كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في هذا الكتاب تجري أحلام كثيرة
11 قصيدة لبورخِس مع مقدمة آخر دواوينه، «المتآمرون»
المقدمة:
لا ينبغي لأحد أن يندهش لو أن العنصر الأول من العناصر الأربعة وهو النار، لا يتحقق، على وجه الخصوص، بتلك الدرجة العالية، في كتاب كُتب من شخص في الثمانين. تقول الحكاية: إنّ ثمة ملكة قالت في لحظة موتها: إنها كانت نارًا وهواءً، وأنا اعتدت القول إنني تراب، تراب متعَب. ومع ذلك فإنني أستمر في الكتابة. ما الإمكانية الأخرى المتبقية، ما الإمكانية الرائعة الأخرى المتبقية لي؟ السعادة في الكتابة لا تُقاس بالمزايا أو المثالب. كل أعمال البشر قصيرة الأمد، مثلما يفيد كارليل(1)، لكن الإبداع نفسه ليس كذلك. أنا لا أعترف بأي شكل، كلّ عمل يعهد إلى مؤلفه بالبحث عن القالب الصحيح: الشعر، النثر، الأسلوب الباروكي أو البسيط. النظريات يمكن أن تكون حافزات هائلة (فكّر فقط، بويتمان)، لكن في الوقت نفسه يمكن أن تنتج نماذج، أو بكل بساطة، أشياء متحفية. فكّر بحوار جيمس جويس الداخلي أو بالأشد إزعاجًا، بوليفيموس(2).
مع السنوات لاحظت أن الجمال، كما السعادة، حدث مألوف. لا يمضي يوم من دون أن نجد أنفسنا، للحظة، في الفردوس. لا يوجد شاعر مهما كان حجم مقدرته، لم يكتب مرةً، أفضل الشعر، لكن أيضًا أردأه. الجمال لا يقتصر على امتياز بضعة أسماء مشهورة. سيكون غريبًا أنّ هذا الكتاب، الذي يضمّ عددًا معينًا من التركيبات، لن ينطوي، في الأقل، على سطر سرّي واحد، جدير لأن يصحبك حتى النهاية. في هذا الكتاب تجري أحلام كثيرة. دعوني أوضح أنها كانت هدايا جاد بها الليل أو، بدقة أكثر، إنها هبة الفجر، لا أخيلة متعمّدة. إنني بالكاد تجرأت، بمعنى أو بآخر، على إضافة شيء خارجي، كما يقتضي منا عصرنا هذا، منذ «ديفو»(3).
إنني أُملي هذه المقدمة في واحد من هذه الأمكنة، حيث أشعر أنني في وطني، جنيف.
خ.ل.ب
9 يناير 1983م
القصائد
السعادة
هذا الذي يحتضن امرأة هو آدم. المرأة هي حواء
كل شيء يحدث للمرة الأولى.
رأيت شيئًا أبيضَ في السماء. إنه القمر، عرفت هذا،
لكن ماذا أصنع بكلمةٍ وبالأساطير؟
الأشجار تخيفني قليلًا. هي جميلة.
الحيوانات الهادئة تقترب من أجل أن أمنحها اسمًا.
الكتب في المكتبة تنقصها الحروف. حين أفتحها تظهر.
حين أتصفح الأطلس أتخيّل شكل سومطرة.
من يشعل عود كبريت في الظلام يخترع النار.
في المرآة ينتظرني شخص آخر.
من يتأمل البحر يرى إنجلترا.
من يلقي سطر قصيدة لـليلينكرون(4)
يدخل معركة.
حلمت بقرطاجة وملوك قرطاجة الذين دمروها.
حلمت بالسيف والميزان.
مبجّلٌ هو الحب دون مالك أو تملّك، لكنِ الاثنان يهبانه نفسيهما.
مبجّلٌ هو الكابوس الذي يكشف لنا أننا قادرون على صنع الجحيم.
من ينزل نهرًا فإنه ينزل الغانج.
من ينظر إلى ساعة رملية يرى انهيار إمبراطورية.
من يلعب بالخنجر يتوقع موت قيصر.
من ينام يكون هو كل البشر.
في الصحراء رأيت أبا الهول الفتي، منحوتًا للتو.
لا قديم تحت الشمس.
كل شيء يحدث للمرة الأولى، لكن بشكل أبدي.
مَن يقرأ كلماتي يخترعها.
الإنسان الثالث
أكرّس هذه القصيدة
(دعونا للحظة نجيز المصطلح)
للشخص الثالث الذي واجهته هذا المساء،
ليس أقلّ غموضًا من الإنسان الثالث لدى أرسطوطاليس.
في السبت خرجتُ
المساء كان مزدحمًا بالناس،
ثمة كان، دون شك، ثالث
كما يوجد رابع وأول.
لا أعرف إن كنا رأينا بعضنا،
هو ذهب باتجاه باراغواي، وأنا باتجاه قرطبة.
هذه الكلمة، تقريبًا، ابتدعته.
لم يُتَح لي أن أعرف اسمه، قط.
أعرف شيئًا له مذاقه الخاص عنده.
أعرف أنه، برَوية، يتأمل القمر.
ليس من المستبعد أن يكون ميتًا.
ربما هو يقرأ ما أكتبه الآن دون أن يعرف
أنه المقصود به.
في المستقبل المكنون
يمكن أن نكون خصومًا ويحترم أحدنا الآخر
أو أصدقاء ونحب بعضنا.
قمت بعمل لا يمكن فعل شيءٍ حياله:
لقد صحّحت العلاقة.
في هذا العالم البسيط
الذي يشبه إلى درجة كبيرة
كتاب ألف ليلة وليلة
ما من عمل لا يتعرض لخطر
أن يصبح طقسًا سحريًّا.
ما من حدث لا يمكن أن يكون الأول
في سلسلة لا نهائية.
إني أتساءل، أيّ الظلال
في هذه السطور الفائضة، سيتم التخلص منها، يومًا.
النمر
الرفيع، الفتّاك، المفعم بقوة لا نهائية، يروح ويجيء خلف حاجز متين، فيما نحن نقف جميعًا وننظر إليه. كان نمر ذلك الصباح في باليرمو، نمر الشرق، نمر بليك وهوغو وشيريخان(5) وكل النمور الموجودة وتلك التي ستوجد وكذلك النموذج الأصلي للنمر، بما أن الفرد في هذه الحالة يشكّل كل النوع. نفكر أنه كان سفّاحًا وجميلًا. ونورا(6) التي لم تزل صغيرة، بعد، قالت: «لقد خُلق من أجل الحب».
كتبي
كتبي التي لا تعرف أنني موجود
هي جزء مني كهذا الوجه
بسالفين رماديين وعينين رماديتين
أبحث، دون طائل، في المرايا
بيد فارغة تتقرى ملامحه.
وبما لا يخلو من مرارة، قابلة للفهم
أفكر أن الكلمات الأساسية
التي تعبر عني متضمَّنة
في صفحات لا تعرف من أكون، ليس في تلك التي كتبتُ.
هذا أفضل، كثيرًا. أصوات الموتى
سوف تفصح عني إلى الأبد.
المنتحر
ما من نجمة ستبقى في الليل.
ولا حتى الليل سيبقى.
سأموت ومعي
كل هذا العالم الذي لا يُحتمل.
سأزيل الأهرامات، الأوسمة،
القارات والوجوه.
سأزيل حشود الماضي.
سأجعل من التاريخ غبارًا، غبارًا لغبار.
الآن أتأمّل الغروب الأخير.
أسمع الطائر الأخير.
وأترك العدم للا أحد.
قمر
إلى ماريا كوداما
يشعّ ذهبًا في وحدته،
لكن القمر الذي نراه، ليس القمر
ذاته، الذي كان آدم أوّل من رآه.
دهور من أرق البشر ملأته
بدموع مضت
أنظري: إنه مرآتك.
غونار ثورغلسون(7)
1816 – 1879م
ذاكرة الزمن
محتشدة بالسيوف والسفن
وغبار الإمبراطوريات
وأصوات السداسيات(8)
وخيول المعارك الكبيرة
وضجيج السلاح وشكسبير.
لكني أتذكر قبلة
أعطيتنيها في آيسلندا.
حلم(9)
الثلاثة جميعهم عرفوا ذلك.
هي كانت صديقة كافكا.
حلم كافكا بها.
الثلاثة جميعهم عرفوا ذلك.
هو كان صديق كافكا.
حلم كافكا به.
الثلاثة جميعهم عرفوا ذلك.
المرأة قالت للصديق:
أريدك أن تحبني الليلة.
الثلاثة جميعهم عرفوا ذلك.
أجاب الرجل: إذا أخطأنا
يتوقف كافكا عن الحلم بنا.
واحد فقط عرف ذلك.
لا أحد غيره، على هذه الأرض.
قال كافكا لنفسه:
الآن عندما يختفي الاثنان، أكون وحيدًا.
سأتوقف عن الحلم.
بوينس آيرس
ولدتُ في مدينة أخرى تدعى أيضًا بوينس آيرس
أتذكر صرير الباب الحديدي المشبّك.
أتذكر أزهار الياسمين والحوض، أشياء الحنين هذه.
أتذكر لوحة باهتة وقد كانت ذات مرة حمراء زاهية.
أتذكّر وهج الشمس وقيلولة الظهيرة.
أتذكر السيفين المتصالبين اللذين خدما في حرب الصحراء.
أتذكر مصابيح الغاز والرجل صاحب السلّم.
أتذكر الزمن السخي، الناس الذين يزوروننا بدون إخطار.
أتذكر المطواة وعصا المشي.
أتذكر ما رأيت ومحادثات والديّ.
أتذكر مكادونيو،(10) في الطرف القصي من الحانة في Once(11).
أتذكر العربات الريفية في الغبار في Once.
أتذكر الماسين دي لا فيغورا(12) في توكومان(13).
(في طريق عودته مات إستانسلاو دل كامبو)(14)
أتذكر فِناءً ثالثًا، فناء العبيد، الذي لم أطأه قط.
لديّ ذكرى عن رصاص مسدس ألِم في عربة مغلقة.(15)
في بوينس آيرس التي هجرتني سوف أكون غريبًا.
أعرف أنها الفراديس الوحيدة التي لا ينكر الإنسان خسارتها.
أحد يشبهني، تقريبًا، أحد لم يقرأ هذه الصفحة
سينعى البنايات الخرسانية العالية والمسلة المنهارة.
قصيدة
الصفحة الأمامية
نمتَ. أيقظتك
الصباح الرحب يهبنا وهم البداية.
نسيت فرجيل. هنا أنت لديك السداسيات.
لديّ الكثير لأجلك.
العناصر اليونانية الأربعة: التراب والماء والنار والهواء.
اسم امرأة وحيدة.
صداقة القمر. الألوان الناصعة لأطلس الخرائط.
النسيان الذي يطهّر.
الذاكرة التي أختارها وأعيد كتابتها.
العادة التي تساعدنا على أن نشعر بأننا خالدون.
الأرض والساعة، في دورانهما، يفتّتان الوقت غير الملحوظ.
رائحة خشب الصندل.
الشك الذي ندعوه، ليس من دون غرورٍ ما، ميتافيزيقيا.
العصا بمقبضها المقوّس التي تنتظرها اليد.
مذاق العنب والعسل.
الصفحة الخلفية
إيقاظ النائم
تصرف شائع وعادي
يمكننا التراجع عنه
إيقاظ النائم،
فرض السجن اللانهائي للكون الآخر
وزمنه بلا غروب أو شروق.
هو اكتشاف لذاته، إنه شخص أو شيء ما،
إذعان لاسمٍ يشي به
وحشد من الأيام المنصرمة.
هو إزعاج لأبديته
إثقال له بالمئات من السنوات والنجوم.
هو عودة لعازر آخر إلى الزمن،
مثقل الذاكرة.
هو تدنيس لمياه ليثي (16).
المتآمرون
في قلب أوربا يتآمرون.
الحدث يعود إلى عام 1291م(17).
الأمر يتعلق برجال من أصول مختلفة، يعتنقون ديانات مختلفة ويتحدثون لغات مختلفة.
هم أدركوا أن القرار الغريب كان حكيمًا.
لقد قرروا نسيان اختلافهم بالرأي وإظهار توافقهم.
كانوا، أولًا، جنود دولة اتحادية وبعد ذلك مرتزقة، بما أنهم كانوا فقراء وقد اعتادوا الحرب وعرفوا أنّ كل الممارسات الإنسانية متساوية في الفشل.
كان ونكيلريد(18) قد سقط برماح العدو كي يتمكن رفاقه من التقدم.
هو جرّاح، قِسّ أو محامٍ، لكن أيضًا هو براكِلسوس (19) وأميل ويونغ وبول كلي(20).
في قلب أوربا، حيث أوربا الأرفع، تنمو الحكمة وبرج الأمن الراسخ.
عدد المقاطعات يبلغ الآن اثنتان وعشرون، الأخيرة جنيف، التي هي واحدة من أوطاني(21).
غدًا ستكون الأرض ككل.
ربما ما أقوله ليس صحيحًا.
آمل أن يكون ذلك استبصارًا.
الهوامش:
- توماس كارليل (1795 – 1881): كاتب ومؤرخ ومترجم وفيلسوف بريطاني. من أشهر أعماله «الأبطال وعبادة البطل»، وهو يتألف من ست محاضرات، المحاضرة الثانية جاءت فيه بعنوان: «البطل كنبيٍّ. محمد: الإسلام».
- يشير بورخِس هنا إلى قصيدة الشاعر الإسباني لويس دي غونغورا «خرافة بوليفيموس وغالاتيه»، المكتوبة سنة 1613م، وهي من أصعب قصائده.
- دانييل ديفو (1660 – 1731م): تاجر وكاتب وصحفي إنجليزي، اشتهر بروايته «روبنسون كروزو». يُعدّ من أوائل كتاب الرواية في العالم.
- ديتلف فون ليلينكرون (1848 – 1909م) كان في مرحلة شبابه نقيبًا في الجيش البروسي، اشترك في حملتين وجُرح في كلتيهما. بعد ذلك كرّس نفسه للأدب، وعُدّ ممثلًا للاتجاه المعروف بالطبيعية، بجدارة. أبدى ريلكه إعجابًا بشعره.
- نمر خيالي يرد في إحدى قصص الكاتب روديارد كيبلنغ. وشيريخان تعني بالفارسية والهندية الملك أو الزعيم النمر. وعلى هذه القصة اعتمدت مجموعة أفلام ومسلسلات رسوم متحركة تحت الاسم المعروف «ماوغلي فتى الأدغال».
- شقيقة بورخِس وهي رسامة وناقدة فنية معروفة.
- غونار ثورغيلسون: شخصية من اختراع بورخس.
- السداسيات: مصطلح في الموسيقا يعني قيام ستة عازفين بتقديم عمل موسيقيّ ضمن فرقة موسيقية.
- عنوان القصيدة ورد بالألمانية Ƭraum Ein.
- مكادونيو فرنانديز (1874 – 1952م) كاتب وشاعر وفيلسوف أرجنتيني، كان مرشدًا لبورخس وكتاب طليعيين آخرين.
- حي من أحياء بوينس آيرس.
- حانة في بوينس آيرس.
- اسم الشارع الذي ولد فيه بورخِس.
- إستانسلاو دل كامبو (1834 – 1880م) عسكري وكاتب أرجنتيني. قبل أن يصبح عسكريًّا كتب قصائد رومانسية وفقًا لتقاليد الغاوتشو (تسمية تختص ببعض سكان البلاد الأصليين في أميركا اللاتينية). استمر في الجمع في حياته العملية بين العسكرية والتأليف.
- لينادرو ألِم (1841 – 1896م) سياسي أرجنتيني. كان زعيمًا للاتحاد المدني الراديكالي. أطلق الرصاص على نفسه في يوم بارد وممطر في بوينس آيرس.
- أحد أنهار العالم السفلي الخمسة، حسب الميثولوجيا اليونانية وكلمة ليثي تعني النسيان.
- هذا التاريخ يُشير إلى تشكيل اتحاد الكانتونات (المقاطعات) السويسرية، بعد وفاة الإمبراطور الألماني رودولف الأول.
- أرنولد فون ونكيلريد: كان جنديًّا سويسريًّا، يوصف بالأسطوري، لعب دورًا حاسمًا في معركة زيمبيك 1386م التي قاتل فيها الاتحاديون ضد جيش هابسبورغ.
- فيلبوس ثيوفراستوس أوريولوس بومباستوس فون هوهنهايم (1493 – 1541م) طبيب وكيميائي وعالم لاهوت وفيلسوف سويسري.
- هنري فريدريك أميل (1821 – 1881م): فيلسوف أخلاقي، شاعر وناقد سويسري. كارل يونغ، عالم النفس السويسري المعروف، كذلك الفنان السويسري ـ الألماني الشهير بول كلي.
- قبل أن أستخدم الترجمة المناسبة هنا وهي «مقاطعات»، فكرتُ بدايةً في الإبقاء على مصطلح «كانتونات»، المعروف والمتداول، عربيًّا، وهو يعني في الأصل كلمة «مكان». ونظام المقاطعات يُشتهر به الاتحاد السويسري، على مستوى التنظيم الإداري، المكوّن من 26 مقاطعة، وليس 22، كما ورد في النص.
المنشورات ذات الصلة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء...
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
0 تعليق