لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
جمال الغيطاني الروائي المفتون بدلالات الأهرام
كان في هيئته شيء من الغموض، وجه مصريّ السمرة لا يحيل على المدينة، تسكنه كآبة وابتسامة دافئة، ومظهر متقشّف تقوده مشية متباطئة وقلب كثير الأسرار. وكانت رواياته مرآة لهذا الغموض المجتهد الباحث عن لغة مريحة. أفصحت عن روحه روايته الشهيرة «الزيني بركات»، التي وصفت أقفاصًا تكسر الروح، وأدرجت في سطورها جملة توجع القلب نطق بها «تلميذ» أفزعه «بصّاصو» السلطة الحاكمة: «اقتحموني وهدّموا أسواري». لازمتني الجملة طويلًا إلى أن التقيت جمال الغيطاني، للمرة الأولى في دمشق الثمانينيات المنقضية وسألته: «ما الذي حلّ بذلك التلميذ الذي طارده خوفه؟» أجاب ضاحكًا: «إنه أمامك، دخل السجن وخرج منه وكتب رواية عن المستبد برأيه، كتبت عنها «حضرتك» أكثر من مرة».
أكملنا السير إلى سوق الحميدية والمسجد الأموي وقصر العظم في دمشق القديمة. كان ينظر إلى واجهات حوانيت السوق الدمشقي بتمهّل وانتباه، كأنه يرسم ما يراه. قلت بلا قول: «إنها فتنة القديم عند أديب. يضع الحاضر بين قوسين وتفتنه الأصول»، لكنه سارع وقال: «براعة التجّار من خبرتهم في توزيع ألوان بضائعهم المتعارضة، التي تشدّ الانتباه وتوسع المكان. طبائع التجّار من عمر المهنة التي يزاولونها…». سألته ما العلاقة بين الألوان والطبائع؟ أجاب ضاحكًا: «الطبائع ألوان، ولكل لون طبعه، فبين الأزرق الصافي والأحمر القاني، اختلاف كبير». أكمل. «لا تنسَ يا صديقي أنني عملت بالصباغة فتيًّا، واختبرت الألوان، وعملت بالنسيج وتعلّمت توازن الألوان، بلا فلسفة ودراسة. وشغلني معنى التوازن طويلًا، ولا يزال، أكان ذلك في النظر إلى أسلوب الحكم أم في الكتابة الروائية».
حين وصلنا «مقهى النوفرة»، الذي ينفتح عليه باب المسجد الغربي، تأمل المكان وقال: «لكل مدينة قديمة هامش تمتد فيه». كان المقهى حتى عهد قريب، مركزًا لحكّاء شعبي، توارث مهنته من زمن الخليفة معاوية، الذي عهد إلى الحكائين بتقريظ فضائله، يعلنون عن ألوان حكمته، مثلما يعلن تجّار السوق عن جودة بضائعهم بألوان تزيّن مداخل حوانيتهم. سألت جمالًا مشيرًا إلى «التجليات»، وكنت قرأت جزأها الأول: «كيف تصالح بين مفهوم الأصل، وهو دينيّ الدلالة، والرواية، وهي جنس أدبي حداثي؟ جاء جوابه بلا ارتباك: يمكن أن يكون التصوّر الديني حداثيًّا، بل علمانيًّا؛ تأمّل مثلًا أفكار الباكستاني محمد إقبال والشيخ المصري خالد محمد خالد الذي كتب «لكي لا تحرثوا في البحر». للمتخيّل أبوابه المتعددة ومنها الباب الديني. والرواية على أية حال تقوم على الشكل، وهو مشتق من تعددية الحياة، ومن موقع الإنسان في الخطاب الروائي، الذي هو ديمقراطي بامتياز. وسواء كان في «الزيني بركات» تناصّ مرجعه قديم، وهو كتاب «تاريخ مصر المشهور ببدائع الزهور في عجائب الدهور» للمؤرخ المصري محمد بن أحمد ابن إياس، أو تناصّ مرجعه الإنجليزي والتر سكوت، فإن القول- الرواية يتمحور حول إنسان واضح الاسم والمعيش والهموم. ولعل أولوية القول الروائي على زمنه هي التي تسمح للروائي بمقابلة شخصيات حقيقية بأخرى متخيّلة، طالما أن النص الروائي تفاعل متوازن بين اللغة والتاريخ والمتخيّل.
لم يكن الغيطاني، بعد ما قال، بحاجة إلى سرد سيرة «الزيني بركات»، الذي تولّى منصب حسبة القاهرة عام 912هـ، ووصل إلى منصب والي القاهرة عام 914هـ، وجمع بين يديه ألقابًا عديدة بعد ست سنوات، ولا التذكير بأنه استقدم إلى روايته حكايات من المقريزي وأخرى من تجاربه الذاتية في الحياة، بل أراد، أول ما أراد، تباين أحوال الإنسان المرعوب في زمن مستبد، ورسم الرعب المكتفي بذاته بشخصية مدويّة الصوت هائلة الخطوة، هش داخلها ويحتاج إلى ثناء الحكائيين في المقاهي العامة.
معنى الهوية وقلق الروح
سألت الغيطاني، في أكثر من لقاء؛ لماذا عملت على تقديم اقتراح روائي جديد يغاير اقتراحات مصرية تضمّنت الواقعية والرمزية والحساسية الجديدة؟ «لم أتعمّد شيئًا»، أجاب، «إنما وصلت إلى ما أقنعني زمني بالوصول إليه». أسهب في الحديث عن الوعي المأزوم ومعنى الهوية وقلق الروح الصادر عن وحدة الهزيمة والاستبداد: «الوعي لا يرحل عن زمنه إلى آخر مضى: أحقيقيًّا كان أم متخيّلًا، إلا إذا ضاق بزمنه وأعجزه التعبير الصريح. فكل رحيل زمني تقمُّص، يلبس فيه من ارتحل أرواحًا قديمة، معتبرًا أن روح زمنه مريضة». وتابع: «الوعي المأزوم وعي بهوية أضاعت مكانها، والتمست روحًا بعيدة تشدّ أزرها». و«الكتابة هوية لها زمن أصلي، لا يجب فقدانه، يوحي بالطمأنينة ويقصي الضياع واللهاث وراء آخرين لهم هوية مختلفة، ومنتصرة…».
سألته، وهو يرشدني إلى مساجد القاهرة القديمة، من أين جاء احتفاؤك بمفهوم الأصل وتطبيقه في الكتابة الروائية؟ ولماذا الشغف بالقديم وتأكيده منظورًا للحياة؟ توقّف، أولًا، أمام مدينته الأثيرة: القاهرة، وهو الذي ولد ونشأ فيها، وعرف القديم والجديد منها، درس تاريخها حدّ الاحتراف وانجذب، كمحفوظ، إلى قديمها، دون أن يكتفي به. «القاهرة مدينة معقدة متعددة الطبقات لا تكفّ عن التبدّل»، قال: «تناولت حياتها في القرن السادس عشر في الزيني بركات، ورجعت إلى أحيائها الشعبية المكتظة بالفقر والطيبة واللامتوقع في «حارة الزعفراني»، التي تجعل من الهمس والإشاعات مادة للحياة، وأشرت إلى ما أصابها من خراب متأخر في «رسالة المصائر في البصائر»، وتابعت تحوّلاتها إلى زمن «الشركات المتعددة الجنسيات» في «حكاية المؤسسة…». وهي في الحالات جميعًا تعطي إحساسًا قويًّا بالتاريخ… أنا قاهريّ الروح والبصيرة، التاريخ كامن في كل جزء منها، يلازمك وأنت تتجوّل في حارة صغيرة، وفي ضحكات الفقراء وإفصاحهم عن التعب، وما مساجدها المتنوعة الصامدة والمتصدّعة، إلا شواهد على وقائع، تقترح الروايات وأساليبها المتنوعة…».
بيد أن حضورها الأكبر يتكشّف في «الأهرامات»، التي تفصل بين العارض والمؤقت والأصيل الثابت والأبدي في جلاله: «من هنا جاءت قناعتي بأن الأهرامات كانت تمثّل، ولا تزال، استمرارية الزمن. تعطي المصري الرغبة بالبناء، ليشعر بالديمومة وتجاوز العدم. إن الأهرامات هي التعبير القوي عن مركزية السلطة، لكنها، في الوقت نفسه، مجلى الزمن الكوني، ما يجعل منها صورة عن البناء الذي يتحدّى الزمن وفلسفة كونية في آن». سألته، بعد أن تداخل العقلي والعاطفي في كلامه: «هل هذا ما دفعك إلى كتابة «متون الأهرام؟ وإذا كانت فلسفة، فما هي فلسفتك المشتقة منها؟».
نصل إلى ما تدعوه «حضرتك» مفهوم الأصل، قال، وأضاف، سؤالك عن إمكانية التصالح بين القديم، الذي يلامس القداسة، وحداثة الكتابة الروائية. ثم أجاب الغيطاني بوضوح لا تلعثم فيه: «إذا كان ما خارج الأهرام مؤقت وعرضة للزوال، وكانت الأهرام ثباتًا يتجاوز الزمن، فإن في الثابت، الذي لا يتحوّل، حداثة مستمرة، تحتضن الرواية وتفيض عليها، وتستدعي أجناسًا من الكتابة حاضرة وأخرى لم تحضر بعد…». كان في كلامه شيء مما قال به الشاعر الفرنسي بودلير، حين مايز بين العارض اليومي وذاك الذي يستعصي على الزمن تغييره. ما يجعل دور الفن الحوار مع الزمن والتصدّي له،…
لم يكن، الغيطاني، مشغولًا بما قال به بودلير وغيره من دعاة الحداثة. كان مرتاحًا إلى روحه القاهرية، والبحث عن أشكال كتابية، لا فرق إن كانت روائية أو غيرها، تُوائِم طبقات القاهرة الزمنية المتعددة. ساوت كتابته بين كلمة «الرواية» و«الكتاب» و «السِّفْر» و«الدفتر»، كما لو كان يهتدي بمرجع نظري لم يقع عليه غيره، اعتبر الأهرام مركزًا للعالم ومجلى فريدًا لديمومة مفتوحة. كان نجيب محفوظ، بعد مرحلة فرعونية مؤقتة، قد عاد إلى قاهرة القرن العشرين، وأراد الغيطاني سرد أحوال المدينة في جميع الأزمنة. وما كتاباته المتوالدة، التي أذابت الرواية في «دفاتر التدوين» و«متون الأهرام» إلا آية على شغف بمدينة عميقة الذاكرة ألزمت الروائي بتنويع كتابي يتقاطع مع كتابة محفوظ ويختلف عنها.
لقاء مع الأستاذ في عَوّامة على النيل
في زيارة إلى القاهرة، في تسعينيات القرن الماضي، بمناسبة «مؤتمر الرواية»، همس جمال في أذني: «مفاجأة. هذا المساء نلتقي الأستاذ، فلا ترتبط». التقينا محفوظًا في عَوّامة على النيل، بصحبة الروائي يوسف القعيد الذي نفذ إلى جوهر السلطة العمياء في روايته «يحدث في مصر الآن». كان في اللقاء بين الروائيين الثلاثة ألفة عفوية «منضبطة»، تذكّر بأب وأبنائه، بمعلّم ومريديه، بهرم ناطق يحفّ به مرشدون نجباء. وكان للروائي العجوز حضور واسع الأرجاء، كما لو كان ذاب في الهواء أو ذاب الهواء فيه، ترجمته قهقهته المتصادية الأقرب إلى «تعليق سياسي لاذع»، وتلك الجملة غير المتوقعة: «ساعة السيجارة يا جمال»، وينظر جمال إلى ساعته ويمدّ إلى الأستاذ «بسيجارة كنت». كان الأستاذ في «تدخينه» ملتزمًا «بالساعة» لا برغبته في التدخين. خطرت لي في أثناء اللقاء جملة لا تصيب دائمًا: «كثيرًا ما يحاول الأبناء تعليم آبائهم»؛ ذلك أن عفوية محفوظ مع الروائيين أعلنت عن أبناء فرحين بأبيهم وأب يعلّم أبناءه ويتعلّم منهم.
سرد الغيطاني في كتابه «نجيب محفوظ يتذكّر» مسار الروائي صبيًّا يتفرّج على الجموع الغاضبة في ثورة 1919م، وتلميذًا في عائلة لا تحتفي بالكتب، وطالبًا في الجامعة يتابع دروسًا في الفلسفة ولا تفوته محاضرات قسم التاريخ. لكنه أنطق أيضًا ذاكرة المكان، الذي يسبقه أصحابه إلى الموت ويعود ليلتحق بهم؛ ذلك أن الأمكنة تموت أيضًا. حين ماشيتُ الغيطاني في القاهرة القديمة أشار إلى المكان الذي ولد فيه نجيب محفوظ وغادرته عائلته لاحقًا، إن مخزن أحمد عبدالجواد، بطل الثلاثية، في مكان غير الذي وضعته فيه الرواية، وإن المقهى المنخفض عن سطح الأرض، الذي كان يجلس فيه كمال أحمد عبدالجواد، قامت فوقه بناية حديثة.
بيد أن معرفة جمال بتاريخ القاهرة، وإلمامه الشامل بجماليات مساجدها القديمة، يثيران الإدهاش والفضول. فهو لا يكتفي بتحديد مدة إقامة المسجد، وتبيان الأسباب التي دعت إلى بنائه، إنما هو مختص في شرح مفاصل البناء وعلاقاته باتجاهات الضوء ودلالة ألوان الزجاج ومعاني النوافذ الصغيرة والكبيرة واختلاف المعنى بين النافذة والدائرة، ولما تسبق باب الخروج نافذة أو تتلو باب الدخول دائرة… يعطف الخطوط والزخارف على هندسة البناء وينتهي إلى فلسفة إسلامية في الخطوط والزخرفة، كما لو كان في مساجد القاهرة الأثيلة «أهرامات» أخرى تخرج الفلسفة بالتصور الديني للعالم.
حين زرت جمالًا في مكتبه في «أخبار اليوم» -أخبار الأدب- فوجئت بانضباطه وشدّته، يسأل عن كل تكليف إلى أين انتهى، يصرخ ويقرّع وقارب الزجر ويؤكد، في النهاية إن «الشغل عاوز كدة»، وإنه يجب أن يكون كما تأمل أخلاق المهنة بأن يكون. وتساءلت حينها: من أين يأتي الوقت الكافي لهذا الأديب الشامل، الذي يعالج المقالة السياسية والقصة القصيرة والرواية والمذكرات الشخصية، ويسافر ما استطاع السفر، ويكون خارج الناس ومعهم، وحريص على «إعادة كتابة رواياته بخط جميل»؟ أراني النسخة المنجزة من روايته «حكاية الخبيئة»، وعجبت للخط الجميل الذي كتبت به، الأقرب إلى الزخرفة، لا شطب فيه ولا محو ولا ما يضير العين. إنه التبييض الثاني؛ قال.
قبل أن يغزوه المرض، كنت سألته مساعدة في «أمر بحثي»، كان المرض قد توغّل وتغوّل، لكنه كان يصرّ على «رسائل هاتفية» سريعة تطمئن أنّ الأمر يسوّى بعد رحيل المرض. لم يرحل المرض وغاب صديق عزيز، على غير توقّع.
المنشورات ذات الصلة
أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة
في أحد اللقاءات التلفزيونية الموجودة على «اليوتيوب» سأل الإعلامي المصري الراحل مفيد فوزي عميد الرواية العربية نجيب...
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
0 تعليق