كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الملاكم
يظهر في الصورة مرتديًا قفازي الملاكمة، ويرفع ذراعيه إلى أعلى وينظر مبتسمًا نحو الكاميرا، وخلفه يبين حائط مرسومة عليه فروع شجرة تضم «أستديو الأنوار للتصوير» على شكل عش يسكنه عصفوران.
كانت هذه الصورة الوحيدة في بيتنا لمن كان جدي يطلق عليه دائمًا «البطل محمود». وأفهمني أنه «في منزلة عمك» ليختصر صلة القرابة البعيدة به. وأكد وجود صور أخرى له لدى أقربائنا المتناثرين في محافظات عدة، تم التقاطها وهو في حلبة الملاكمة يوجه لكمات إلى خصومه، أو يقف متحفزًا في ركنه أو يحيي الجمهور بعد انتصاره. وتمنى كثيرًا لو جمع كل تلك الصور في ألبوم واحد. وظل في مكالماته مع هؤلاء الأقرباء يطلب منهم معاودة البحث عن صور البطل، ولا يقتنع بأنهم فتشوا في كل مكان ولم يعثروا على أية صورة. ويحثهم على التفتيش في الحقائب والصناديق والأكياس المهملة منذ زمن، والمكدسة بأشياء قديمة يحتاج فرزها إلى صبر. ولولا ضعف صحته لسافر إليهم وبحث عن الصور بنفسه.
وكلما سنحت فرصة لجدي كان يتحدث عن المباراة الوحيدة التي حضرها للبطل، والتي لم تستغرق سوى دقيقة واحدة، أطاح فيها بخصمه بعد عدة ضربات قوية لا يتحملها أي إنسان. وتُوّج بعدها بطلًا لمحافظة القاهرة. ولماذا لم يحصل على بطولة الجمهورية؟ كاد يحصل عليها لولا حادثة السيارة التي أصابته بالعرج. وعلى رغم محاولاته إقناع منظمي البطولة بقدرته على الملاكمة فإنهم رفضوا، ومنحوه شهادة تقدير اعتبرها نعيًا له قبل الأوان. ويقسم جدي على أن هذا العرج عجّل بموته وهو ما زال في الثانية والعشرين، فقد ساءت حالته النفسية واختفت ضحكته المجلجلة وصار صموتًا، وإن تكلم صعب سماع ما يقوله.
يحدق في الصورة الوحيدة المعلقة في الصالة، ويتذكر أن البطل أهداها له قبل وفاته بأيام كما لو كان يودعه. وإذا رأى بريق البرواز الذهبي قد انطفأ يسارع بالذهاب إلى محل البراويز لتلميعه إن أمكن أو استبدال واحد آخر به.
وما سر اهتمامه بالبطل؟ كانت إجابته التي كررها كثيرًا، أن يطلب ممن يسألونه تخيل أنفسهم وقد رحلوا عن الدنيا مبكرًا قبل تحقيق أحلامهم. ألا يسعدهم أن يظل شخص واحد على الأقل يتذكرهم، ويطيل أعمارهم القصيرة باستمراره في الحكي عنهم؟
وعلى رغم إحساس معظم من سألوه بوجود أسباب أخرى لكنهم لم يواصلوا سؤاله، فلا أحد يريد إطالة حديث يتخيل فيه نفسه وقد اختطفه الموت فجأة، وصار مجرد ذكرى لا يتذكرها سوى شخص واحد.
وفي يوم وهو يقرأ جريدة الأهرام كعادته كل صباح. صاح مناديًا كل من في البيت. أسرعنا متوقعين وقوع مصيبة. أشار إلى صورة في الأهرام
– البطل
يوجه لكمة نحو الممثل فريد شوقي الذي بدا كأنه يصرخ. والصورة منشورة ضمن حوار مع «عم عبدالله. نصف قرن من التصوير» يحكي فيه أهم ذكرياته في المهنة، ومواقف طريفة جمعته مع مشهورين مثل أنور وجدي الذي التقط صورة له وهو يكاد يقع من فوق جمل، وشادية وفاتن حمامة يتسابقان في الجري. أما محمود الذي وصفه بـ «أفضل ملاكمي جيله» فقد رغب في أن يصوره عم عبدالله داخل حلبة ملاكمة أقامها البطل بنفسه في أستديو الأنوار. وراح يتحرك ويسدد اللكمات كأنه في مباراة، ويُحيي جمهورًا تخيله احتشد في المكان. وفي أثناء التصوير حضر فريد شوقي «أهم زبون عندي»، وأعجبته تحركات الملاكم السريعة على رغم عرجه، فقفز داخل الحلبة وتبادل مع الملاكم عدة لكمات «زي ما كان بيعمل في الأفلام»، لكن يا للأسف توفي محمود قبل أن يتسلم الصور.
سعادة جدي الغامرة بالصورة والحوار دفعتنا إلى تهنئته كما لو أنه حقق حلم عمره، وطلب مني أبي الإسراع بشراء عشر نسخ من الأهرام.
– هات عشرين.
قالها جدي وهو يبحث في دليل التليفونات عن رقم أستديو الأنوار. لا بد أن يقابل عم عبدالله بنفسه، ويسمع منه الحكاية بالتفصيل، ويحصل على نسخ من صور البطل يضعها في ألبوم مخصص لها. واستبعد احتمال احتفاظ عبدالله بالصورة المنشورة فقط، فكلامه في الحوار يدل على شدة إعجابه بـ«عمكو محمود» ووفائه لذكراه على رغم مرور أكثر من أربعين سنة. ومن المستحيل أن يكون مثل «قرايبكو» الذين أضاعوا الصور ولا يقدرون قيمة البطل.
ظل يجرب الاتصال بالأستديو ولم يقلق من عدم الرد. فربما يعمل عبدالله متأخرًا، وقد يكون اليوم إجازته أو قرر البقاء في البيت احتفالًا بالحوار في الأهرام. احتمالات كانت ستتزايد لولا أن عبدالله رد أخيرًا.
وبعد مقدمة من التعارف والترحم على البطل، استغرقا في حكي ذكريات لا تُنسى عنه، وتوقفا عند مباراة بطولة القاهرة التي حضرها الاثنان، متذكرين تلك اللكمات القوية السريعة التي تهد جبلًا لا إنسانًا. وفاجأه عبدالله بامتلاكه صورة لتلك المباراة، فأخبره جدي بأمنيته الحصول على نسخ من كل الصور. وحينما علم أنها ثلاثون صورة صاح مكررًا العدد بسعادة. ولا يعرف كيف يشكر عبدالله على تلك المفاجأة الرائعة، ولا كيف يرد له الجميل. وفجأة تحول الصياح إلى همس «بكام؟ مش معقول»، وتحول الشكر إلى فصال طويل لم يغير من المبلغ المطلوب. وانتهت المكالمة على وعد باتصال آخر بعد مهلة من التفكير.
– النصاب. خمس تلاف جنيه.
وظل طول اليوم يردد «النصاب» سواء وهو ينظر إلى صورة عبدالله في الجريدة أو في أثناء جلوسه معنا يشاهد التليفزيون. وأكد أخي الأكبر على سماعه جدي يصيح بـ«امسك حرامي» وهو نائم وخبطت يده السرير بقوة.
قرر في اليوم التالي الذهاب إلى أستديو الأنوار. التحدث مع عبدالله وجهًا لوجه قد يسهل عملية الفصال، بالإضافة إلى رغبته في رؤية المكان الذي أقام فيه البطل حلبة ملاكمة.
ظل طول الطريق صامتًا. وكنت قد اعتدت على استرساله في حكي ذكريات مضحكة، تدفع عددًا من ركاب الأتوبيس أو الميكروباص إلى الضحك.
كانت صور نجوم السينما تحتل مساحة كبيرة من فاترينة الأستديو. رحب بنا عبدالله، ثم انفجر في الضحك سعيدًا بتعليق جدي أنه يبدو أصغر بكثير من أعوامه الثمانين، وصورته في الأهرام قد ظلمته. أخرج ألبومًا ثبتت على غلافه صورة البطل مع فريد شوقي.
– اتفرج براحتك.
على غير المتوقع تصفح جدي الألبوم بسرعة وهو يعد الصور.
– دول عشرة بس مش تلاتين.
– للأسف مش لاقي الباقي.
– زي قرايبنا اللي ضيعوا الصور.
ثم طلب رؤية المكان الذي صور فيه البطل. أضاء عبدالله غرفة التصوير وأشار إلى الموضع الذي نُصبت فيه الحلبة. اقترب منه جدي ببطء، وهو يبدأ عملية الفصال من جديد. ورفض عبدالله أن يخفض جنيهًا واحدًا، كما رفض بيع صورة البطولة فقط «كلها يا إما…»، وقبل أن يكمل كلامه رفع جدي ذراعيه وبكل قوته لكم عبدالله لكمتين، حاول أن يتفادهما لكنه تعثر في كرسي وهو يرجع للوراء، فوقع على الأرض، واصطدمت رأسه بالحائط. وراح يتأوه مغمض العينين بينما صاح جدي يعد من واحد إلى عشرة.
أسرعت لأجلس جدي على كرسي. وأمسح وجهه المبلل بالعرق، لكنه رفض أن أنزل ذراعيه المتأهبتين للملاكمة من جديد. ناولت عبدالله كوب ماء وهو في مكانه على الأرض. وقبل أن يشرب قال مبتسمًا:
– عايز تعمل بطل. برضو خمس تلاف جنيه.
لم أتوقع كلماته تلك. انتظرت إما أن يشتمنا أو يصرخ مستنجدًا بأصحاب المحلات المجاورة.
نهض جدي. وقبل أن نغادر تصفح الألبوم مرة أخرى. وتوقف عند صورة محمود يوجه لكمة نحو الكاميرا وهو غاضب. لم تفارق الابتسامة وجهه في أثناء عودتنا إلى البيت، وظلت أصابع كفيه مضمومة بشدة.
سخر من توقعات أمي بمجيء «عبدالله ورجالته» للانتقام وتكسير البيت على من فيه. هو يعرف طبيعة الناس جيدًا. وهذا النصاب لا يجرؤ على إخافة قطة، ومن المؤكد أنه يجلس في محله مرعوبًا من عودة جدي مرة أخرى. وعلى رغم كلامه مرت أيام لم نفتح فيها باب الشقة إلا بعد التأكد من شخصية الطارق، وتكرار «مين؟» عدة مرات. ولا بد أن تكون الإجابة بصوت واضح لا لبسَ فيه. وأحيانًا كنا نسارع بفتح الباب حتى نسكت صياح الطارق المبالغ فيه، أو نمنعه من المغادرة غاضبًا من طول وقوفه في الخارج. وما إن يسأل أحد عن سبب كل هذا الحذر حتى يحكي له جدي حكايته مع عبدالله وهو يشير إلى صورته في الأهرام. ويترحم على البطل الذي زاره في الحلم، وأوصاه بالذهاب إلى الأستديو، وعلّمه كيف يصوب اللكمتين بشكل مباغتٍ وقوي مثلما فعل في مبارياته، وحذّره من أي تردد أو خوف. وفي النهاية أهداه ألبوم صوره. اندهش جدي من ضخامته، ومن كثرة الصور التي يظهر فيها مع البطل داخل حلبة الملاكمة.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
بإسلوب سلس (يحكى منتصر القفاش حكاية يبدو أنها عادية، غير أنه يُخفى فى ثناياها رؤية فلسفية، حيث يلعب على الزمن الذى هو الهم الأكبر الذى يشغله فى الكثير من قصصه.ليبيب أحد خصائص الإبداع عند منتصر القفاش، كأحد تلامذة إدوار الخراط الذى ثار على الواقعية، ورأى للإبداع مصدرا غير ما هو موجود على السطح أو فى الخارج. وإنما الذات الداخلية هى ما تصنع الحدث وتحدد الرؤية.
فنحن هناك أمام عملية إحلال ذات فى أخرى. فالجد يعيش ومنه الماضى، زمن الفتوة والقوة، حين كان ملاكما يشار له بالبنان، ويرفض الواقع الذى لم يعد فيه يملك هذه القوة. فضلا عن مادية هذا الزمن الحاضر.. حين يصر عبد الله فى أن يتقاضى خمسة آلاف جنيه، وهو المبلغ الذى يراه الجد مبالغا فيه، بينما يراه عبد الله – رغم كبر سنه غير البادى عليه. يراه معقولا. ليصبح الجد يعيش زمنا غير زمانه.وهو ما أسميه ب”الاحتجاج الهروبى” حيث يهرب الإنسان من واقع يعيشه، ويرفضه، فيلجأ إلى الهروب ، المكانى، أو الزمانى. وليصبح الزمن وأفعله بالإنسان، هو أحد محاور الإبداع عند منتصر القفاش.