثليه –على سبيل المثال لا الحصر- الباحثة والكاتبة المصرية عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) (1913- 1998م) التي قدمت عملًا منهجيًّا في علم التفسير، وهي من الرعيل الأول للمفسرات العربيات اللائي اجتهدن على المنهجية الفيلولوجية.
الثاني: اتجاه النسوية الإسلامية وفيه شقان: التوفيقي النقدي؛ والراديكالي الرافض؛ والأخير اتخذ مواقف حادة من المُدَوَّنة الفقهية الإسلامية التي أسست –وفقًا لرأيهن- لخطاب كاره للنساء، فالإسلام عندهن دين أبوي معادٍ للمرأة، وممثلاث هذا التيار -عمومًا- من خارج الدائرة العربية. ونذكر أنه من بين ممثلات الاتجاه الأول «التوفيقي» في المجال العربي: أميمة أبو بكر، وأسماء المرابط، ونادية الشرقاوي وغيرهن.
سعت النسوية الإسلامية التوفيقية النقدية إلى تأسيس قراءة مقاصدية للإسلام المصدري، عبر تقديم منهج اجتهادي، ينطلق من قاعدة عَدّ النص الديني نصًّا مفتوحًا متعددًا بطبيعته؛ لذا فإن الدين لا يشكل عائقًا إذا ما تجاوز المجتمع معوقاته الذاتية في ذلك، وانطلق من عَدّ التشريع، غير متقدّم على الواقع، بل مطابق للواقع، مستخلصًا منه لا مسقطًا عليه. وهذا يعني أن العيب ليس في النصوص بل في البشر الذين أساؤوا التفسير والفهم والتوظيف. ترى النسويات المسلمات أن نهوض الرجال بمهمة التفسير واستنباط الأحكام قد أدى إلى احتكارهم مجال المعرفة من جهة، وصدور قراءة كانت في أغلبها، ذكورية المنزع من جهة ثانية. ولهذا السبب يتعين على النساء اليوم، ممارسة الاجتهاد في قضايا عدة تتصل بحياتهن مثل: الطلاق والنشوز والنفقة والشهادة والضرب وغيرها من المسائل. تقترح الباحثات قراءات جديدة تتلاءم مع الواقع الاجتماعي المتحرك وتوظيف علوم العصر مثل: الفيلولوجيا، والثيولوجيا النسائية، والأنثروبولوجيا، وعلم التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها من العلوم والمقاربات الحديثة(٣).
الثالث: الباحثات المتخصصات في العلوم الإنسانية، اللاتي اعتمدن على مناهج العلوم الاجتماعية في قراءة النصوص وتفسيرها، وجمعن بين الأدوات النقدية(٤) أو ما يسمى «النقد البنيوي» والأوضاع التاريخية المنتجة للنصوص في المُدَوَّنة التراثية. من بين ممثلات هذا الاتجاه: فاطمة المرنيسي، رجاء بن سلامة، زهية جويرو، ألفة يوسف، آمال قرامي، ليلى أحمد، حسن عبود، ناجية الوريمي وغيرهن. سنتوقف عند أنموذجين ممثلين لهذا الاتجاه؛ الأنموذج الأول: فاطمة المرنيسي، والثاني: ناجية الوريمي.
لا نهدف في هذه المقالة السريعة إلى عرض نتاج الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي (1940- 2015م)، إنما غايتنا قولٌ في المنهج. أدرجت دراسات عدة المرنيسي في اتجاه «النسوية الإسلامية»، وهذا تصنيف غير دقيق، صحيح أن صاحبة «سلطانات منسيات» استعانت بمناهج علوم التفسير، وفي مقدمتها الجرح والتعديل ولا سيما في أطروحتها «الحريم السياسي: النبي والنساء» فإنها قبل كل شيء استخدمت مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة، ولم تركز على موقع المرأة داخل السلطة في الإسلام المبكِّر فحسب، فهي كانت ناشطة في المجتمع المدني، ووضعت وأشرفت على دراسات تعنى بالمرأة لها طابع سوسيولوجي بحت. عدا أنها لم تطالب بأسلمة مصطلحات تستعار من الفكر النسوي الغربي كـ«أسلمة التمكين» و«أسلمة الجندر» و«جهاد الجندر» كما فعلت رائدات النسوية الإسلامية من أمثال آمنة ودود، ولا تدعو إلى «إسلام نسوي»، فهي تعمل على إشكالية السلطة/ المعرفة، وهذه المنهجية أخذتها عن الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو.
ترى المرنيسي أن الإسلام حدَّ من حرية تصرف المرأة، مقارنة بما كانت عليه قبل الإسلام، وبخاصة ما يتعلق بالزواج والطلاق. وعلى الرغم من أن كثيرين يرون أنها وقعت في تناقض، فهي حينًا تتحدث عن «الإسلام النبوي» الذي أنصف المرأة، وحينًا آخر ترى أن الإسلام حد من حريتها، لكن هذا الرأي يحتاج إلى تدقيق؛ إذ لا يمكن القول: إن المرنيسي انقلبت على نفسها، بل تابعت مسيرتها، فالإشكاليات التي تطرقت إليها في «ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية» تختلف عن إشكاليات «الحريم السياسي». إلى ذلك، لم تعالج في أطروحتها «سلطانات منسيات» موقع المرأة السياسي في المنظومة الفقهية، أي أنها لم تدرس الآراء الفقهية المتعلقة بالإمامة الكبرى والإمامة الصغرى إلا بإيجاز شديد، بل أجرت دراسة أركيولوجية/ تاريخية تتداخل فيها المناهج، وهي بشكل أساسي تنقد الذاكرة الجمعية الإسلامية، وتتهمها بعزل النساء بشكل واعٍ عن المجال العام، يذكر أن العديد من نساء الخلفاء والجواري في الحضارة الإسلامية كان لهن دور سياسي مباشر أو غير مباشر. وعلى خلاف عائشة عبدالرحمن، لم تخُض المرنيسي في قضايا فهم النص القرآني من حيث الدلالات والألفاظ والتمييز بين السور المكيّة والمدنيّة، بل اكتفت بشرح بعض الآيات القرآنية المتعلقة بالنساء، ودحضت الأحاديث المعادية للمرأة، باستخدام مناهج تقليدية وحديثة، وأخيرًا، لم تأتِ من باب التخصص في الدراسات الإسلامية، كما فعلت عائشة عبدالرحمن التي تفرغت للدراسات القرآنية.
الباحثة والأكاديمية التونسية ناجية الوريمي، من بين أبرز المشتغلات على المُدَوَّنة التراثية. عملت وفق المنهج الأركيولوجي والقراءة العميقة لطبقات النص التراثي الديني والتاريخي. شكل كتابها «حفريّات في الخطاب الخلدونيّ: الأصول السلفيّة ووهم الحداثة العربية» منعطفًا انقلابيًّا على كل القراءات العربية والغربية، التي لطالما رأت في ابن خلدون مؤشرات التحديث المبكِّر في المجتمع العربي الإسلامي؛ «معتبرة إياه فعل قطيعة مع منظومة فكرية تقليدية»، ويمثل هذه القراءة حسب الوريمي «مفكرون عديدون من بينهم: محمد الطالبي، ومحمد عابد الجابري، وفهمي جدعان، وناصيف نصار، وعبدالسلام الشدادي، وعبدالله العروي، وعلي أومليل، وغيرهم». وفي هذا تقول الوريمي: «إن الاتجاه الغالب على قراءة النص الخلدوني، وهو ما سميناه الاتجاه الحداثوي؛ إنما يتعامل مع مقومات الحداثة من منطلقات أيديولوجية تهمين عليها صبغة البحث التبريري عن الأصالة العربية للنهضة وللتحديث، دون الاهتمام بالقدرة الدلالية الفعلية لهذا النص على إنتاج معرفة عقلية تناهض الثبات القاتل وتُشرع أبواب التجديد».
وتبين الوريمي المآزق النوعية التي تؤدي إليها قراءة من هذا القبيل «من حيث تشريعها لإعادة إنتاج حقائق رسَّخها الخطاب الخلدوني، من دون الانتباه إلى خطورتها من حيث تشريعها لاستمرار العوامل الثقافية لأزمة الركود التاريخي، الذي تردّى فيه المجتمع العربي الإسلامي؛ ومن حيث حجبها لحقيقة العلاقة بين الماضي والحاضر، فالحاضر يُفهم بماضيه لا العكس»(٥).
إن فاعلية النساء في التدوين والكتابة والذاكرة الثقافية، ليست حدثًا طارئًا على الحضارة العربية الإسلامية. فهن واكبن النصوص التأسيسية: الدينية والتاريخية، إسهامًا واشتراطًا وإنتاجًا وتفسيرًا وتأويلًا ونقدًا راهنًا للمصادر ومؤسسيها.
أسهم انخراط النساء في الجامعات، واطلاعهن على مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة في رفع درجة وعيهن تجاه تاريخهن وتراثهن المكتوب والمدوَّن، وانعكس ذلك فيما قدمته الباحثات العربيات من أعمالٍ مهمة في تحليل وقراءة المُدَوَّنة التراثية؛ فتعددت اتجاهاتهن، واختلفت أدوات عملهن على النص الديني والتاريخي، في فضاء المفكَّر فيه والمسكوت عنه في الإسلام. لقد شهد العقدان الأخيران تطورًا ملحوظًا في الأقلام النسائية التي تتبنى خطابًا نقديًّا واعيًا بشروط إنتاجه، ذهب بعضها إلى مناهج التفكيك والحفر وإعادة البناء من دون المناداة بالقطيعة المعرفية.
هذا المقال محاولة متواضعة في رصد الكتابات العربية المعاصرة حول المُدَوَّنة التراثية الإسلامية. سيكون من المفيد للجامعات ومراكز الأبحاث في العالم العربي الاهتمام أكثر في تخصص «دراسات المرأة» بحقوله المختلفة التي من بينها المرأة والكتابة وتحليل الخطاب.
هوامش:
(١) انظر: الحكيم، سعاد، «المرأة الصوفية بين الولاية الروحية والقيادة الدينية»، في: المرأة والمعرفة الدينية في الإسلام، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، (الكتاب الثالث والأربعون بعد المئة، نوفمبر (تشرين الثاني) 2018م.
(٢) نشير إلى أن الكتابة الأدبية أو النثرية النسائية برزت فيها العديد من الأقلام العربية منذ القرن التاسع عشر، وتعد محاولة الترجمة لشهيرات النساء التي قامت بها الكاتبة زينب فواز (1860- 1914م) من الأسس الأولى للنهضة النسائية في مصر.
(٣) راجع: قرامي، آمال، نساء يكسرن الأقفال… إسهامات النساء في مجال المعرفة الدينية، في: المرأة في المجتمعات العربية، المؤتمر العربي والدولي (من 23 إلى 26 تشرين الأول 2012م)، مجموعة باحثين/ ثات، منشورات جامعة الروح القدس، الكسليك، الطبعة الأولى، 2015م، ص ص 36-37.
(٤) تشكل مؤلفات المفكرة والناشطة النسوية المصرية نوال السعداوي (1931- 2021م) إرثًا مهمًّا في الكتابات النسوية العربية، تطرقت إلى قضايا عدة في مجال دراسات المرأة، ومن ضمنها طروحاتها حول الحجاب في الإسلام والختان وتعدد الزوجات. وجدنا صعوبة في إدراجها ضمن الاتجاهات المقترحة، نظرًا لاشتغالها على مقاربات متقاطعة. يشار إلى أنها دعت دائمًا للتعامل النقدي مع التراث واتباع مناهج علمية حديثة بعيدة من الأطر التقليدية في التعاطي مع النص الديني. وقد وصفتها الموسوعة البريطانية بأنها «سيمون دي بوفوار العالم العربي» (the Simone de Beauvoir of the Arab world,)
(٥) الوريمي، ناجية، حفريّات في الخطاب الخلدونيّ: الأصول السلفيّة ووهم الحداثة العربية، رابطة العقلانيين العرب، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2008م، ص ص 20-21.
همي الوحيد العمل على مقاربة اصطلاحية جديدة للنصوص
أسماء المرابط – طبيبة وباحثة مغربية
هل قلة جهود المرأة العربية في تأويل وتفسير التراث العربي والإسلامي تعود إلى ضعف علاقتها بهذا التراث أم إلى هيمنة الذهنية الذكورية على الإعلام واستبعاد جهودها في هذا المجال؟ هذا السؤال مهم جدًّا، فهو يرصد جوهر الإشكالية، والإجابة عنه قد تطول؛ لأن المسألة مركبة، لذا سأحاول تلخيصها في النقاط الآتية: لا بد من الإشارة أولًا إلى أن هذه الإشكالية لا تهم الإسلام وحده بوصفه دينًا وحضارة، بل تهم الديانات السماوية كلها، حتى في المجال المعرفي الكوني، كالفلسفة مثلًا، نرى غيابًا شبه تام للنساء عبر التاريخ. إذًا هنالك تهميش واضح للنساء وغياب لهن في التاريخ الإنساني، ولم يبدأ الوعي بهذا التهميش إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ثانيًا: أما الإسلام، فلا شك أن الوحي والرسالة القرآنية ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، غيروا بل أحدثوا ثورة داخل المنظومة القبلية لتلك الظرفية الزمنية، فمثلًا أكَّدت دراسة أكاديمية حديثة، «موسوعة تراجم أعلام النساء» للأستاذ أكرم ندوي، وهو أستاذ في جامعة أكسفورد، أن الفقه الإسلامي قد غفل عن الدور الأساس الذي لعبته النساء المسلمات في علوم الحديث مثلًا، وقد قدم أكرم ندوي في 43 مجلدًا أسماء أكثر من 9000 من عالمات القرن الأول الهجري حتى أواخر القرن الثاني عشر، فأين ذهبت كل هذه الأسماء وكل هذا العطاء العلمي؟ وماذا عن العلوم الأخرى كتفسير القرآن الكريم؟ كيف يعقل أن تكون السيدة عائشة أم المؤمنين أول مفسرة وأول مفتية في تاريخ الإسلام ولا نكاد نرى اسم امرأة واحدة بعدها، إلا في القرن العشرين مع تفسير عائشة عبدالرحمن في السبعينيات، الذي لا يعترف به كثيرون؟
أسباب تهميش المرأة
النزاعات والصراعات السياسية حول الحكم بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أهمها الفتنة الكبرى، ساهمت في تهميش المرأة. فبَعْد الثورة الروحية والاجتماعية طَوال مرحلة التنزيل، التي مكَّنت النساء من الولوج في الفضاء السياسي والاجتماعي، ومن المساهمة في بناء القواعد الأولى للحضارة الإسلامية؛ جرى إبعادهن من الفضاء العام بسبب الحسابات السياسية، كما هو شأن معظم الثورات عبر التاريخ الإنساني. ثم أتت الفتوحات الإسلامية والتبنِّي التدريجي للتقاليد الثقافية لحضارات أخرى (كالبيزنطيين والفرس)، فجرى تبنِّي تقاليدهم، وبخاصة الأعراف الذكورية الموروثة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو مفهوم «الحريم» المعروف لدى الفرس، الذي جرى استملاكه ثقافيًّا على حساب المبادئ الدينية التي جاء بها الإسلام.
ومع بداية عصر التدوين للعلوم الإسلامية خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، الذي تم في أجواء من الاضطرابات السياسية، بدأت «مأسسة» المعرفة الدينية، وإقصاء النساء من الولوج إلى مواقع السلطة العلمية، ويبدو هذا واضحًا في غياب النساء عن المذاهب الفقهية، حتى في المجال الصوفي، فنرى مثلًا كيف أن المتصوفة المشهورة رابعة العدوية لم تترك أي مريدين أو طريقة على اسمها على الرغم من شهرتها.
سبب آخر لغياب المرأة عن المجال العام كامن في ترسيخ فقه «الطاعة» العمياء مع النظام السياسي الاستبدادي للخلافة. فأصبحت طاعة الحاكم باسم الدين، لكونه خليفة الله في الأرض، مفهومًا دينيًّا رسَّخ بداية استغلال السياسي للدين. وجرى تنزيل هذا المفهوم من الفضاء العام إلى الفضاء الأسري الخاص، وأصبح فقه «طاعة» المرأة لزوجها أو لِوَليّ أمرِها من الذكور من المعتقدات الدينية المترسخة في كتب الفقه، والدين منها بريء، وأصبح الخروج عن فقه الطاعة خروجًا عن الدين ورمزًا للفتنة، ومن ثَمّ أصبحت الفتنة السياسية موازية لفتنة النساء، وبهذا وجب منعهن من الولوج إلى الفضاء العام والفضاء المعرفي، وسجنهن في البيوت من باب سد الذريعة، أي خشية من الفتنة. إضافة إلى أن الفقه أصبح من أبرز مصادر التمييز ضد النساء؛ إذ استند بشكل كبير إلى العرف والتقاليد، وابتعد من مقاصد الشريعة العادلة.
كما أن الإنتاج التأويلي الإسلامي ظل أسيرَ قراءة دوغمائيّة ومُسيَّسة، وقعَتْ مَأسَستُه في مدارس فقهية. وأدَّى التشدد المذهبي إلى جمود الفكر الإسلامي، وبخاصة في مجال المعاملات الاجتماعية، زِدْ على ذلك أن تلك النصوص قد دُوِّنت في زمن كانت فيه المرأة قد فقدت عددًا كبيرًا من صلاحيّاتها، وأصبحت تلك الاجتهادات الفقهية مع انتكاسة الحضارة الإسلامية نصوصًا «مقدسة» أو شبه مقدسة، ومَصدرًا وحيدًا للتشريع، ولا سيما بالنسبة إلى مدوَّنات الأسرة في أغلب البلدان الإسلامية. والحقيقة أن الأمر كان على عكس ذلك تمامًا، حيث إنّ أغلب مؤسِّسي المذاهب الأوائل، اعتبروا قِيدَ حياتِهم أن تأويلاتهم الفقهية هي مجرَّد مجهود إنساني لاستنباط الأحكام ضمْن سياقاتهم الخاصة والمعيَّنة.
جهود المرأة في قراءة التراث
للحديث عن الجهد الذي قدمته المرأة العربية في قراءة التراث وتأويله، يكفينا إعطاء مثل بارز في هذا المجال وهو اسم فاطمة الفهرية التي أسست مع أختها مريم جامعة القرويين في فاس بالمغرب سنة 859م، وتُعد أول جامعة في العالم. أما الأسماء الأخرى فيمكن الرجوع إلى كثير من الكتب القديمة مثل «سير أعلام النبلاء» للإمام الذهبي، وإلى بعض الكتب الحديثة التي ترصد أسماء نساء بارزات في العديد من المجالات، وأيضًا إلى الموسوعة العلمية «المُحَدِّثات»، للدكتور أكرم الندوي الصادرة سنة 2002م، وإلى كتاب الأستاذة أسماء السيد «women and the transmission of religious knowledge in Islam».
وهنالك اليوم كثير من النساء المسلمات المتخصصات في العلوم الإسلامية كعلوم التفسير والفقه والحديث، ولكن، بحسب علمي، لا نكاد نرى مؤلفًا واحدًا أو مشروعًا جديدًا لمتخصصة واحدة في تفسير القرآن الكريم اليوم، فكل ما نراه هو إعادة ما فسره الأولون، وإعادة قراءته قراءة تقليدية لا نرى فيها أي مجهود فكري نقدي أو تحليلي عقلاني، وكذلك الرجال، فلا نكاد نرى أي جديد في علم التفسير، وكأن ما قاله الأولون مقدس وصالح لكل زمان ومكان.
لقد قام العلماء المسلمون الأوائل بتفسير القرآن الكريم في ضوء مقتضيات مجتمعاتهم والعقليات السائدة آنذاك، لكنهم لم يعدُّوا قط تفاسيرَهم البشرية مَعاييرَ تأويلية ثابتة ومقدَّسة لا تقبل النقاش. هذا الاعتقاد لم يتفشَّ إلَّا حديثًا، مع جمود الفكر الإسلامي وتراجُع الحضارة الإسلامية، حين تَعطَّل اجتهاد المفسرين المنطلق من السياق، وقُدِّست تفاسير الأسلاف عبْر تهميش المبادئ الأخلاقية الواردة في النصوص الدينية. ومع كل الاحترام الذي نُكِنُّه للعمل والجهد الذي بذله سلَفُنا الصالح، لكن لا يمكننا أن نبقى رهينِي رؤيتهم الخاصة، في ظلِّ تطوُّر المعايير الاجتماعية والعالمية والحقوقية الحديثة.
ضرورة الديمقراطية
لست بعالمة أو متخصصة في العلوم الإسلامية، أنا طبيبة متخصصة في تشخيص الأمراض السرطانية في الدم، لكن لدَيّ شغف الاهتمام بالدين والفكر الديني، وأعدُّ نفسي مفكرة وباحثة في هذا المجال، وأحاول إعطاء رأيي وبذل مجهود فكري حسب استطاعتي لإعادة النظر في تراثنا الإسلامي الغني والمبدع، الذي للأسف قد حُصِر واختُزل في جزئيات ومفاهيم تقليدية، غالبًا ما تصطدم مع مستجدّات عصرنا المعقد والمعولم، ويبقى همي الوحيد هو العمل على قراءة ومقاربة اصطلاحية جديدة للنصوص أعدُّها ضرورة أوَّليّة، حتى نتصدى للتحديات المعاصرة لمجتمعنا، مع مشاركة الجميع، نساء ورجالاً ومن جميع الاختصاصات، فالدين ليس حكرًا على المختصين في هذا المجال، فقِيَم العدل والإنصاف والقسط التي يأمر بها الإسلام، والتي هي غايته الكبرى في الخلق، لا بد أن تنعكس على الواقع الاجتماعي، وعلى الخطاب والتربية الدِّينيَّين. وأنا على وعي بأن مسألة الإصلاح الديني، وبخاصة تلك المتعلقة بموضوع النساء، تبقى مرتبطة بالممارسة الديمقراطية على أرض الواقع؛ لذا سيكون من باب الوهم ادِّعاءُ قدرتِنا على معالجة موضوع النساء بمعزل عن المشكلات الأخرى التي تتخبط فيها البلاد العربية.
أعلم أن فكري وأعمالي تزعج الكثيرين الذين يرون أن أي فكر ينتقد الخطاب الديني هو انتقاد للدين أو عبث بمبادئه، وبخاصة إذا صدر من امرأة، فالرفض يصبح أكثر بسبب الذهنية الذكورية، وأيضًا بسبب الخوف من التغريب أو استيراد أفكار التحرر النسائي الغربي، وللأسف معظم من ينتقدونني لم يقرؤوا لي كتابًا واحدًا، أو حتى مقالًا لكي يدركوا أن ما أحاول العمل به هو عكس هذه الاتهامات؛ ففكري وعملي ومشروعي في مجمله راسخ من داخل المرجعية الإسلامية، وينتقد الفكر الاستعماري والتبعية الأيديولوجية المهيمنة، وأبحاثي تنبثق من أخلاقيات القرآن الكريم التي ابتعدنا منها اليوم، والنموذج التحرري الذي أحلم به هو ذلك الذي ينبع من الرسالة الروحانية القرآنية التي حررت الإنسان (رجلًا كان أو امرأة) من جميع أشكال الاستعباد. وهذا ليس بنموذج غربي ولا شرقي بل هو كونيّ وأخلاقي وإنساني قبل كل شيء. لذلك لا أبالي بهذا التشويش؛ لأني مقتنعة بأن رسالة القرآن رسالة تحررية بامتياز، ولدي الحق كإنسانة وكامرأة في الدفاع عنها والتشبث بها، والتصدي لذلك التيار الفكري الديني المتشدد الذي همش روح هذه الرسالة التي هي أولًا وقبل كل شيء رحمة للعالمين.
قضايا المرأة السعودية: واقع متغير، وتحديات مختلفة
فوزية باشطح – باحثة سعودية
كيف يمكن للباحثة الجادة التي تقارب موضوعات إشكالية أن تقوم بعملها بشكل جيد في ظل وجود بيئة اجتماعية محافظة؛ ترى أن في أي اجتهاد بدعة؛ وفي ظل ممانعة ذكورية لأي إسهام مميز من المرأة؟ قرأت سؤال «الفيصل» أكثر من مرة وقمت بتفكيكه في ضوء معطيات واقع المرأة السعودية، فوجدت أنه ينطلق من مسلمة تاريخية تقول: إن البحث في قضايا المرأة في المجتمع السعودي يواجه صعوبة ثقافية واجتماعية اتخذت طابعًا دينيًّا. هذا السؤال وضعني أمام عدد من التساؤلات منها: إلى أي مدى يمكن أن نتعامل -نحن المهتمين بقضايا المرأة- مع فكرة ثبات الموروث الثقافي- الفقهي على واقع المرأة؟ وإلى أي مدى لا يزال هذا الموروث يشكّل تحدّيًا قويًّا مع واقع المرأة السعودية الجديد في ضوء حزمة الإصلاحات التشريعية الجديدة الخاصة بها؟
للإجابة عن هذين التساؤلين قد يتطلب البحث في شؤون المرأة السعودية في هذه الحقبة وفي ضوء المستجدات استيعاب مفهومَي الثابت والمتحول في العلاقة بين مفهومي الذكورة والأنوثة في المجتمع؛ من خلال دراسة السلوك الاجتماعي للمرأة وفق الضوابط الاجتماعية، إضافة إلى دراسة الأفكار النمطية التي ما زالت تحظى بالقبول العام في المجتمع وتتناسب مع المستجدات؛ ويمكنها استيعاب مفهومي الأنوثة والذكورة بوصفهما عناصر أساسية لا غنى للمجتمع عن أحدهما. وبناءً على ما تقدم تتبلور فكرة هذه الورقة عبر محورين: الأول: الواقع المختلف للمرأة السعودية. والثاني: التحديات المختلفة للواقع المتغير.
الواقع المختلف للمرأة السعودية
يؤرخ الباحثون في شؤون المرأة العربية بأن نهاية السبعينيات من القرن العشرين شهدت اهتمامًا متزايدًا من الأمم المتحدة لدراسة قضايا المرأة في الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى تحقيق تغيير ملموس في اللغة المتداولة حول المرأة وقضايا الجنسين؛ إذ تحولت من أسلوب التفكير القائم على الرعاية إلى أسلوب التفكير الهادف إلى التمكين حيث أُدمِجَت في السياسات الإنمائية. وعلى الرغم من هذا الاهتمام؛ فإن هناك فروقًا بين الجنسين في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك العالم العربي الذي تعيش فيه المرأة ضمن عوامل أخرى تعوق عملية تمكينها منها: نسق المعايير الاجتماعية والتقاليد الثقافية.
في سياق المجتمع السعودي سيجد المهتم بالمرأة السعودية -في ضوء الأطر المرجعية الخاصة بها والمتمثلة في مبادئ أحكام الشريعة الإسلامية، ونصوص النظام الأساسي للدولة- تأكيدًا لأهمية دورها في المجتمع. فقد حظي موضوع المرأة في المملكة العربية السعودية منذ عقود باهتمام ملحوظ من الدولة بأجهزتها المختلفة؛ وذلك من أجل تمكينها من ممارسة حقها في الإسهام في التنمية المجتمعية، ولا سيما أن الدستور السعودي يقضي بالمساواة بين جميع المواطنين بشأن الحقوق والواجبات؛ إذ ينصّ النظام الأساسي للحكم في المادة (8): أن الحكم في المملكة يقوم على أساس العدل والشورى والمساواة، وقد وردت المساواة في النظام على إطلاقها؛ لتشمل المساواة بكل أشكالها؛ ومن ضمنها: المساواة من حيث الجنس، كما نص النظام في مادته (26): أن تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية التي تقرر مبدأ المساواة.
إن حضور المرأة لدى حكّام الدولة السعودية كبير ومتوافق مع أوضاع ومتطلبات كل مرحلة ومتغيراتها الاجتماعية، ومتفق مع النصوص الشرعية وفتاوى العلماء الكبار، وهذا التوجيه يمثل مبدأ لا يحيد عنه حكّام هذه البلاد. ليأتي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- ويتمّم مسيرة من قبله، فيقدم للمرأة حزمة من القرارات تحمل طابعًا مختلفًا في نوعيتها لتمثل نقلة نوعية في مسيرة المرأة السعودية.
يتضح مما سبق أنه، على مستوى النص، لا توجد مشكلة في الوجود القانوني للمرأة السعودية، ولكن المشكلة تكمن في تسفيه دورها والتقليل من أهميته؛ وذلك عبر ثقافة ذكورية مفرطة في ذرائعيتها تتساوى فيها المرأة السعودية وغيرها من النساء في كثير من المجتمعات، إلا أن وضع المرأة السعودية كان أكثر تعقيدًا؛ حيث تماهت الثقافة الذكورية في المجتمع السعودي مع الفكر الديني المتشدّد لعقود طويلة، فتشكلت بذلك عقبات حالت دون تحويل حقوق المرأة النظرية إلى ممارسات عملية، إلا أن هذا التماهي يكاد يغيب في ظل مجموعة القرارات الإصلاحية التي صدرت في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- وولي عهده الأمين وهذا ما ستحاول الورقة توضيحه لاحقًا وبإسهاب.
وقد تمثلت أبرز صور تمكين المرأة لتكون شريكًا فاعلًا في برنامج التحول الوطني ورؤية 2030، في عهد الملك سلمان -حفظه الله- وولي عهده الأمين -رعاه الله- وذلك بحصولها على حقوق غير مسبوقة جاءت على شكل حزمة من القرارات.
ومن خلال قراءة تحليلية لحزمة القرارات الصادرة في حق المرأة لا بد من الإشارة إلى أن سن القوانين لصالح المرأة ليس بلسمًا سحريًّا يمثل العلاج الناجع الذي سيقضي على جميع قضايا المرأة في وقت قصير، ولكنه سيساهم في تحجيم كثير من معاناتها، وحلحلة كثير من القيود الثقافية التي تعوق حركتها، فتصبح مع الوقت قيودًا غير مرئية يضعف تأثيرها داخل النظام الثقافي؛ فتتولد تمثلات اجتماعية جديدة لدور المرأة؛ تغير الصورة الذهنية الراسخة في الوعي التقليدي للمجتمع الذي تشكّله المعايير السائدة في الثقافة.
وفي ذلك نتفق مع المفكر «إبراهيم البليهي» في وصفه الثقافة بأنها طريقة تفكير وأنماط سلوك ونُظُم ومؤسسات اجتماعية وسياسية، فيتشرَّب الأفراد ثقافة أهلهم ويحكمون على كل شيء وفق المعايير السائدة التي امتزجت بعقولهم ووجدانهم، ويجهلون أن مصدر هذه الثقة هو البرمجة الراسخة ولا يخطر على بالهم مراجعتها.
النقاط السابقة تفسر العلاقة بين الثقافة وأنماط التفكير السائدة في أي مجتمع؛ والمحددة لأشكال العلاقات الاجتماعية بين أفراده كافة على المستوى الخاص أو العام، التي تتشكّل وفق المعايير السائدة التي يتبرمجون عليها؛ تلك المعايير التي هي متغيرة في الأصل من حقبة زمنية إلى أخرى. وعليه يصبح من المهم قراءة الوضع الراهن للمرأة في المجتمع السعودي في ضوء مفهوم «التغير» بوصفه: التحول والانتقال من حال إلى حال أخرى، وغالبًا ما يكون الدافع له هو أن الواقع الموجود قد لا يعبر عن إرادة الأفراد المكونين للمجتمع، فيحدث التغيير حيثما وجدت فجوة بين ما هو قائم وما ينبغي أن يكون.
تحديات مختلفة لواقع متغير
المختلف في تحديات هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها ليس في دعم القيادة للمرأة؛ فهو أمر ليس بجديد على قيادات بلادنا؛ وإنما المختلف هو أن القرارات كافة تحمل آلية تفعيلها؛ لكونها منطلقة من قاعدة فقهية جوهرها توسيع إطار الاختيار الديني الشرعي، حيث إن توسيعه مثل تضييقه؛ مرتبط بمدى القدرة على فهم النص عند إنزاله على الواقع لتفسير مستجداته، وديننا الحنيف دين سعة؛ والمستجدات تفرض مسؤوليات جديدة؛ فإذا ضيّق المشرّع الاختيار الديني، أغفل تلك المستجدات وتركها تعمل بعيدًا من مسؤوليته تجاهها، فهي لا تتوقف ولحركتها آثار قد لا تصبّ في مصلحة المجتمع، وهذا ما يطلق عليه علماء الاجتماع التغير الاجتماعي الحتمي.
ولقد كان الاتجاه الغالب في مواجهة حتمية تغيير المستجدات للبيئة الاجتماعية هو الأخذ بقاعدة سد الذرائع الفقهية؛ ولا سيما في قضايا المرأة كما هو ظاهر في كثير من الفتاوى الفقهية، وفي هذا يدعو الكواكبي إلى توزيع مسؤولية الاجتهاد حتى لا يضطر الفقيه إذا واجه المستجدات أن يهرب منها بأسهل وأسلم الطرق في تضييق الاختيار الديني والشرعي، مما يضطر الناس إلى تقليص خياراتهم فينعكس الأمر على سلوكهم وحراكهم الاجتماعي، فيصبح المجتمع إلى الركود أقرب منه إلى التطور والنمو.
هنا تظهر مسؤولية الحاكم وصاحب القرار في أن يأخذ بضرورة توسيع الاختيار الشرعي ليواجه المستجدات التي يتعرض لها المجتمع؛ ما لم يمنعها الدين بنص قطعي فيتجه نحو الأخذ بمسؤولية الحرية في الاختيار، ويتحمل نتائج توسيع إطارها أمام الله، إيمانًا بحقيقة قوانين التغير الاجتماعي، واتباعًا لمقولة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وفي ضوء مثل هذه القراءة للواقع ولاستيعاب ما ذكرنا آنفًا؛ ستحاول هذه الورقة تسليط الضوء على مفهوم «التمثلات الاجتماعية» ليفسر لنا العلاقة بين مفهومي الذكورة والأنوثة وأثرها في أوضاع المرأة؛ لكونه أحد الآليات الأساسية لبناء صورة المرأة في اللاوعي الجمعي. يرى دوركايم أن التمثلات الاجتماعية آلية لا يستهان بها في بناء صورة المرأة في اللاوعي الجمعي، فهي تشكّل صورة المرأة التي تسكن في مخيلة العامة من الناس، فتبدو المرأة في صور مختلفة: المرأة الفتنة، والمرأة القاصر، والمرأة الأخت، والمرأة الأم، وفي جميع حالاتها يجب أن تكون تابعة للرجل وخاضعة لهيمنته. ومن التعريفات العلمية للتمثلات الاجتماعية أنها: «طريقة تفكير في الواقع اليومي، وهي إنتاج ذهني اجتماعي يختلف في نمط صياغته عن أشكال أخرى من التفكير الجماعي؛ ويساهم في بناء الواقع».
نلحظ مما سبق أن التمثلات كأنها الوجه الآخر للواقع ولكنها لا تتطابق معه بالضرورة، إلا أن هذا لا يعني أنها لا تؤثر فيه، فكم من هذه الصور التي يحملها الأفراد بعضهم عن بعض كانت موضوعًا ووسيلة للصراع. وعليه تصبح دراسة التمثلات الاجتماعية للذكورة والأنوثة مهمة في هذه الورقة؛ لأنها قد تكون أحد مداخل تغيير واقع المرأة الذي يتطلب تغيير الصور الراسخة عنها في وعي المجتمع، بوصفها أكثر الصور خضوعًا للتنميط لارتباطها بالفروق بين الجنسين، التي تتم من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي لها دور كبير في تحديد الأدوار لكل من الإناث والذكور، فتجعل أدوار الإناث تتسم بالسلبية والتبعية وأدوار الذكور تتسم بالاستقلالية، كما ترسخ في الأطفال ضرورة التعامل مع هذه الفوارق بشكل يتناسب وما تعدُّه من القيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية اللازم احترامها، فيتلقى الأطفال تمثلاتهم الاجتماعية للفوارق الجنسية عبر الآباء الخاضعين لقيم تقليدية.
ولتوضيح مفهوم التمثلات الاجتماعية في ضوء بعض الدراسات العلمية وفي ضوء المشاهدات داخل المجتمع، تشير بعض الدراسات الاجتماعية لمفهوم التمثلات الاجتماعية داخل المجتمع اللبناني، مثلًا، إلى أن هناك فئات اجتماعية لا تزال تصف المرأة بسمات لا تتناسب مع واقعها، وما أحدثته متغيرات تعليمها وعملها على هذا الواقع، أي أنهم لا يزالون يعزون للمرأة سمات الاتكالية والحاجة إلى رعاية الرجل وحمايته وما ينطوي على ذلك من وجوب طاعته والخضوع لسلطته. كما تؤكد الدراسات في هذا المجال، أن هناك اتجاهًا معممًا لدى الفئات اللبنانية كافة لتثمين تعليم الفتاة حتى أعلى درجاته وكذلك تثمين عملها، ولكن هذا التثمين يشوبه تحفظ في كثير من الأحيان؛ ليس خشية تعارض العمل مع أدوارهن الإنجابية وإنما لكون الاستقلال المادي سبيلًا للتحرر الشخصي من سلطة الرجل (الزوج، الأب، الأخ).
وبالنظر للصور السابقة تؤكد المشاهدات أن مجتمعنا يتشارك مع المجتمع اللبناني في هذه الصور لدى بعض الأسر وعند بعض الأفراد. وبناءً على ما سبق فإن التحديات الحقيقية في نظري تكمن فيما يأتي:
– وعي المرأة ومسؤوليتها، ومدى صرامتها في تطبيق ما قدمته لها الدولة من قرارات، لتصبح مع الوقت جزءًا من النظام الثقافي؛ فتطرأ بذلك تغييرات على تمثلات دورها في وعي المجتمع؛ وتبدأ هذه التمثلات بالتحول عما هي عليه في الوعي المجتمعي ومن ثم ينتقل إلى اللاوعي الجمعي عبر الزمن كما يقول دوركايم.
– العمل على دراسات اجتماعية لمفهومي الذكورة والأنوثة لا تنزع نحو دراسة الرجل على سبيل المقارنة لإبراز دونية وضع المرأة في مجتمع ذكوري، وإنما دراسته كطرف معادلة لا مناص من معرفتها؛ لفهم ما تتصوره المرأة أو ما تقوله، أو لمعرفة ما يقوله أو يتصوره الرجل، فكلاهما وجه للآخر وضرورة لتنمية المجتمع.
لا يعني طرحنا لما سبق واستعراضنا الإصلاحات التشريعية كافة من جانب القيادة الحكيمة لدعم مسيرة المرأة، أن معاناة المرأة قد انتهت تمامًا في مواجهة الموروث الثقافي- الفقهي، وإنما ما تحاول الورقة أن تسلط عليه الضوء؛ هو أن الوقت قد حان أمام المرأة لمواجهة المعوقات التقليدية من دون خوف؛ لأن المختلف في واقعها اليوم هو أنها تملك سلاحًا قانونيًّا شرّعته لها الدولة يمكّنها من المواجهة من دون خوف، وهذا هو أحد معاني مفهوم التحدي في قاموس المعجم الوسيط.
فالصعوبات ستتناقص لكنها لن تختفي تمامًا؛ إنما تحتاج لبعض الوقت إلى أن تنجح المرأة في الواقع الجديد من تغيير الصورة الذهنية للأنوثة في وعي المجتمع شيئًا فشيئًا، والأمر ليس مستحيلًا، فقد تمكنت المرأة من تجاوز بعض صور التهميش، والأمر ليس ثابتًا دائمًا كما تقول عزة بيضون «لا الذكورة ثابتة ولا الأنوثة، بل تتغيّران باستمرار؛ إذ يقوم الأفراد بعمليّة تفاوض وصراع معهما…». فالأمر يتطلب مواجهة واعية، تؤكد فيها المرأة للمجتمع أن هدفها من تحقيق دورها في مسيرة التنمية لا تحاكي فيه النموذج الغربي؛ ولا ترغب فيه بالدخول إلى دائرة الذكورة لتلعب دور الرجل.
تراث الهيمنة الذكورية
حياة عمامو – باحثة تونسية
لا أعتقد أن هناك فارقًا جوهريًّا بين الباحثة والباحث فيما يتعلق بدراسة التراث ومحاولة فهمه، وبخاصة ما يتعلق بقضاياه الحارقة التي تُلقي بثقلها على واقع الشعوب العربية في الزمن الراهن، حيث يتعرض الباحث، سواء كان امرأة أو رجلًا، إلى صعوبتين رئيستين: تتعلق الأولى بالتراث اللامادي، وبخاصة الجانب الديني منه، مثل: القرآن والتفاسير والأحاديث النبوية والسيرة النبوية، حتى كتب الفقه والفتاوى والتاريخ التي ينظر إليها بوصفها مقدسات وحقائق مطلقة لا تقبل النقد ولا الشك، وبناء على هذه النظرة التي ترسخت في الضمير الجمعي للعرب المسلمين، يُنعت بالكفر كل من يعتمد الفكر النقدي من الباحثين تجاه هذا التراث لدراسة قضايا مهمة مثل: الحجاب والوضع الاجتماعي للأقليات الدينية والعرقية ومسألة الحقوق والمواطنة، وفي حالة ما إذا كان الباحث في هذه القضايا امرأة فإنهم لا يكتفون بتكفيرها وإنما ينعتونها بالفسق والفجور لإسكاتها نهائيًّا.
أما الصعوبة الثانية فتتعلق بالتراث المادي وأساسًا علم الآثار الذي يتطلب البحث فيه إمكانيات مادية وأبحاث ميدانية تستغرق زمنًا طويلًا، وعلى الرغم من أن صعوبات البحث في هذا المجال تنطبق على النساء والرجال، وهذا ما يجعلهم لا يقدرون على تنظيم أبحاث أثرية بمفردهم، بل ينخرطون في فرق أجنبية بإمكانها توفير المستلزمات المادية والكفاءات العلمية، فإن وضع المرأة الباحثة في هذا الميدان أشد خطورة وتعقيدًا لما يمكن أن تتعرض إليه من تحرش وابتزاز في الميدان الذي كثيرًا ما يكون في مناطق بعيدة ومعزولة تستوجب إقامة الباحثين الكاملة لمدة قد تستغرق شهورًا.
توجهات النسوية
ينتمي كثير من النساء العربيات إلى النسويات المناضلات عن طريق الكتابة أو التحركات الميدانية أو الاثنين معًا. ولهؤلاء النسوة توجهان مختلفان، فإما يكنَّ من النسويات اللاتي يُعطين الأولوية القصوى للقيم الكونية والمواثيق الدولية، أو يكنَّ من النسويات الإسلاميات اللاتي لا يرين تحرر المرأة إلا من خلال احترام خصوصية الدين الإسلامي، ويتحفظن دائمًا على ما تدعو إليه المواثيق الدولية فيما يتعلق بالحريات والتحرر، ويوجد في البلدان العربية كثير من النساء النسويات المنتميات إلى كلا الصنفين، ولكنهن أقل حجمًا من ناحية الإنتاج الفكري والإشعاع العلمي من فاطمة المرنيسي.
في غير مجال النسوية يأتي كثير من الباحثات العربيات في مجال التراث، مثل سهير البارودي، ووداد القاضي، ونابيا أبوت، وعائشة العابد، هذا بالنسبة للجيل القديم، أما الجيل الأصغر سنًّا، فيوجد كثير من الباحثات في آثار ما قبل الإسلام، فضلًا عن كثير من الباحثات في تاريخ الإسلام وحضارته في موضوعات كثيرة مثل الطبخ والطقوس، وبخاصة طقوس العبور منها، ومسألة السُّلَط والمجتمع والبلاط والعمارة…
إن التحدي الكبير الذي يواجه الباحثات والباحثين في مجال إعادة النظر في التراث وقضاياه يتعلق أساسًا بقلة الإمكانيات المادية المخصصة لهذا المجال، وبخاصة النظرة الدونية التي أصبحت تنظر بها الأنظمة العربية إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ بسبب كون هذه العلوم لا تُنتج إنتاجًا ماديًّا، لذلك فهي من وجهة نظرهم لا توفر أرباحًا مادية مثلما يتوق إلى ذلك نظام العولمة النيوليبرالي.
هذه النظرة السلبية إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تُعالج داخلها كل قضايا التراث هي المتسببة في جانب كبير في عقم سياسة الثقافة والتعليم في بلداننا، فضلًا على المردودية القليلة للسياحة وسطحية الفنون والإبداع. إن إعادة النظر إلى التراث وفهمه ثم توظيفه في نهضة شاملة يمكن أن يكون مفتاحًا من أهم مفاتيح الصحوة التي تجعلنا نلتحق بالأمم المتقدمة، وعلاقة المرأة العربية ليست ضعيفة بالتراث، ويمكن تفسير ضعف مشاركتها في البحث في هذا المجال بقِلّة عدد الباحثات مقارنة بعدد الرجال.
صراع جندري
وقد بينت الإحصائيات في تونس أن نسبة الباحثات تفوق نسبة الباحثين ولكن أغلبيتهن يبحثن في البيولوجيا والطب والاقتصاد والكيمياء، وقلة قليلة منهن فقط يبحثن في التراث والآثار بسبب صعوبة هذا الميدان من جهة وقلة الإمكانيات من جهة ثانية وتبخيسه من جهة ثالثة من جانب الأنظمة السياسية كما بينتُ ذلك سابقًا.
ويُمكن تفسير قلة إقبال النساء على الأبحاث الأثرية والتراثية بالصراع الجندري وهيمنة الذكور؛ لأن من يرسمون السياسات في بلداننا هم الذكور الذين لا يؤمنون بالبحث في قضايا التراث وأهميتها في واقعنا الحالي، ولا بدور المرأة في البحث فيه؛ لأنهم يتعاملون مع هذا التراث كأيديولوجيا يوظفونها بأوجه مختلفة لضمان استمرارية هيمنتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، فالتراث بالنسبة إلى هؤلاء يمثل آلية من آليات الهيمنة وليس مصدرًا مهمًّا من مصادر التنمية.
النسوية الإسلامية
فاطمة المرنيسي أنموذجًا
يحيى بن الوليد – ناقد مغربي
منذ ستينيات القرن المنقضي، حتى الآن، ما زلنا نعد قراءة التراث الإسلامي وإشكالات الحاضر عامة، ومن مواقع البحث المتعمق، من المحاور الأساسية في الفكر العربي المعاصر في مجمل تياراته الفكرية والأيديولوجية كما في «ثابته ومتحوله»… لكننا نادرًا ما نطرح السؤال حول مدى إسهام المرأة -النابه- في هذا الفكر من حيث الإشكالات ذاتها. هذا على الرغم من أننا لا نعدم وجود نساء مفكرات لا يقللن قدرة عن الذكور في هذا المجال سواء من حيث طبيعة اختيار المحاور ضمن إشكالات الماضي (موضوع المرأة؛ تعيينًا) أو من حيث العدة المعرفية والمفاهيمية والطرح المنهجي، ومن حيث التطلع إلى الانتظام في العصر بشكل واعٍ ومسؤول.
على هذا المستوى يمكن أن نحيل على مفكرات وباحثات عربيات من بينهن الأكاديمية المصرية الأميركية ليلى أحمد من خلال أبحاثها وإسهاماتها في موضوعات الإسلام والحجاب والجندر ونظرة الإسلام للمرأة، ووضع هذه الأخيرة التاريخي والاجتماعي في الشرق الأوسط (تبعًا للمصطلح الذي تعتمده) وبخاصة كتابها العمدة «المرأة والجندر في الإسلام» (1992م)، الذي قوبل في مصر، بكثير من التشكيك حتى العداء.
غير أن وجود صاحبته وتدريسها في أميركا، في «الغرب الرأسمالي»، جعلها مقارنة مع فاطمة المرنيسي بمنأى عن نيران النقد الذكوري العدائي واللاهب؛ بل جعلها غير متداولة، بشكل محترم، حتى في الدراسات التصنيفية في العالم العربي، وحتى لا نسأل حول مراجعات نقدية وتحليلية بخصوص مشروعها الفكري. الدراسة الأكاديمية الوازنة حولها، منجزة من قبل إحدى بنات جنسها وهي الباحثة اللبنانية ريتا فرج، وهي بعنوان «الجندر والإسلام والحجاب في أعمال ليلى أحمد: القراءات والمناهج». واللافت أن المراجعة تستقر على أن صاحبة المشروع متحدرة من العلوم الاجتماعية وليس الفكر الإسلامي.
ورغم ذلك تمكنت ليلى أحمد وفاطمة المرنيسي من أن تمهدا لما سيصطلح عليه في النقد الثقافي النسائي في الغرب، خلال حقبة التسعينيات، بـ«النسوية الإسلامية» التي ستفرض نوعًا من الرجوع للماضي من منظور الوعي بما تسميه الباحثة المغربية أسماء المرابط بـ«التراجيديا التاريخية الطويلة» لقراءة الدين. وهذه الأخيرة بدورها تكتب بالفرنسية، وصاحبة أبحاث كثيرة في نطاق دفاعها عما تسميه «الروحانية النسوية».
والظاهر أن هناك أسماء أخرى، كما في تونس مثلًا، أسهمت بدورها في هذه القراءة والعودة للماضي. ويمكن التذكير، هنا، بالأكاديمية التونسية آمال قرامي في كتابها الضخم «الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية» (2007م) الذي قدم له أستاذها المفكر التونسي المستنير عبدالمجيد الشرفي. وقد بنت أطروحتها اعتمادًا على مصادر ومراجع متباعدة تصل ما بين العقيدة والشريعة والأدب والطب والتاريخ… إلخ. وهناك باحثات تونسيات أخريات، وشابات أيضًا، يضيق المجال عن استحضار إسهاماتهن في الموضوع.
نقد النسوية الإسلامية
من ناحية التلقي أو التعاطي مع النسوية الإسلامية، من داخل المنظومة الإسلامية التقليدية، فالنظرة الغالبة لإسهام الباحثات السابقات وغيرهن، لا تزال لا تخلو من تشكيك بحجة أن «منتوجهن» موقع بطابع الغرب طالما أنه يطرح إشكالات الاستيراد والسيطرة والاستعمار الجديد… رغم خلفياتهن الإسلامية المتفتحة. كذلك «افتقار» الباحثات إلى الكفاءة في دراسة النص القرآني وتفسيره. إضافة إلى الشك في مدى تمكنهن من التاريخ الإسلامي. أما جذر المشكلة فيكمن، في نظرنا، في اقتراب المرأة العربية المفكرة من مجالات قراءة التراث، أو التعاطي السوسيولوجي مع إشكالات المرأة من منظور يستحضر العقيدة والشريعة وتأويلاتهما المغلقة في الثقافة العربية. عكس تعاطيها مع إشكالات الأدب والنقد الأدبي والترجمة… حيث يخفف التلقي من آليات الطرح العدائي لإسهامات المرأة المفكرة والكاتبة والمترجمة.
ومن هذه الناحية فقد خلفت الباحثة السوسيولوجية الرصينة والكاتبة المغربية المتميزة فاطمة المرنيسي (1940- 2015م)، سواء في مجال قراءة التراث الإسلامي أو غيره، ميراثًا معرفيًّا نادرًا من أبحاث نظرية وأبحاث ميدانية ومقالات ومقابلات واستجوابات وتسجيلات… موازاة مع محاضرات وحوارات ومداخلات… مؤكدة، عبر مسارها المتفرد، أنها من النوع الذي لا يعوض بالنظر لمرجعيتها الفكرية، ومستنداتها التصورية، ومقولاتها النظرية، وعدتها المفاهيمية… وغير ذلك من مرتكزات المعرفة والمعرفة النقدية التي جعلت منها «نسوية مختلفة»، و«سلطانة غير منسية»، و«نصيرة شهرزاد العصر»، و«امرأة ميدان بامتياز»… مثلما جعلت منها «المثقفة النسائية التي يُعَرف بها بلدها»، و«سفيرة الحب بين الحضارات والثقافات»، و«سيدة الحوار بين المسلمين والغرب»، و«أيقونة النضال النسائي»، و«مُنتجة المعرفة السوسيولوجية»، و«المسافرة على أجنحة السوسيولوجيا»، و«شهرزاد المعرفة النسوية»… و«دارِسة القرآن الكريم»، و«تلميذة القرويين»، و«الفقيهة المتصوفة خريجة جامعة القرويين»، و«لبؤة الدراسات النسائية في الإسلام»… مثلما جعلت منها «مجلى الصوت المكتوم»، و«منبر غير المتعلمات» من المنسيات والمحجوزات والعاملات، مثلما جعلت منها «مشروع الحضور والكلام الفاعل»… وصولًا إلى «المغربية الأكثر حضورًا في الغرب».
وهو ما جعل منها، في السياق ذاته، «قيمة ثقافية» بالنظر للغتها التحليلية الأنيقة التي بلغت -حتى في ترجمات عربية أيضًا- حد استمالة القارئ المتخصص في «النسوية» جنبًا إلى جنبٍ مع قراء من تخصصات متباعدة ومتغايرة… مغايرة في ذلك لغة أغلب علماء الاجتماع، العرب، من الذين لا تزال تستهويهم اللغة الموضوعية والصرامة التحليلية والجداول الرياضية والترميزات الاختزالية… إلخ. فلا مجال للمنحى البارد في تحليلاتها، ولا مجال للمسافة المعرفية بدعاوى المنهجية الزائدة أو البرانية… لكن في إطار إنتاج المعرفة ذاتها من جهة وبكثير من النجاعة المنهجية الإجرائية ذاتها من جهة موازية. لهذا الاعتبار بالذات، تعرضت المرنيسي لانتقادات وبخاصة من زملائها في الجامعة؛ بل ثمة من مضى أبعد في نقده حين سحب منها صفة «الباحثة السوسيولوجية» بحجة أنها لا تتقيد بالشروط الأكاديمية المعمول بها. غير أنه سيظهر فيما بعد أن تحررها من القيود هو الذي سيكون وراء تميزها الأكاديمي ثم ترجمة كتبها للعديد من اللغات العالمية؛ وبالتالي مكانتها العالمية المتميزة.
إضافة إلى ما سلف، وعلى أساس من مرجعيتها المعرفية السوسيولوجية دائمًا، حتى في حال كتاباتها المفتوحة، فهي «قيمة فكرية» في حقل الفكر العربي المعاصر على مستوى التشابك مع قضاياه… وهو ما جعل النظرة إليها تختلف باختلاف المرجعيات وزوايا النظر وباختلاف فهم أدوار الفكر على مستوى تشابكه مع واقع متخشب ومتصلب في الأغلب الأعم، مثلما يسير في أكثر من اتجاه في الوقت ذاته. إضافة إلى مطمح هذا الفكر على مستوى المواكبة والتغير والتبدل… عدا على مستوى التخلي عن «الهيمنة الذكورية» سواء عن وعي أو غير وعي. ولا يبدو غريبًا أن تتسع دوائر هذا الاختلاف بالنظر لموضوع المرأة الذي أصرت الباحثة على التفرغ له، بالكلية، في سياق ثقافي وتاريخي مضطرب وضاغط.
لعل أهم ما ميز هذا السياق، علاوة على مترتبات الاستعمار وإكراهات الاستقلال الوليد، و«تقليدانية» نصوص التشريع، طبيعة المشكلة التي تبدو، في الأغلب الأعم، من دون «حلول مقترحة»؛ إضافة إلى غياب أعمال فكرية وازنة جديرة بالتحليل الهادئ والتشخيص النافع… في أفق الرد الفكري على المشكلة أو الأحرى «المشكلة التي لا اسم لها» كما نعتتها الكاتبة والناشطة النسائية الأميركية الشهيرة بيتي فريدان.
منهجية مختلفة
اللافت أن فاطمة المرنيسي ظلت منتظمة في النقد النسائي والنسوية المعتدلة طوال مسارها الأكاديمي الثري والمتجدد، دونما سقوط في معاودة النفخ في الموضوعات التقليدية مثل الحجاب والإرث والعنف ضد المرأة… إلخ. حتى إن عادت لمثل هذه الموضوعات ففي سياق معرفي محدد، وبحس تأويلي محكم، ومنهجية مغايرة أو مختلفة، وبمنأى عن السقوط في مناطحة الرجل، أو مسايرة الغرب من خلال الانتظام في النسوية الراديكالية، أو نقيض ذلك حيث العداء والعداء اللاهب للغرب وتلخيصه، من حيث تعاطيه الفكري والمعرفي الغاصب (كذا) مع العرب والإسلام، في الاستشراق بشقيه الظاهر والسافر؛ والمساير، في الحالين معًا، للإمبريالية في إصرارها على تشطير الأمم عبر تفتيت الهويات الجماعية، وتعطيل عمل الذاكرة والقدرة على السرد والسرديات المضادة… إلخ. فقد أدركت كيف تصل وتفصل، في الآن ذاته، ما بين الإسلام والغرب من خارج التنميطات الجاهزة والكليشيهات المتبادلة. من هذه الناحية كانت وراء أبحاث مكرسة غير مسبوقة، وبالقدر ذاته أسهمت في التأسيس لفكر نسوي غير مسبوق في العالم العربي؛ وهو ما جعلها محط إحالة من جانب باحثين غربيين يعتقدون في جدوى «الغرب المتعدد»، و«الإسلام المتنوع».
الظاهر كذلك أنها مضت إلى الأنساق الكبرى في الثقافة العربية. تلك الأنساق التي تقف، في حال المرأة، وراء أشكال من المصادرة والقهر والتحقير والكراهية… إلخ. وهذه الأنساق ممتدة في التاريخ ذاته والثقافة والمجتمع في وحدات سياقية منفصلة ومتمفصلة في آن واحد. وهو ما دفع إلى أشكال من الخوف منها في بلدان العالم العربي ضمنها بعض البلدان التي تسمح للمرأة بالظهور في المجال العام والمشاركة (المحدودة) في أكثر من مجال.
حتى داخل بلدها المغرب لا نعدم درجات من هذا الخوف، بل إنه لم يكن مرحبًا بها بالنظر لـ«التقليدانية» المتخفية في «الحداثة الظاهرة». في المغرب ذاته، وحتى لا نطمع في الخارج، يسهل تأكيد حجم النقص بل عدم الاستعداد… على مستوى التعاطي مع منجز الباحثة درسًا وتحليلًا وتقويمًا. ولا أدل على ذلك من غياب كتب جماعية أو حتى ملفات قوية حولها في أثناء حياتها… مقارنة مع ما حصل مع عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري وعبدالكبير الخطيبي ومحمد مفتاح وعبدالفتاح كيليطو… إلخ. المؤكد أن جميع هذه الأسماء «ذكورية». لكن من الحق أن يقال: إن المرنيسي كانت بدورها وراء تكريس صورة المغرب الثقافي «أفقًا وتفكيرًا». ومن الحق أن يقال أيضًا، أو من جهة مقابلة: إنها بدورها أسهمت في المغرب الثقافي؛ بل لفتت الانتباه إليه بشكل لا يقل أهمية مقارنة مع بعض هذه الأسماء.
لا أخفي أنني بدوري ساهمت في بعض هذه الكتب (عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري). ومرة سألتُ زميلًا لي (وهو باحث أكاديمي وأعد أكثر من كتاب في هذا المجال)، في سياق تحمسه لإعداد كتاب يندرج ضمن الصنف ذاته، حول إمكان التفكير في إنجاز كتاب حول فاطمة المرنيسي التي كانت قد فارقت الحياة في العام نفسه (2015م). فبدا غير متحمس للفكرة، بل استغرب لها في البداية؛ وهذا مفهوم طالما أن الهيمنة الذكورية تشتغل في صمت. إضافة إلى أن فاطمة المرنيسي تدخل في منطقة «اللامفكر فيه» بالنسبة للنخبة المفكرة المكرسة بالمغرب. وقد جرى، في أكثر من ملف/ مقاربة، تجاوز الهيمنة الذكورية نحو «الاستغراق الذكوري» ذاته؛ ومن ثم النسق الذكوري الجارف والكاسح.
اعتراف متأخر
ليس غريبًا كذلك، وهذه المرة بالوسط الجامعي الأكاديمي، ألا نسمع، حتى الآن، بخصوص أعمال فاطمة المرنيسي، عن أطروحة بالعربية منشورة ولقيت صداها في الإعلام وبين المهتمين والدارسين. الأطروحة الوحيدة (المتكاملة) والمنشورة حول أعمالها هي باللغة الإنجليزية، وهي بعنوان: «النقد النسائي الدنيوي والإسلامي في عمل فاطمة المرنيسي» (2010م) لصاحبتها الباحثة رجاء الرهوني. وقد نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بالمغرب عام 1997م؛ الجدير بالذكر أنها لم تسجل إلا بشق الأنفس. ثم الباحثة الجامعية نزهة جسوس التي سارت في الاتجاه ذاته من خلال بحثها (بالفرنسية؛ هذه المرة) «نسويات فاطمة المرنيسي».
في ملعب اللغة العربية يظل، حتى الآن، كتاب أحمد شراك «الخطاب النسائي في المغرب، نموذج فاطمة المرنيسي» (1990م) الوحيد بوصفه «مراجعة سوسيولوجية» بخصوص منجز مشروع فاطمة المرنيسي. وكان من المحتم أن يتوقف الكتاب عند آخر عمل للمرنيسي وقتذاك؛ وهو «شهرزاد ليست مغربية» (1988م). الكتاب، على الرغم من أهميته، فهو محكوم بـ«خلفية ماركسية» لصاحبه؛ وهو ما جعله -في نظرنا- لا يلتفت إلى إمكانيات «النقد الثقافي» في مشروع فاطمة المرنيسي، بل يتجنى على بعض أهم أفكارها.
نحن بصدد أعمال معدودة جدًّا وبثلاث لغات كما لاحظنا. ولعل في هذا ما يؤكد نوعًا من «الخوف الأكاديمي» من صاحبة «المغرب عبر نسائه». في سياق الخوف ذاته تنعدم الإشارات إلى فاطمة المرنيسي من جانب زملائها السوسيولوجيين والمفكرين في الكتابة أو النقاش والحوار أو السجال… في أثناء حياتها.
إضافة إلى هذا الخوف أو التجاهل نجد الهجمة الشرسة التي استهدفتها في أثناء أوج عطائها داخل المغرب حتى خارجه. فقد مُنِعَت من إلقاء عروضها في ندوات من جانب طالبات هن مجلى للخطاب الإسلاموي المتشدد، بل نُزِعَ الميكروفون منها من جانب متشددين. هذا رغم أنها لم تأخذ بمفهوم «الجندر» كأفق للتحليل وبمترتبات هذا التحليل. الجندر الذي يقترن، في أذهان الخطاب النقيض، بـ«التدمير المقصود» للثقافة العربية برمتها لا الثقافة الذكورية أو «الهيمنة الذكورية» بمفردها. وهذا على الرغم أيضًا من عدم سقوطها في المقاربة الماركسية التي لازمت العديد من المفكرين من أبناء جيلها وما بعد جيلها في السبعينيات بخاصة.
من الجلي أن يكون هذا التلقي من خارج المرجعية الفكرية الإسلامية؛ لذلك وجدنا في المفكر المغربي أحمد الخمليشي أهم سند للمرنيسي، وهو ما جعلها تحرص على ذكر اسمه في مقدمة الترجمة الإنجليزية لـ«الحريم السياسي». والرجل صاحب رؤى تجديدية بخصوص القوامة والولاية في مجال موضوع المرأة في إطار البحث الفقهي والمنظومة الفقهية.
أما إنصافها فأخذت تلوح علاماته في مفتتح القرن الحادي والعشرين نتيجة معطى «النسوية الإسلامية» بمنحاها العالمي الذي أسهمت المرنيسي ذاتها في التدشين لها، وبخاصة من خلال كتابها «الحريم السياسي: النبي والنساء» الذي ظهر أول مرة باللغة الفرنسية عام 1987م. كذلك تراجع اللغات الأحادية وأفول الأيديولوجيا المتخشبة.
وسيتأكد هذا الإنصاف بعد وفاتها من خلال كتب جماعية محكومة، في النظر الأخير، بظرفية الموت وأخلاقيات الاعتراف المتأخر؛ وبالقدر ذاته حاولت التذكير بها ثم تأكيد قيمتها المعرفية والثقافية. وهي إما في شكل تذكار كما في كتاب «شهرزاد المغربية» الذي صدر في البحرين (2016م) لمناسبة أربعينية الراحلة، وقد أسهم فيه باحثون وكُتاب عرب بارزون… أو في شكل أعمال ندوات بجامعات مغربية كما في عنوان: «فاطمة المرنيسي: ملامح من مشروعها الفكري والأدبي» (كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير) (2018م)، وقبلها بعام واحد ندوة «فاطمة المرنيسي: مسار وعطاء»)
على طريق الإنصاف ذاته ثمة البرامج التلفزية (المغربية) التي أخذت تتحدث عن المرنيسي بصفتها من «رواد المغرب». أما تكريمها الحقيقي، في نظرنا، سواء ببلدها أو خارجه، فينبغي أن يكون -أيضًا- عن طريق البحث الأكاديمي المتعمق والنقد المسؤول لا التذكير بها فقط وعلى أهميته. وذلك كله حتى يكتمل إنصافها من جانب باحثين وأكاديميين ونقاد… من غير المقربين منها بالضرورة.
قوانين العقوبات
رباب كمال – باحثة وإذاعية مصرية
أبرز التحديات التي تواجه الباحثة أو الباحث على حد سواء، هي ما يُعرف بقوانين ازدراء الأديان ومفرداتها المبهمة، الموجودة في قوانين العقوبات في البلاد العربية تحت أسماء مختلفة لكنها تحمل المعنى ذاته، فـمجرد التفكير أو إعادة النظر في التراث الإسلامي، وما يتبعه من نقد للأصولية الدينية، هو أمر يضع الباحثين تحت رحمة تلك القوانين. لكن النساء يواجهن تحديات إضافية خاصة في مجتمعات وثقافة اعتادَت الوصمَ المجتمعيَّ للنساء إن سعين لنيل الحد الأدنى من حرياتهن، فما بالنا إن تجرأَت وأشهرَت القلم لتفكك مفردات وأفكار التراث الديني، أو إن سعت من خلال أبحاثها للفصل التشريعي بين القانون والنص الديني، وهو ما تجلى في الآونة الأخيرة بمطالبات لتشريع قانون أحوال شخصية مدني متحرر من سلطة النص.
تجدر الإشارة إلى أن الحراك النسوي قبل فاطمة المرنيسي وبعدها كان يتميز بتماهي الكتابات البحثية في مجال الفكر الديني مع الحراك الحقوقي والنسوي في إطار المجتمع المدني، ونذكر على سبيل المثال في عشرينيات القرن الماضي كتابات منيرة ثابت التي ارتبطت بالمطالبة بالمساواة الجندرية في مجال الحقوق السياسية والأحوال الشخصية، وتطرقت من خلال مجلة الأمل، التي أصدرتها بالعربية والفرنسية، إلى أمور شديدة الجدلية مثل الميراث في الإسلام، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
مر الحراك النسوي منذ فاطمة المرنيسي بعهدين رئيسين؛ أولهما خاص بدور النشر، والآخر مرتبط بثورة التقنية الحديثة، ولم تكن المرأة كاتبة وباحثة فقط في مجال الفكر الديني في العقود الأربعة الماضية، سواء فيما يتعلق بإطاره العام أو في علاقته بفقه المرأة وتشريعاتها وحقوقها المدنية، وإنما أيضًا من خلال عمل النساء في مجال إدارة مشروعات النشر، ولعلنا نذكر هنا السيدة راوية عبدالعظيم مديرة ومؤسسة دار نشر سينا التي تأسست في عام 1985م، وأغلقتها السلطة في نهاية التسعينيات.
لُقبت راوية عبدالعظيم بالناشرة الشجاعة، فقد أفردت المساحة للكُتاب والكاتبات على حد سواء في المجالات الفكرية، ومن بينهم الدكتور نصر حامد أبو زيد، وخليل عبدالكريم، وسلوى بكر. ومع انتشار مساحات النشر الإلكترونية، أُنشئت المنصات الإعلامية الرقمية التي تعاقدت مع كثير من الباحثات اللاتي يكتبن في مجال التراث الديني وأزمة الحريات الدينية والحقوق النسوية وإشكاليات المواطنة المنقوصة، وهذه المنصات هي التي ساعدتني على إصدار خمسة كتب في هذا المجال ما بين مصر وتونس والمغرب، مثل كتاب من «وحي العلمانية»، «دولة الإمام.. متى تخلع مصر عمامة الفقيه؟»، «نساء في عرين الأصولية الإسلامية»، «القوامة الدينية في خطاب السلفية وأثرها في الثقافة الجماهيرية»، وأخيرًا كتاب «النساء والمواريث» الذي يصدر قريبًا مع مجموعة باحثات في تونس تحت إشراف الدكتورة آمال قرامي.
علاقة المرأة بالكتابة في مجال التراث والفكر الديني والفقهي ليست ضعيفة، وهناك منحنى صعود واضح في هذه الآونة، لكن لن أنكر الهيمنة الذكورية في هذا المجال، فالذكورية ليست حكرًا على الأصوليين، وربما نصطدم كثيرًا بالسلطة الأبوية في أروقة الثقافة نفسها، لكن الثورة التقنية حجمت من هذه الهيمنة وفتحت مساحات متعددة لنشر مواد للكاتبات، وأصبح هناك اهتمام كبير بالأقلام النسوية في هذا المجال.
نساء وإشكاليات
بثينة بن حسين – أكاديمية ومؤرخة تونسية
تتمثل أبرز التحديات في تعرض الباحثة في التاريخ الإسلامي للتهميش والتغييب من أصحاب العقليات الذكورية، نساء كُنّ أو رجالًا، وهذا التغييب يعوق الباحثة في المرحلة الأولى من إيصال صوتها والتعريف بأفكارها في العالم العربي، وفي مرحلة ثانية لا تقدر على إبلاغ صوتها للعالم بأسره. لقد حققت المرأة العربية كثيرًا من المنجزات في الكتابة ضد السيطرة الذكورية، وتغييب المرأة في المجال التاريخي والسياسي والفكري، فقد برزت عدة مدارس في الكتابة النسوية في المغرب الأقصى (فاطمة المرنيسي وفاطمة الصديقي)، وفي تونس لعبت المدرسة التونسية المستمدة أفكارها من الطاهر الحداد دورًا مهمًّا كلطيفة لخضر في «امرأة الإجماع»، ورجاء بن سلامة في «بنيان الفحولة»، وسلوى بلحاج صالح في «دثريني يا خديجة»، وبثينة بن حسين في «نساء الخلفاء الأمويين»، كما تلعب المرأة اللبنانية دورًا مهمًّا للنهوض ولتغيير أوضاع المرأة (الطلاق، وقتل النساء، وغيرهما من المشكلات).
علاقة المرأة العربية بالتراث قوية، فالمرأة المثقفة والمؤرخة تكتب في التاريخ، لكن ظهورها الإعلامي ما زال ضعيفًا، وهذا يرجع لاحتكار بعض الرجال من المفكرين المعادين للمرأة للمنصات الإعلامية وطمسهم للوعي التاريخي (أي أنهم يغيبون النساء في كل المحافل الفكرية)، كما أنهم يعتقدون أن كثيرًا من الموضوعات كالتاريخ الإسلامي السياسي والفتنة هي موضوعات رجالية ولا يمكن للنساء الخوض فيها. ومن أبرز المعوقات التي واجهتني في مسيرتي العملية كانت تنمُّر بعضٍ وتهجمهم عليَّ من باب تخويفي من الكتابة التاريخية، وسد الأبواب في وجهي حتى لا أتقدم. لكنني واصلت مسيرتي بالاجتهاد في الكتابة.
جدل النسوية والإسلام
ميسون الدبوبي – باحثة أردنية
بإعادة النظر في التراث العربي وقضاياه نجد أن الصورة النمطية للمرأة في المجتمعات العربية والإسلامية ليست مترسخة فقط ضمن التراث الفقهي الديني، وإنما في الأبنية الثقافية والاجتماعية والسياسية، وهو ما شكل عقبات حقيقية تقف أمام الفكر النسوي الإسلامي في العالم العربي المعاصر؛ بسبب تأثير التراث الفقهي وتأويلاته الذكورية الخاصة بالمرأة، مما انعكس على الأبنية الثقافية والاجتماعية والسياسية نتيجة سيطرة وترسخ السلطة الذكورية في جميع المجالات وتداخلها بعضها مع بعض، سواء الدينية أو الثقافية والاجتماعية والسياسية، وهو الأمر الذي شكل عوائق تقف أمام الجهود الفكرية الخاصة بإعادة النظر في التراث الفقهي.
كما أن الاختلاف والجدال المعرفي حول مفهوم النسوية، من حيث إن الإسلام معتقد ديني والنسوية حركة حقوقية ترفض إقحام الدين فيه، قد شكل جدلًا واسعًا، فالجدلية لم تكن بشأن علاقة المرأة بالفكر وإنما بهوية الفكر الإسلامي النسوي، وتنوع ردود الأفعال ما بين مؤيد يرى أنه يدافع عن فكر إسلامي تنتجه امرأة عربية تدافع عن تمثيلاتها لذاتها، وبين رافض له لكونه تقليدًا غربيًّا، على الرغم من أن الدين الإسلامي متضمن لأسس الحداثة من خلال ارتكازه على فكرة العقل والعقلانية والحرية، ضمن نطاق الدين وقيمه ومبادئه وأخلاقه؛ لأنها تقرر المسؤولية وتتيح الاختيار، وهي أخلاقية لأنها تقوم على أساس حرية البناء وليس على حرية الهدم، كما هي في المفهوم الحداثي الغربي القائم على هدم كل ما هو مقدس.
إلا أن العقلانية العربية أُفرغت من محتواها العقلي من خلال عيشها مع التراث، مُحدِثة بذلك قطيعةً فكرية مع الحداثة والتجديد، ولهذا أصبحت المرأة العربية تعيش في حالة من الازدواجية، تطالب بحقوقها الإسلامية لتأصيل الهوية الذاتية العربية والإسلامية، وفي الوقت نفسه تمارس حقوقها ضمن قوانين وضعية دولية غيبت هويتها الحقيقية، وهو ما جعلها تعيش حالة من التصادمات الثقافية والفكرية على المستوى المجتمعي، ضمن منظومة العادات والتقاليد والتيارات الدينية الرافضة لحقوقها.
ولا شك أن علاقة المرأة بالتراث تتأثر سلبًا أو إيجابًا بحسب طبيعة البيئة الثقافية والدينية والسياسية؛ ذلك أن التعاطي والإنتاج مرتبط بشكل مباشر ورئيس بحسب هذه الأبنية وطبيعتها، فكلما كانت هناك مساحة من الحرية والديمقراطية المتاحة ساعد ذلك على الإنتاج الفكري، وخلافًا لذلك يشكل عائقًا. وبما أن البيئة (الثقافية والدينية والسياسية) هي عوامل تتفاعل فيما بينها لتشكل سلسلة مترابطة تؤثر مجتمعة في علاقة المرأة بالتراث وإنتاجها الفكري؛ لأن هذه العوامل يساند بعضها بعضًا مُشكِّلة ثالوثًا مكونًا من الثقافة والدين والسياسة، والقاعدة الرئيسة المسببة لإفراز هذا الثالوث هو النظام الذكوري، فالتجديد الفكري مرتبط بالمناخ العام، فالمجتمعات العربية هي مجتمعات ذكورية ساهمت في تكريس السيادة للرجل، وقد رافق ذلك إنتاج صور وتمثلات أصبحت راسخة في العقل الجمعي الذكوري، إضافة إلى الوعي الثقافي حيال المرأة، وهو ما ساعد على ترسيخ الدونية للمرأة والسيادة للرجل.
أسماء في كل المجالات
علي حداد – أكاديمي عراقي
حين نقف عند موضوعة التراث العربي الإسلامي والاشتغال عليه قرائيًّا ونقديًّا من جانب المرأة في عصورنا الحديثة تند أسماء نسوية معطاءة قرأت التراث بعمق وروية، ونالت فيه أعلى الشهادات الأكاديمية، حتى أصبحت جهودهن مراجع أساسية في القضايا والمعارف التي تناولنها. نشير هنا على سبيل الاستشهاد إلى جهود الدكتورة عائشة عبدالرحمن التي تخيرت لنفسها وصف «بنت الشاطئ»، وقد تخصصت في دراسة أدب أبي العلاء المعري وكتابه المميز «رسالة الغفران» التي حققتها، وكتبت عنها وعن صاحبها أكثر من كتاب، حتى لا يكاد يدانيها في أهمية ما كتبت أي باحث آخر، وهناك الدكتورة نبيلة عبدالرحمن التي درست التراث العربي، ولا سيما التراث الشعبي الذي تعد كتبها فيه مراجع لا غنى عنها لأي دارس في هذا المجال.
أما الدكتورة عاتكة الخزرجي فكانت أول من نبه إلى الوجهة العاطفية المتميزة في الشعر العباسي حين درست شعر العباس بن الأحنف ونالت به شهادة الدكتوراه من السوربون، لتكون من بين أوائل الحاصلين على تلك الشهادة، ولتنجز بعد ذلك دراساتها المهمة في الشعر العربي خلال العصر العباسي. ويبرز في الدراسات التاريخية ذات البعد الاجتماعي والحضاري اسم الأستاذة نبيلة عبدالمنعم داود التي حققت العشرات من كتب التراث العربي الإسلامي، وألّفت أكثر من ذلك كتبًا وبحوثًا، حتى أصبحت من مشهوري أساتذة التاريخ الإسلامي ومحققي تراثه، ولا يمكن تناسي جهود الأستاذة الدكتورة خديجة الحديثي في دراسة علوم اللغة العربية وتحقيق كثير من مخطوطاتها التي أهّلتها لأنْ تعدّ واحدة من أعلام الدرس النحوي العربي، وتبقى هناك أسماء نسوية كثيرة رسخت وجودها النير في دراسة التراث العربي الإسلامي وتوثيقه.
وإذا ما وضعنا جانبًا المسؤوليات الأسرية وخصوصيات الدور الإنساني الذي يحتكم إليه وجود المرأة العربية أمًّا وزوجة، فضلًا عن المسلك الوظيفي الذي هي فيه، فلا أظن أن هناك صعوبات -تتعلق بطبيعة العمل على تدارس التراث العربي الإسلامي- تعوق المرأة العربية، والأكاديمية خاصة، غير تلك التي تعوق صنوها من الرجال الباحثين، والأمر منوط بالتوافر على الموضوعة التراثية الجديرة بأن تدرس ويعاد إنتاجها معرفيًّا، والوقوف على مصادرها، وبذل الجهد الدؤوب من أجل الوصول إليها، ويسبق ذلك طبعًا قدرات الباحث الشخصية والذهنية ومؤهلاته المعرفية ومقادير محصوله من الاطلاع على التراث الإسلامي، واستيعابه لمنهجيات التدارس الموضوعي للظاهرة التراثية التي يتناولها.
ولعل المدونة المعرفية بما لها من موثوقية تاريخية، وما هي عليه في الراهن الثقافي العربي لا تكاد ترصد من الفعل الإنساني -ذكوريًّا كان أم أنثويًّا- إلا الشواخص المتعينة والوقائع ناصعة الإدلال؛ لأن الأمر لا يتعلق بالنوع الجنسي بقدر تعلقه بقوة الحضور وتميز الفعل الذي تصنعه قدرات لافتة لشخصية قادرة على العطاء، ومواجهة المعوقات من العوامل الشخصية والمجتمعية، ومن خلال ذلك تستطيع المرأة المؤهلة علميًّا وثقافيًّا أن تخترق الهيمنة الذكورية في أي من مجالات العمل والثقافة والجهد المعرفي وتحقق ذاتها، كالذي كان لكثير من الباحثات العربيات في تراثنا ومنهن من ذكرنا من أستاذاتنا خالدات الذكر والعطاء.
أسماء قليلة
فؤاد بن أحمد – أستاذ الفلسفة الإسلامية بالمغرب
أتصور أن المرأة العربية لا بد أن تتحدث بقوة عن جهودها المبذولة في مجال قراءة التراث وإعادة تأويله، أو على الأقل النساء اللائي اشتغلن في هذا المجال. وإذا كان هذا الجهد قياسًا للوضع يعد معتبرًا، لكنه غير كافٍ من وجهة نظري. هناك أسماء مفكرات ودارسات أعدن قراءة التراث وتأويله بما يخدم قضايا المرأة المشروعة في كل الأحوال، لكن هذه الأسماء تظل قليلة. يحضرني مثال فاطمة المرنيسي من المغرب التي اجتهدت أن تنافس على مستوى التراث؛ وقدمت في هذا الباب قراءة ذكية؛ لكنها تبقى قراءة منفردة ولم يعرف التراث انتشار القراءات النسوية.
مجال التراث هو مجال الذكور بامتياز، وأتصور أنه إضافة إلى أن الفضاء حيث يحصل الاشتغال على التراث واقع تحت هيمنة ذكورية، فإن التحديات التي تواجه المرأة في المجتمع هي نفسها التحديات التي تواجهها وهي تحاول أن تجد لها موقعًا داخل الدراسات التراثية. أتصور أن مؤسساتنا غير مؤهلة بما يكفي من أجل تأنيث الفضاء وجعل النساء يمتلكن الحظوظ نفسها التي للرجل. أمام المرأة في هذا الباب تحديات كثيرة ونجاحها في مجتمعها غير مضمون نهائيًّا. خلاف ذلك ما يحصل للمرأة نفسها عندما تشتغل في فضاء جامعي أوربي أو أميركي، حيث كثير من الضمانات متوافرة؛ وأولها تكافؤ الفرص.
في كل الأحوال، لحسم هذه المسألة يكفي تصفح أرشيف الخزانات والمكتبات، ونقارن بين إنتاج النساء وإنتاج الرجال في المجال نفسه. مثلًا: كم عدد النساء اللواتي كتبن عن ابن تيمية أو عن مالك بن أنس مقارنة بالرجال؟ أتصور أن مثل هذا السؤال يسهل إيجاد جواب حاسم له والبت في سؤال عن علاقة المرأة بالتراث. بغض النظر عن الإعلام، المشاركة النسائية في البحث العلمي في التراث ضعيفة جدًّا مقارنة بمشاركة الرجل. وهذا أمر يظل مفهومًا لأن عدد الباحثين الجامعيين من الذكور أكبر من عدد الأستاذات الجامعيات المشتغلات بالبحث العلمي في التراث.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق