كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
موليم العروسي: إذا لم تكن الجامعة هي المحرك للإبداع الفلسفي، فأين سنحصل عليه؟
يُعَدّ المُفكر المغربي موليم العروسي في طليعة المُفكرين العرب، الذين زاوجوا في مشروعهم الفكري بين الكتابة النظرية المجردة وبين التخييل الإبداعي من خلال جنس الرواية، وإن كان العروسي في التجارب الفكرية أقل ظهورًا داخل الإعلام بالعالم العربي، فهذا أمرٌ يعود في الأساس إلى المجال الفلسفي الذي يُفكر فيه ويبحث ويكتب ويحاضر، والمُتمثل في موضوع الفن، بوصفه مفهومًا مركبًا يجمع في طياته العديد من المعارف والعلوم.
ففي الوقت، الذي تظل فيه المختبرات الفلسفية العربية تعيش وهمًا تاريخيًّا مُتمركزًا حول مفاهيم العروبة والفكر العربي والخطاب الديني وغيرها من الموضوعات، التي يرى العروسي أنها تقف في حدود القرن التاسع عشر، يطيب لموليم العروسي الإقامة في تخوم فكر ما بعد الحداثة، بوصفها مرحلة فكرية لاحقة عن الحداثة. ولأن العروسي أكثر المُفكرين العرب اهتمامًا بالفن وقضاياه المُتشعبة في علاقاته بالسياسة والجسد والأدب والفضاء العمومي، فقد كانت كتاباته منذ نهاية السبعينيات تُمثل مُختبرًا حقيقيًّا لبلورة خطاب فلسفي حول الصورة وتمثلاتها داخل مجال الفنون البصرية.
هذا الأمر، ساهم في تكريس العروسي في كونه مفكرًا وأكاديميًّا وباحثًا في الجماليات المعاصرة، إلا أن التفكير في علم الجمال، لم يجعل العروسي يتقوقع في خطابه الفكري، بقدر ما شكل علم الجمال الشرارة الأولى للتوغل في قضايا ظلت تعيش ضربًا من اللامُفكر فيه داخل المجال الفلسفي، مثل: الصورة والجسد والقلق والفضاء والموسيقا والثقافة الشعبية، وهي موضوعات منسية داخل الفكر العربي المعاصر، وبخاصة أن المختبرات الفلسفية تَعُدّ قضايا الفن وتاريخه ضمن حقل الأدب وليس الفلسفة أو التاريخ، حيث إن ما قام به العروسي داخل الثقافة المغربية، هو تفجير مكامن الوهم فيما نعُدّه حقيقة من خلال البحث في مكبوت النص الأدبي والموسيقي والتشكيلي، وجعل هذه المجالات المُكونة لتاريخ الثقافة المغربية تطفح إلى السطح وتزيح مفاهيم المركزية التاريخية التي ظل عبدالله العروي يُدافع عنها.
صدر لموليم العروسي دراسات فكرية وأعمال أدبية عدة باللغتين العربية والفرنسية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «ملائكة السراب»، و«قناديل الليالي العشر»، و«مدارج الليلة الموعودة»، و«فنانو دكالة: هبة الأرض»، و«الهوية والحداثة في الفن المغربي»، و«الفضاء والجسد»، و«إستطيقا وفن إسلامي».
«الفيصل» التقت المُفكر موليم العروسي وحاورته حول اهتماماته وعدد من القضايا:
● أنت من المفكرين العرب الذين استطاعوا في مسارهم الفكري المزج بين الكتابة الفكرية المجردة والإبداع الأدبي في جنس الرواية، لكن المُلاحظ، هو أن هذه الكتابة الروائية سرعان ما تتحول إلى ممارسة فكرية وتعود إلى منطلقها الأول وأعني الفلسفة.. كيف يُمكن في اعتقادك أن يغدو الأدب عبارة عن ممارسة فلسفية؟
■ يجب أن نعرف أن الأمر لا يختلف بين الفلسفة والكتابة، ثمة خطأ شائع مفاده أن الفلسفة هي المفاهيم، وينسى العدد الكبير من الناس أن النصوص التي وصلتنا من التاريخ، مثل النصوص الإغريقية، لو تأملناها جيدًا، فسوف نكتشف أدبًا. أفلاطون كتب فلسفته في محاورات لُعِبت أغلبها على خشبات المسارح، والفلاسفة الأوائل -مَنْ يطلق عليهم ما قبل سقراطيين- صاغوا فلسفاتهم في قوالب شعرية. أضف إلى ذلك أن غالبية المفاهيم الفلسفية والنفسية صيغت انطلاقًا من أعمال أدبية أو فنية خالدة؛ من ذلك عقدة أوديب أو السادية أو المازوخية، أو غيرها من المفاهيم التي لها اليوم موقع مهم في تفكير الإنسانية، وكذلك الأمر لأعمال شعرية أو موسيقية أو تشكيلية.
الأمر ليس غريبًا؛ إذ إن العمل الروائي أو الشعري يشتغل على مستويات عدة؛ أهمها التساؤل حول الوجود بما هو كذلك ومحاولة الغوص في النفس البشرية للعثور على أجوبة للأسئلة القلقة، وتأمل الكون والحياة لفك رموزها بغية الوصول إلى معنى ما للوجود. ما الذي تفعله الفلسفة والعلم والتقنية والطب؟ كلها تبحث عن الأشياء نفسها وإن كان كلٌّ بمقدار، لكن الفلسفة والأدب أقرب بعضهما إلى بعض أو قل هما وجهان لعملة واحدة لأنهما يشتغلان على المادة ذاتها؛ اللغة.
لذا أجبت عن هذا السؤال في السابق بالقول: «أنا حكواتي في الفلسفة، وفيلسوف في الإبداع».
● لماذا في نظرك ظلت العلاقة بين الفلسفة والأدب عربيًّا يطبعها الكثير من الالتباس وسوء الفهم على مستوى تطويع العلاقة المعرفية داخل النصوص المكتوبة فكرًا وأدبًا؟
■ ربما لا يعرف الكثير أن أول النصوص الفلسفية العربية (أي تلك التي تعتمد على السؤال الإغريقي) هي لفيلسوف عربي خالص هو الكِنْدي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، من قبيلة كندة الشهيرة، ويسود الاعتقاد أنه مترجم أو ناقل إلى العربية كتاب التاسوعات لأفلوطين الذي نسبه من طريق الخطأ أو عنوة إلى أرسطو، ويكفي تأمل لغة الكندي لمعرفة مدى ارتباط الأدب بالفلسفة. أظن أن تحول الفلسفة إلى خارج الذات ومحاولة إبعادها من التفكير في المصير هو الذي جعل العرب يسجنونها في قفص الأداة التي تستعمل للمنطق أو للتدريس فقط على شاكلة الفقهيات العديدة التي تدرس في الجامعات بالوطن العربي؛ إذ كُلّما حَوّلتَ الفكرَ إلى أداة دون الانخراط روحيًّا وجسديًّا فيه، أَبعدتَه منك، وحنطته ليستحيل بعد ذلك إلى فقه وقواعد تتردد من دون إبداع أو تجديد.
هذا ما حدث للفلسفة مبكرًا في العالم العربي والإسلامي، لقد حاربها الفقه، ومن باب المفارقات لقد تسلح بالفلسفة لمناهضة الفلاسفة، ولنا في كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» خير مثال، وما كان للغزالي أن يصول ويجول ويعد بديهياته مبنية على منطق العقل لو لم يكن مسنودًا من الفقهاء الذين كانوا اليد الطولى للسلطة السياسية في ميدان تدبير عقول الناس وسجنها داخل أقفاص عقدية ما زلنا نرددها إلى اليوم. الخوف من الإبداع ومن الأدب على وجه الخصوص هو الخوف من الحرية التي يمنحها هذا الفضاء، فضاء الرواية، فضاء الشعر، فضاء التشكيل والسينما، وكلما تقلص الخيال استطاع الفقيه أن يضع حدودًا للفكر بوضعه في خانة الخطأ والصواب، وسهلت مهمته.
الخروج يقتضي الانتهاء من اجترار المتون
● لعبت بعض المختبرات العلمية دورًا سيئًا في تكريس نوع من المعرفة الفلسفية، التي باتت مضامينها وكأنها تنتمي إلى فُلكلور عتيق يقف في حدود القرن التاسع عشر، وهو ما أنتج خطابًا فلسفيًّا إنشاديًّا لا يُساير التحولات المفاهيمية والفكرية التي ألمت بالاجتماع العربي.. كيف يمكن الخروج من شرنقة الخطابات التي تعمل على قوقعة الفلسفة داخل الخطاب الديني على حساب الخطاب الجمالي مثلًا؟
■ الخروج يقتضي الانتهاء من اجترار المتون، لو انتبهت لعدد الأطروحات التي يحصل بموجبها الطلبة على دكتوراه تمنحهم مرتبة الأستاذية لَرأيت أنها تدور حول نغمة واحدة: مفهوم معين لدى فيلسوف معين؛ الاختلاف في فلسفة فلان؛ الاعتراف في فلسفة علان. لا يمكننا بهذه الطريقة أن ننتج فكرًا، وإذا لم تكن الجامعة هي المحرك للفكر والإبداع الفكري فأين سوف نحصل على الإبداع الفلسفي؟ يتبارى الأساتذة والباحثون في قدرتهم على ضبط فلسفة فيلسوف معين من دون البحث عن الذي نستفيده من هذه الفلسفة؟ يبدو لي أن التدريس قائم على تلقين الفلسفة من أجل التلقين لشباب يتلقاها ويذهب بدوره يلقنها لمن هو أصغر منه سنًّا، وهكذا إلى ما لا نهاية.
● لكن عن أي حداثة نتحدث اليوم ونحن نقف على مستوى القراءة والتفكير والكتابة في حدود القرن التاسع عشر، ألا تعتقد أن ذلك أحد أبرز تمثلاتنا المعطوبة لمفهوم الحداثة داخل مجال البحث الفلسفي؟
■ بالطبع ما تقوله صحيح لأن التفكير في عالمنا العربي تفكير تقليدي، بمعنى أنه يسير بالآليات الفكرية التي أنتجها الفكر السابق على القرن التاسع عشر، على الرغم من أن جامعاتنا تدرس كل ما أنتج في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين. لكن عندما يتعلق الأمر بالتفكير في حالتنا ووضعنا نلجأ أو يلجأ المشتغلون بالفكر إلى آليات القرن التاسع عشر فتصبح بذلك علاقتهم بما أنتج خلال القرنين اللاحقين من باب الترف الفكري فقط.
● ما الحلول الممكنة التي يمكن أن نستند إليها فكريًّا والقادرة على تخليصنا من ربقة التقليد المعرفي، ومن التفكير الورائي الذي يرى في الماضي مجدًا له؟
■ شخصيًّا لا أدري، لقد فشلت أنا وأصدقاء لي في التدريس؛ لم نستطع التأثير في الطلبة. يكونون نبهاء متيقظين عندما يكونون معنا في الفصل، لكن بمجرد ما يحصلون على الشهادات ينضمون إلى زملائنا المحافظين الذين يتعاملون مع الفكر المكرس أي ما سميته بالفكر الورائي، فكر القرن التاسع عشر. هناك شيء ما في السيرورة التاريخية يجب أن يتغير لكي يضطر الفكر إلى طرح أسئلة جديدة وينعتق من عبوديته للنصوص.
● بهذا الفهم، كيف يمكن الدخول إلى مسألة التحديث والحداثة، لا على صعيد المبدأ، إنما كأجساد مفكرة قادرة على نسف القديم والإقامة في تخوم الحاضر؟
■ لا أظن أنه من الممكن. أظن أن مشروع التحديث يقابله إعادة إنتاج التقليد أو ما أسميه التقليدانية كعقيدة مغلقة، وهذا المشروع يخترق المدرسة والجامعة والتدين والمطبخ واللباس والموسيقا، بحيث يصبح التحديث نزوة ما تلبث أن تزول ويعود أصحابها لجادّة التقليد.
● على الرغم من مرور أكثر من قرن على الاحتكاك الفعلي للمغرب بمظاهر وصور الحداثة الأوربية، فإنه لم يستطع بعد تشرب مظاهر هذه الحداثة فكريًّا والعمل بها داخل حياته اليومية.. كيف يشخص موليم العروسي، المسار الفكري الذي قطعته الحداثة منذ بداية اصطدام المغرب بالقوات الأجنبية في منتصف القرن التاسع عشر؟
■ عكس بقية الدول العربية فالمغرب واجه الحداثة الغربية انطلاقًا من إرهاصاتها الأولى إبان النهضة، كانت النهضة الأوربية في مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، بل كانت في مدينة مازكان (مدينة الجديدة اليوم)، إلا أن المغرب ظل يفتخر بأنه لا يقبل حياة النصارى (هكذا كان يسميهم آنذاك)، لم يَقبلْ مِن كل مظاهر النهضة إلا السلاح، أي أنه كان يقبل الأواني دون المعاني كما قال فقهاؤه وما زالوا يرددون. وهناك تواطؤ شعوري أو لا شعوري بين الفقهاء والسلطة؛ لأن الفكر المحافظ يخدم مصالح الاثنين، وما زلنا إلى اليوم نأخذ بالأواني دون المعاني، ولعل الأمثلة التي سقناها فيما يتعلق بالدرس الفلسفي كفيلة بتوضيح أحد جوانب الموضوع.
العروي يكتب التاريخ من منطلق السلطة
● لك رأي مخالف حول مفهوم التاريخ المغربي وتمثلاته في الجسد والصورة والمتخيل الجمعي، بالنظر إلى ما ذهب إليه المؤرخ عبدالله العروي في كون التاريخ لا تكتبه إلا النخبة.. إلى أي حد يمكننا الاطمئنان إلى مثل هذه الدعوة التي تختصر تاريخ ومسار شعب تقرح قلبه بعفن المرحلة، وبأسئلة جد قاحلة وداخل طبقة معينة دون أخرى؟
■ نعم، الأستاذ عبدالله العروي يكتب التاريخ من منطلق السلطة. إنه يكتب وكأنه مؤرخ السلطان، أي لا يهتم بغير الوثائق التي دونت في الدواوين والقرارات التي دونت كتابة، إضافة إلى كل هذا فهو سليل المدرسة السلفية المغربية التي تتبنى جانبًا من العقلانية، خصوصًا ذلك الذي يواجهون به ما يسمونه الشعوذة ويسميه هو اللاعقل أو اللامعقول.
● كيف اهتدى موليم العروسي إلى فكرة أن التاريخ لا يتحقق فقط داخل مفهوم المركز الذي يدعو إليه العروي، بينما راهنت أنت إلى جانب المفكر عبدالكبير الخطيبي على مفهوم الهامش وعوالمه اللامفكر فيها فلسفيًّا؟
■ كل منا أنا والخطيبي أخذ طريقًا مختلفًا، لكننا التقينا كما قال في إحدى شهاداته في كتاب نشره اتحاد كتاب المغرب تكريمًا لي في نهاية القرن العشرين. قال بالحرف: «لا أدري هل التقيته في الجامعة أم في متاهة، ولكنني كلما التقيته أجده في الموقف الفكري نفسه، موقف مثقف ينتبه إلى نبض الحياة وإيقاعها واندفاعها الإبداعي». هذا هو الكلام الذي تفضلت به في سؤالك. أنا جئت من النضال السياسي، وأعتقد أن الخطيبي كان له كذلك مسار اختلطت فيه السياسة بالتجارب الشخصية. من تجربتي السياسية فهمت أنه لا يمكن أن نفهم ما يسميه الماركسيون الشعب دون الانخراط في تجاربه بشكل كلي، وأن التفكير المجرد عدو للفهم، ولا يقبض على كل ما يمكن للإنسان التعبير عنه في نبض حياته.
● المنطلق نفسه (الهامش) شغل رواد الفكر الفرنسي المعاصر مثل: دولوز وفوكو وبارت ودريدا، لكن المُثير للدهشة والاستغراب أن العالم العربي بقي يتعامل مع هؤلاء الفلاسفة المعاصرين فقط كـ«أنساق» في تاريخ الفلسفة مع أنهم ثاروا على هذه الأنساق، لكن دون أن يُفكر المثقف في إمكانية التفكير في التماهي مع إشكالاتهم ومناهجهم المعاصرة من أجل تحرير الفكر العربي من سطوة مفاهيم التقليد والتأخر التاريخي والتصحر الثقافي؟
■ لا يتعامل معهم فقط كأنساق لكن كجُزُر معزولة، ولم يفهموا أن الفكر الفرنسي أو ما يسميه الأميركيون (French Theory)، ويعنون به فكر هؤلاء الذين ذكرت، فكر متشابك، فكلما فتحت كتابًا لجاك لاكان، أو رولان بارت، أو دريدا، أو فوكو، وجدت أنهم يحللون ويفككون بكل هذه الإستراتيجيات مجتمعة. ليس هناك تخصص أو اعتماد على بارت وحده، أو أي مفكر آخر، النظرية الفرنسية هي التفكير في هؤلاء مجتمعين وليس كلٌّ وحده.
قتل الآخر ومحوه نهائيًّا
● أنت من المُفكرين العرب الذين يرفضون استعمال مفهوم «الفكر العربي».. ما السر وراء هذا النقد للمفهوم؟ وما المنطلقات الإبستمولوجية والفلسفية التي تستند إليها في نقد مفاهيم الفكر العربي والعقل العربي؟
■ إذا كان لا بد من قبول هذ التحديد فلا بد من إعادة بنائه؛ لأنه إذا أردت أن أدمج الفكر المغربي في شيء اسمه الفكر العربي حتى أكون متوافقًا مع طريقة تفكيري، فلا بد أن أطرد منه كل ما ليس له علاقة بالعرب وبالتفكير العربي الإسلامي، من ذلك الثقافة الأمازيغية والثقافة الإفريقية والثقافة الكردية، والثقافة السودانية، وهذا هو خطر التوحيد القسري، إنه يحمل في طيات مشروعه إمكانية قتل الآخر ومحوه نهائيًّا، لا يمكنني محاولة فهم المجتمع المغربي والنظر إليه فقط من زاوية أنه عربي، لا يستقيم. أما مسألة العقل العربي فهي تحمل في طياتها جانبًا عنصريًّا جهويًّا، وجانبًا أيديولوجيًّا سياسيًّا، فالعقل عقل بشري له آليات إنسانية بشرية، والتفكير في حقل ما وبلغة ما لا يغير من طبيعة العقل، فهل العقل الصيني اليوم يشتغل كصيني أو كعقل كوني؟ لو ظل يشتغل بجهويته لَمَا اكتسح العالم. يجب أن نفرق بين الثقافة والحضارة من جهة، والتفكير العقلي. فكرة العقل العربي أحس أنها مقترح استشراقي.
أما جانبها الأيديولوجي السياسي فيكمن في كون السلطة البطريركية العربية تجد ضالتها في هذا المفهوم لأنه يحافظ على مكاسبها الاستبدادية، فإذا قلنا: إن هناك عقلًا عربيًّا، فبالضرورة هناك فكر عربي، وسياسة عربية، وحقوق إنسان عربية، وحرية عربية، ونساء عرب، وديمقراطية عربية، ينتمون لهذا المفهوم العام الذي هو العقل العربي الذي عنه تصدر كل المفاهيم؛ لذا قلت وما زلت أقول: إن مفهوم العقل العربي ما هو إلا دعامة للاستبداد.
● منذ بداية القرن العشرين ونحن نقرأ ما سمي داخل الأدبيات الفلسفية المعاصرة بـ«أزمة الفكر العربي» حتى أضحت العبارة أشبه بأسطوانة تتكرر إلى ما لا نهاية من بحث إلى آخر.. أين تكمن هذه الأزمة في نظرك؟
■ الأزمة في أن الهوامش في البلاد العربية بدأت تعبر عن اختلافاتها، مفهوم العقل العربي الذي تبنته الأنظمة أصبح سيفًا مسلطًا على الرقاب، وتحولت العروبة إلى عقيدة بعد تقليم أظافر الدولة العثمانية وخلق فكرة العروبة من طرف الغرب لمحاربة الرمز الديني الذي كان العثمانيون يحكمون به العالم العربي (الإسلام). أصبح ما يسمى الفكر العربي يجتر ما قيل ويحلل المؤلفات نفسها، ويضع عليها الهوامش حتى أصبح هذا الفكر أشبه بفكر الانحطاط أو هو تكملة له.
● لم يستطع الفكر العربي تجديد نفسه من الداخل من خلال طرح قضايا وموضوعات جديدة تتصل بحياتنا اليومية أمام هذا الطوفان البصري الذي اجتاح كياننا مثل الجسد والصورة والصمت والقلق والفضاء العمومي.. ألا تعتقد أن الأزمة تبدأ من هنا، وأعني عدم قدرة هذا الفكر على دحض كل الموضوعات التقليدية المتوارثة عن العصر الوسيط رغم مباهجه؟
■ عنما تشير إلى هذا الجديد في الفكر (الجسد والصورة والصمت والقلق والفضاء العمومي)، فيمَ يفيد مؤلف من القرن الرابع الهجري؟ فيمَ يفيد ابن رشد؟ فيمَ يفيد الفارابي؟ قد نعود إليه لنرى كيف تكونت نظرتنا إلى الحياة وكيف يمكننا تجاوزها؟ لكن أن نعود إلى الماضي لحل معضلات الحاضر فهذا شيء أظن من الواجب أن نعيد فيه النظر.
الفضاء العمومي وميلاد المجتمعات
● من المفاهيم الأخرى التي ظلت مُهمشة ومنسية داخل الفكر العربي نجد مفهوم «الفضاء العمومي».. كيف تقرأ هذا المفهوم في علاقته بالفلسفة كما تبلور ذلك لدى هابرماس؟
■ مفهوم الفضاء العمومي موجود قبل أن يهتم به هابرماس وقبل أن تهتم به الفلسفة، لقد لازم ميلاد الفضاء العمومي ميلاد المجتمعات الحديثة، نعرف أن الحداثة تميزت بفصل الفضاءات، وبخاصة الفضاء السياسي، والفضاء الديني، والفضاء العلمي الأكاديمي. وإذ يُعَدّ الفضاء الديني والفضاء العلمي خاصين، فإن الفضاء السياسي مشترك ويلجه الجميع. الفضاء العمومي هو كل الفضاءات المشتركة بين الناس، إنها الفضاءات التي يمكن التواصل فيها دون الخوف من أن يطولنا منع معين. لكن أهم شيء في الفضاء العمومي هو غياب التراتبية المجتمعية، أو على الأقل دورها في الحق في أخذ الكلمة. لكل الحق في التعبير عن رأيه شريطة احترام رأي الآخر؛ إذ المعنى الذي أخذه الفضاء العمومي معنى تواصلي وخصوصًا في الميدان السياسي والاجتماعي.
● إلى أي حد استطاعت الفلسفة داخل العالم العربي الانخراط بشكل كلي ومُكثف داخل الفضاء العمومي من أجل طرح الأسئلة وتحرير المُخيلة وإطلاق العنان أكثر للجسد؟
■ هي الفكرة نفسها التي ركزت عليها في الإجابة عن سؤالك السابق، لكي تتدخل الفلسفة يجب أن تكون الأجساد التي تحملها أو تتبناها تنتمي لعصر الحداثة، أي إلى العصر الذي ينعتق فيه الفرد ويتحرر من جميع السلط الخارجة عن ذاته ولا يفكر انطلاقًا مما يمليه أو يفرضه عليه غيره، عندها يستطيع الجسد أن ينبض بالحياة ويتفاعل مع الفكر.
● كان للفن دور كبير في اقتحام الفضاء العمومي وهو ما فتح لمفهوم الفن المعاصر داخل البلاد العربية في أن يغدو فنًّا قريبًا من الناس، كما ساهم في تحرير مخيلة بعض الفنانين الذين تجاوزوا في إبداعاتهم اللوحة المسندية.. إلى أي حد يُمكن عَدّ هذا الفعل ينتمي إلى فكر ما بعد الحداثة؟
■ الفن المعاصر ينتمي فعلًا لعصر ما بعد الحداثة، لكن هل الفن المعاصر ومنجزات فنانيه بالمغرب على الحال التي تصف؟ هو الذي يجب أن يقع فيه التدقيق أكثر، فتجاوز اللوحة المسندية وحده ليس كافيًا للقول بالفن المعاصر، الفن المعاصر كما تفضلت موقف من العالم وليس فقط تجميلًا أو إعادة إنتاج مجموعة وصفات، وهنا يمكن أن أشك في عدد كبير من المنجز الفني العربي المعاصر.
● المتأمل في مفهوم الفضاء العمومي لا يلبث أن يكتشف حجم التشابه مع مفهوم «الأكورا» قديمًا.. ما حدود التقاطع والتلاقي بين ذلك؟
■ الأكورا اليونانية مكان عمومي إذا رأينا أن «مفهوم العام» عند الإغريق كان يقتصر على السادة مع إقصاء العبيد وطبقات أخرى من المجتمع الإغريقي. وهنا تختلف الأكورا عن الفضاء العمومي الذي نشأ في عصر الحداثة.
● طالما عَدّ بعض المفكرين أن وسائل التواصل الاجتماعي غدت فضاءات عمومية لطرح الأسئلة، حتى لو لم تكُن عميقة وتكتفي بالجاهز والظاهر على سطح الساحة العالمية.. متى يمكن للفلسفة أن تتدخل في توجيه الخطاب وحث الناس على تغيير علاقتهم بهذه الوسائل، التي باتت تنتج نوعًا من البلاهة الثقافية؟
■ هناك بعض الزملاء سواء بالمغرب أو خارجه يتدخلون، كلٌّ بمقدار، في النقاشات الدائرة على فضاءات التواصل الاجتماعي، ولكن بما أن الفلسفة تُنَبِّه ولا تُوَجِّه فإنه يصعب جدًّا إسماع صوت الفيلسوف داخل الضجيج العارم الذي يجتاح هذه الفضاءات، الفلسفة تُسائِل البديهيات، ومرتادو وسائل التواصل يقتاتون ويحتاجون بديهيات، سوف يُتْعِبُ الفيلسوف نفسه بالخوض في مضمار كهذا، استعمال الإنترنت واللجوء إلى منصات خاصة ممكن، وقد يكون مفيدًا جدًّا لكن وسائل التواصل الشعبية يصعب التعامل معها.
ألا ترى أن ذلك قد أثر في الإنسان ككل، وحوَّلَ العلاقات الإنسانية والترابطات الثقافية إلى مجتمعات عالمية تعيش داخل شبكات وكهوف بصرية؟
داخل كهوف أكيد، كمغارة أفلاطون إن صح التعبير، بل إنهم يسيرون في ممرات طويلة، طرق سيارة لا يعرفون لماذا دخلوها، ولا متى سوف يخرجون منها؟
● أي ملامح ترسمها للعلاقة بين الفضاء العمومي والديمقراطية داخل البلاد العربية؟
■ لا يمكن للديمقراطية أن تنشأ وتقوم إذا لم يتحرر الفضاء العمومي، وتحريره واجب ليس فقط مما يسمى تقليديًّا بالسلطة، بل من جميع السلط والمؤسسات غير المدنية.
● موليم العروسي أول المُفكرين العرب الذين انتبهوا إلى أهمية مفهوم الفضاء العمومي داخل الأدبيات الفكرية العربية، ما قادك إلى تحرير كتابك المهم «الفضاء والجسد».. كيف وعيت في ذلك الوقت المُبكر أهمية المفهوم الذي أضحت المؤسسات في مختلف دول العالم، تولي له عناية فائقة أمام ما يشهده الواقع من شروخ وتصدعات؟
■ كما وضحت ذلك في جواب سابق، الهم السياسي وضرورة التعامل مع الناس من منطلق أنهم راشدون. إن انخراطهم في مشروعات تخصهم لا بد أن تكون محمولة على العاتق من طرفهم، هي التي جعلتني أنصت إلى نبض الحياة لديهم، وهذا النبض، وبما أنه يستحيل أن أتحدث إلى الناس فردًا فردًا، كان من الضروري أن أبحث عن أين أجده؛ نجده فيما يَنْتُجُ عن ممارساتهم وبخاصة تلك التي ينتجونها جماعة وبطريقة لا شعورية. وهنا كانت مدرسة ماركس الفلسفية وليست الأيديولوجية، مهمة لي.
المثقف النقدي وحركات الإسلام السياسي
● ماذا عن المثقف النقدي أي دور يمكن أن يلعبه في خضم حركات الإسلام السياسي، علمًا أن مفاهيم وأفكار وأطاريح غرامشي قد حُرِّفَتْ عن السياق التاريخي الذي ظهرت فيه لدرجة غدا التقليدانيون يستندون إلى هذه المفاهيم، ويحاولون تسويغها وفق مواقفهم ومعتقداتهم؟
■ لا بل اهتم التقليدانيون بأفكار ونظريات ماو تسي تونغ قائد الثورة الصينية. أحد دعاة الإسلام السياسي بالمغرب، عبدالسلام ياسين، كان يدعو أنصاره إلى استلهام طرائق ونظريات هذا القائد الشيوعي، ولكن دائمًا في إطار «الأواني دون المعاني»، ولم يكن يدري أن ماو كان يدعو إلى جعل الثورة تمر عبر الأجساد وليس أن تفرض على الناس، يجب أن يتحرر الفرد أولًا. أما المثقف اليساري ولا أدري من نقصد بهذا النعت، فهو إما تلاشى، وعدد كبير منهم تحولوا إلى أفكار ومبادئ غالبًا محافظة، أو بقوا صامدين في مواقف من القرن الماضي، وقلة قليلة ما زالت تنتج وتفكر بما أوتيت من قوة.
● قدم مفكرون عرب خدمات جليلة إلى الفكر العربي المعاصر، انطلاقًا من المنهج الجدلي المادي الذي أخضعوا به نصوص التراث العربي الإسلامي.. كيف تنظر إلى هذه المساهمة التاريخية في إمكانية تجديد الفكر العربي، كما تبلورت لدى حسين مروة والطيب التيزيني وكريم مروة على سبيل المثال؟
■ صحيح ما تقوله، لكن -يا للأسف- والأمر هنا يعني كل الأسماء التي ذكرت، حدث لهم ما حدث للودفيك فيورباخ الذي حاول تجديد الفكر الديني، ونسي أن الفكر الديني أمر يهم أهل الدين، وأن دور الفيلسوف هو التصدي للفكر الجاهز والثابت وليس محاولة خلق دين جديد. هؤلاء الذين تسميهم الماركسيون هم من أسسوا ما سُمّي بالفكر العربي والعقل العربي، ومدوا الاستبداد بأدوات سمحت له بتجديد نفسه والإبقاء على جوهره.
● هل تعتقد أن ذيوع كتاب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» للمؤرخ المغربي عبدالله العروي، كان بسبب هذا المنهج الذي حاول تطبيقه على الاجتماع العربي بطريقة بدا فيها الكتاب يحتكم إلى شروط مادية واقعية وعينية بعيدة من كل أحلام سرمدية؟
■ يجب أن نعرف أن كتاب عبدالله العروي يوحي للقراء غير المتمرسين بالفكر الماركسي أنه اعتمد المنهج المادي الجدلي، لكن حقيقة الأمر أن الكتاب مجهود بسيط يحاول محاكاة فينومينولوجيا الروح لهيغل. فكما حاول هيغل تتبع تجليات الروح عبر التاريخ وعبر وسائط متعددة ليصل إلى تجليه المطلق؛ حاول العروي أن يتوهم أن هناك فعلًا أيديولوجية عربية تتجلى من خلال المكتوبات والروحانيات التي سمّاها عربية، واستنتج من خلالها ما استنتج. جاء الكتاب في زمن ضنين كان العرب فيه في أمسّ الحاجة إلى جَلْد الذات، فحدث ما حدث. إذا قرأت الكتاب اليوم، وخصوصًا في اللغة التي كتب بها أي الفرنسية، سوف ترى إلى أي حد كان الفكر العربي بئيسًا في ذلك الزمان.
● موليم العروسي، لنختم حوارنا بسؤال المرأة في علاقتها بالإبداع.. لماذا في نظرك لم يستطع التاريخ العربي إفراز بعض التجارب الرائدة داخل مجال البحث الفلسفي كما هو الأمر في الفكر الفرنسي والألماني مثلًا؟
■ هذا لا يخص المجتمعات العربية وحدها ففي فرنسا وألمانيا لم تظهر وجوه فلسفية نسائية إلا بعد نضال مرير، ولم يكن عدم ظهور أسماء نسائية راجعًا إلى عدم وجودهن، بل راجع لإصرار الأذن الأوربية على عدم سماع صوت النساء. أعتقد أن الأمر كذلك للعالم العربي، فبمجرد ما ترفع امرأة صوتها لتعبر عن رأيها حتى تتعدد التبريرات للتغطية على الصوت إياه. اسأل كم من سيدة تدرس بشعب الفلسفة بالجامعات المغربية والعربية على السواء، ألم تتقدم ولا واحدة لشغل منصب مدرسة فلسفة؟ ما زال العربي يفضل المرأة الرقيقة التي تعلو الحمرة وجنتيها عندما تكلم الرجل، ويصعب عليه تقبل المرأة التي تنظر مباشرة في عمق عينيه وتقول له: «لقد أخطأت، الصواب هنا».
المنشورات ذات الصلة
المؤرّخ اللبناني مسعود ضاهر: مشروع الشرق الأوسط الجديد يحلّ محل نظيره سايكس بيكو القديم
الدكتور مسعود ضاهر أحد أبرز المؤرّخين العرب في لبنان والعالم العربي اليوم. هو صاحب مدرسة في الكتابة التاريخية تتميز...
بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية
بمناسبة صدور كتابه باللغة العربية «رياض الشعراء في قصور الحمراء» بالاشتراك مع الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع،...
زياد الدريس: مركز عبدالله بن إدريس يهدف إلى تشجيع الابتكار وجائزة ابن إدريس أكثر من كونها شعرية أو أدبية
يتطرق الدكتور زياد بن عبدالله الدريس، أمين عام مركز عبدالله بن إدريس الثقافي، في هذا الحوار، إلى دور المركز في تنشيط...
0 تعليق