كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هل تمثل الثورات العربية حدثًا مهمًّا للعلوم الاجتماعية؟
يتفق عدد من المنشورات، حديثة كانت (باسان، بيدار، قروسيتي، 2009م) أم قديمة (بانسا، فاسان، 2002م، نوفو، كيري، 1996م) على فكرة أن الحدث يمثل للعلوم الاجتماعية مشكلًا من حيث عرضيته وعدم القدرة على التنبؤ به وقيمته كأساس أو كنموذج. يهتم علم الاجتماع بالبحث في القوانين الاجتماعية العامة، وتتناول الأنثروبولوجيا بالبحث في الحياة اليومية وتركيباتها، أما في التاريخ فقد ظهرت مدرسة الحوليات والتاريخ الجزئي كبدائل قوية للتاريخ الوضعي الحافل بالأحداث (نواريال، 1998م).
ما فتئت صعوبة ترسيخ الحدث في خطاب علمي منفصل عن الحاضرية وعن التفرد تتفاقم، وهو ما جعل السرديات الصحفية والإعلامية أكثر قدرة على فهمه وبنائه. ومع ذلك، توجد محاولات عدة لحل هذا التوتر الذي تعيشه العلوم الاجتماعية في مواجهة تواتر الأحداث عبر محاولة فهم دلالاتها وأسبابها؛ لكونها يمكن أن تمثل نقطة تحول طارئة (أبوت، 2001م; هوق، 1996م) أو مسار كامن -اهتم بدراسته علم اجتماع تاريخ الثورات- أو بناء إعلامي أسي للمجتمعات الحديثة (نورا، 1974م) أو «أزمة» بالنسبة للأنظمة المعقدة (دوبري، 2009م).
لا يمكن أن ننسى التشعبات التي عرفها التاريخ (بلوك، 1949م)، وبصفة عامة العلوم الاجتماعية العالقة في اضطرابات الحروب والصراعات أو في أحداث أقل درامية من شأنها أن تكسر الرتابة بتغيير أجهزة العمل وفتح مجالات جديدة للممكن والمعقول.
في هذا الصدد، خلقت موجة الانتفاضات الشعبية التي عرفها جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط منذ ديسمبر/ 2010م الحدث الذي لم يسبق له مثيل منذ حركات استقلال دول العالم العربي الذي تُعَدّ تشعباته المتعددة نقطة تحول، أو تسريع للتاريخ، أو حتى لبعضٍ «انتقام» المجتمعات، (بادي، 2011م) أو «صحوة» (نابلي، 2011م)، وهو ما يعطي الانطباع بأن هذه المجتمعات أفاقت من نوم عميق تحت نير الدكتاتوريات والآفات المتعددة. يتضح هذا من خلال استعارات «الربيع» و«الخريف»، أيضًا «الشتاء» العربي التي تواتر استخدامها (بوزارلسان، 2015م)؛ للدلالة على دخول هذه المجتمعات في مرحلة جديدة.
إن قراءات الحركات الاجتماعية الأخيرة في العالم العربي تصنف على حد سواء بين التحليلات الذاتية، حيث يسود المعنى الذي يحمله الفاعلون، وبين التحليلات الموضوعية؛ حيث إن تأريخ هذه الحركات من شأنه أن يبني الحدث وأن يجعله منطقيًّا. ومن ثم، يجب فهم المراجع والمقارنات المختلفة لوصف هذه المواقف وتدوينها في التسلسل الزمني: هل ثورات أم حروب أهلية أم ربيع جديد للشعوب أم ثورة مضادة؟ على أي حال، فقد اشتد الطلب الاجتماعي على فهم هذه الاحتجاجات والأزمة التي تعيشها الأنظمة، والدليل على ذلك التعامل الإعلامي مع المسألة والأموال المرصودة لدعم دراسة الحركات السياسية للمنطقة.
في ظل بحر من البحوث والتساؤلات، كان للعلوم الاجتماعية إسهام فاعل، ولكنها وجدت نفسها موضع اختبار. في 2001م، خلقت أحداث 11 سبتمبر نقاشًا حول مدى فاعلية العلوم الاجتماعية والدراسات الشرقية التي انتقدها مارتن كرامر المحرر السابق لصحيفة Middle East Quarterly لتحصين نفسها في «برج عاجي». بعد 2011م، تفاقم ارتباك العلوم الاجتماعية وليس هذا بسبب تواتر «الأحداث» غير المتوقعة فقط، بل أيضًا نتيجة وضع العلوم الاجتماعية نفسها في دائرة الضوء ومساهمتها في العمل الجماعي (بوراوي) في أوربا، في فرنسا على وجه التحديد، وفي العالم العربي. في هذا السياق نهدف، بناءً على تجارب ملموسة ومقارنة، إلى دراسة كيفية تغيير هذه المرحلة التاريخية لعمل الباحثين في العلوم الاجتماعية، إن لم نقل إحداث ثورة داخله.
على المدى القصير، بدا الباحثون مشوشين ومرتبكين. وكانت إحدى أولى تساؤلاتنا تتعلق بالممارسات والفوارق التخصصية. إذا كانت الدراسة التي أجراها فريق الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) على أساس المعالجة الببليومترية لمنشورات تتعلق بـ«الانتفاضات العربية» بالإنجليزية والعربية والفرنسية تشهد على هيمنة لا يمكن إنكارها لتخصصات العلوم السياسية والعلاقات الدولية على بقية العلوم الاجتماعية (المغلوث، أرفانيتيس، كوانتي، حنفي، 2015: 423)، فإنها ليست الوحيدة التي من شأنها دراسة الوضع الراهن. يبدو أن الانتفاضات الأخيرة في المنطقة قد أدت إلى عدم تخصص المعرفة وإلى التبادلات متعددة التخصصات، وأحيانًا إلى تراخي الممارسات التخصصية. ويظهر هذا أولاً قبل كل شيء من خلال البرامج الجماعية التي أُعِدَّتْ بهدف دمج الخبرة العلمية حول الديناميات المعقدة أو من خلال المنشورات الجماعية التي تجمع بين علماء السياسة وعلماء الاجتماع والمؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الديموغرافيا والجغرافيين وأيضًا اللغويين والباحثين في الإسلاميات (أولادي، باجاس القروي، فارداي؛ 2014م، بورقات وباولي، 2013م). تظهر هذه التوجهات أيضًا من خلال تضخم عدد منشورات المجلات العامة ومدونات الإنترنت، على حساب منشورات المجلات المتخصصة.
يعود تركُ الباحثين لنطاق اختصاصهم وراحتهم والتجاؤُهم للمنتديات العامة لوضع خبراتهم في خدمة النقاش والسياسات العامة إلى كونهم أولًا قبل كل شيء مواطنين. تتساءل مبادراتهم، على أي حال، عن العلاقات بين دوائر المعرفة المختلفة والتبادلات فيما بينها (علمية، إعلامية، دبلوماسية)، كما تدرس المنطق التنظيمي والمميز للمجالات الأكاديمية في سياق الانتفاضات الأخيرة والتدخلات العسكرية المتتالية كالغزو الأميركي في عام 2003م. ولكن عمل الباحثين في العلوم الاجتماعية بدا مشوشًا في مرات عدة؛ ويعود ذلك لصعوبة التنبؤ واستخدام أدوات البحث المعتمدة في البحث والتعليم التي تفضل القراءات المستمرة.
ولكن قبل كل شيء، وجدت العلوم الاجتماعية نفسها فجأة «محرومة من الشرق» بالمعنى الحرفي للكلمة. في الواقع، قد تخلى الاهتمام بالحركات الاجتماعية في المنطقة عن عدساته الاستشراقية وعدّها، إن لم تكن مبتذلة، غير فريدة من نوعها وشبيهة بتجارب أخرى. وكما قال أ. روي (2013م): إن «الشرق اختفى» وقد اختفى معه «أكبر أوجه الاستشراق: الاستثناء الإسلامي». فقد صارت المنطقة التي لطالما كانت معزولة عن الدراسات المقارنة وجهة لغير المختصين من المهتمين بشأن الشرق الأوسط والمغرب العربي. ومع ذلك، فإن الانتفاضات التي وُصفت في البداية بأنها سلمية وعلمانية وتقاطعية في حين، وطبقية تحولت في ليبيا وسوريا واليمن إلى حركات مسلحة واشتباكات أهلية في حين آخر، فإن أدوات التحليل أعادت توجيه نفسها بسرعة؛ لذلك، من خلال طرح إشكالية العلوم الاجتماعية في مواجهة «الثورات العربية» وتأثيراتها المحتملة فيها، أردنا تجنب الوقوع في التعميم المتسرع الذي قد يؤدي في النهاية إلى ملحوظات مبتذلة.
تداخل التخصصات
كما ذكرنا سابقًا فإن المجالات التخصصية تواجه تحديًا مختلفًا من قبل «الحدث» بشكل عام والثورات العربية بشكل خاص- وهذا هو السبب في أن أحد الأهداف الأولية لهذا المشروع الجماعي لم يكن حصر التفكير في السياسة وفي التاريخ المعاصر.
علاوة على ذلك، فإن أحد الأسئلة تخص مسألة تحول آليات التحقيق والعلاقة بالميدان في سياقات الحروب متعددة الأوجه. في الواقع، هناك مناطق معينة مغلقة أمام الباحثين (كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن أو حتى ليبيا) أو، على الأقل، أمام البحث الجماعي المؤسسي و/أو الأبحاث طويلة المدى. فتصبح البعثات الميدانية القصيرة محفوفة بالمخاطر؛ إما لأنها تُنَفَّذ من دون إذن رسمي من المؤسسات الأصلية، أو لأن المخاطر البشرية كثيرة. نتيجة لذلك، يلجأ الباحثون على نحو متزايد لـ«الأنثروبولوجيا من بُعد»، ولا سيما عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن أيضًا -لأولئك الذين لديهم الإمكانيات- الاتصال عبر البريد الإلكتروني أو الهاتف بشبكاتهم الخاصة التي تشكلت عبر تراكم الحقول البحثية السابقة.
ومع ذلك، فإن هذه الممارسات تجعل من الصعب تأطير الشهادات التي جُمعت وتتطلب الحذر. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل الاهتمام أكثر تركيزًا على «الهوامش» و/أو على اللاجئين – ولا سيما في الوضعية السورية. يجري التأكيد هنا على نتيجتين: من ناحية، حاجة التخصصات «الميدانية» الماسة لابتكار آليات بحث جديدة (جمع البيانات، ولكن أيضًا إدارة الأدلة)؛ ومن ناحية أخرى، خطر ضعف تقنيات التحقيق، حتى توحيدها (ومن ثم ضرورة عدم التخصص).
هناك سؤال آخر يطرح، وهو التمثلات الزمنية في العلوم الاجتماعية، أي تمثيلات الزمن التي تقوم عليها التخصصات المختلفة؛ إذ يجري الحديث عن ضياع المعايير الزمنية، بسبب الفاصل المفاجئ بين «قبل» و«بعد» الحدث، سواءٌ كانت القراءات التي أُجرِيتْ عليه موضوعية أم ذاتية (ش. حسبو، م. راي، ت. بواسيار).
أما الباحثون الذين يشتغلون على التاريخ المعاصر، فإن السؤال الرئيس هو معرفة ما يجب فعله بنتائج البحث الذي أُجرِيَ قبل الثورات، بما أن «الحاضر» القريب يشير إلى «ماض» بعيد بالفعل. تتردد أصداء هذا السؤال بطريقة متماثلة تقريبًا طرحها المؤرخون الذين يتناولون بالبحث مدة أقدم، والذين ينفجر الحاضر حرفيًّا في«ماضيهم» ويهدد أحيانًا بتدمير آثاره المادية (الأرشيف، والمؤسسات التراثية، حتى المدن نفسها). هذا الفَرّ والكَرّ والاصطدام بين المُدَد الزمنية هي أكثر إثارة للاهتمام لأن هذا البُعد عادةً ما يكون بالكاد مرئيًّا، فالباحث المعاصر يرى أن عناصر الماضي القريب تأخذ معناها على نحو طبيعي فيما يتعلق بـ«تاريخ حيز التنفيذ»، بينما يرى المؤرخ أن الحاضر يُفسَّر جزئيًّا من خلال الماضي الذي يدرسه. لذا، بغض النظر عن صعوبة فهم «الحدث»، فإن العلاقة بين الماضي والحاضر، التي قليلًا ما تطرح في الظروف العادية، تمثل إشكالية (ل. دخلي).
العودة إلى المصادر
هذه الأسئلة المتعلقة بالتخصصات تفتح أبواب التفكير في مدى علاقة العلوم الاجتماعية بالمصادر. وقد أشار المؤرخون إلى هذه المسألة في الماضي من قبل. ومع ذلك، من الناحية التجريبية والتحليلية، تثير الانتفاضات في العالم العربي العديد من التساؤلات حول آليات البحث وتأثيرها في إنتاج المعرفة. تجري مناقشة نوعين من الاهتمامات: من ناحية، كيفية الوصول إلى المصادر والأبواب التي تفتح أو تغلق أمام الباحثين ومن ناحية أخرى، ضرورة الأخذ في الحسبان المصادر الجمعية الهامشية المجهولة في ظل غوغاء آراء «الشعب» والمتظاهرين والعروبة الرقمية (غونزاليس- كيجانو، 2012م).
كما قلنا سابقًا: من تونس حيث كثير من أعمال العنف لا يمكن أن تمنع الكشف عن المواعيد النهائية الحرة للانتخابات، وصولًا إلى سوريا أو اليمن أو ليبيا التي مزقتها الصراعات الدموية لأكثر من أربع سنوات، تقدم دول المنطقة طرائق غير مضمونة للوصول إلى ميادين البحث والأرشيف والجهات الفاعلة؛ لذا فإن إمكانية عمل الباحثين هناك تكون مختلفة اختلافًا جذريًّا من مكان إلى آخر. إن ظروف إنتاج المعرفة –
والوصول إلى المصادر- تمثل تحدّيًا كبيرًا في المناطق الأكثر خطورة وفي السياقات الأكثر درامية، في حين أن الحاجة إلى دراسة هذه المناطق تبدو اليوم ضرورية أكثر من أي وقت مضى.
إذا توافرت آليات بحث جديدة كحرية التعبير أو إمكانية النفاذ إلى الأرشيف -فسيجري إنشاء طرائق أخرى للبحث والتحليل، سواء كانت أرشيفات الثورة على الإنترنت أو حتى بيانات انتخابية لم يكن من الممكن الحصول عليها في ظل الأنظمة السابقة. ومع ذلك، كيف نُحلّل القضايا الراهنة ونعطيها معنى بعيدًا من الظرفية، في حين أن ما يبدو أكثر أهمية للباحث ولمحاوريه، الذين من شأنهم أن يختفوا أو أن تهتز ثقتهم به، هو نسق تغير اليومي؟ ما البيانات المعتمدة للبحث عندما يحاول الحاضر تدمير كل آثار الماضي ويظل المستقبل غير مؤكد؟ ما نوع المصادر التي يمكن أن تؤسس معرفة علمية لتجربة العنف الذي عاناه السكان الذين شملهم الاستطلاع والمعاناة التي مروا بها؟
المستوى الثاني للتساؤل يتعلق بالطريقة التي تذكر بها «الأحداث» بأن المصادر في حد ذاتها تركيب اجتماعي. في هذا السياق، يجب تحليل النشاط الذي يقوم به النضال الافتراضي، وبصفة عامة الحرب الإعلامية التي تشن في قلب الثورات وأخذ مختلف وجهات النظر على محمل الجد.
لا تتعلق المسألة فقط بصدام خطابات سلطوية متناقضة تنادي بالرجوع إلى مصادر مختلفة كالسلف والمراجع و«المنذرين» والشهود، بل توجد طرائق تعبير مختلفة كفنون الاحتجاج (الفيسو،2013م، بواكس، 2013م، بونفوا ) واللهجات المحلية المتعددة (كيل، ألور، كوبي، 2007م، ك.ميلر)؛ لذا نهتم هنا بالدراسات الثقافية (ر.جاكمون) واللغوية والأبحاث الأنثروبولوجية التي تدرس الطريقة التي يمكن بها للحدث أن يساهم في تغيير وجهات النظر، وجعل اللهجات والتاريخ المحلي والأصوات الضعيفة ليست فقط أدوات شرعية للمعرفة، ولكن إبداعية أيضًا، إضافة إلى إحداث ثورة في المناهج. على الرغم من أن هذه الحركات كانت موضع بحث قبل 2010م، فإنها أصبحت الآن في قلب التخصصات التي عادة ما تكتب بالإنجليزية، بصيغة المذكر، في المدن وبالاعتماد على وجهات نظر مهيمنة.
الدرجات الأكاديمية
إن تأثير الثورات العربية على العلوم الاجتماعية يظهر من خلال الدرجات الأكاديمية. فالسؤال يختلف باختلاف المجالات الأكاديمية التي ينتمي إليها الباحثون، وإذا ما كانوا ينتمون للبلدان المعنية بالانتفاضات أم لا. لم يكن توثيق هذه النقطة بالأمر الهين؛ لأنه على الرغم من النشر الواسع للدعوة (بالإنجليزية والفرنسية) والمقدار الكبير من المساهمات المرسلة، فإن عدد الباحثين العرب المشاركين قليل. إن فرضية أن «قوة» الحدث من شأنها أن تنهك طاقة البحث لمدة طويلة نوعًا ما، وأن تؤثر في النشاط العلمي والجامعي واردة (ل.شويخة).
أفسح الإنتاج الأكاديمي الكلاسيكي الطريق لأنواع أخرى من التعبير الفكري الناجم عن السياق الاجتماعي المباشر- الخبرة المصاحبة للتحولات السياسية على وجه الخصوص (ج-ب. لو مولاك)، والمشاركة المدنية، أو حتى طرائق تفكير جديدة يُعبَّر عنها عبر آليات كتابة جديدة أكثر تفاعلية وذاتية وملائمة للأزمات المتتالية. وذلك هو حال البلدان التي لم تؤدِّ فيها الحركات الاجتماعية من فورها إلى اضطرابات سياسية كبيرة، ولكن أثرت فيها بشكل أو بآخر. نأخذ على سبيل المثال التناقض بين الجزائر وفلسطين اللتين احتضنتا «الثورة» تاريخيًّا، وهو ما جعلهما مركز اهتمام الباحثين والمفكرين.
إن فرضية ضيق المساحات المشتركة بين الباحثين واردة أيضًا. في سياق الاستيعاب الداخلي للعلوم الاجتماعية، يجب ألّا يحجب التحدي المتمثل في جعل الأصوات الفرانكوفونية مسموعة في مواجهة الفضاء الأكاديمي الأنغلوفوني الحاجة المُلحّة لبناء نقاش أقوى مع العلوم الاجتماعية العربية التي تنشر في شبكات بحثية جديدة، كمعهد الدوحة للدراسات العليا، والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية، وأيضًا المجلة الإلكترونية «جدلية» التي تصدرها مؤسسة الدراسات العربية. تعود هذه المبادرات لجامعيين «محليين» حتى لا يكون للباحثين الأجانب وحدهم القدرة على قول وتحليل «ما يحدث».
ليست هذه المبادرات بالجديدة، ولكن الحدث زاد من رغبة الباحثين المحليين في ألا يستبعدوا من سرد تاريخهم. يكمن التحدي لهم في (إعادة) تبني القراءات والخطابات التي تهم مسارات المجتمعات التي ينتمون إليها، باعتماد الكلمات التي تعتمدها العلوم الاجتماعية. وذلك في سياق تسلط فيه الأعمال الأخيرة الضوء على تفاقم التهميش لأنماط إنتاج المعرفة («انشر محليًّا، مت عالميًّا/ انشر عالميًّا، مت محليًّا»، حنفي) بما أن نظرة الباحثين «المحليين» قريبة من الواقع التجريبي، ولكنها تنحصر في معرفة «محلية» غير مرئية. بينما يؤكد الباحثون «الأجانب» على المعرفة المقارنة والنظرية «العالمية» في مجال البحث الدولي، إضافة إلى التوافق مع معايير المنشورات الأكاديمية.
العنصر الأخير الذي بدا مركزيًّا لنا في علاقات المعرفة هو الوضعية الأكاديمية للباحثين: الاضطراب الجذري لمجال البحث، وإمكانية الاضطرار إلى إعادة النظر في شبكات القراءة تختلف اعتمادًا على ما إذا كان الباحث شابًّا (في مسار الدكتوراه) أو باحثًا مؤكدًا يتمتع بوضع أكاديمي أكثر استقرارًا. عندما ينخرط الباحث في بحث محدد لمهنة مستقبلية مرتبط بمدة زمنية معينة (السنوات النظرية الثلاث لأطروحة الدكتوراه)، يمثل أي تغيير مهم في المجتمع عائقًا بحثيًّا. فغض البصر عما هو خارج عن الحدث الراهن يمثل مخاطرة بإغفال هدف البحث الأساسي، ومن ثم إطالته إلى أجل غير مسمى.
من ناحية أخرى، إن إيلاء أقل قدر من الاهتمام للأحداث الخارجية يعني تعريض نفسك لتقديم تحليلات يُنظر إليها (حتى بشكل خاطئ) على أنها تكاد تكون مكتملة، إضافة إلى مواجهة الخطر المتمثل في إغلاق ميدان البحث، واستحالة الوصول إلى الفاعلين، والأماكن، والأرشيف، في اللحظة نفسها التي يدرك فيها الباحث الشاب «التراكم البدائي» الذي سوف يبني رأس المال العلمي للفرد، ويكون ذلك أقل خطورة بكثير في مرحلة لاحقة من الحياة الأكاديمية. فإن تجدد الاهتمام العام في منطقة متغيرة والطلب الاجتماعي الناتج عنه قد يوفر فرصًا جديدة، بما في ذلك فرص تمويل للبحث.
هذا التفاوت في المكانة في مواجهة الاضطرابات في مجال التحقيق يتداخل جزئيًّا مع التمييز المشار إليه أعلاه، الذي يميز بين الباحثين «المحليين» -الراسخين على نحو دائم في هذا المجال، سواء كانوا ينتمون للبلد أم لا – والباحثين «البعيدين» الذين يقدمون أداءً قصير المدى.
المصدر: https://livre.fnac.com/a9058320/CATUSSE-SIINO-Revolutions-arabes
بيبيوغرافيا: Abbott Andrew, 2001, Time matters. On theory and method, Chicago, The University of Chicago Press.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق