كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
فنانون يخلطون بين الحداثة والمفاهيمية
لا يزال الفهم الحقيقي للفن المفاهيمي عند الفنان العربي عامة والفنان السعودي خاصة موضعًا قلقًا لرسم الخطاب، وهو أمر لا يقتصر خطابه على فهم الزمن الفني بقدر ما هو قلق مصيري. فإذا كان الزمن الفني يرتبط بهوية الفنان، وذلك من خلال إعادة الفهم الفلسفي لمسألة الوجود الإنساني فإن إدراك الزمن التاريخي في الفن مسألة مهمة في ذلك؛ أي أن الفنان لا يزال باحثًا عن هويته الثقافية والبصرية التي تمثل فنه الخاص.
والهوية في الفن من أهم القضايا والموضوعات التي ما زالت تؤرق فنان هذا العصر، حتى إن بعض الباحثين حاول من خلال ذلك قراءة المتغيرات التي طرأت على الأصالة وتاريخ الفنون الحديثة، ومدى قابليتها للتبلور الجديد.
والهوية التي يسعى لها الفنان العربي وبخاصة الفنان المفاهيمي هي ذات أفق داخلي، تحدده طبيعة العمل الفني الذي يريد الفنان أن يعبّر من خلاله عن هويته؛ لأن الهوية في الفن المفاهيمي أخذت تذوب إلى حد كبير، والسبب في ذلك يعود إلى تعددية الرؤى التي يوفرها هذا النوع من النصوص البصرية الجديدة، ويحاول أن يلغيها أيضًا.
لقد وصفت الكاتبة الراحلة مي غصوب وصفًا أراه جيّدًا لفهم فنون ما بعد الحداثة تقول: إن «ما بعد الحداثة أشد انجذابًا إلى العبث»، وفي موضع آخر ربطت مي بين السخرية ومفهوم ما بعد الحداثة في التفسير اللغوي، وهي بالفعل نقطة مهمة جديرة بالتأمل.
الفوضى طريقًا إلى التعبير
فالسخرية والفوضى والعبث هي سمات الفن المفاهيمي، يقول أندريه ريستلر: «الجمالية الفوضوية اليوم هي جمالية فنانين، وهي انطلاقًا من مسلمات فلسفة اجتماعية مخرّبة…»، ويقول أيضًا: «الجمالية الفوضوية هي نتيجة التفكير المستقبلي لدى رواد الفكر الفوضوي الحديث، وهي اتجاه جمالي لحساسية فاعلة جديدة…». ويذكر جان دوفينيو: «أن أكثرية مسائل الإبداع الفني في المجتمعات المعاصرة ناتجة عن الفوضوية»، وكأن الفوضى طريق آخر إلى التعبير الفني.
إن خصائص العمل المفاهيمي تتضح من خلال عدد من المفاهيم المصابة بداء الحياة، مثل: الفوضى – جماليات القبح – حيز الفراغ – العدمية- العكوسية – الإلغاء – العبث – سوء التناسق – الضد – الإحساس بالضياع – التشظي – هيمنة الآلة – التفتيت، وهذا ليس دليلًا قاطعًا على أنها سمات دائمة للفن المفاهيمي بقدر ما تمثله من معايير نستطيع أن نعثر عليها في بعض الأعمال المتمردة على سياسة الأشكال الفنية.
كما تهتم المفاهيمية بالصناعات والمنتجات والتطور التقني والتكنولوجيا الحديثة التي هي رافد فني من مدارس فنية أخرى كالدادا والمستقبلية التي هي وليدة للثورة الصناعية في أوربا، فالآلة قتلت الإنسان، وجعلته يعاني البطالة، وسلبته حقوقه كإنسان فاعل في هذه الحياة.
فلسفة نهاية المصير
كما يحظى بعض فناني المفاهيمية بالتشاؤم كما يقول فرانسيس فوكوياما: «إن التشاؤم الكبير في عصرنا يرجع جزئيًّا على الأقل إلى الصدمة القاسية العائدة إلى الخيبة التي لاقتها تلك التوقعات». وبرز هذا التشاؤم في تجارب بعض الفنانين السعوديين بدءًا من اختيار الخامة واللون إلى تسمية العمل الفني نفسه، وعلى سبيل التمثيل: تجربة اللون الأسود في مشروع «السواد الأعظم» عند الفنان هاشم سلطان، وتجربة الظلمة في معرض «عتمة» لأيمن يسري، وكذلك الأمر في فكرة التابوت في عمل «نعي» للفنان حمدان محارب، وهي في حقيقة أمرها تعبير عن فلسفة الموت ونهاية المصير.
لم تكن هناك نشأة واضحة ومحددة لمفهوم المفاهيمية لكن كانت هناك محاولات فنية، وإشارات فنية دلت على ولادة هذا الفن في السعودية، علمًا أن نشأة الفن التشكيلي كانت متأخرة عن غيرها من البلدان العربية المجاورة كالعراق والشام ومصر. وإذا أمعنا النظر في مسألة التحديد التاريخي لنشأة المفاهيمية كفن تجريبي خاض عوالمه الفنان، نجد أن منتصف التسعينيات الميلادية كانت هي الولادة الحقيقية لهذا الفن المفاهيمي؛ أي في (1994 – 1995م) وذلك على أيدي مجموعة من الفنانين الشباب، الذين مارسوا التجريب الشكلي دون وعي كامل بهذا النوع من الفنون آنذاك.
الخلط ما بين الحداثة والمفاهيمية
كما نجد أن غالبية الفنانين السعوديين جاءت إلى الفن المفاهيمي من باب فكرة العمل التركيبي والنحت الحديث، وهو فن حداثي ليس بمفاهيميّ، الأمر الذي جعل أكثرهم يخلط ما بين الحداثة وما بعدها، وبين ما بعد الحداثة والمفاهيمية أشد الاختلاط، ومما كان لا يعيه الفنان التشكيلي أن العمل الفني قد يكون ما بعد حداثي لكنه لا يمتّ بصلة إلى المفاهيمية؛ لأن المفاهيمية ليست بذلك وإن تقاطعت معها في شرايين الفهم البصري.
ويذهب أحد الباحثين إلى الإشادة بفنانين سعوديين اثنين في الفن المفاهيمي على الرغم من أنه كان من أشد المعارضين لهذا الفن ولفنون ما بعد الحداثة، يقول هذا الباحث: «وهذا فإن الفنان السعودي، وإن كان في أسلوبه يتجه إلى المدارس الفنية المعروفة في العالم، إلا أنه ينفرد بخصوصية تمسكه بعاداته وتقاليده وبيئته المتميزة في أعماله، وهناك بعض الفنانين الذين تطرقوا إلى المفاهيمية، ونجحوا في طرحها، بدليل فوز هاشم سلطان بالجائزة الكبرى في بينالي بنغلاديش الدولي الرابع عشر، ومحمد الغامدي بالجائزة الأولى في بينالي الشارقة الخامس».
ومما يكشف عن طبيعة تلقي الآخرين للفن المفاهيميّ حتى وإن لم يكن الرضا بهذا الشكل الفني الجديد مكتملًا، مسألة ترتبط بطبيعة المتلقي السعودي الذي لا يزال يعيش صدمة التطور الاقتصادي والنهضة الفكرية في ميادين العلم والمعرفة والفن.
ولعل من الفنانين السعوديين المفاهيميين على سبيل التمثيل لا الحصر: أحمد ماطر، وبكر شيخون، ومحمد حيدر، وصديق واصل، ومهدي جريبي، ومحمد الغامدي، وسامي جريدي، وعبدالناصر غارم، وعبدالله إدريس، وزمان جاسم، وخالد عريج، ومساعد الحليس، وحمدان محارب، وفهد القثامي، وقسورة حافظ، ومنال الضويان، وسعيد قمحاوي، وماجد الثبيتي، ومها ملوح، وعبدالله العثمان، ومرضي عبدالعزيز، وعلي مرزوق، وأشجان السليماني، وسعود محجوب، وراشد الشعشعي، ورامي القثامي، وهاشم سلطان، وهؤلاء الفنانون وغيرهم لم يزالوا مستمرين في تجربتهم البصرية باختلاف، وهذا الاختلاف هو منطق فن المفهوم عبر حقيقته الثقافية المعاصرة التي لا ترضخ لشكل بصري واحد ولا لرؤية واحدة مستقلة.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية
ولد الفنان التشكيلي سعد يكن في مدينة حلب 1950م في حي الفرافرة، من أسرة تركية الأصل. شارك في أكثر من مئة معرض جماعي في...
0 تعليق