كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«سبيل الغارق» لريم بسيوني.. الحاضر في مرآة الماضي
في رواية «سبيل الغارق» للروائية المصرية ريم بسيوني (دار نهضة مصر) نجد عددًا بارزًا من القيم الجمالية والدلالية التي تؤكد قدر خصوصيتها وتميزها الأدبي، وأنها صوت روائي استثنائي؛ لأنها تمزج معارف وبحوثًا ومعلومات في عالم روائي يتسم بالحيوية والتشويق وحافل بالجماليات كافة، التي تجعل سردها راسخًا في ذهن المتلقي إلى أمد طويل. فهي تنشئ حكاية تتسم بالكثافة والثقل والحضور الطاغي، وتصنع نماذج إنسانية تتسم بالخصوصية، وذات قسمات وملامح تجعل من شخصياتها بشرًا حقيقيين، يعايشهم المتلقي وينفعل بهم إلى أقصى درجات الانفعال.
الحكاية الأساسية التي يقوم عليها عالم «سبيل الغارق»، تحدث قبيل الغزو الإنجليزي لمصر، وتمتد إلى ما بعد ذلك بقليل. هي حكاية يمكن تصنيفها حكاية عشق أو حب استثنائي كما يمكن وصفها حكاية بحث عن الطريق، حكاية صوفية أو غنوصية أو عرفانية، حكاية بحث الإنسان عن ذاته سواء كان رجلًا أو امرأة، حكاية أول فتاة مصرية تذهب إلى المدرسة وأرادت أن تكون قدوة للمصريات كافة عبر العصور، للخروج من التيه إلى النور والتحقق والاكتمال الإنساني، ولكنها دائمًا رحلة ليست بالسهلة.
لقد صنع الخطاب الروائي في «سبيل الغارق» صورًا متوازية أو أشبه بالمرايا المتقابلة، التي تمتد ما فيها من الصور إلى ما لا نهاية، فيبدو الماضي مرآة للحاضر والعكس، ويرى المعاصر نفسه في حكاية الآخرين. وهنا يأتي المكون الثابت أو الممتد أو العنصر المتكرر الذي يصنع شعرية الحكايات وشعرية العوالم، التي يقوم خطاب «سبيل الغارق» على مقاربتها أو قصها أو تحويلها إلى خطاب سردي يتسم بالتشويق الكبير، ويجعل تجاور هذه الحكايات مانحًا للأطر والمنافذ التأويلية المساعدة، فضلًا عما يكون في التجاور من الجماليات.
نغمة صوتية متكررة
إن صف هذه الحكايات المتقاطعة والمتداخلة والمتصادية مثل نغمة صوتية متكررة بعضها إلى جوار بعض وفق كيفية سردية خاصة، هو السر الجمالي الأهم لخطاب هذه الرواية، وهو مفتاح تكوينها والممثل لخصوصية الذهنية الروائية الفاعلة، في تكوين روايات ريم بسيوني عامة. ما أقصد إليه يرتبط باقتناص النغمات المتكررة والقصص المتشابهة عبر حيلة موجودة في الفلسفة ومعروفة، وهي الحلول أو تناسخ الأرواح، فيبدو النموذج الإنساني قديمًا وراسخًا ومتجذرًا في التاريخ، وليس مجرد نبت سطحي، أو مرتبط بالحاضر فقط.
إن الحكاية التاريخية الأسطورية عن الشاطر حسن والأميرة وحبهما وزواجها ثم افتراقها والغرق، هي المؤطر الصوفي والشعري للحكاية الراهنة، والفاتح لنوافذ الحاضر على الماضي، والصانع لهذه المرايا الخاصة التي تخلق الغرائبية والتشويق في الخطاب الروائي. كانت رسائل التاجر الإيطالي من تجار البندقية هي الوسيط بين حكايتي الحب القديمة والجديدة، حكاية الشاطر حسن والأمير، وحكاية حسن الخادم وجليلة ابنة أحمد بك ثابت التاجر الثري من أعيان القاهرة وقت الغزو الإنجليزي لمصر.
بالضبط كما كانت هذه الرسائل معادلًا موازيًا للرسائل التي ساعدت جليلة في توصيلها إلى جيش عرابي وقت الحرب، وهكذا يصبح حسن وجليلة محور هذا العالم الغرائبي، ونقطة المركزية التي تتجمع فيها بؤر الضوء، واكتمال الأسرار كما يكون اكتمال العشق لديهما، وهكذا تبدو المرحلة التي اختارها الخطاب لتكون مركز عالمه هي الأكثر تشويقًا وجمالًا، وهي بؤرة ارتباط الماضي بالحاضر والتقائهما، بالضبط كما هي بؤرة اجتماع نوعين من المعرفة يبدوان مختلفين لكنهما في الأساس في غاية التكامل ويصلان إلى درجة المطابقة أو التوافق؛ ذلك لأن معرفة جليلة معرفة مدارس أي معرفة دنيوية علمانية، في حين أن معرفة حسن الخادم الأُمِّي أقرب لأن تكون رامزة للمعرفة الدينية التي يجتمع فيها الإسلامي والمسيحي.
والحقيقة، هنا يتجسد لدى الكاتبة وعي فلسفي استثنائي بتاريخ نظرية المعرفة، أو سؤال المعرفة في العالم، أو في الفلسفة بامتداها التاريخ، حيث هناك روافد مشتركة غنوصية أو روحية راسخة وقديمة بين الإسلام والمسيحية، ربما كان للصوفية الإسلامية تحديدًا دور كبير في كشف ارتباطهما في مراحل تاريخية كثيرة من التاريخ الإسلامي. وهكذا فإن الخطاب الروائي لريم بسيوني في هذا العمل وراءه كل هذا الكم من الإحاطة والاطلاع.
أكثر من مجرد حكاية
وبهذا فإن هذه الرواية تذهب بعيدًا في نواتجها الجميلة أكثر من مجرد حدود الحكاية الظاهر، وتحلق في آفاق تأويلية وتلامح رسائل دلالية مهمة وذات طابع إنساني. وهكذا يمكن أن نقول: إن ثمة طبقات عديدة من الحكايات في هذه الرواية الثرية، حكاية الصراع الأزلي بين الخير والشر، حكاية المكايد في مقابل البراءة والنقاء والرغبة في الإصلاح، حكاية الشعب المصري المسالم ضد الإنجليز، حكاية دولة المماليك ضد القراصنة البرتغاليين، وقبل كل هذا هي حكاية البحث عن العشق والطريق إلى النجاة، وأن يعيش الإنسان رحلته بمتعة وفي رضا؛ لأن حياته مهما كان فيها فهي فانية بانتصاراتها وهزائمها، فلا النصر مكتوب أو مقدر، ولا الهزيمة أبدية، كما يذكر خطاب الرواية نصًّا.
وهذه الرواية الفذة تتماوج وتتحرك بندوليًّا بخفة وعزف بين رصد الظاهري والنفسي، بين الداخلي والخارجي، بين الغنوصي والمادي، بين المعرفة الروحية التي تقذف في القلب، وبين المعرفة المادية التي تأتي من الكتب وبأسباب واضحة أو معلومة. تتماوج بين السعادة والفرح، وتستمد جماليات كثيرة وعظيمة وقدرة كبيرة على التشويق من تبدل المصاير فيها، ومن تحولاتها بين السعادة والفرح، والخيبة والأمل، والنجاح والفشل، والاطمئنان والقلق، والحب والكراهية، وعديد القيم والمعاني التي تجسدها مشاهدها بنعومة شديدة واكتمال سردي وتخييل ناصع، وفيها كثير مما يمكن بحثه وتأويله.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق