المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

باربارا كاسان: كل لغة هي كيفية لقول العالم

بواسطة | مايو 1, 2021 | حوار

تشجيع تنوع اللغات في مواجهة العولمة التي تُوحِّد النزعات الوطنية؛ ذلك ما جعلت منه باربارا كاسان، الحاصلة على الميدالية الذهبية للمركز الوطني للبحث العلمي CNRS، موضوعَ بحثٍ، ومعركةً قادَتها أمام الجُمهور العريض وأصحاب القرار السياسي عبر تقديم المحاضرات والمشاركة في الندوات وتأليف الكتب. وتتأسس قناعتُها على فكرة ترى في تضاعيف كل لغة فَرَادات من المهم جدًّا دراستها. غير أن هذه المفردات التي تتعذر ترجمتُها، كما تسميها، ليست عوائق في وجه التبادل بين اللغات ولا أمام الحوار بين الكائنات الإنسانية، بل العكس هو الصحيح؛ لأن كل ما يسقط «بين الكلمات» هو بمنزلة تربة خصبة؛ وذلك هو الميدان الأثير لتدخل الترجمة وفعلها، التي تدافع عنها باربارا كاسان بحماسة منقطعة النظير.

هنا حوار معها حول هذه القضية وموضوعات أخرى.

  أظهرت العلوم العصبية أن التمكن من أكثر من لغة تكون له إضافة نوعية للمعرفة، خصوصًا على مستوى المرونة العصبية ولأجل مواجهة ظهور مرض الزهايمر. فما الذي يجعل التَّمكن من أكثر من لغة في نظركم فرصة بوصفكم فيلسوفة وفيلولوجية؟

  يبدو لي أن العلوم العصبية تتفق مع الحس السليم! إنه لَحظٌّ عظيم أن يكون لك قوس بأكثر من وتر؛ فأن تكون للمرء القدرة على الكلام بألسن عدة، معناه أن يكون قادرًا على المقارنة بينها، وأن يتخذ له موقعًا بين كيفيات مختلفة للفعل والقول. غير أن الأمر لا يتعلق بمجرد قضية القدرة أو الرشاقة الذهنية ولا بقضية ذاكرة؛ لأن العبور من لغة إلى أخرى، أو فعل الترجمة، يظهر لي أنه أحد البراديغمات الأكثر أهمية في العلوم الإنسانية.

  ومع ذلك توجد منذ وقت طويل محاولات لأجل ابتكار لغة كونية مثل الإسبرانتو في القرن التاسع عشر، كيف تفسِّرون إخفاق مشروعٍ من هذا النوع؟

  يعود السبب الأول إلى مفهوم اللغة الكونية ذاته؛ فبأيّ ضرب من الكونية يمكن أن يرتبط الأمر؟ ففي الإسبرانتو، على سبيل المثال، لا وجود إطلاقًا لما هو كوني؛ لأن بناءَها تمَّ في الأساس انطلاقًا من الجذور والتراكيب الهندو-أوربية. وإذا كانت اللغة تتحدَّد ابتداءً بمؤلفين يكتبون بها وأعمال تُنْتَجُ وتُؤَلَّفُ بها، فلنا أن نتساءل عما هي الأعمال الأصلية التي كُتبت بلغة الإسبرانتو؟ وهذا هو السبب الذي لأجله سَمَّى الشاعر والفيلسوف مشيل دوغي هذه اللغة بـ«اليأس»… غير أن هذه الكيفية في التفكير لا تحظى بالإجماع.

  ذكرتم «المعجم الأوربي للفلسفات: قاموس المتعذر ترجمته»، ما الطموح الذي حرك هذا المشروع؟

  لقد مثل مشروعًا جماعيًّا واسعًا واتخذ هيئة له في الزمان والمكان؛ بحيث شارك فيه ما يربو على 150 مؤلِّفًا، واستغرق عشر سنوات من العمل، وتضمن 400 مدخل، و4000 كلمة في 15 لغة أوربية أو مُكوِّنة لأوربا، وهو مشروع يندرج في لحظة خاصة لأوربا؛ أوربا التي تواجه تهديدين؛ يتمثل الأول منهما في أنها تتحدث أكثر من لغة، أو بالأحرى هي تتحدث لا-لغة هي (الإنجليزية الإجمالية أو الكلية أو المعولمة). وإن شئت قلت: إنها تتحدث ضربًا معاصرًا من الإسبرانتو على أساس لغة إنجليزية فقيرة. إنها لغة لمجرد التواصل.

طبعًا نحن في حاجة لأن نتواصل، لكن يا له من لا معنى ذاك الذي يرخي بظلاله على أوربا! حين تخلعُ لغة الثقافة وتقصى لصالح لغة التواصل وحدها. أما التهديد الآخر فهو ما أسميه بالنزعة الوطنية الوجودية أو الأنطولوجية؛ لأنني اشتغلت كثيرًا على عمل الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي كان مقتنعًا بوجود تراتبية للغات؛ فبالنسبة له، اللغة الإغريقية القديمة واللغة الألمانية -فضلًا عن كونه أكثر إغريقية من الإغريق أنفسهم- هما اللغتان الوحيدتان لقول الوجود؛ لأنهما لغتان «أصيلتان» منغرستان في «عرق» وفي شعب… وبهذا المعنى ستكون هناك لغات أكثر عبقرية وإدهاشًا من لغات أخرى لأنها تكون أكثر انغراسًا ورسوخًا، وهذه الفكرة الخاصة بالنزعة الوطنية التراتبية والعبقرية… تمثل مشكلًا كبيرًا.

فكل لغة هي في واقع الأمر كيفية لقول العالم، وشبكة تَصِيدُ نوعًا بعينه من الأسماك وليس أسماكًا أخرى تبعًا لكيفية إلقائها ولسعة عيونها أو زُرَدِهَا، إلخ. والمهم هو أن يُبحَث فيها عن «المُتعذَّر ترجمته»، ثم يُنظَر كيف يمكن على الرغم من ذلك تبليغُه. من هنا جاءت فكرة وضع معجم بالمتعذَّر ترجمَتُه، وهي الفكرة التي لا تعني الصورة المبسطة للغة الإنجليزية التي يتكلمها الجميع (القلو بيش)، كما أنها لا تعني النزعة الوطنية الوجودية، بل تعني أوربا مُتَعدِّدة اللغة التي هي في طور البناء. فـ«لغة أوربا هي الترجمة»، على حد تعبير أومبرتو إيكو.

سؤال يثير لدي الضيق والانزعاج

  إذا كانت كل لغة كيفية للتفكير في العالم، ما الذي يمكن أن يميِّز اللغة الفرنسية مقارنة باللغة الألمانية واللغة الإغريقية القديمة؟

  إنه سؤال يثير لدي كثيرًا من الضيق والانزعاج؛ سبق لي القول: إن كل لغة هي كيفية لصيد العالم، وإنها لا توجد إلا في علاقتها مع لغات أخرى… لكن إنْ كانت بدايتنا في تعريفها من هذه الجهة، ومن إضفائِنا للبعد الماهوي على شيء يكون بمنزلة «عبقرية» لها، عندها نخاطر بالسقوط في شرك النزعة الوطنية الوجودية. في «قاموس المتعذر ترجمته»، حددنا «المداخل من النظام الثاني»، التي تتعلق بـ«مجموع» لغة بعينها من وجهة نظر خاصة، والحال أن عِنَايتنا اتجهت إلى صناعة هذه المداخل انطلاقًا من العنصر الملموس الخاص بكل لغة؛ ليكن مثالُنا من اللغة الروسية: العلاقة بين «الزمن» (المضارع والماضي والمستقبل)، و«الهيئة» التي تصف ديمومة فعل بعينه والكيفية التي يتم بها هذا الفعل، هي التي أفادتنا كنقطة ولوج إلى تحديد ما يميز اللغة الروسية من اللغات التي تعرف «الهيئة» أو تعرفها بدرجة قليلة، كما هي الحال بالنسبة للغة الفرنسية. وهناك مثال آخر في اللغة الألمانية، بحيث اشتغلنا على ما أسميه بـ«ميتافيزيقا الجزيئات»، بمعنى الكيفيَّة التي نُغير بها معنى فعل من الأفعال تبعًا للجزئية التي نضعها أمامه، وما يتطلبه ذلك بعبارات المرونة بالنسبة لهذه اللغة.

وهنا أيضًا نجد أنه من العسير العثور في اللغة الفرنسية على مكافئ لفعل «وضع»، «تَخَيَّل»، «تَمَثَّل»، «استأجر»…. فكل لغة لها فرادة لا بد من دراستها؛ لكنها لا تمثل بأي حال من الأحوال سموًّا لها عن غيرها من اللغات، بل هي زاوية نظر وتصويب. وما أريد أن أتفاداه، أولًا قبل كل شيء، هو الحديث عن اللغة على غرار حديث هايدغر عن اللغة الألمانية وأونطوان دو ريفارول عن اللغة الفرنسية في معجمه في «خطاب عن كونية اللغة الفرنسية، عندما كتب في وصفها: «موثوقة، اجتماعية، وعقلانية… إنها ليست اللغة الفرنسية، بل هي اللغة الإنسانية».

  نميل أحيانًا إلى القول: إن لغة من اللغات تستمر حية، وإنها تتطور، وتستخدم مجموعة كلمات منحدرة من لغات أجنبية، وفي هذا السياق نلحظ أن اللغة الفرنسية صارت تدمج ألفاظًا إنجليزية ضمن لغة التواصل اليومي، من دون ترجمتها، كيف تدركون هذه الظاهرة؟

  أعتقد أنه لا بد في البداية من الاتفاق على بعض المبادئ وبعض الحقائق التي يُقرُّها الواقع: إن لغة من اللغات إنما تُبْنى بدلالة تاريخها، ومن ثم هي على الدوام استيراد وتصدير. فاللغة الإنجليزية تسهم اليوم في «صناعة» اللغة الفرنسية، مثلما كانت العلاقة القائمة في زمن مضى بين اللغة الإغريقية واللاتينية والإيطالية واللغة العربية،… إلخ. ولنأخذ للتدليل على ذلك كلمة «abricot» (المشمش). فقد انتقلت من اللغة العربية «البرقوق» إلى اللغة الإسبانية «albaricoque» قبل أن تصل إلى اللغة الفرنسية. فالكلمات واللغات رحلات عظيمة!… وفضلًا عن ذلك، وتلك هي النقطة الثانية؛ أقول: إن اللغة هي قضية دولة، وقضية سياسية…

  بوصفك عضوًا في الأكاديمية الفرنسية تسهمين في تعريف اللغة الفرنسية، ألا يقلقك ما يلحقها من تعديلات؟

  بوصفي عضوًا في الأكاديمية الفرنسية لا يمكنني إلا أن أنشغل فعلًا بما أراه من تعابير إنجليزية أو شبه إنجليزية، هي في جميع الأحوال مفردات من اللغة الإنجليزية العالمية المبسطة والفقيرة التي تدخل في اللغة الفرنسية كل يوم، من دون رقابة أو ضرورة تقتضي ذلك، لكن ذلك لا يقلقني شخصيًّا، ما دمت أجد التَّملُّك هو الحركة العادية لأي لغة من اللغات. فاللغة هي الطاقة! ومن ثم فكثير من السيناريوهات تُفصح عن نفسها [في علاقة بهذه الحالة]: إما أن هذه العبارات ستصير عبارات فرنسية، كما هو الحال بالنسبة لكلمة «abricot» أو «water-closet»، التي تكتب قرب «المكان المخصص للنظافة»- بمعنى أن هذه العبارات إمَّا أنْ تُفَرْنَسَ أو أن تُقْصَى وتُسْتَبْعَدَ؛ لأنها ستصير مهجورة ومهملة والأكاديمية الفرنسية التي تضع معجمًا في عملية تحيين مستمرة، تَعْمِد إلى خلق توازن بين المعيار والاستعمال وتَدْبير الابتكار الاصطلاحي، يمكنها أن تقدم إفادة وأن تسدي خدمة عبر تولّيها دور الدليل والمرشِد.

مهارة الفعل في مواجهة الاختلافات

  ما الذي يمثله لك الاشتغال بالترجمة؟

  أُعرّف الترجمة بأنها دراية التصرف ومهارة الفعل في مواجهة الاختلافات. ولهذا السبب أثارت اهتمامي، وإن تحدثنا عنها بهذه الكيفية، صارت زاوية مقاربة مُهَيكِلَة؛ لأن هذه المهارة في الفعل والدراية في التصرف تجاه الاختلافات لا تنطبق على اللغات فحسب، ولكنها تنطبق أيضًا على العلاقات بين الكائنات الإنسانية. فأنا على سبيل المثال أشتغل في الوقت الحالي على الكشافات أو الفهارس الخاصة بالإدارة الفرنسية، وهو العمل الذي حصلنا لأجل إنجازه على دعم من وزارة الداخلية الفرنسية. ويكمن جوهر عملنا في أن نفكِّر في كيفية قولنا لاختلافاتنا وجعلها محسوسة عندما نتحدث عن «الاسم العائلي» و«الاسم الشخصي»، وعن «تاريخ الميلاد» وعن أشياء أخرى أكثر بساطة من هذه.

إن «الاسم الشخصي» و«الاسم العائلي»، و«الجنسية»… العبارات مضحكة، «اللباقة»، وعلى وجه التحديد عمليات استيراد/ تصدير من اللغة الإنجليزية… كل هذه الكلمات ليس لها المعنى نفسه، أو هي تغطي بالأحرى إشكالات مختلفة ووقائع متباينة تبعًا للثقافات والألسن؛ فعلى سبيل المثال إذا سألتم امرأة من مالي عن اسمها العائلي، ستُواجه مشكلًا في الإجابة عندما يكون زوجها حاملًا لاسم صياد أو محارب؛ لماذا؟ لأن هذا الاسم لا يمكنها استخدامه وليس لها الحق في ذلك، وهو ما يخلق بالطبع العديد من المشكلات الإدارية… ولكي نوجز، نقول: كل ما له وجود «بين» الألفاظ والكلمات يمثل لي جزءًا من مفهوم الترجمة، بوصفها تمرينًا يستلزم ويقتضي كثيرًا من الانتباه والإبداعية. فمن يترجم يتعين عليه الانتباه على الخصوص إلى «المتعذَّر ترجمته»، وإلى ما «لا يَعْبُر» [ويتعذر نقلُه] من دون أن يعني ذلك انعدام ترجمة ممكنة، ما دام الأساس هو أن كل شيء يقبل الترجمة.

  تتحدثين عن الإبداعية، هل من اللازم إعمال التأويل لأجل نقل فكر من لغة إلى أخرى؟

  فعل هيرمينوين كان في اللغة الإغريقية القديمة من بين الكلمات الأولى للتعبير عن فكرة «فعل ترجم»، والحال أنه يعني «أَوَّلَ»، ولنتذكر أن «بري أرمينياس» (عن التأويل «هو عنوان لمصنَّف أرسطو الذي اهتم بعناصر اللغة، أي الألفاظ والقضايا. وبذات الكيفية نجد في اللغة العربية أن التعبير الأكثر تداولًا لقول «تَرجَم» هو الفعل «أَوَّلَ». وإحدى أجمل العبارات وأقدمِها التي أعرفها هي تلك المستعملة في الصين؛ «قلب الحرير المطرَّز»، وهو ما ليس له طبعًا الحركة نفسها التي لفعل تأويل العلامات. وبالانطلاق من اللغة اللاتينية، يكون الأمر مرتبطًا بـ«تمرير ونقل»، و«القيادة مع العبور». هكذا يكون هذا الفعل لكل لغة، حركة مختلفة تُلْتَمَس أو تُصَوَّر، والمترجم يقوم بكل ذلك في آنٍ واحد، فهو يُجَرِّبُ لغات كثيرة في الوقت نفسه.

  إذن توجد العديد من الترجمات الممكنة؟

  طبعًا! بعض الترجمات تكون بكل بساطة أجود من الأخرى. وهو ما أسميه بـ«النسبية الناتجة»؛ بمعنى أن الترجمة الجيدة لا وجود لها، بل ما يوجد هو الترجمة الأجود والأفضل… وهي أفضل للهنا والآن، بالنسبة لهذا الظرف أو ذاك، بالنسبة لهذا الفعل أو لتلك الغاية…. على سبيل المثال عندما أحاول أن أحكي مقالة الجاما [المقالة الرابعة] من كتاب «الميتافيزيقا» لأرسطو، فإن الكيفية التي أتبعها في ترجمته- تأويلها للأطفال، ليست هي نفسها التي أتوسلها في فِعل ذلك مع من هُمْ مثلي.

  ما المراحل التي بَلَغَها مشروعك الخاص بـ«المُتَعَذَّر ترجمتُه» في الديانات التوحيدية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)؟

  نتوفر الآن على الباحثين وعلى الناشرين، غير أن هذا المشروع صعب على مستوى تنسيقه وقيادته؛ لأننا نريد إنجازه وتفعيله باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وفضلًا عن ذلك تمكنّا، بحسب ما يبدو لي، من تكوين فريق متين، حول قِسْمَي الإنجيل المسيحي (البروتستانتي والكاثوليكي) والقرآن، لكنَّنا ما زلنا دون ذلك بالنسبة للتوراة؛ إذ يلزمنا متخصصون لديهم القدرة على معرفة النص وفهمه بكل اللغات المستخدمة- اللغة الأرمينية، واللغة السريانية، واللغة العبرية، واللغة الإغريقية، واللغة اللاتينية، واللغة العربية- من دون أن يكونوا من أتباعه.

كما قمنا من جهة أخرى بعقد بعض الأسابيع الدراسية كان بعض منها عموميًّا أمام تلاميذ الثانويات الدينية، خصوصًا في مدينة مارسيليا، وهو الأمر الذي كان بحق غاية في الروعة، وفضلًا عن ذلك، أعتقد أن أبرز الإضافات التي ينطوي عليها هذا المشروع، هي أنه يجعل الجماعات في علاقة بعضها مع بعض، ويُنهي انغلاقها وهو الفعل الذي يبقى وحده أساسيًّا جدًّا، ويستحق تكريس كثير من الجهد والوقت.

تبسيط العلم وتقريبه

  تبسيط العلم وتقريبه إلى أفهام العموم، هل هو ترجمة في نظركم؟

  إن الترجمة بالمعنى الخاص، هي العبور والانتقال من لغة إلى أخرى. وهذا التعريف أو التحديد هو الذي أعمَلْتُهُ في عرضي «بعد بابل، فعل الترجمة»، الذي قُدِّمَ بـ«متحف الحضارات الأوربية والمتوسطية» بمدينة مارسيليا، بما في ذلك اللحظة التي عالجنا فيها الترجمة بين الديانات التوحيدية الثلاث. العلاقة بين النص والصورة تبدو شبيهة بتلك العلاقة التي تجمع الكلمة بالشيء –مجموع العمل الفني لماغريت يشهد على ذلك- وهو ما يمكن أن يسمى بدوره «ترجمةً»… ربما أكون ابتعدت قليلًا من موضوع السؤال؛ لذلك أقول فيما يرتبط بتبسيط وتقريب العلم: إن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يمكننا عدّ اللغة الجارية لغة أخرى غير اللغة الفرنسية؟ ربما يكون أحرى بنا أن نتحدث هنا عن «مستوى اللغة»… عندما ألَّفت كتابًا للأطفال بعنوان « أكثر من لغة» لم يكن لدي انطباع بأنني أترجم اللغة الفرنسية إلى اللغة الفرنسية، بل أَوْلَيْتُ انتباهًا أكثر من المعتاد إلى أنه لا وجود لمعرفة سبق اكتسابها… بهذا الشكل يمكن شرح كلمات معقدة للطفل، شريطة أن يكون من يتولى المهمة بيداغوجيًّا.

هل نطلق على ذلك اسم «ترجمة» أم لا، كل واحد يمكنه الرد تبعًا لما يعنيه بهذه الكلمة. وكما قال جاك لاكان: «الأسلوب هو الرجل،… الرجل الذي نتوجه إليه بالخطاب». لكن أكرر القول: إن الترجمة في نظري، هي في الدرجة الأولى الترجمة من لغة إلى أخرى، وهي تظل على ارتباط بما ينقص لغة من اللغات أو ما تمتلكه من إضافة أو ما تنطوي عليه من اختلاف مقارنة بغيرها من اللغات. وفضلًا عن ذلك تتمثل إحدى التجارب الأكثر أهمية لي، في مطالبة أطفال (فصول استقبال الأطفال الوافدين الذين لغتهم الأم لغة أجنبية) ممن أشتغل معهم في مارسيليا على سبيل المثال، بأن يجدوا كلمة لغتهم الأم التي تنقص اللغة الفرنسية بشكل كبير، والكلمة التي يجدونها أكثر غرابة لهم في اللغة الفرنسية، وهو ما مثَّل لي تجربةً حقيقية للترجمة.

  كيف تنظرون إلى أدوات الترجمة الآلية؟ هل سبق لك أن شاركت في بلورة أو تحسين بعض من هذه الأدوات؟

  لا، لكن من يضعون تصورًا لهذه الأدوات يثيرون اهتمامي! فقد أقمنا أسبوعًا دراسيًّا بين الأكاديمية الفرنسية وأكاديمية العلوم حول موضوعة الترجمة التي تتم بمساعدة الحاسوب، وحول أشكال التقدم التي تفوق التصديق التي تحققت في هذا المجال في غضون السنوات الأخيرة. وقد كان مشاركًا في مجموعة العمل أحد أعضاء محكمة العدل الأوربية. وهو الحضور الذي يكتسي من منظوري أهمية بالغة؛ لأن هذه المحكمة تتوفر على متن مهم من النصوص بلغات متعددة، ما دام كل حكم يُنْطَق باللغة التي تُقَدَّم الدعوى بها، لِتُتَرْجَم من فورها مع ما له من آثار متوقعة إلى كل اللغات الأوربية، لكن نقل هذا المتن إلى ملف de Deepl، (خدمة الترجمة الآلية على الشبكة العالمية) التي أستخدمها دون أن أعدم فائدة من وراء ذلك، قد يجعل هذه الخدمة تنحو صوب تقديم ترجمات قانونية سياقية بشكل مفرط، ما دام المتن الذي جُمِّعَ لا يهتم بكيفية الترجمة. وفي جميع الأحوال يبقى من المهم التفكير في هذه الأدوات؛ لأن ما يحدث في هذا المجال على درجة كبيرة من الإثارة.

  ما أشكال التقدم التي عايَنْتِها في هذا المجال؟

  منذ سنوات مضت استخدمتُ خدمة محرك غوغل للترجمة، التي تبقى أقل أداء اليوم من خدمة Deepl، خصوصًا للغة الإنجليزية، للعب بترجمة قصيدة الغراب للشاعر الأميركي إدغار آلان بو إلى اللغة الفرنسية من جانب ستيفان مالارميه، وهنا استخدمت أيضًا خدمة الترجمة في محرك غوغل لترجمة ترجمة مالارميه إلى اللغة الإنجليزية، ثم إعادة ترجمتها من جديد إلى اللغة الفرنسية، وهو ما أدى إلى نتائج مدهشة، تبقى في ذات الوقت مسلية وعميقة، طبعًا هناك أمور تبقى أصعب على مستوى التدبير بواسطة أداة آلية للترجمة أكثر من أخرى، غير أن أشكال التقدم التي تتحقق في هذا المجال تبقى ساحقة.

وهو ما وقفت عليه وجربته بنفسي، ففي أحد الأيام، تحت ضغط الوقت، كان من المفروض أن أقدم محاضرة بالولايات المتحدة الأميركية حول آخر كُتبي الذي لم يكن تُرْجِمَ بعدُ في الضفة الأخرى للأطلسي، فكان أن طلبت من خدمة الترجمة الآلية Deepl ترجمة مقاطع كبيرة من هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية، فكانت النتيجة مرضية جدًّا، فقلت لنفسي: «ما عاد بوسعي أن أكتب!»، وبكل صدق أقول: إن أشكال التقدم التي تحققت في هذا المجال جعلتني أشعر بالرغبة في التفكير والتأمل بخصوص هذا الموضوع، مع باحثين في مجال الرياضيات والإعلاميات.


المصدر‭:‬

la recherche 56‭, ‬novembre 2020-janvier 2021‭.‬

المنشورات ذات الصلة

بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية

بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء»

خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية

بمناسبة صدور كتابه باللغة العربية «رياض الشعراء في قصور الحمراء» بالاشتراك مع الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع،...

زياد الدريس: مركز عبدالله بن إدريس يهدف إلى تشجيع الابتكار وجائزة ابن إدريس أكثر من كونها شعرية أو أدبية

زياد الدريس: مركز عبدالله بن إدريس يهدف إلى تشجيع الابتكار

وجائزة ابن إدريس أكثر من كونها شعرية أو أدبية

يتطرق الدكتور زياد بن عبدالله الدريس، أمين عام مركز عبدالله بن إدريس الثقافي، في هذا الحوار، إلى دور المركز في تنشيط...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *