كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الطريق الطويل إلى فعل: كتَب
قال لي بنبرة مغتبطة ناصحة: إن الكتابة فن رفيع يحتاج إلى موهبة، وكبت ابتسامة تعد بكلام لاحق: يلزمك ويلزمنا جميعًا تفجير اللغة، ابتكار لغة خالصة متحررة من القواميس. كان شاعرًا بلا قصائد، وناقدًا أدبيًّا بلا نصوص، كوني الثقافة، ولا يعرف إلا لغة عربية منقوصة. وختم كلامه قائلًا: الكتابة ليست مجرد أفكار، إنها لغة. أطلق جملته ونظر في عينيّ طويلًا. ولأن الحريق يأتي من واهن الشرر، فكّرت بما سمعت، ولو بقدر، وسألت نفسي وبلا مقدمات: كيف تعلّمت الكتابة، وهل لها بدء، وكيف تختتم سطرًا أخيرًا، يكتمل أو يظل ناقصًا؟
في أوائل خمسينيات قرن مضى في مدرسة دمشقية محاطة بالأشجار، قريبة من «نهر يزيد»، في مدة تودّع الطفولة وترحّب بالصبا، كان للكتاب مهابة شيخ ستيني رحيم الصوت، يشرح معنى الروح، ويفصّل في الخير والشر، ويصف فضائل المطر، ويمرّ على مأساة فلسطين، ويأخذ شهيقًا طويلًا ليحكي لنا عن: مصارع العشاق. أعرف منتحرين، تبادلوا مع المعشوقة الثاكلة نظرتين وآهات مديدة. كنا تجاوزنا العاشرة بقليل، نوسّع أعمارنا بكلمات مأخوذة من الكتب، كأن يقول التلميذ الذي تشاجر مع غيره: «لا أتنازل عن حقي قِيدَ أُنمُلة»، وأهرع إلى مثال حفظته من كتاب الميداني: «الأمثال». كنا نحاكي لغة غيرنا، ونشعر أننا ازددنا طولًا.
في ذاك الزمن وقف معلّم، ورحل مع العمر الراحل، في «باحة المدرسة»، وأسهب في تعداد فضائل القراءة، وحدّق فينا وتلفّظ بتعبير غريب: «أبطال القلم» ترك في ذهني دهشة واسعة. تساءلت: كيف يكون للقلم بطولة، وهل هناك بطولة من حبر وورق؟ وفي ذاك الزمن، الذي أعقب سقوط فلسطين، كانت صفة البطل شائعة في الكلام، يطلقها على أنفسهم أشخاص لا يشرحون الأسباب، يستعذبون ترديد جملة منقوصة: «جيل القدر»، كنا نستعجل الزمن كي نصبح جديرين بالصفة الغامضة، ونكاثر في جيوبنا الأقلام…
حين سألت المعلّم عن معارك «أبطال القلم» أجاب: «إنهم يا بنيّ قادة الفكر المدافعون عن الحقيقة والفضيلة وسلامة اللغة، وهم الذين يعتبرهم «الآخرون» أبطالًا». لم تكن الحياة قد علّمتني بعد التعامل مع كلمة الحقيقة بصيغة الجمع، ولا النفور من كلمة «الآخرين»، التي تشير إلى مجموعة غير قابلة للتعيين. ترسّبت في ذاكرتي كلمات المعلّم زمنًا طويلًا، وسقط عليها الغبش بعد رحيل الطفولة والصبا. صرت أقول: الطفولة حقبة متسامحة تشهد على زمن مليء بالأسرار وتجمّل الأمكنة. بعد عقود سأبدّل القول: الشيخوخة تساوي بين الأزمنة والأمكنة وتبرهن أن العمر ليلة «كان الصباح لها جبينه».
المعلّم النحيل القامة الذي جمع بين الأقلام والأبطال وانتهى إلى السجن همس في ذهني: سأهبك أكثر من كتاب كي تصبح بطلًا. ابتسم وقال: وَهَبَ أي أعطى بسعادة. كانت الهِبة/ العطاء رواية طه حسين «أديب»، عمله الروائي الأكثر إقناعًا، وآخر لمصطفى لطفي المنفلوطي «في سبيل التاج»، مترجمة بتصرّف عن الفرنسية، ورواية جبران خليل جبران «الأجنحة المتكسّرة»، وأعدادًا من مجلتي «الرسالة» و«الرواية» اللتين كان يشرف عليهما الراحل الكريم أحمد حسن الزيات، ومن مجلة «الثقافة» للمؤرخ الأديب أحمد أمين الذي كتب: «فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام»، و«ظهر الإسلام»، وتوقف قبيل أن يصل إلى «الغروب».
كانت الرسالة مجلة ثقافية متكاملة، ترضي قارئًا يهتم بالنقد الأدبي، فيعثر على سجال طويل حول بدايات «المقامة» في الأدب العربي، ودور ابن دريد في تأسيسها، وآخر يطالب بنقد سينمائي، وثالث حريص على الجمع بين الحداثة والتراث، ورابعًا يقارن بين الأساليب ويرغب أن يكون «قلمًا – بطلًا» يعترف القرّاء ببطولته، التي لا تسيل دمًا ولا تشجّ رأسًا، وتهذّب أرواحًا نظيفة تعتبر التهذيب مدخلًا إلى سلامة المجتمع.
أسماء رائدة في القصة
عرّفتني مجلة الرواية، وأنا أقترب من الثانية عشرة، على أسماء رائدة في القصة القصيرة: غي دو موباسان، أو. هنري، وتشيكوف، ارتحت في ذاك العمر إلى مترجم مسؤول يدعى: محمود الخفيف الذي ترجم رواية سان أوكزوبيري «أرض البشر»، ونشرتها دار الكاتب المصري التي كان يشرف عليها طه حسين. كانت «الرواية» تختم صفحاتها بترجمة متسلسلة لأوديسّة، قام بها دريني خشبة.
حاولت بدوري القصة القصيرة وهربت مني في بداية الطريق. أذكر أنني كتب قصة فاجعة النهاية عنوانها: رجل القطار، ذلك الفقير الذي تسلّل ليلًا إلى قطار مسرح وسقط تحت عرباته. أذكر أنني بدأت من أو. هنري، المأخوذ بالمفارقات الضاحكة، التي مسحت مفارقاتها بدموع المنفلوطي في كتابه «النظرات». خبأت القصة اليتيمة في أحد كتب مكتبة نهبها «أصدقاء الطريق» على حين غفلة.
استمرت مجلة الرسالة ثلاثين عامًا، من بداية ثلاثينيات القرن الماضي إلى بداية ستينياته، كانت واسعة الانتشار، زهيدة الثمن. سألت نفسي مرة: ما مقدار الجهد الجليل الذي صرفه أحمد حسن الزيات في مجلته؟ ماذا تبقى منه وهو قلم – بطل، ماذا تبقى من مجلّته؟ لم أبحث عن جواب، فقد ردّته الأيام إلى تراب، وردّت مجلته إلى أرشيف مغبر أو إلى لا مكان، واحتضنت القبور قراءها أو معظمهم. رغبت في زمن مضى بالتعرف إلى ملامحه، وقعت على ستيني «مُطربَش» نحيف الوجه، إلى جانبه صورة كتاب عن «تاريخ الأدب العربي»، أو عن النحو والبلاغة، لم أتعمّد التدقيق، فما أردت أن أستعلم عنه رحل وأزيحت آثاره.
ذكّرني مآل الرسالة والرواية والثقافة بجملة من إحدى مسرحيات الروماني أونيسكو تكاد تقول: «وهبك الله مكتبة من ألف كتاب، وفي كل كتاب ألف صفحة، وفي كل صفحة ألف سطر، وفي كل سطر ألف كلمة… وغالبًا ما تحترق المكتبات». مكتبات طفولتي عاجلها الانقراض ولحق بها الحريق «في سنوات متأخرة»، بعد أن أضيف إلى المجلات المذكورة واحدة تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر تدعى: مجلة الهلال.
تميّزت الأخيرة عن سابقاتها «بالصور»، سواء أكانت لكتّاب أو لآخرين يكتبون عنهم. صورة أحدهم كانت لشاب كثيف الشعر حجب عينيه بنظارتين سوداوين، حديث الملبس، يدعى: طه حسين، صورته في فرنسا أو بعد أن رجع منها إلى مصر حاملًا صفة: الدكتور، كانت له صور أخرى، شاب أزهري بعمّة وقفطان أو ما يشبههما، أشهرته سيرته الذاتية «الأيام» وشجاعة في الرأي تضع الأهواء جانبًا وتتخذ من العقل مرجعًا ما زلت أذكره، بعد قراءة «الأيام»، طفلًا أطفأ التخلّف نور عينيه، يقف أمام سياج يلاحق صورًا متلاشية سيصرفها ظلم الحياة ويستبقي عتمة خالصة، أو أن أستعيد ملامحه مقهورًا في كُتّاب البلدة مع شيخ يرمي الصبية بحذاء من مسامير وكراهية ولغة زاجرة. سيساوي لاحقًا وقد غدا وزيرًا للتعليم بين المدرسة والماء والهواء، ويحدّد معنى التعليم، فيقول: لا تعليم بلا ديمقراطية، فهو أميّة من نوع مختلف، ولا ديمقراطية بلا تعليم، فهي سخرية من عقول الأبرياء.
صور الأعمى – البصير
دفعتني صور الأعمى – البصير إلى قراءة روايته «أديب» ظهرت عام 1936م، «وهبني» إيّاها معلمي الصالحُ، حيث الأديب كما رآه حسين، حريص على الاتصال بالناس ومقاسمتهم هواجسه وأحاسيسه. فصل بين «الشيخ» والمثقف الحديث، بلغة مجرّدة أولى، أو بين العمامة والطربوش، بلغة وصفية ثانية، فأحدهما مشغول بالفقه والنحو وأصول العلم، وثانيهما ملتفت إلى اللغات القديمة والحديثة وعلم التاريخ والبحث عن «مستقبل البشر» أو «مستقبل الثقافة في مصر»، بلغة أكثر تحديدًا.
لم يكن بين صورتَيِ المنفلوطي وجبران صلة، سوى حضورهما معًا في مجلة الهلال؛ الأول مرتاح الوجه وافر الصحة يرتدي ما يرتديه أعيان الريف من غطاء الرأس ولباس تقليدي أنيق، وثانيهما أوربي اللباس واضح الشاربين تسكن وجهه نظرة متأملة مع مسحة من شجن. قرأت «عَبَرَات» الأول وأدهشني بلغة واضحة الصناعة تعيدنا إلى القاموس غير مرة، كنا نرى فيها دليلًا ومرشدًا إلى البطولة. ما حيّرني، أكان ذلك في «العَبَرَات» أو «النَّظَرَات» جهد الأديب في صناعة الدموع وتلك القسوة الغامضة التي تستدعي اليُتْم والفقر والمرض وتستبقي الموت للحظة قادمة. إنه «تصنيع الحكاية» لجمهور غفير يستعذب المآسي والبلاغة «المؤسية». من الطريف الذي لا طرافة فيه أن المنفلوطي كانت له حياة ميسورة في بيت واسع كأنه قصر جاءه من زواج عطر الراحة وثير الملمس.
كان في أدب جبران ما يهزّ الأرواح الرقيقة، ويمقت طبائع البشر الخانعة المتوارثة. تأتي عنده «الابتسامة» مسبوقة «بدمعة»، وتصفّق أجنحة العشّاق وترتطم بالأرض حال «الأجنحة المتكسّرة»، التي يعطبها أولًا رَجُل دِين فاسد، وتجهز عليها شرور الإنسان. آمن المنفلوطي وجبران بسطوة القدر، أخذ ثانيهما بصدفة لا تنتهي إلى خير، وارتاح الأول إلى حرارة البكاء. وتوازعا أسلوبين لغويين متناقضين؛ آوى أحدهما إلى القديم، واجتهد جبران في أسلوب حداثي كثير الصور.
انشغلنا «بالأفكار» وتركنا طقوس اللغة
كنا نعاين أساليب الأدباء الثلاثة التي تتكئ على اجتهاد متتابع الخطى، تعطيه الثقافة أشكاله المتنوعة، وتترجم علاقة لازمة بين الفكر واللغة. لم نلمس فيها «تفجيرًا» للغة، ولا لغة خالصة تتأذى من حكايات الحياة، ولا ذلك الادّعاء المريض. انشغلنا «بالأفكار» وتركنا طقوس اللغة للآخرين، ورأينا في الأعلام الثلاثة رغم الاختلاف، قادةً للفكر واللغة. عوّضنا عن اجتهادهم بمحاكاة مجتهدة حرّرتنا منها التجربة التي هي حديث يطول عن العمل والإخفاق، واستئناف العمل ومصالحة الممكن.
تأملتُ في كتابة طه حسين أسلوبه المتحوّل الصادر عن ثقافة متعددة الأبعاد أمدّته، في طور من حياته، ببلاغة أزهرية أصلحتها ثقافة فرنسية جديدة الموضوعات، تحتفي بالإقناع ولا توغل في الإبهار. واعتمدت كتابة المنفلوطي على إنشاء عربي قديم ذاتي الطموح، جعله قديمًا ومختلفًا عن القدماء، وترجم جبران ثقافته المتجددة ببيان حديث. أضاءت الأساليب الثلاثة دور الثقافة في بناء الأسلوب، الذي يدور ركيكًا حول ذاته إن اكتفى بثقافة سماعية. فالكتابة من القراءة والكتابة القارئة تعتمد على مقارنة تمايز بين أسلوب وآخر، وموضوع معرفي يملي كتابة تختلف عن أخرى لها أسلوب مغاير. طرحت هذه الأساليب موضوع: الفردية المبدعة، وقلق الوعي الذي لا يختصر الحياة في موضوع وحيد، ويدرك أن الكتابة اعتراف بالذات الكاتبة وحوار مع قرّاء لا يفصلون بين الكتابة والحياة.
كان في النظر المهجوس بالمحاكاة ميل إلى ثبات أسلوبيّ فقير النظر، أملى عليه الوعي الثقافي المتغيّر تبدلًا لا هرب منه؛ إذ لكل موضوع حياتي شكل كتابته، وإذ في الانتقال من اليقين إلى المساءلة دعوة إلى كتابة متحرّرة. أعادت المساءلة الذاتية بصوت مهموس تشكيل أسلوبي بوتائر مختلفة. برهنت الأيام أن الأسلوب من جملة أساليب، ويستمر في التكوّن ولا يصل إلى صيغة أخيرة.
أدركت بعد زمن أن الأسلوب يتكوّن في عمليات الكتابة، وأن من لا أسلوب له لا شخصية له، وأن الكتابة موقعٌ لعملٍ ونظرٍ طويليْنِ، لهما شبه بداية ولا نهاية لهما.
ومع أن الاجتهاد في أسلوب ذاتي اعتراف بذات، لا تريد أن تحاكي أحدًا، فإنّ ذاكرتي القديمة لا تزال تضع أمامي ثلاث صور: طه حسين يقف أمام سياج عماه ويكتب كلمة رائية تقول: لا. تلك الكلمة القصيرة الفاضلة المتأبية التي سيكتب عنها مقالًا متكاملًا بعد عقود. والمنفلوطي «بقُمْبَازه» وعبراته المتواترة ويُبكي الناس بسبب وبلا سبب، وجبران يدعو إلى بدايات ولا يستكملها،…
تجربة في التعلّم وذكرياته، والذكريات انصياع الروح إلى أصوات ينتظرها الأفول
المنشورات ذات الصلة
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
الفلسطيني: صعوبات كتابة سيرة ذاتية
هل يستطيع فلسطيني أن يكتب سيرة ذاتية؟ يبدو السؤال في البداية بسيطًا قوامه ذاكرة قوية أو معطوبة وقدرة على السرد بلغة...
0 تعليق