كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عصام محفوظ في ذكرى رحيله الخامسة عشرة
أيها الجميل ذو العينين الواسعتين.. أين تركت قميصك؟
كانوا، رجال أقوال، رجال معانٍ، رجال عهود، كانوا يضعون نصب أعينهم مقاصد، مقاصد بعيدة، لا يرونها غالبًا، ولكنهم كانوا يغذون السير إليها، حاملين، بأيديهم، على أكتافهم، في رؤوسهم، في قلوبهم، ما يثقل خطاهم، وينبت لهم أجنحة ويطيرهم، في آن.
كانوا، رجال دروب، دروب جديدة، دروب ليس عليها لافتات أو إشارات مرور، ولكنهم كانوا، كلما قطعوا مسافة أو غيروا اتجاهًا، ينصبون لافتاتهم ويضعون إشاراتهم. دروبهم لم تكن دروب من سبقهم؛ لأنهم لم يولدوا ليمضوا خلف أحد! أحدهم عصام محفوظ.
منذ ما يقارب، أو بالتحديد في 26/8/1974م، هكذا أرخت على صفحته الأخيرة، قرأت «الموت الأول» الصادر عام 1973م عن مؤسسة بدران وشركاه، بيروت- لبنان، للشاعر عصام محفوظ. وكتبت تحت التاريخ حينها: «أحببت موته الأول والأخير، ولكني لم أفهم العنوان، إنه لا يشبه صاحبه ولا ما احتوى بداخله»، وبقيت خمسًا وأربعين سنة، كلما عدت، إلى الكتاب، أستغرب عنوانه.
حينًا، كنت أفكر أن، كلمة (الموت)، (الموت) كمفردة، كانت إحدى المفردات الشديدة الدارجة تلك الأيام، وكذلك (الموت) كمعنى، (الموت) كموضوع، كان الأثير لدى شعراء وصفوا بأنهم تموزيون، يؤمنون بفكرة الموت والانبعاث، مثل جبرا إبراهيم جبرا: «تموز في المدينة» 1959م، وتوفيق الصايغ: «من الأعماق صرخت لك: يا موت» 1960م، ورياض نجيب الريس «موت الآخرين» 1962م، وبعدهم بول شاوول «أيها الطاعن في الموت» 1974م، وآخرين، أولئك، رجال الأقوال ذاتهم، رجال الدروب ذاتهم. من مضينا خلفهم، ونحن نسمعهم يغنون: «لم نخلق لنمضي خلف أحد». كتبوا قصائد كثيرة، وكتبًا كثيرة، كان الموت يحتلّ عناوينها، كنت أفكر أن هذا، ربما، ما جعل من «الموت الأول» عنوانًا. وحينًا آخر كنت أفكر، أن عصام محفوظ الذي جمع في كتابه هذا، مختارات من مجموعاته الشعرية الثلاث «أشياء ميتة» إصدار دار مجلة شعر 1956م، «أعشاب الصيف» دار مجلة شعر 1961م، و«السيف وبرج العذراء» دار مجلة شعر أيضًا 1963م، إضافة إلى ديوان كامل لم ينشر سابقًا، كتبت قصائده من عام 1963م إلى عام 1967م، وهو القسم الرابع من الكتاب، عنوانه «الموت الأول»، وقد سمى كل كتابه، بهذا العنوان.
وكان كلا التفكيرين، الظنين، يدعم ويساند الآخر لفهم وقبول العنوان، إلّا أنّني بقيت لا أرتاح له، ربما لكوني لم أحب مفردة الموت يومًا، واستخدامي المتكرر لها، لا يعني العكس، وربما لأنني كنت أشعر، في الوقت نفسه، بأن هناك شيئًا فيه يتخطّى علاقتي بالموت، حبي وكرهي له، كمفردة أو كموضوع، شيئًا لا أراه، ولكنه موجود. غير ظاهر، ولكني أُحسُّه.. يلمسني. الآن وبعد كل هذه السنين، أعود إليه، للمرة التي لا يجدي تعدادها. وفجأة، وبينما كنت لا أفكر في شيء، رأيته، أبصرته، المعنى الذي بكل وضوح كانت تحمله هاتان الكلمتان، هذا المعنى الذي كنت أنظر إليه، العين بالعين، ولا أراه، وها أنذا أفكر، كم كنت غبيًّا؛ لأني احتجت كل هذه السنين لأدركه، هذا المعنى الذي كان يجب علي، منذ البدء، وأنا أعرف أي صنف من الشعراء كان عصام محفوظ. أن، بكل سهولة وبساطة، التقطه.
«الموت الأول» يعني أن عصام محفوظ يعلن موته الشعري. يعني أن شاعرًا يقف في الصف الأول للشعراء الطليعيين العرب، شاعرًا من أربعة أو ستة شعراء يحتلون أهم واجهة شعرية عربية تلك الآونة، أعلن، ليس موته كشاعر فحسب، وهذا لا أظنه بقليل، بل موت الشعر، كل الشعر، وبأنه تحول إلى: «وسيلة أشد تأثيرًا وأشد نجاعة في مواجهة، التفاعل مع، تغيير، واقع»، واقع دفعه مرّة لقول، يبدو الآن في غاية البراءة، إن لم أقل في غاية السذاجة: «من هنا تأكيدي أن الشعراء الحقيقيين في هذه المرحلة هم الشهداء»، ولكن هذا القول أيضًا يحمل معنى آخر، ربما بدوره يتفتح ويتكشف لي الآن، وهو ليس كما فهمت أول الأمر، من السياق الكلام لا من تدرجه، بأنه يجعل الشهداء، شهداء الجسد والدم، هم الشعراء الحقيقيون، بل العكس، أي أن الشعراء الحقيقيين، هم الشهداء، شهداء الكلمة والمعنى.. هكذا يفهم إعلانه موته كشاعر.. استشهاده، ولا أجد في هذا التعبير أي مبالغة، إذا حصرنا الكلام بالشعر الحقيقي والشاعر الحقيقي.
… هكذا كان على عصام محفوظ أن ينتحر! ولكنه كان أيضًا أشد وعيًا وصلابة من أن ينتحر كإنسان، كحياة، فقط انتحر كشاعر، مختارًا حياةً أخرى، ووسيلة أخرى للبقاء والرفض والمواجهة. و«بغية إيصال صوته إلى الغير»، المسرح الذي رأى أنه بوضوحه ومباشرته لا يشكل، كالشعر حصرًا، حاجزًا يمنع رؤية الخنجر الموجه إلى الصدر، بل يجعلنا نراه بشكل أشد جلاء.
هجرة الشعر إلى المسرح
ما يهمني في الكتابة عن عصام محفوظ، ليس ما آلت إليه أفكاره ولا تجربته المسرحية والنقدية، لأنني وبكل بساطة، على الرغم من إعجابي الشديد بقدرته على توجيه مصيره، فلا أوافقه إطلاقًا على ما ذهب إليه. وليس لديّ دليل أفضل على خطل قراره، سوى ما هي عليه مكانة الشعر والشعراء بالمقارنة مع مكانة المسرح والمسرحيين في الواقع العربي اليوم. الواقع المتبدل الذي يفرض تبدله علينا، على حد تعبير عصام، تبديل الوسائل والأدوات؛ ذلك أن هذا الواقع بكل تحديداته قد لفظ المسرح، وبخاصة الجاد منه، إلى أبعد هوامشه وأقلها تأثيرًا. أقول ما يهمني في الكتابة عن عصام محفوظ، ما دفعني، بعد كل هذه السنين، إلى الكتابة عنه، هو شعره، شعره فحسب، هو كونه شاعرًا، شاعرًا حقيقيًّا، وهو الأمر الذي لا يذكره إلا القلة القليلة، حتى من جانب رفاق الطريق، الذين، وهم يستعيدون ذكرياتهم، مرارًا وتكرارًا، نادرًا ما يأتون على ذكره شاعرًا! حتى إني، رغم بحثي الشديد في المواقع الشعرية أو الأدبية أو الثقافية العامة، لم أجد قصيدة واحدة له منشورة في عالم الإنترنت، هذا الذي مجانًا يحتوي على كل شيء! لماذا؟ أنا لا أظن نسيانه سهلًا إلى هذا الحد!
وها أنذا أجد الفرصة لأن أقول، ما رغبت مرارًا أن أقوله عن هذا الكتاب، وعن التجربة الشعرية لعصام محفوظ، أو حتى عن مجموعات هي مفاصل مهمة في تجارب شعراء كبار أمثال بدر شاكر السياب، وتوفيق الصايغ، وجبرا إبراهيم جبرا، أو يوسف الخال، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، أو حتى أدونيس، ومحمد الماغوط، في أنه، مرّة يهولك، الشعر العظيم فيه، ومرّة، تقلّبه بين يديك طويلًا، ولا تجد فيه ما يستدعي التوقف عنده. ثم في مرة ثالثة، تعود وتكتشف أن فيه قصائد كتبت على نحو يخلو من أي نقيصة. وهكذا مرة تحب الكتاب، ومرة، ربما، تكرهه. إلى أن يأتي يوم ما، كما حدث لي هذه المرة، ويتكشف لك الكتاب، وكأنك لم تقرأه من قبلُ. وكأن كل تلك الأحاسيس المتضاربة التي قرأت بها كلماته وسطوره وقصائده، لم تكن لتحط على إحساس شبه أخير مختلف لدرجة أنك نفسك تندهش له!
تصفية حساب نهائية مع التجربة
من مجموعة «أشياء ميتة» 1959م، إلى «الموت الأول» 1973م، مرورًا بـ«أعشاب الصيف» 1961م، و«السيف وبرج العذراء» 1963م، الثلاث الأولى منها إصدار دار مجلة شعر، هناك شاعر حقيقي ذو مسيرة تستحق أن تدرس كنموذج له دلالاته في الشعر العربي المعاصر. فمن الرومانسية الظاهرة شكلًا ومضمونًا في القصائد الأولى، إلى رؤيوية تموزية مشوبة باهتمامات دينية وإنسانية، ومن ثم إلى أفق مفتوح على مضامين متنوعة، غنية، تكاد لا يمكن تأطيرها. مع ما يتطلبه هذا التنوع الغني من أساليب في القول الشعري، هجر بها عصام محفوظ الإيقاع والقافية اللذين بدأ بهما في كتابه الأول، وتابع بتطوير لافت في الأداء، حتى بداية المرحلة الأخيرة، حيث افتتح القسم الرابع من «الموت الأول» بقصيدة من ثلاثة أسطر، ينزع فيها النقطتين من فوق التاء المربوطة، بعنوان «نهاية»:
«نهايتي بارده
مهجورةٌ
مثل بقايا المائده» (ص95).
وكأنه يودّع بها أسلوبه القديم، بشيء غير قليل من الأسى. متجهًا، وعلى نحو لا تردد فيه، إلى نثرية، أدهشني أنها لم تحتج منه، في نتاجه المنشور على الأقل، أي مقدمات تمهيدية للنضوج والخصوصية في آن. ففي قصيدة «تعب في الثاني والثلاثين من كانون» التي تتلو قصيد «النهاية»، ومنذ سطورها الأولى يظهر بوضوح التركيب النثري للكلام، وبخاصة في السطرين الأخيرين من المقطع:
«تركت على بابِكَ كلَّ شيء
جنياتِ الدارِ والمزامير
طائراتٍ ومراكبَ من الورق
تركت على بابِكَ كلَّ شيء
أمس عندما تركتُكَ».
ولكن السؤال: هل صحيح أن نهاية عصام محفوظ، نهايته الشعرية، مهجورة وباردة؟ أم أنه مجرد إحساس شاعري حزين أراد أن يبادرنا بقوله، ليصادر رأينا بما آلت إليه تجربته الشعرية، التي حكم، هو بالذات، عليها بالموت! مبررًا ذلك بظروف عامة لم تدفع بغيره إلى ذات القرار، ولم تمنع من ولادة المزيد من الشعراء؟ هل صحيح أنها مثل بقايا مائدة قام عنها المدعوون، منذ زمن كافٍ لتصير باردة، أم إنها، بالعكس مائدة لا تنضب، مثل الوليمة التي أَوْلَمَ بها السيد، فأكل أربعة آلاف رجل، ومن معهم من النساء والأطفال، حتى شبعوا.. من سبعة أرغفة؟ ولكن «الموت الأول» يدعونا إلى وليمة بأطباق كثيرة، وأحسب أنه نادرًا ما يتوافر لدينا نحن العرب كتاب يقدم، بهذه الطريقة، الحصيلة الإبداعية لأي شاعر عربي.
أمّا «الموت الأول» فليس فقط مختارات قام بها الشاعر نفسه، وأضاف إليها العديد من المقالات النقدية التي كتبت عنه وعن قصائده، بل هو أشبه بتصفية حساب نهائية، على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام في آن، لتجربة شاء صاحبها أن يغلقها تمامًا. إنه كتاب يرينا، كالقصص المصورة، خطوات الشاعر في طريقه إلى الهاوية، هاوية الصمت، ثم إلقائه بنفسه. هكذا وكأنه يقوم بعمل بطولي، في حضن هذه الهاوية العميقة لدرجة لا يسمع بها صوت ارتطام في القاع. هذه الخطوات التي أستطيع أن أراها تمضي في بادئ الأمر، صعودًا حتى القمة، ثم لا أدري ماذا رأى الشاعر من عليائه. أو لأقل: لا أدري ماذا كان يتوقع أن يرى، فنظر وحدّق ولم يجده.
فما كان منه إلا أن ألقى بحمولته من هذه القمة وهبط. وفي نيته أن يصعد إلى قمة أخرى لاحت له. ولكن بعيدًا من هذه التلميحات والتشبيهات، بعيدًا من كل هذه العموميات والأحكام، السؤال هو: «إلامَ انتهت تجربة عصام محفوظ الشعرية؟ هل ما كتبه في «الموت الأول» يقدم الدليل على شعرية حقيقية؟ شعرية استطاعت الوقوف، جنبًا إلى جنب، مع شعرية يوسف الخال، وأدونيس، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، متساوية القامة معهم، ومتفردة وخاصة مثلما هم متفردون وخاصون؟ الجواب: لا ريب… نعم.
وهذا ما دفع عباس بيضون إلى أن يقول لشاعر شاب قدم له دراسة عن الجسد في الشعر اللبناني: «أين عصام محفوظ؟ كيف تكتب عن الشعر اللبناني ولا تذكر شاعرًا بقامة عصام محفوظ؟» إلا أنه كان للشاعر الشاب وجهة نظر أخرى، وهي أن استمرار أي شاعر في الوجود في الساحة الشعرية، يقتضي منه متابعة كتابة الشعر، ومتابعة نشر قصائده، وإصدار مجموعة شعرية، كل عدد من السنين. فتعيد أعماله الجديدة ذكره، وتزيد من الاهتمام به. وكان عصام محفوظ وقتها قد توقف عن كتابة الشعر منذ ما يقارب أربعة عقود. أي ربما قبل أن يولد هذا الشاب ومعه جيل كامل أو جيلان من الشعراء الجدد. أي أن عصام محفوظ ما عاد شاعرًا حاضرًا، وأن شعره، نتيجة حتمية التغير والتطور، بات قديمًا و… ميّتًا.
الإبداع لا يموت
قلت هذه وجهة نظر الشاعر الشاب ذاك، وأزيد وأقول: إنها ربما وجهة نظر السوق الأدبية عامة؛ إلا أنه لم يكن صحيحًا البارحة، وليس صحيحًا اليوم، ولن يكون صحيحًا غدًا، أن الزمن بكل أسلحته قادر على محو، قتل، إبادة، الشعر. وليس قهر الزمن حكرًا على الفن فقط، بل حتى في المجالات والحقول التي يرى بعضٌ أن جديدها يقتل قديمها، وينهال عليه بتراب الماضي. ففي حقول الفلسفة والرياضيات والعلوم الطبيعية، حتى في الجغرافيا؛ كل خطوة، كل درجة، كل حلقة، كانت حاجة وضرورة. حتى الخطوات الخاطئة، والدرجات المكسورة، والحلقات المفقودة، كان لا بد منها لمعرفة الصواب والحقيقة، وكان لا بد منها للتقدم. فما بالك في الشعر، وفي الرسم، والمسرح، في الفن الذي لا يفرق بين الخطأ والصواب، بين الحاجة والشهوة، الفن الذي لا يعترف بتأخر أو بتقدم. مَنْ يعرف الكثير مِنْ فلاسفته، لا يتوسل فكرة التطور؛ لأنه في جوهره لا يعترف بالزمن، لا يعترف بذلك التسلسل الوهمي من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
الفن في جوهره الأعمق، في حقيقته العليا، يريد ويفعل كل شيء لأن يكون خارج هذه الدائرة المغلقة، التي لا تنفك تلف، تدور، كدولاب المطحنة، جاعلة كلّ شيء طحينًا. هذا الجهد المشتعل بالرغبة والتوق الذي بدأه البشر منذ أن وجدوا، منذ بدايتهم كبشر، فردًا فردًا، جماعةً جماعةً، حضارة حضارة، للتغلب على الزمن وقهره، وللتغلب على الموت، والبقاء في ذاكرة من سيأتي بعدهم. أي في حياة، في روح، من سيأتي بعدهم. وإذا كان هناك نتاجات أدبية، ولم يجد فيها البشر ما يبقيها حية وخالدة في ذاكرتهم وفي وجدانهم، فرموها، أو أضاعوها، فالسبب أنها في الأصل لم تكن فنًّا، لم تكن إبداعًا، لم تكن خطوة، حلقة. الحقيقة التي أرى أن كل شيء يخضع لها، هي أن الإبداع لا يموت.
تعب في الثاني والثلاثين من كانون
فلنعد، مرة أخرى إلى بيت القصيد، إلى موت عصام محفوظ الأول، وإلى السؤال: هل هو حقًّا موت؟ أم هو موت حي لا يموت؟ من دون اعتذار لكثرة استخدامي هذه الكلمات الإنشائية والصفات الثقيلة؛ لأن عصام محفوظ، من يدفعني إليها! هو المتواري خلف ظهرانينا، متظاهرًا بأنه لا يعرف ماذا فعل؟ ولنعد أيضًا إلى قصيدة «تعب في الثاني والثلاثين من كانون» (ص 97) مبتدئين بنهاية المقطع الأول منها:
«تركت على بابِكَ كلَّ شيء
أمس عندما تركتُكَ». (ص99).
حيث يبادرنا الشاعر، كما ذكرت سابقًا، بكلام يخلو من أي افتعال أو تزويق في اللغة، لا في الكلمات ولا في التركيب، ليقدم لنا بكلام شبه تقريري، معنى عميقًا على الصُّعُد كافة، الشخصي منها والعام، الشعوري والفكري؛ لأنه، كيف يترك المرء كل شيء حين يترك أحدًا؟ مَنْ هذا الذي يترك المرء كل شيء على بابه إذا تركه؟ ثم ماذا يفعل تارك كل شيء بعد ذلك؟ إلى أين يمضي؟
«كلَّما توغلت
لمحتُ ظلَّكَ ورائي» (ص100).
فعلى الرغم من تركه له بالأمس، وتركه كل شيء على بابه، فإنه يلحق به، كلّما توغّل، ليس بعظمه ولحمه، لأنه ربما ليس من عظم ولحم، بل بظله! فيصير ظلُّ التارك ظلَّ المتروك، أو ربما يصير التارك هو المتروك نفسه!
ولأخطو الآن إلى بداية الفقرة الثالثة من القصيدة:
«ثِمارُ الشتاءِ والصيفِ بينَ عَيني
الشمسُ والخريفُ بينَ عَيني» (ص 100).
كلام كهذا، بالتأكيد، ليس قابلًا لا للتحليل ولا للتحلُّل! عصيّ إلا على الشعور. وإذا أردت الكتابة عنه، فأنا لا أقوم إلّا بوصفه وطرح الأسئلة حوله. فثمار الشتاء والصيف ليس بين يديه، بل بين عينيه! وكذلك الشمس والخريف، مبدلًا الربيع بالشمس بين عينيه والخريف أيضًا، ثم يتابع:
«وذهبُ العالمِ كلُّه
وأنا وأنت» (ص 100).
من دون أن يضطره شيء لاستخدام أي فعل، أو ضمير منفصل، ليقيم بينها الرباطات اللازمة، أو التي يخيل لنا أنها لازمة، إلا أنه من دونها نجد النص يزيد من ترابطه حتى كأنه يلتحم، كأوصال جسم، كلحم. أما في الفقرة التالية، فهو يحدد ما يفرق وما يجمع (أنا) و(أنت):
«بيني وبينَكَ علامة
مسرحٌ مُتنقِّل
سيفٌ من فِضَّة
غرابٌ ضائع» (ص 101).
يبدو جليًّا هنا قدرة صاحب هذا الكلام على أن يحضر من خزانته ما ليس مطروحًا في الطريق، حسب مقولة الجاحظ الشهيرة، وملقى به بين أيدي الناس أجمعين. وقدرته أيضًا على إثارة الدهشة عند قارئه، بطزاجة وطرافة إحضاراته. فالعلامة الأولى: «مسرح متنقل» مع غرابة ذلك وغناه، تبعه بشيء لا ندري من أين جاء به، ربما من ذكرى خاصة: «سيف من فضّة»، بالتأكيد لا يصلح كسلاح. ثم يحطّ على النص، من حيث لا يتوقع أحد، أكثر ما أحببته في النص: «غراب ضائع»!
أما في المقطع الخامس، فهو بدوره يبدؤه بجملة تقريرية، إخبارية، لكنها بالتأكيد تقبض على ما هو جوهري في كلِّ فن، ألا وهو المعنى الشعري:
«أحباؤك كثر ولا يعرفونني» (ص 101).
إنه يقول لنا: إن أحباء (أنت) كثر، لكنه غريب عنهم، ولا يعرفونه، بل ربما ينكرونه أيضًا، بينما:
«وأنا أرى وأنسى» (ص 101).
تتوالى على مدى القصيدة لغة مشغولة بحرص زائد على أدواتها ودلالاتها، متقشفة للحد الأقصى، متعففة عن كل زركشة وافتعال، إلا أنها وفي الوقت ذاته تعمل بكل أدوات الشعر الحقيقية لتصوغ معانيها القريبة منها والنائية:
«عندما أضع يدي
على يدي
على يدي
وعندما أغرقُ في المرآة
أراكَ.
/
عندما يمسكني الغناء
أحسُّ لهاثَك.
/
أسابقُكَ مع الداخلين
أسابقُكَ مع الخارجين
…
أخونكَ في الساحاتِ
في المقاهي
في الدكاكين والأسواق
مع الناس ومن دون الناس
مقابل شيءٍ مقابل لا شيء
فتغفر لي» (ص 102-106).
تنتهي القصيدة بإشارة إلى طرف إصبعكَ المقدسة. إنها إذن عن ذلك الذي لا يحتاج لأكثر من طرف إصبعه ليقوم بأي شيء! طرف الإصبع المقدسة ذاتها التي لمس (أنت) بها (أنا) في لوحة مايكل أنغلو (خلق آدم 1508 -1512م) المرسومة على سقف كنيسة سيستين.
الزمانان الضائعان
القصيدة الثانية من الموت الأول عنوانها: «التفتيش عن الزمن الضائع» (ص 109)، الذي لا يمكن إلا وأن يذكرنا بعنوان رواية مارسيل بروست الشهيرة «البحث عن الزمن الضائع»، وهي مثلها مقسمة إلى سبعة مقاطع. إلا أنه إذا تخطينا قصيدة «فاصل احتفالي»، فإننا سنعود إليها بعد إضافة كلمة واحدة إلى العنوان «العودة إلى التفتيش عن الزمن الضائع»، ولكنها هذه المرة من خمسة مقاطع، رقّم أولها (IIX)، فتبدو كأنها منتقاة من بين مقاطع أكثر عددًا من كلتا القصيدتين، أرى أن عصام محفوظ يبلغ بها مداه الأبعد في الاختلاف والتميز عن تلك الكوكبة التي ينتمي شعره إليها. خالصًا، باستيعابه الجلي لإنجازات الشعر العربي الحديث حتى ذلك التاريخ، وأخص بالذكر شعراء مثل أدونيس (أغاني مهيار الدمشقي 1961م)، وتوفيق الصايغ (معلقة توفيق الصايغ 1963م)، وجبرا إبراهيم جبرا (المدار المغلق 1964م)، ولا بد أن نذكر اسم أنسي الحاج (ماضي الأيام الآتية 1965م)، إلى صياغة شعرية، بمقدار ما هي خلاصة عامة لتلك الإنجازات، بقدر ما هي خلاصة شديدة الخصوصية به. ومرّة ثانية، سأقوم بإثبات ذلك بعيّنات متسلسلة من هاتين القصيدتين.
* * *
«أنام
أتألق
في ذاكرتي بقيةُ صيف أخير
دموعٌ متساقطةٌ وتمتمات
أستطيعُ موازاةَ أظافري بحدودِ جبلِ الموت
أسمع أيضًا الصوت
يشق الطريق عبر أغصانِ الصفصافِ المائل» (ص 112).
أول ما يمكن ملاحظته، كيف أنه يقوم بتراكم نوعي لا كمي في الصورة، فهو لا يقول: «أنام… أفيق» أو «أنام.. أموت»، بل «أنام.. أتألق» تألق الدموع المتساقطة في ذاكرة صيف أخير. فيصير باستطاعته، حينها، موازاة أظافره بحدود جبل الموت! الصورة الغريبة التي توحي لنا أنه في حلم، تتبعها صورة حلمية أخرى، سماعه صوتًا يشقُّ الطريقَ عبرَ أغصانِ الصفصاف المائل!
* * *
«منسيَّةٌ كرمة الأحاسيس
منطفئةٌ على الماء
لكن من الجالسُ بجانبي
العين المهجورة مفتوحةٌ على الدهاليز
لكن لمن تلك العين
…
حيث الكلسُ المتفتِّتُ يرسمُ في الجدران
رؤوسًا بشريةً
مشدودة الشعرِ بمجاذيفَ ومراكب مقلوبة» (ص 115-116)
فبعد أن يخبرنا أنهم «حوشوا الكروم كلها» (ص 114)، يستدرك «كرمة الأحاسيس المنطفئة على المياه» التي لم ينتبه لها أحد، فنسوها وتركوها. ولا أدري هنا، إن كان يقول هذا تحسّرًا عليها، أم إنه مغبوط بعدم حواشهم لها؟ أولئك الذين حوشوا البلاد كلها، بلحمها وعظمها، وأحلامها وكوابيسها، فينتبه إلى أن أحدًا، لا يدري من؟ يجلس بجانبه، على طرف سريره، والعين (عين الماء) المهجورة مفتوحة، لا على البساتين والحقول، بل على الدهاليز! ليعيدنا مرة ثانية إلى لوحة أخرى لمايكل أنغلو «الحساب الأخير» حيث كلس الجدران قد رسم بتفتته رؤوسًا بشرية مشدودة الشعر بمجاذيف ومراكب مقلوبة.
* * *
«الطائر يمرُّ
فوق أزهار المتعةِ الجافة
وأنا أجمعُ الأمورَ السالفةَ في المرآة
…
لا ألمحُ أنفَكَ المُضيء» (ص 118).
لا أعتقد أن شعرًا كهذا من الممكن أن يُتَخَطَّى من أي جهة، وبأي طريقة، لا بل أظنه بذلك الجمع للمعاني والأحاسيس، للصور والمشاهد، يقدم نموذجًا لأسلوب يكاد أن يخلو من أي نقص يفسده. وذلك حتى في استخدام أشد أدوات الشعر صعوبة، ولنأخذ مثلًا في متناول اليد على استخدام الصفة، التي كان جبرا إبراهيم جبرا كناقد يشدد على تجنبها ما أمكن في الشعر الحديث: «أزهار المتعةِ الجافة» (ص 117). فهو أولًا ينبتُ للمتعة أزهارًا وهي استعارة حسية واضحة، ثم يُطلِق صفة (جافة)، فلا نعرف ما إذا كان يقصد، الأزهار؟ أم المتعة؟ ولكنه، بكلا الاحتمالين، يحافظ على طبيعة الأشياء بكون الأزهار تجف، وعلى طبيعة الأحاسيس، بكون المتعة أيضًا قابلة للجفاف. أما صفة (السالفة) فهي صفة نوعية أخرى، أي أنه ليس سواء أن يأتي الكلام بها أو بدونها، أو أن حذفها يريح النص ويحسنه. بل هي هنا، رغم غرابة صورة جمع الأمور في المرآة، أقرب ما تكون إلى الكلمة السديدة التي يتكلم عنها تي. إس. إليوت. ثم وعلى نحو ثالث تأتي صفة (المضيء)، وهي هذه المرة صفة مشهدية، بصرية، ولكنها أيضًا انتقائية! ففي عتمة حجرة الاعتراف، لا يفتقد الخاطئ المعترف بذنبه، لمعة عين الكاهن ولا فمه، بل لمعة أنفه.
* * *
«لم تترك الريح حصى على الممرات
…
أيْ مليكي
كلُّ الثواني تدلت أجراسًا
النجمةُ تتأرجحُ على رؤوسِ الملوكِ الثلاثة
مُحمَّلينَ بالمرِّ واللبان
للطفلِ الميِّتِ في المذود
…
الأمُّ التي لا تظهر
تبكي بلا نشيج» (ص 122).
وكأن الشاعر هنا يطيل النظر في صورة ما، لمنظر ما، فيرى أن الريح قد أخذت، ليس الأوراق والتراب، بل حتى الحصى التي كانت على الممرات. ما يأتي بعد هذا يعلمنا أن الصورة التي يحدق بها الشاعر، هي مشهد قدوم ملوك المجوس الثلاثة مستدلين بنجمة بيت لحم إلى المغارة التي ولد فيها السيد المسيح!
* * *
«الرجلُ المقبلُ عبر غمامتين
يدندنُ النشيدَ العسكري!» (ص 123)
نستطيع أن نعُدّ هذين السطرين من المقطع السادس، دليلًا على ذكره المخرج جلال خوري، بأن العسكر هو دائمًا المستهدفون في أعمال عصام محفوظ. ولكنه هنا، ببساطة يبين لنا خيبته بمجيء المخلص! حيث إن الرجل المقبل عبر غمامتين، يدندن، بكل بلادة، نشيدًا عسكريًّا!
* * *
«الظلُّ يضمحل
يلتصقُ بمملكةِ الأشياء الأليفة
…
قلبي يقطر بالمر
وأنا وأنت
نستعيدُ الصلواتِ الأولى
وبقية الأشكالِ المترائية من بابٍ نصفِ مفتوح
نمزجُ كلَّ آتٍ بعسلِ العينِ المُطبقة
…
أي مليكي
أتبعكَ بين الأوراق المتساقطة
تحت سماء الأشياء الغامضة
والمزق الململمة
…
لكن أين أنت
..
تقذفني إذن بالمجمرة
وبقية الرماد» (ص 126).
وكأن هذا المقطع، مجزوء، أو متمم لقصيدة «تعب في الثاني والثلاثين من كانون»، يعود به الشاعر إلى مخاطبة (أنتَ)، متابعًا مزجه للذهني والحسي في كأس واحدة، أو لأقل شبكه البصري والمعنوي في ضفيرة واحدة! ففي «بقية الأشكالِ المترائية من بابٍ نصفِ مفتوح – نمزجُ كلَّ آتٍ بعسلِ العينِ المُطبقة»، ومن حيث لا ينتبه له إلا ذو العين المحدقة بالكلمات، يتبادل الباب وضعية المطبق مع العين نصف المفتوحة! وذلك ليكون من الممكن مزج كل ما هو آت، المرّ الذي يقطر من قلبه، بعسل هذه العين. فماذا يكون جواب (أنت) على هذه الصلوات غير أن يقذفه بالمجمرة!
لكن ما لا يجب غض النظر عنه، وكأنه كان تبشيرًا بالقطيعة التي قام بها عصام محفوظ للشعر ولجوئه لخشبة المسرح كخشبة خلاص، أنه في القصيدتين اللتين لم آت على ذكرهما في «الموت الأول»، إلا عرضًا: الأولى: «الفاصل الاحتفالي»، والثانية والأخيرة من الكتاب: (القصيدة ذات الصوتين)، هو استخدام عصام محفوظ الباكر للحوار فيهما. بين الولد والأهل في الأولى (الفاصل…)، حيث لا يجد الأهل المتعطشون للدماء ما يردّدونه سوى جملة «نريد ذبيحة»:
«الولد:
لأجلِ ألا يموت الموت
وتظلّ الكلماتُ ستارًا ومعجزة.
الأهل:
نريد ذبيحة» (ص 133).
وبين الصوتين في القصيدة الثانية، حيث بدوره يردّد الصوت الثاني دائمًا، وعلى نحو تصاعدي: «أسرع.. أسرع أسرع.. أسرع أسرع أسرع» مسبوقة أحيانًا بملاحظة مقتضبة عمّا يقوله الصوت الأول! وهو يتنقل من صورة إلى أخرى ومن معنى إلى آخر. فإذا رغبنا في حذف تدخلات الصوت الثاني وأوامره بالإسراع من سياق القصيدة الراكض المقذوف إلى الموت، لصار لدينا:
«مفتوحة الرحم تنتظرُ في جوارِ الأبدية
ضفيرتاها صراخُ البراكين
مقاعدُ مقتلعةٌ
وحزنٌ أبيضُ كالليل
آه..
عندما أخرجتُها من ضلعي ذلكَ النهار
جبلتُها بيديّ
جعلتُ فمَها أعجوبة
كنا نصطلي
الأيامُ ممدَّدةٌ إلى جانبي
وأنا أغذُّ السيرَ
بعينينِ نصفِ مغمضتين
الأرضُ متروكةٌ للذئاب
كنتُ أمضغُها
أهيئها لزمنِ الغفران
طرفُ اسمِها عالقٌ بأسناني
واسمي مقوسٌ على فخذِها
فككتُ اسمَها
ربطتُ بهِ جسدي
ربطتُ بهِ الكواكب
قويٌّ على ذهبِ العالمِ كلِّه
العالمُ ذو الحراشفِ
الذي ينزلقُ من
أصابعي» (ص 155- 159).
وأحسب أن فكَّ أسرار هذه القصيدة، هو أفضل ما يمكن أن أختم به قراءتي المتأخرة لذلك الموت.. الحي، الذي كأنني سمعته، وأنا بين اليقظة والنوم، في نشرة الأخبار الصباحية هذا اليوم.
اللاذقية 2006 – 2021م
المنشورات ذات الصلة
«غرافيتي» على جدران الفناء
لكل فعل رد فعل، ولكل نظرية إثبات، نظرية نفي، ولكل ثقافة هنالك ثقافة مضادة. هذا يعني أن لكل شيء هنالك «اللاشيء» الذي...
كيف شَكَّلَ الحرير والنسيج تاريخ البشرية؟
يقول بعضٌ: إن التاريخ بدأ بالكتابة، غير أننا نقول: إن التاريخ بدأ باللباس. في البداية، كانت هناك ملابس مصنوعة من...
الحياة الأدبية للأشياء
يجيز مثل هذا العنوان الانطلاق من السؤال التالي: كيف تكف الأشياءُ عن أن تكون مجرد موجودات؟ ونستقي الإجابة عنه من ميريام...
0 تعليق