كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
علم الاجتماع العربي والواقع
بشكل عام لم يسهم علماء الاجتماع العرب في سبر غور مجتمعاتهم، ربما الطريق طويل للوصول إلى ما يمكن تسميته «علم اجتماع عربي»؛ لدينا بعض الاجتهادات المعاصرة المتفرقة من أساتذة نشطوا في التفكير والكتابة (خارج الصندوق) إن صح التعبير، إلا أنهم بشكل عام لم يتركوا مدارس خلفهم تكمل ما بدؤوه من أعمال أو نظريات وازنة يمكن تعميمها ولو لمدة معينة من الزمن. لدينا على سبيل المثال لا الحصر أعمال المرحوم الدكتور سيد عويس، الذي بحث في موضوعات مهمة في قاع المجتمع المصري، ففي كتابه «هتاف الصامتين: ظاهرة إرسال الرسائل إلى الإمام الشافعي»، فتح جديد غير مسبوق، وهي دراسة مبتدعة لعدد من الرسائل التي يتركها أو يرسلها المواطنون المصريون في ضريح الإمام الشافعي في القاهرة، ولدينا في العراق علي الوردي في عدد من الكتب؛ أهمها «شخصية الفرد العراقي» و«دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، ولدينا في المغرب المهدي المنجرة في كتابيه «الحرب الحضارية الأولى»، و«قيمة القيم»، وعبدالكبير الخطيبي في عدد من الكتب؛ منها «النقد المزدوج»، و«الاسم العربي الجريح»، وفي الشأن النسوي طبعًا لدينا نوال السعداوي من مصر في أعمالها العديدة عن النسوية العربية؛ أشهرها «الوجه العاري للمرأة العربية»، وعدد آخر من الكتب، وكذلك فاطمة مرنيسي في المغرب في كتبها مثل: «ما وراء الحجاب»، و«الحريم السياسي».
في الحقيقة هناك عدد من المشتغلين بالشأن الاجتماعي العرب قد حاولوا الكتابة في شؤون وشجون المجتمع العربي، إلا أن عددًا منهم لم يتركوا كما قلت وراءهم مدرسة تكمل ما بدؤوه أو حتى الاجتهاد في الموضوع أو تنظيرًا عامًّا يمكن استخدامه لفهم المجتمع أو المجتمعات العربية، والأسباب كثيرة؛ منها عدم الاهتمام بالعلم الاجتماعي على مستوى المجتمع والدولة وفي المؤسسات التعليمية، لقد كان العلماء حتى وقت متأخر يقسمون (العلم) إلى قسمين، العلم الصلب، أي العلوم البحتة والتطبيقية، والعلم اللين أو المرن، وهو مجمل العلوم الاجتماعية، حتى مؤخرًا عندما انقلب المفهوم رأسًا على عقب، فأصبحت العلوم المرنة هي العلوم البحتة والتطبيقية؛ لأنه يمكن التحكم فيها في بيئة محصورة (كالمختبرات والمعامل)، وأصبح العلم الصلب هو العلوم الاجتماعية، لأهميتها وشيوع مراوحتها الواسعة، وتعدد مُدخَلاتها، واختلاف ظروف المجتمعات، وتغيرها المستمر.
وتتمحور الأسباب في تأخر العلوم الاجتماعية العربية وعلى الأخص علم الاجتماع في:
أولًا- منهج التعليم في الدراسات الاجتماعية، ربما في معظم مؤسساتنا التعليمية، إن لم يكن فيها كلها، فإن علم الاجتماع لم يحظَ باهتمام كبير، ودُرس نقلًا عما وصلت إليه العلوم الاجتماعية وعلم الاجتماع في مجتمعات أخرى، فقد درسنا تطور علم الاجتماع ومدارسه الغربية، الذي كان قد نشأ في بداية القرن التاسع عشر في المدرسة الفرنسية الاجتماعية أو الألمانية وكأنه (الدين الجديد)، ثم انتشر في الدول الغربية، ولم يتعلم طلابنا حتى الفرق بين أسباب ظهور علم الاجتماع الغربي واختلاف تفسيره، الذي كانت ظروفه هي الانتقال من المجتمع الزراعي إلى الصناعي، وبروز ما يعرف بالمجتمع البرجوازي، وتقسيم العمل في المصانع الجديدة، وتوسع سكنى المدن وهجرة الناس من الريف، هنا ظهرت نظريات خاصة بتلك المجتمعات، نقلها بعضنا على أنها (معطى نهائي) قابل للتطبيق على أي مجتمع آخر! وفي وقت ثانٍ ذهب بعض الدارسين العرب، بعد أن اكتشف الباحثون الغربيون ما تركه عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته من تنظير، ذهب بعض المشتغلين بدراسة المجتمع العربي بتطبيق مقولات ابن خلدون على المجتمع العربي المعاصر، وكان ذلك خطأ منهجيًّا ما زال بعضنا يسير فيه دون علم؛ لأن ما ينطبق في الفروق بين مجتمع وآخر من حيث المعطيات والمدخلات، ينطبق أيضًا على الفروق في الزمن، فزماننا بالقطع ليس زمان ابن خلدون، فلم تعد الغلبة في الدولة للعصبية القبلية، أو تغلب أهل الوبر على أهل المدر، كما وصف ابن خلدون؛ لأنه ببساطة اختفت عصبيات وظهرت أخرى جديدة لم تكن معروفة في زمن ابن خلدون، كمثل عصبية المؤسسات الحديثة مثل الجيش والقوات المسلحة أو الأحزاب المنظمة، أو المؤسسات الاقتصادية الكبرى ومصالحها. إذًا أحد أكثر العناصر خللًا في دراسات المجتمع العربي اليوم اعتماده على تلك المناهج الغربية المختلفة ظروف نشأتها وتطورها أو العودة غير الواعية إلى التاريخ القديم وقد تغير الزمن.
ثانيًا- القدرة على النظر من خارج المجتمع. نجد أن أحد معوقات دراسة المجتمع العربي غياب ما يمكن أن يسمى (الحرية الأكاديمية)، أي القدرة على تناول الظواهر الاجتماعية من خارجها، والحرية هنا ليست فقط القادمة من الدولة ولكن أيضًا من المجتمع، فكثير من الدارسين الذين اقتربوا من لمس القضايا الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية واجهوا عنتًا (اجتماعيًّا) ضخمًا، فالمجتمع والتقاليد تعوق التفكير الحر؛ لأنها تلامس كما يرى بعضٌ ثوابتَه، آخر هؤلاء ما اتخذ من مواقف من الكاتبتين نوال السعداوي وفاطمة مرنيسي، فقط لأنهما لامستا ما يفترض أنه مُحرَّم الاقتراب منه في المجتمع، بل إن بعض الباحثين العرب في علم الاجتماع فضلوا أن يكتبوا بلغات أخرى غير العربية بعيدًا من المضايقات الاجتماعية في مجتمعاتهم، وقدمت لنا دراساتهم من خلال الترجمة وربما حتى غير الدقيقة.
حتى اليوم فإن سقف التسامح مع الكتابات الاجتماعية، وبخاصة الناقدة، كما يتوجب علم الاجتماع، قليلة، والكثير من الإبداع في هذا المجال تم في زمن (السقف العالي نسبيًّا للحريات)، الذي تمتعت به بعض المجتمعات العربية لمدة محدودة فيما بين الحربين العالميتين، بل حتى في ذلك الوقت كانت هناك ضغوط كما حدث لكتاب طه حسين في دراسته الشعر الجاهلي، الذي شكل أزمة لأنه يعيد التفكير في التاريخ العربي، أو بعد ذلك لنجيب محفوظ في رواية «أولاد حارتنا» التي مُنعت طبعتها لمدة.
ويستطيع الباحث أن يتقصى الكثير من سبل التضييق (المجتمعي) وليس (الرسمي) فقط على هامش وقدرة الباحثين على الإبداع والتفكير خارج الصندوق في الشأن الاجتماعي، فما زالت هناك (مُحرَّمات) في مجتمعاتنا العربية لا تقبل المس بها بشكل بحثي وعلمي، كمثل تشريح دور القبلية أو التراتبية الاجتماعية أو نوع الأعمال التي كان تقوم بها شرائح من المجتمع. من هنا نجد الفقر النسبي في كتابة المذكرات الشخصية، وذكر الحوادث المهمة في المجتمع (منعًا للإحراج)، أو (تقليب المواجع)! ولقد عرف منذ مدة طويلة أن بعضَ مَنْ يكتب حول المجتمعات المحافظة العربية أطروحات للدكتوراه أو الماجستير في الجامعات الغربية يطلب عدم نشرها على العامة والاحتفاظ بها لمدة، وقد يعود بعضهم إلى فكرة النشر، ولكن بعد سنوات ومع تحرير ثقيل في المحتوى.
ثالثًا- الدراسات الاجتماعية كلية المنهج
طبيعة الدراسة الاجتماعية أنها كلية وليست جزئية المنهج، فالأنظمة المجتمعية تساندية يؤثر بعضها في بعض، كتأثير النظام التعليمي أو الديني أو القضائي أو الاقتصادي أو السياسي في مجمل نشاط المجتمع؛ لذلك فإن دارس الاجتماع يتوجب أن يكون ملمًّا بالتاريخ والاقتصاد والقانون والسياسة وغيرها من العلوم الاجتماعية، دون ذلك يمكن أن يشوب نظرته وتحليله عوار ما سببه نقص المعلومات أو محدوديتها، كما يتوجب أن يكون ذا ذهنية منفتحة على الجديد والمختلف، وفي فضائنا العربي مثل أولئك الأشخاص جد محدودين بسبب طبيعة أنظمة التعليم ومحدودية التفكير الخلاق.
رابعًا- النظريات الاجتماعية
على الرغم من أن النظرية الاجتماعية في صلب دراسة طلاب علم الاجتماع، فإنها تنحصر في مدرستين كبيرتين؛ الأولى المدرسة الصراعية (صراع الطبقات) وتفرعاتها التي نشأت إبّان الصراع الطبقي في وسط القرن التاسع عشر في أوربا، وقد تطورت اليوم مع تطور تلك المجتمعات. والمدرسة الثانية هي الوظيفية التي نشأت في الولايات المتحدة، وكان غرضها الرئيس تبرير النظام الرأسمالي، ثم تفرعت إلى عدد من الاجتهادات، وعندما نظر علماء الاجتماع الغربيون إلى مجتمعات العالم الثالث استنبطوا ما عُرف بالنظرية الثقافية أو المدرسة الأنثروبولوجية، وهي نظرية في الأساس بررت تمدد الاستعمار الغربي في بلاد العالم الثالث ذات الموارد التي تحتاجها المجتمعات الغربية، ثم تطورت تلك المدرسة مع الزمن. تلك النظريات لم تبقَ على ما كانت عليه عند النشأة الأولى، فطبيعة التطور في المجتمعات فرضت المراجعة والتنقيح وإعادة النظر والتطوير، وقد ساهم علماء الاجتماع الغربيون في ذلك، إلا أن الدرس الأهم أنه لا يمكن تفسير تطور المجتمعات على قاعدة نظرية واحدة.
الخلاصة
يفتقد علم الاجتماع العربي إلى نظرية ولو نسبية لتفسير تطور هذه المجتمعات وتوقع مسيرتها المستقبلية، وكثير من الأدوات المنهجية المستخدمة اليوم في علم الاجتماع العربي مستعار من تجارب أخرى، وليس في ذلك عيب، ولكن تحتاج تلك الأدوات إلى تطوير ومواءمة من أجل الوصول إلى شبه نظرية تُفسّر وتتوقع صيرورة المجتمع (المجتمعات) العربية في المستقبل، بدايةً من المفاهيم وضرورة ضبطها، وانتهاءً بتفسير تاريخ تطور المجتمعات، وبخاصة أن المجتمع العربي اليوم في حالة انتقال، وأكاد أقول (سيولة اجتماعية)، يتخللها التشكيك في الثوابت القديمة من دون ابتكار أخرى جديدة، مثل: (الدولة المدنية) أو (المجتمع المدني) أو (عقد اجتماعي للحكم)، ونحن اليوم أكثر حاجة لمساهمة ابتكارية لعلماء الاجتماع العرب.
فطبيعة المعرفة البشرية أنه عندما تتغير الأعراف والقيم والعادات، وهي نسبية، تتغير معها البنى الاجتماعية والأنساق، ويحلّ تدريجيًّا القانون محلّ العرف، والمؤسسة بدلًا من الفردية، طبعًا هذا التغير تدريجي، ولكنه تراكمي يتغير في البداية من حيث الكم، ثم تأتي مرحلة فاصلة للتغير من حيث الكيف. وليس هناك نظرية أحادية تستطيع أن تفسر التنوع في المجتمع. يحتاج المشتغل بعلم الاجتماع إلى أن يعترف مقدمًا أن تضافر النظريات يمكن أن يقدم لنا تفسيرًا معقولًا للتغير الاجتماعي المشهود، حتى هذا التفسير نسبي الزمن، كما شاهدنا في مجتمعات أخرى، حيث تطورت النظريات وبعضها اندثر بسبب اضمحلال الأسباب التي قامت عليها؛ لهذا نحتاج إلى تكامل في أدوات البحث لنصل إلى الحقيقة الاجتماعية النسبية. أصبحت اليوم الحاجةُ إلى معرفة علمية للمجتمع العربي، أكثر ما يكون من العلمية، حاجةً مُلحةً، وقد قيل قديمًا: إن أفضل المعرفة هي معرفة النفس.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
دائما كنت احس بهذا الشعور انه فيه فجوة بين ما ندرسه وما نعيشه ،وبناءً على ذلك علم الاجتماع غير مفعل لدينا في المجتمع