لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
«المجد لكاتم الصوت».. الاغتيالات الثقافية والسياسية في بيروت الحداثة والتعددية
على الرغم من أن بيروت تعد واحة التعددية والثقافة والحداثة والشعر والأفكار الجديدة والنيّرة والصحافة «الحرة»، فإن لبنان -رغم كل ذلك- شهد منذ الاستقلال عام 1943م أبشع أنواع الاغتيالات السياسية التي طالت أكثر من عشرين صحافيًّا وكاتبًا وأديبًا بارزًا، واستعملت في الاغتيالات العبوات الناسفة والرصاص أو كاتم الصوت، وصولًا إلى الضرب بالفؤوس على الطريقة الداعشية.
ولم ينجُ بعض الأشخاص الذين تعرضوا للاغتيال من التمثيل بجثثهم (سليم اللوزي وسهيل الطويلة، نموذجان)، وبدا أن لبنان بلد هشًّا يسهل فيه فعل أي شيء، خصوصًا في مرحلة الحرب الأهلية (1975- 1990م)، ومرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005م، فلبنان بلدٌ مستباح.
تقول الباحثة منى فياض في محاضرة لها: «إن كثافة عمليات الاغتيال أو محاولات القيام بها تجعلنا نعتبرُ أن الاغتيال في لبنان بعد الاستقلال تحوّل إلى لغة تخاطب أداة عمل سهلة التنفيذ»، وتضيف «يبدو لي أنّ أحد أسباب هذه السهولة في اللجوء إلى الاغتيالات كسلاح لفرض واقع سياسي».
وغالبًا لا يتعرض القتلة للمحاسبة، بل هم «معلومون مجهلون»، نسمع كثيرًا عنهم في الإعلام، لكنهم لا يَمثُلون أمام القضاء، ربما هم «أقوى» من القضاء وفوقه. وبحسب الباحث خليل أحمد خليل «شكّل الإعدام أو الاغتيال السياسي ظاهرة في مندرجات المسألة اللبنانية، تنمّ عن انعطاف في مجرى العلاقة التناقضية بين العدالة والسياسة».
وقاطرة الأسماء التي تعرضت للاغتيال متعددة الانتماءات والأسباب والقراءات، فقد شكل اغتيال الصحافي نسيب المتني، نقيب المحررين السابق، صاحب جريدة التلغراف المعروف بانتقاداته الحادة لسياسة الرئيس اللبناني كميل شمعون الخارجية، فاتحة الاغتيالات السياسية لصحافيي ما بعد الاستقلال، دفع المتني ثمنًا لموقفه السياسي بسبب معارضته لسياسات الرئيس؛ إذ وقف ضد التجديد لرئيس الجمهورية، عادًّا التمديد جريمة. يقول المفكر كريم مروة: «كنت أعرف المتني جيدًا، وهو صحافي ولديه جريدة واسعة الانتشار، وكان عضوًا في الحزب التقدمي الاشتراكي وكان شعبويًّا. تمّ اختياره (اغتياله)، ليعمل مشكلة في البلد، وكان البلد عمليًّا يتحضر لهذا المشكل…» شكل اغتياله الشرارة التي أطلقت موجة عنف في اليوم التالي للاغتيال، فدعت المعارضة إلى الإضراب العام، وفي يوم التشييع انطلقت تظاهرات عارمة في مختلف المناطق اللبنانية، عبّرت عن الغضب والاستنكار ضد الأحلاف العسكرية الأجنبية، وطالبت باستقالة شمعون، وسرعان ما بدأت المواجهة وأدت إلى حوادث 1958م، وهي الحرب الصغرى التي ستكون المقدمة للحرب الكبرى 1975م…
وإذا كانت عملية اغتيال المتني، جاءت داخلية مع كثير من السيناريوهات والتخمينات، فعملية اغتيال الصحافي كامل مروة (16 مايو 1966م) كان لها أبعاد إقليمية معروفة… تكمن أهمية كامل مروة في مساهمته الفاعلة في تطوير الصحافة اللبنانية، إخراجًا وإنتاجًا وتحريرًا، إلى ابتكاره الافتتاحية القصيرة… فالصحافي ابن بلدة الزرارية الجنوبية، مؤسس «الديلي ستار»، و«الحياة» و«بيروت ماتان»، اغتيل بسبب مواقفه السياسية ومعارضته الناصرية، ففي ربيع عام 1966م، أدلى الرئيس جمال عبدالناصر بخطاب قال فيه: إن القوة الجوية المصرية صارت تسيطر على سماء العالم العربي، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، وإن هذه القوة المصرية قادرة على محو إسرائيل.
علق مروة على خطاب عبدالناصر في افتتاحية في «الحياة»، قائلًا: إنه «إذا كان عبدالناصر قويًّا بما فيه الكفاية للقضاء على إسرائيل، فماذا ينتظر؟» وهذا الموقف كان جزءًا من مواقف كثيرة أطلقها صاحب «الحياة»، فبينما كان عبدالناصر يرى الانقلابات العربية كثورات تحرر، كان مروة ينظر إليها كحركات عسكرية فجّة هدفها التسلط على الحكم، ليس إلا.
وكانت الخاتمة المريرة اغتيال مروة في مكتبه، تقول الروايات: إن الضابط السوري عبدالحميد السرّاج، كلف إبراهيم قليلات رئيس ميليشيا «المرابطون» بعملية اغتيال مروة، وقليلات بدوره جنّد عدنان سلطاني، وأمّن له المسدس بكاتم للصوت، ودرّبه على استخدامه، وفي أثناء المحاكمة قال سلطاني: «ليس بيني وبين المغدور عداء شخصي، وقتلته بسبب تأييده للأحلاف». انتهت المحاكمة التي دامت سنتين إلى المعمعة، فقضت بالإعدام للقاتل عدنان سلطاني، وبالسجن للمشاركين الفارين محمود الأروادي وأحمد «سنجر» المقدم، وبرّأت «المحرض» إبراهيم قليلات. وورد في كتاب «ثلاث مدن شرقية» للكاتب فيليب مانسيل، أنه «وفي منطقة قليلات استُقبلت براءته في عام 1966م من اغتيال صحافي معادٍ لعبدالناصر يدعى كامل مروة بوابل من النيران وذُبح كثير من الخراف».
شعارات تطعن في مروة وترفع من شأن قتلته
ثم تبع ذلك عفو رئاسي خفّض عقوبة الإعدام الصادرة بحق القاتل إلى السجن 20 عامًا، وكان سلطاني سجينًا مرفهًا بأي مقياس. فرعاية المخابرات المصرية له لم تتوقف بعد إدانته. وزيارات موظفي السفارة المصرية في بيروت، وبينهم الملحق الأمني عبدالحميد المازني، كانت متكررة. كما لم يتعقب أحد الأروادي والمقدم، وبقيا حرّين طليقين. وعدا نَحْرِ الخراف تزامنًا مع إعلان «براءة» قليلات، وُزِّعت منشورات في بعض المناطق اللبنانية، «تطعن في كامل مروة، وترفع من شأن المتهمين. وألصقت صور إبراهيم قليلات في عدد من جدران بيروت والضواحي والأرياف، ووصفته بـ«البطل وابن بيروت البار».
وحين توكل محسن سليم (النائب الراحل، والد لقمان سليم الضحية الجديدة للاغتيال السياسي) عن الجهة المدعية ندّد الصحافي سليم اللوزي، صاحب مجلة «الحوادث» بمحسن سليم وقارن بينه وبين إبراهيم قليلات ناسبًا إلى المحامي الوكيل «العمالة». وأغدق اللوزي في الدفاع عن قليلات قائلًا: «عند إبراهيم قليلات، كانت الحقيقة أثمن من الحياة، فغامر بحياته من أجل أن تظهر الحقيقة». وبرر اللوزي دفاعه عن قليلات لأنه يحب «خطه السياسي الذي هو خطنا». ولم يُكمل سلطاني عقوبته؛ إذ نجح في الإفلات من سجنه إبان الحرب الأهلية عام 1976م، أي بعد مرور 10 سنوات على جريمته. وجيء بسلطاني إلى العاصمة المصرية بعد فراره من سجنه في رومية في ذلك العام.
وكان مطار بيروت مقفلًا، فجرى تهريبه بالبحر عبر مرفأ صيدا إلى مصر لمقابلة الرجل الذي أمر، أو ربما أُمر، بتنفيذ مؤامرة الاغتيال. كانت القاهرة يومئذ قد دخلت عهدًا جديدًا مع تبوُّؤ الرئيس أنور السادات الحكم بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر عام 1970م. أما السراج، فكان نجمه قد أفل بغياب الأخير، ولم يعد له أي شأن، وكان أحد مسببي الفوضى والقتل في لبنان والمسؤول عن اغتيال فرج الله الحلو، الأمين العام للحزب الشيوعي، وتذويبه بالأسيد في دمشق.
عدا انزعاج الناصرية من الأقلام المعارضة، هناك الانزعاج الإسرائيلي من الأقلام المقاومة؛ إذ لجأ الموساد الإسرائيلي إلى تنفيذ مجموعة من الاغتيالات ضد شخصيات ثقافية فلسطينية في لبنان، بدءًا بالروائي غسان كنفاني عام 1972م في الحازمية (شرق بيروت)، مرورًا بالشاعر كمال ناصر ورفاقه عام 1973م في فردان.. دائمًا إسرائيل كانت ترى الشعر والثقافة أخطر من المدافع.
القتل جزءًا من يوميات اللبنانيين
مع بدءِ الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975م، صار القتل جزءًا من يوميات اللبنانيين وعناوين صحفهم، ففي الثاني من إبريل 1976م، اغتيل المنظّر كمال الحاج بضربة فأس في رأسه. وكان انتقل مع عائلته إلى قريته الشبانية (جبل لبنان) حيث أسهم في إبعادِ شبح الفتنة عن منطقة يتعايش فيها المسيحيون والدروز، لكنه ما انفك يتلقى تهديدات بالقتل… كان الحاج من دعاة القومية اللبنانية، ومحبًّا للغة العربية، ويرفض العروبة الدينية، نحت كلمة نصلامية للتدليل إلى أن «القومية اللبنانية» هي زواج حضاري بين النصرانية والإسلامية، ونظّر بطريقة شوفينية للقومية اللبنانية في مواجهة القومية الناصرية، وأصدر مجموعة من المؤلفات منها: «فلسفة اللغة» و«رينيه ديكارت»، ويبدو أن شعاراته القومية لم تَرُقْ خصومَه في زمن الفرز المذهبي والقومجي، فحصل الاغتيال البربري الرهيب…
ومع دخول الجيش السوري إلى لبنان في إطار قوات الردع العربية، بدا واضحًا أن لبنان، وهو خاصرة سوريا الرخوة، سيعيش على وقع موجة جديدة من النزاعات والاغتيالات والتصفيات والأحقاد… فعدا الاغتيال الكبير الذي طال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط عام 1977م، كان اغتيال سليم اللوزي، وهو صحافي وُلد في طرابلس، وبدأ مشواره في كتابة القصص. سافر إلى القاهرة للدراسة الجامعية وعمل في روز اليوسف من عام 1945م إلى 1950م، وطُرد من مصر بسبب مقال، وعاد ليعمل في مجلة «الصياد» اللبنانية. وفي عام 1956م اشترى مجلة «الحوادث» ليصدرها أسبوعيًّا، وتطورت بسرعة حتى أصبحت في طليعة المجلات العربية.
كان اللوزي ناصريًّا في زمانه، ودافع في مجلته عن إبراهيم قليلات المتهم والمحرّض على قتل كامل مروة، وكان رافضًا للوجود السوري في لبنان، وكتب مقالات كثيرة في نقده، ويعدّ بعض مريدي الأسد في لبنان أن اللوزي كتب عن الطوائفية في سوريا ولم ينتبه للتحولات الجديدة، وما اقترفه إصداره «الحوادث» في أسبوعين متلاحقين بغلافين مثيرين و«استفزازيين»؛ الأول هو «عقدة العقيد» والثاني «عندما يكذب النظام»، وهو إذ كان يشعر بالأمان في لندن وعاد منها ليومين للمشاركة في جنازة والدته، وخلال عودته من طرابلس ليستقل الطائرة من بيروت، اختفى على طريق المطار، وقُتِل في 4 مارس 1980م، وعثر على جثته أحد الرعاة في أحراج عرمون (جنوب بيروت)… وقد عذب بأبشع الطرق قبل قتله حتى إن أصابعه التي كان يكتب بها أحرقت بالأسيد… كان انتقامًا رهيبًا من رجل كان يختلف سياسيًّا مع النظام الحاكم في سوريا.
وفي 23 يوليو من عام 1980م، اغتال خليل عباس الموسوي وعبدالإله محمد الموسوي نقيب الصحافة رياض طه لأسباب قيل إنها «ثأرية» بعدما نصبوا له كمينًا في منطقة الروشّة– بيروت، مطلقين ما يفوق الأربعين رصاصة، استقرت ستٌّ منها في جسده. وأصدر المجلس العدلي اللبناني حينها، حكمه الغيابي في القضية بإنزال عقوبة الإعدام بحق الفاعلين (خليل وعبدالإله). والقضية لم تكن عشائرية بالمعنى العميق للكلمة، فكل التحقيقات تؤكد ذلك، وتقول: «إن هناك من دخل على الخط واستغل الخلاف العشائري، وعمل على التحريض ضد رياض طه لتصفية الحسابات السياسية معه، وبخاصة اتهامه يومًا بأنه يتعاطف مع حزب البعث العراقي في زمن تشظي العلاقات العربية- العربية، وانعكاس ذلك على الداخل اللبناني».
وسبق أن تعرض طه لمحاولة اغتيال في عام 1947م؛ بسبب مقالاته في جريدة «أخبار العالم» ضد الإقطاعية والإجرام وبيع الوظائف والسمسرة والإثراء غير المشروع، فكان قد نشر مقالًا بعنوان «خصمي وحاكمي» الذي كان كافيًا لأنْ يَصدر قرارٌ من مجلس الوزراء بتعطيل الصحيفة إلى أجل غير مسمى. كما جرت محاولة فاشلة أخرى لاغتياله في عام 1952م، وقد تبنَّت نقابة الصحافة المقال الذي سبب الاعتداء.
أعنف موجات الاغتيال الثقافي والسياسي
وشهدت مرحلة الثمانينيات أعنف موجات الاغتيال الثقافي والسياسي، طالت عددًا من المفكرين متنوعي التوجهات؛ منهم: الشيخ الدكتور صبحي الصالح في 7 أكتوبر 1986م بمسدس كاتم للصوت في حي ساقية الجنزير (بيروت)، والصالح حاصل على دكتوراه في الفلسفة والدراسات الإسلامية من جامعة السوربون، وكان يشغل رئاسة المجلس الأعلى الإسلامي الذي كانت تقوم مهمته، على الخصوص، في تفسير الفقه الإسلامي. وعُرف عن الشيخ أنه مؤيد بقناعة للتعايش الإسلامي المسيحي (أتت موجة اغتيال الصالح في إطار حملة طالت مجموعة من الشخصيات السُّنِّيّة؛ منهم: مفتي الجمهورية حسن خالد، والنائب ناظم القادري، والصحافي محمد شقير، وخليل عكاوي…).
وطالت الاغتيالات أيضًا الصحافي الشيوعي سهيل طويلة بعدما خُطف من بيته الذي يقع في المبنى نفسه حيث تقع المستشارية الإيرانية (سفارة إيران) على برج أبي حيدر، إثر اشتباك بين الشيوعيين و«حزب الله». ووُجد سهيل طويلة بعد 24 ساعة من خطفه مقتولًا بست رصاصات في رأسه، مشوهًا ومقتلعة عيناه، ومرميًّا على مكب النورماندي في عين المريسة، وكانت العملية نوعًا من «ثأر» من شقيق أحد القتلة.
واغتيل المفكر حسين مروة في 17 فبراير 1987م برصاصة واحدة من مسدس كاتم للصوت في غرفة نومه، ومروة تعلم العلوم الإسلامية في النجف، وهناك تَعرَّف إلى بعض الشيوعيين، وترك العمامة، والتحق بالفكر الماركسي، وصار من أبرز مُنظّريه في لبنان، وأصدر مؤلفات مثل: «النزعات المادية»، ورأس تحرير مجلة «الطريق» على مدى سنوات، وكان طريح الفراش حين اغتيل. يروي نجله أحمد سيرته فيسلط الضوء بغزارة في كتابهِ «كما أرادها أن تكتب، سيرة حسين مروة» على أدق تفاصيل حياته الإنسانية الدافئة، ويرمم مسارات الذاكرة لصيرورة حسين مُروّة، ولكن عندما تصل رواية السيرة إلى مرحلة النهاية أي إلى تاريخ حادثة الاغتيال، يقول نبيل مروة (نجل الكاتب وحفيد القتيل): «يُصبح الإيجاز الشديد وعدم البوح، السمتين الطاغيين على صفحات ثلاث فقط لا غير، تسرد الخبر بصيغة حيادية باردة غير مُهتمّة بإعادة بناء مسرح الجريمة من زوايا الصراعات المتعددة وقتذاك وفي مستوياته السياسية والأمنية والعقائدية». ويسأل نبيل والده عن سبب هذا الإحجام في الخوض في موضوع حادثة الاغتيال والاكتفاء بذكر التصريحات العمومية لقيادة الحزب الشيوعي اللبناني التي تارة كانت تتهم «الظلاميين والتكفيريين» بتنفيذ الاغتيالات، وطورًا تتهم «إسرائيل وعملاءها في الداخل». أجاب أحمد مروة: «يا ابني، هل تريد أن يعودوا لأذيتنا؟… أنا لست مهتمًّا لأعرف القاتل وأخبّر عنه، فردًا كان أم حزبًا، ومن أجل ماذا؟ الانتقام أو العقاب! الحقيقة قد تُكتشف عبر هذا الكتاب…! هذا كان واجب الحزب الشيوعي في ذلك الزمن، ولم يستطع عمل أي شيء!».
وأتى اغتيال حسين مروة في إطار حملة لتصفية الشيوعيين في لبنان، طالت أبرز قادته الفكريين، ومنهم مهدي عامل (اسمه الحقيقي حسن حمدان)، صاحب كتاب «مقدمات نظرية»، وهو اغتيل في مايو 1987م بعد دخول القوات السورية إلى بيروت، واتهمت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي «يد العمالة والخيانة»… ويكتمل مشهد الاغتيال برفض مراجع شيعية إقامة صلاة الجنازة على الراحل لأنه شيوعي، يومها قال «اليسار العربي» و«الثقافي»: «الرجعية والفكر الظلامي قتلوا مهدي عامل».
ولاحقًا كتب أحمد برقاوي، الأستاذ في جامعة دمشق، أنه «بعد اغتيال حسين مروة برصاص «حزب الله»، بأيام، اجتمعنا في بيت الدكتور طيب تيزيني، على شرف حضور الفيلسوف والشاعر الماركسي المحبوب، مهدي عامل، وسئل مهدي: كيف ستكون العلاقة بينكم وبين حزب الله وأمل بعد اغتيال حسين مروة؟ فأجاب: لا بد من التحالف معهما، نحن في معركة صعبة. فقلت: من قتل حسين مروة سيقتل مهدي عامل، أخاف عليك. فتبسم مهدي بسمته الطفولية وأجابني: لا تخف علي. ولم يمض على اغتيال حسين مروة أشهر حتى اغتيل مهدي».
مع اتفاق الطائف خفّت الاغتيالات
خفّت عمليات الاغتيال السياسي بعد اتفاق الطائف نهاية الحرب، باستثناء اغتيال الكاتب مصطفى جحا الذي كان وجّه انتقادات قاسية للتدخل الفلسطيني في لبنان، وفي عام 1980م؛ أصدر كتاب «الخميني يغتال زرادشت» انتقد فيه ترك الشيعة للبنانيتهم، وانتقد في الكتاب نفسه مواقف الخميني، وهو ما أثار غضب رجال الدين الإيرانيين. وقد أصدرت المحكمة الشرعية الجعفرية، عام 1983م، فتوى شرعية تقول: إنّ «مصطفى جحا مرتد وكافر!». اغتيل جحا، يوم 15 يناير 1992م، بعد انتهاء الحرب اللبنانية، في منطقة السبتيّة (شرق بيروت)، وقد أُهمل ملف اغتياله بطريقة مريبة. حكى مصطفى جحا (الابن) كيف عايش عندما كان في الثامنة عملية اغتيال والده بداية التسعينيات في بيروت. وبعد أن قرر فتح ملف الاغتيال وإعادة نشر كتب والده أصبح عرضة للتهديد وحاول مجهولون اغتياله.
وبعد عام 2004م عادت موجة الاغتيالات السياسية، ففي 2 يونيو 2005م اغتيل الكاتب والصحافي في جريدة النهار، سمير قصير بعبوة ناسفة تحت سيارته في الأشرفية (شرق بيروت)، وأشارت البي بي سي في اليوم التالي لاغتياله إلى أن الأيادي الملطخة بالدماء امتدت للبنان ثانية لتهاجم واحدًا من أبرز صحافييه، ومن أشجع العناصر في انتقاداتها للنظام السوري.
وسمير قصير صاحب كتاب «تاريخ بيروت»، وأكثر من استعمل عبارة «عسكر ع مين»، من منظري التظاهرات عام 2005م، خلال تحريره مقالات عدة ينتقد فيها النظام الأمني ومدير الأمن العام تحديدًا جميل السيد. وبحسب جزيل خوري، زوجة قصير، فإنه أخبرها قبيل اغتياله بأن السيد اتصل به هاتفيًّا وأبلغه استياءه الشديد منه، وتوعد بقتله شخصيًّا على خلفية مقالاته التي تعرض فيها للجهات الأمنية اللبنانية الموالية لسوريا. غير أن السيد أنكر في تصريحاته للبرنامج أنه توعد قصيرًا بالقتل، وقال: إنه توعد بملاحقة ملفه، والتحقيق في كيفية حصوله على الجنسية اللبنانية، وهو الذي وُلد لأب فلسطيني وأم سورية.
واغتيل الصحافي والسياسي جبران تويني، نجل غسان تويني وحفيد جبران تويني، الذي يمثل الجيل الثالث في جريدة النهار، وكان أعلن في نهاية أغسطس 2005م أنه تلقى معلومات دقيقة من لجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري بأن اسمه على لائحة الاغتيال، وقرر بعد ذلك السفر وقضاء معظم وقته في باريس، وهو الذي عُرِف بمواقفه «الحادة» تجاه «حزب الله» وسلاحه وولائه، وكان يقول آراءه بلا مواربة، ويفتقد إلى ما يسمى الدبلوماسية… تحدّى تويني نصائح الكثيرين له بالبقاء في باريس، وقرر العودة إلى بيروت، وكانت السيارة المفخخة في انتظاره على طريق منزله في 12 ديسمبر 2005م، في اليوم الثاني لوصوله إلى لبنان. وشكل اغتياله ضربة قاسية لجريدة «النهار»، وأتى بعد محاولة اغتيال خاله النائب مروان حمادة واغتيال زميله سمير قصير، وكان قبل يومين زار في المستشفى بباريس زميلته مي شدياق التي كانت تعرضت لمحاولة اغتيال، وبُترت ساقها ويدها.
ولم تهدأ الاغتيالات السياسية إلا بعد حصول «تسويات» سياسية هشّة، وانحسار الخطاب المضاد للسلاح غير الشرعي في لبنان… ولكن بعد انتفاضة 17 أكتوبر 2019م، بدا أن ثمة تحولات وقعت؛ إذ تصدّعت الأحزاب المسيطرة على السلطة، وتنامى خطاب الشارع الرافض لكل الأحزاب القديمة، ومنهم «حزب الله» الذي طالما عَدَّ نفسه مترفعًا ومنزهًا عن الآخرين؛ بسبب أنه يرفع راية «المقاومة».
حملات إعلامية ضد لقمان سليم
وسرعان ما شُنت حملات إعلامية على «الناشط السياسي» والكاتب والناشر لقمان سليم، وغيره من الناشطين بتهمة العمالة والتبعية للسفارات، وهذا المرة أتت الحملة مصحوبة بشعارات ألصقت على جدران منزله في ضاحية بيروت، أبرزها «المجد لكاتم الصوت». وحصل انفجار مرفأ بيروت وأتت بعده معمعة وبلبلة حول الجهة المسؤولة عن تخزين الأمونيوم فيما سمي العنبر رقم 6 في المرفأ، ولم تمرّ أشهر حتى عادت الاغتيالات بطريقة أكثر غموضًا؛ إذ قتل ضابط متقاعد في غرفته بضربة في الرأس، واغتيل المصور جو بجاني بكاتم للصوت أمام منزله، وقيل: إنه كان من مصوري المرفأ.
ولم تمر أسابيع حتى اغتيل لقمان سليم في 4 فبراير الماضي في جنوب لبنان… والنافل أن لقمان أنشأ في سنوات ما بعد الحرب اللبنانية، مركز «أمم للتوثيق والأبحاث» الذي يؤمن بحسب تعريفه بـ«أن التعامل مع أعمال العنف في تاريخ لبنان، هو أمر أساسي للقضاء على شبح تجدد الصراع الذي لا يزال يتردد على البلاد حتى اليوم». وتفرع عن «أمم للتوثيق» موقع «ديوان الذاكرة اللبنانية». ومَن يتأمل بيانات الموقع، يحسب أن لقمان كان يكتب عن نفسه، أو أنه، بمعنى ما يقرأ في قدره… ويضع لقمان لائحة بالاغتيالات التي حصلت في لبنان منذ عام 1975م يوم اغتيل معروف سعد في صيدا، إلى اغتيال جو بجاني، وكأن قدره أن يكون بينهم. عدا ذلك عُرف لقمان بتصويره بعض الأفلام السينمائية الجريئة، عن مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982م، وعن سجن تدمر في سوريا، وأصدر سلسلة من الملفات تتناول قضايا حساسة مثل ملف المفقودين في لبنان…
المنشورات ذات الصلة
سردية الصحراء… حفاظ على الهوية أم بحث عن الغرائبي والمدهش؟
ظلت الصحراء العربية مرتكزًا رئيسًا في الثقافة العربية لسنوات بعيدة، ربما لأن المنطقة العربية تقع في واحدة من أكبر...
الكتابة الذاتية بين عالمين وسيلة للخلاص أم انتقام من الماضي وإدانة للذات؟
تعد رواية «الخبز الحافي» من أشهر الروايات العربية المعتمدة على السيرة الذاتية للكاتب المغربي محمد شكري التي يحكي فيها...
في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات
في مناسبة عام الشعر العربي، مبادرة وزارة الثقافة السعودية، تستطلع «الفيصل» آراء عدد من الشعراء العرب، حول راهن الشعر...
0 تعليق