كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في رحيل عبدالله باخشوين
كنت أقرأ له وأقرأ عنه نثارًا في الصحف المحلية بعد عودته من الخارج، وليس لدي فكرة كاملة عنه شخصًا ونصًّا حتى انتقل إلى جازان واستقر في مدينة (أبوعريش) وفتح محلًّا لبيع الأشرطة فيها، ربما لمجرد الحركة والنشاط أكثر منه للتجارة والتكسب. عبدالله كان لا يقيم وزنًا للمال على رغم حاجته إليه لمتطلباته الشخصية، ولتغطية كرمه وسخائه الذي كان يفوق دخله. وكانت أم محمد قد نقلت عملها معلمة ومربية وموجهة إلى جازان.
لا أدري في واقع الأمر أيهما أقر فكرة انتقال الأسرة إلى جازان للآخر؛ فنهر الحياة كان يجري بسلاسة. كنت أيامها قائمًا بأعمال نادي جازان الأدبي، والحراك الثقافي آنذاك بدرجات عالية؛ أمسيات ومحاضرات وندوات منتظمة، ولقاءات بين شباب المثقفين وحضور…، وكان هو يحضر ويشارك إضافة إلى اللقاءات الجانبية خارج النادي، وانفرد بحرصه على العلاقات الثقافية متجنبًا قدر الإمكان تعميق العلاقات الشخصية، متمتعًا بميزات جاذبة لأقرانه، ولا يبخل بإعارات كتبه السردية المنتقاة للشباب؛ إذ يقتني مجموعة نادرة منها ذلك الوقت، وأكثرها روايات عالمية مترجمة، ونسبة الأدب الروسي فيها عالية.
كان يحكي لنا معاناته عندما كان خارج المملكة، والمضايقات التي تعرض لها، وغثاثة الأحزاب هناك، وارتيابها في الغريب والقريب معًا وممارساتها القاسية، ويشيد بمواقف الأدباء هناك على الرغم من الوضع غير الآمن المحيط بهم.
عرفته أكثر من غيري
توطدت علاقتي به لأنني عرفته ربما أكثر من غيري، ومال هو إليّ بدرجة كبيرة، وكنا نلتقي في منزلي بحي الصفا في مدينة جازان، أكثر أيام الأسبوع إلى جانب الممارسات الثقافية على رغم تحفظه في حضور بعضها. فهو مثقف مزاجي وانتقائي وصعب المراس وصريح، وقد يكون أحيانًا غير مبالٍ مع تمتعه في أوقات قد تكون نادرة بحالات مرح وانشراح وتجليات محلقة، وبقدرته على سرد الحكايات بطريقة تروق للسامعين.
في تلك الأثناء كان النادي الأدبي زاخرًا بنشاط حيوي ومتواصل بلقاءات المثقفين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: أحمد عايل، علي ناجع، عبدالواسع سعيد، خليل حسن، محمد أحمد الشنقيطي، عمرو العامري، عبده حسن هاشم، علي محمد صيقل، حسين سهيل، سمير جابر عمر، عبدالمحسن يوسف، إبراهيم صيادي، وأسماء كثيرة فاعلة من جيلهم لا يتسع المجال لذكرهم، ومن مثقفي الجيل الذي بعدهم، إلى جانب أعضاء المجلس والمشاركين في البرامج وأعضاء اللجان الفرعية.
في تلك الأثناء طُبع «الحفلة» لباخشوين نفسه، و«أحلامي» لخليل حسن، و«الرحيل إلى الأعماق» للشاعر علي أحمد النعمي، و«ترانيم على الشاطئ» للشاعر علي محمد صيقل، و«الكتابة خارج الأقواس» للناقد سعيد السريحي. و«حوار على بوابة الأرض» للكاتب عبده خال… وغيرها من كتب الأصوات المتعددة في مرحلة حساسة ودقيقة… توطدت العلاقة بيننا وامتدت إلى عائلتينا وتبادلنا الكتب والزيارات، ودخلنا في شراكة استئجار قطعة أرض من البلدية على الكورنيش الغربي للمدينة، وأقمنا عليها استراحة بقرض من البنك الأهلي. وقد ذهب به الحماس إلى أنه سيتولى إدارتها وسيقدم من خلالها أشهى الوجبات الطائفية وخصوصًا الكبسة. وكعادته -رحمه الله- سرعان ما ملّ المشروع وما لبث أن انتقل هو وعائلته إلى الحجاز وعادوا إلى جدة، وحينما يتصل بي في أوقات متقطعة لم يسأل عن مشروعنا الذي لم يكتب له النجاح.
عزلة شاملة
بعد انقطاع طويل فوجئت به ذات ليلة يتصل من هاتفه الثابت بصوت مثقل وعميق يفيض عاطفة وامتنانًا؛ يقول: «أنت معلمي يا أبا رفيق!!». لم يدع فرصة. وأكمل قائلًا: «تذكر يوم كنا في الموسم في ضيافة صديقك الشيخ محسن عريبي، وكنت أنا على مائدة الغداء أزجر ولدي محمدًا وأحرجه أمام الحاضرين بصوت عالٍ (كان حينها لا يزال محمد طفلًا). بعدها قلتَ لي أنت على انفراد: «لمِ تؤذي طفلك المسكين يا عبدالله؟ ما هكذا التربية!». ومن يومها يا أبا رفيق صار محمد صديقي». ولكنه كانت تنتابه بعض الأيام رغبة في ملازمة بيته وعدم الخروج أو المشاركة في اللقاءات، فلا ألحّ عليه لمعرفتي بطبيعته، وكانت أم محمد والحق يقال خير مساعد له في إدارة شؤون البيت ليتفرغ هو للقراءة والكتابة، اللتين يعزف عنهما أحيانًا وتصبح عزلته شاملة للناس والكتب.
من الملحوظ أن عاملين كان لهما أقوى أثر في تكوينه النفسي والذهني: طفولته في الطائف ثم غربته. والأولى تتبدى بوضوح في نصوصه ولا سيما الأخيرة التي شملتها مجموعته الكاملة «لا شأن لي بي» التي أسعدني اختياره لي أن أكتب مقدمتها، وكنت قد أشرفت على جمعها وتنقيحها وطبعها من طريق نادي جازان الأدبي، ومراجعة بروفاتها وتصحيحها فقد كان يضيق بالمراجعة والتصحيح.
في تلك المقدمة قلت: «باعتبار الموجود تكون مسيرته القصصية مكونة من مرحلتين: الحفلة والنغري ونص «النذير» ونصوص معدودات تمثل مرحلة. وسائر القصص المتأخرة التي ضُمّت إلى المجموعة الكاملة تمثل مرحلة أخرى، لا من حيث التعاقب الزمني فحسب، ولكن لاعتبارات وخصائص فنية وأسلوبية تتجلى في كل مرحلة منهما أو تكاد. ولعل القارئ لهذه المجموعة الكاملة سيدرك بعد القراءة المتأنية لنصوص المرحلتين أنه ينتقل من فضاء إلى فضاء آخر له طقسه وعوالمه بسماته الحلمية وشخوصه الطيفية في الأولى، والواقعية في الثانية الشبيهة بسيرة ذاتية للكاتب نفسه بأسماء وشخوص حقيقية أو وهمية للتمويه.
وأعتقد أن رواية «سلطان سلطانة» الصادرة عام ٢٠١٣م عن نادي الرياض الأدبي التي سمعت بصدورها بعد نشر المجموعة الكاملة: «لا شأن لي بي» لا تبتعد من الطقس العام لنصوص المرحلة الثانية، وهو ما أكدته الكاتبة ليلى الأحيدب في الصفحة الأخيرة من الغلاف الخلفي
للرواية ذاتها.
كانت صداقتنا من أبرز محطاتنا في درب مسيرتنا الشخصية والثقافية.
رحم الله الصديق أبا محمد: عبدالله حكم باخشوين، وأعظم الله أجر الصبر على المصاب لزوجته الأخت أم محمد؛ عفاف إسلام وأولادهما: محمد وفاروق وحكم وفاطمة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق