كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
سعادة دافئة مع ماكس فريش
أحبُّ الخروج للتنزُّه. أحيانًا بهدفٍ محدّدٍ مسبقًا، وأحيانًا أخرى أخرجُ فقط لأتجوّل في الأنحاء دونما غايةٍ، فأعرجُ مرة هنا وأخرى هناك، أسيرُ تحت الشمسِ أو في الفيء، في أرجاء الحيّ. في الآونة الأخيرة عثرتُ في أثناء تجوّلي على أشياء جميلة بحق. في مثل هذا الوقت يجدُ المرءُ كراتين موضوعة في كلّ مكانٍ، عليها ملحوظةٌ تقولُ: «للإهداء»؛ وذلك لأنّ الناس يملكون في هذه الأثناء وقتًا لترتيب خزائنهم. لقد حصلتُ حتى الآن على أوانٍ للقهوة والعديد من الكتب، من بينها «الشياطين» لدوستويفسكي بنسخةٍ أجمل من تلك التي أملكُ، مقالة سارتر «بودلير» و«عن السيئ في الجيد» لباول فاتسلافيك.
اليوم قرّرتُ أن أمشي مسافةً أبعد خلف حديقة الشعب، وها أنا أعثرُ ثانيةً على صندوق موضوع عند حقائب تحتوي ثيابًا، بجانب منشرة غسيلٍ ونخلةٍ توشك أن تيبس. أنظرُ في داخل الصندوق ولا أصدِّقُ ما أرى؛ إذ أجدُ، تقريبًا، التتمة الأمثل لمكتبتي الخاصّة: مجموعات كناوسغارد التي أفتقدُها، رواية يوديث هيرمان «بداية كلِّ حب» التي أجهلُها بعدُ، «النساء» لموزيل، الأعمال الكاملة لجوزيف روث وماكس فريش. تتملّكني سعادةٌ دافئة وأرغبُ في كلِّ ما أرى.
الطريق إلى البيت لا يزال طويلًا، والكتب ليست خفيفةً قطُّ، لكن لا بأس، أرفعُ الصندوق عن الأرضِ وأضعه فوق رأسي.
لبضعة أمتار خلال الشارع أكونُ جامعةَ كُتبٍ في غاية السعادةِ، إلى أن يتناهى إليَّ صوتٌ يصيحُ من خلفي: «هييه! مرحبًا، اعذريني، لكن هذا الصندوق يعودُ لنا». فأستديرُ نحوه. شخصٌ يقف قبالتي، قائلًا: «هذا الصندوق الأخير من نقلِنا للبيت». فأضعُ الصندوق أرضًا وينتابني خجلٌ، أضحكُ، شارحةً له الأمر، ومعتذرةً. فيومئ لي برأسه. «لو أنّ الأمر بيدي لأمكنكِ أخذها، فصديقتي تملكُ ما يكفيها من كتبٍ، وأجهلُ حقًّا أين علينا أن نضعَ كل هذه الكتب».
* * *
ذاك كان عشيقُها
ها أقفُ في المقبرةِ أمام قبرِ أبي؛ طلبت منّي جدّتي أن أرفعَ عن الأزهارِ أغصانَ التنوب، «ليكون في وسع الربيع المجيء». الشمسُ مشرقةٌ اليوم، لكن الريح قارسةٌ ولا تنتابني في المجمل مشاعرُ الربيع الاعتيادية. في الصف المقابل يقف رجلٌ مُسنّ أمام قبرٍ جديدٍ عليه وردٌ وأكاليل. إنَّه يرتدي قفّازين ويداهُ متشابكتان، فأتساءلُ إن كان يصلّي.
عندما يرفع الرجلُ بصرهُ، نومئ لبعضنا. أحملُ أغصانَ التنوب وأمضي بها إلى السلّة المعدنية الكبيرة. وحين ألتفتُ ألحظُ الرجلَ على بعد مسافةٍ، خلفي، حاملًا في يده إكليلًا. يقف منتظرًا. أبتسمُ له. فيشيرُ إلى الإكليل قائلًا: «عليّ التخلُّص من هذا». أومئ له، وأنصرفُ عدّة أمتار جانبًا. يرمي الإكليل في السلّة مُشيرًا إلى الشريطِ الورديِّ: «ذاك كان عشيقها». «معذرةً؟» سألتُه، إذ ظننتُ أنّي أخطأتُ السمع. «الرجل ذاك» أجاب، «كان على علاقةٍ بزوجتي، كما فهمتُ للتوّ». «أوه» أقولُ، متفكّرةً، بارتباكٍ، كيف للمرء أن يردّ في حالات كهذه. لكنّه ينظر نحوي، قائلًا: «يعتقدُ المرءُ طوال عقودٍ أنّه يعيشُ علاقة زوجيّة ناجحة إلى أن يكتشفَ عبر ورقة أسفل السرير أنَّه كان يعيشها بوجود شخص ثالث». «يؤسفني ذلك بحق»، أردّدُ مُولِجةً يدي في جيبِ المعطف. «لكن»، يُكملُ، «من عساهُ يعرف كيف كان لها أن تبدو بدونه. ورغم ذلك كلّه ليسَ عليه أن يستلقي هنا أيضًا، على قبرِها». ويضحكُ، فأضحكُ بدوري معه. نضحكُ لحظةً أكثر مما يجب، ومن ثمّ نتبادلُ النظر. «ابقي معافاة» يقولُ لي. «لقد غدا هذا أهمّ من أيّ وقتٍ مضى». سأحاولُ، أجيبه متمنيةً له الخير. في أثناء سيري ألتفتُ قليلًا، فأراهُ كيف يخبطُ الإكليلَ بالمجرفة.
* * *
عن فرحة الأشياء
في قطارِ الضواحي تجلسُ قبالتي امرأةٌ عجوزٌ بصحبةِ حقيبةِ جرٍّ وحقيبتي كتف كبيرتين موزّعة على المقاعد الثلاثة. ثيابُها سميكةٌ؛ ترتدي تحت معطفها المفتوح سترةً شتويّةً إضافية، كما تضعُ عصابةً حول جبينِها، وفوق شعرها الرماديّ الطويل تلبسُ قبعةً. قفازاها مقصوصان عند أطراف أصابعها. ها تفركُ يديها بعضهما ببعض، وتنفخُ فيهما، قائلة: «لقد أمسى الجوّ شديد البرودة». فأومئُ لها، موافقةً.
ها هي الآن تفتّشُ داخل حقيبتها وتسحبُ نظارةً تالفةً بعض الشيء من الخيطِ المعلّق بها، تُجلّسها فوق أنفها لتُخرج، بعدها، قطعتي ثياب من الحقيبة. إحداهما سترة صوفية أرجوانيّة، تقوم ببسطها وتحملها أمامها مسافة ذراعٍ لتتفحّصها ببصرها، ناظرةً إلى أزرارها، باحثة عن فاتورة الغسيل، لتنكبّ على قراءتها بطريقة جذّابةٍ تذهبُ بذاكرتي إلى جدّتي.
وها هي الآن تعيدُ طيّ السترة الصوفية بدقَّةٍ، واضعةً إيّاها من جديد داخل الحقيبة. أمّا البلوزةُ الصوفيّةُ الموضوعة في حضنِها فلونُها فاتحٌ ومصنوعةٌ من المخير. شعيراتٌ كثيرةٌ تبرزُ من صوفِها. تتبسَّمُ لي السيّدةُ، مادّةً البلوزة نحوي: «هاكِ، تحسّسيها قليلًا».
أتحسّسها برؤوس أصابعي، وأردّدُ «شديدة النعومة».
تومئ لي. «لا بدّ أنَّها دافئةٌ». تمرّر أصابعها فوقها، وتُكملُ: «لم يعد يرغب أحدٌ بهذه الأشياء؛ لذا تمكّنتُ من اختيار هذا كلّه». تُشيرُ نحو حقائبها، ثمّ تقفُ لتُريني السترة التي ترتديها تحت المعطف. «انظُري، حتى هذه السترة! أليس هذا عظيمًا؟» فأومئُ لها، مردّدةً: «أشياء في غاية الجمال». «أجل»، تردُّ السيّدةُ. «منذ كورونا صار بمقدور المرء الحصول على أشياء أفضل بكثير. الناس راحت تتخلّص من كل شيء، وبذا أكون محظوظةً».
تتبسّمُ السيّدةُ مرَّةً أخرى، وخلف نظارتها عيناها واسعتان.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق