كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حسن المودن.. مشروع نقدي يتجدد باستمرار
تتقدم بعض النصوص النقدية إلى قارئها بوصفها مجالًا لمناقشة نصوص أخرى قديمة أو حديثة وفتح محاورات نقدية معها بصيغ غير مباشرة، سواء على مستوى الأفكار (النصوص الفكرية)، أو المفاهيم والمنهج (المقاربات النقدية)، أو على مستوى المضامين والموضوعات والأشكال (النص الإبداعي)، وإذا كانت مثل هذه المقاربات النقدية قليلة ونادرة في المجال الثقافي العربي على الأقل، فإنها ليست منعدمة، وهي تجارب تشي بسعة معرفة الناقد بآليات النظرية النقدية الإبستمولوجية.
ويمكن التمثيل للتجارب والمشروعات النقدية التي شكلت محاورات نقدية في المجال الثقافي الفكري والنقدي العربي بأسماء كثيرة؛ ففي مجال نقد الأفكار تحضر المشروعات الفكرية لكل من محمد عابد الجابري، وعبدالله العروي، ومحمد أركون، وجورج طرابيشي، وإدوارد سعيد، ونصر حامد أبو زيد، وهشام جعيط، ومهدي عامل وغير هؤلاء، وبالغنى نفسه نجد أسماء عرفناها بما قدمته من مشروعات نقدية للإبداع الأدبي أسست بها لممارسة نقدية عربية، ويأتي في مقدمة هذه الأسماء محمد مفتاح، ومحمد برادة، وعبدالفتاح كليطو، وصبري حافظ، وجابر عصفور، وفيصل دراج وسعيد يقطين، ولا يمكن الحديث عن هؤلاء من دون الإشارة إلى ما قدمه قبلهم نقاد مثل: طه حسين، ومحمد مندور، وعز الدين إسماعيل، من مقدمات لنقد الأدب بوصفه ممارسة علمية محكمة بالمفاهيم والمناهج، ومحاورة للأفكار والتصورات.
ضمن هذا السياق الثقافي المحلي والكوني، قدم الناقد المغربي حسن المودن دراسات نقدية تميزت بعمقها المعرفي وجدتها المنهجية، في التفاعل مع النصوص الأدبية العربية والعالمية(١) ونقدها، والحفر في مكوناتها وتأويل دلالاتها، بوعي مهموم بالبحث عن صيغ أخرى لمعالجة إشكالات الحاضر وأسئلة المستقبل، وبتشييد قنوات جديدة للحوار مع مستجدات المعرفة النقدية في الغرب، وبنقد مزدوج للمسلمات الثقافية والنقدية وللتصورات السائدة حول النقد والأدب. وسيرسم المودن بذلك للكتابة النقدية العربية أفقًا كونيًّا يقوم على الحوار والمساءلة.
رسم حسن المودن لنفسه بتفانٍ واجتهاد بدأه قبل ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن صورة ناقد نفسي دائم العطاء والتجديد في منحى مزدوج؛ نقل آليات الناقد النفسي من مرجعياتها النقدية الغربية إلى الثقافة العربية من جهة(٢)، ومن جهة ثانية السهر على تجريب واختبار فاعلية وإجرائية هذه الآليات في قراءة النص الأدبي. وقد استطاع حسن المودن بنجاحه في تحقيق تراكم معرفي نظري وتطبيقي في هذين المنحيين، أن يمنح مشروعه النقدي ملامح أفق جديد ومنحى ثالثًا من داخل مرجعيته المعرفية النقدية، يتمثل في الانخراط في النقاش النقدي النفسي العالمي.
المنهج والمفاهيم والأسئلة
تنفرد المؤلفات النقدية لحسن المودن في عمومها بقدرتها على رسم حدود لمرجعيتها المعرفية والمنهجية بدقة منقطعة النظير في حقل الدراسات النقدية العربية، وتجديدها للأسئلة وتقليبها من داخل هذه المرجعية عن طريق محاورة عميقة للنصوص، وتَقَفِّيها ذلك الأثر المتحول في النصوص الأدبية من منطلقات مختلفة (الموضوعات والشخصيات/ عناصر الكون السردي)، وتتميز هذه التجربة النقدية كذلك بمزاوجتها بين الاستناد إلى المرجعيات المؤسِّسة لنظرية التحليل النفسي مع سيغموند فرويد وكارل يونغ وجاك لاكان، ومسايرتها الأسئلة المطروحة عليها، ومشاركتها التجديد في آليات القراءة النفسانية وصيغها وقلب أسئلتها، الذي بدأه وأسس له جان بيلمان نويل وتطور مع الناقد الفرنسي بيير بيار(٣)، مثلما تتميز باشتغالها القرائي على النص الإبداعي والنظري العربي والغربي والإنساني؛ الديني والأسطوري والأدبي قديمه وحديثه.
تنطلق مجموع كتابات الناقد حسن المودن من ضرورة تجاوز مبدأ جعل النصوص الأدبية، والسردية منها على وجه التحديد، صيغة لإثبات صحة النتائح التي خلص إليها التحليل النفسي وإجرائية صيغه وآلياته التحليلية، الذي كان سائدًا في الدراسات النقدية التقليدية عامة والنفسية خاصة، إلى جعل الأدب مدخلًا لمساءلة نتائج التحليل النفسي ومنطلقاته وحدود مفاهيمه. ونكاد نقول: إن كتابات حسن المودن من أولها إلى آخرها(٤) تتأطر بسؤالين يتحدد الأول منهما، وهو الذي جعله الناقد عنوانًا فرعيًّا لكتابه الأخير في: «ما معنى أن تكون ناقدًا نفسيًّا؟» ويتحدد الثاني في: «مَنْ يقرأ مَنْ؛ الإبداع أم النقد؟».
وإذا كانت قراءة النصوص ومعاشرتها هي التي تفرض الاستعانة بمفاهيم بعينها بعبارة المودن(٥) لا إسقاطها إسقاطًا تعسفيًّا، فإن ذلك لا يجعل من المفاهيم التي يعتمدها مفاهيم ثابتة وقارّة الدلالة والتحديد، مثلما يرى المودن أن «النص هو الذي يفرض منهج قراءته وزاوية مقاربته» بحيث يصبح المنهج بدوره قابلًا للتطوير بعيدًا من المعيارية والإسقاطية والجمود، وهو بذلك يَعْبُرُ بمنهج التحليل النفسي ومفاهيمه وبالنص النقدي النفسي من دائرة جعل الأول «جهازًا مفهوميًّا جامدًا»، ومن جعل الثاني «مجرد تمرين تتكرر من خلاله مفاهيم نفسانية جاهزة وجامدة»(٦) بوساطة أسئلة جديدة، مثل: ألا يمكن للنقد النفساني أن يستمد مفاهيم نفسانية جديدة من نصوص قد تكون قديمة، أو حديثة؟ إلى فرضية إمكان جعل تشييد المنهج وبناء المفهوم فعلًا مشتركًا بين الكتابة والقراءة، بين الإبداع والنقد. وتبعًا لذلك تصبح الكتابة النقدية عند حسن المودن تفكيرًا دائمًا في الإمكانيات النظرية التي يمكن أن توفرها الأعمال الأدبية، وكتابة يطبعها التجديد المستمر في الأسئلة والافتراضات.
الكشف عن النفسي في السردي
قاد سؤال الكشف عن النفسي في السردي عمومًا، وفي النص الروائي منه على وجه التحديد، حسن المودن إلى الانطلاق من الحدود التي رسمتها المقاربات قبله للموضوعات والقضايا الروائية، ومن نتائج تأويلات من سبقه إلى قراءة نصوص بعينها، لطرق موضوعات وأسئلة جديدة تخلخل اطمئنان الذات لمعرفتها وأحاسيسها، وتشكك فيما انتهت إليه من خلاصات وآراء، سعيًا إلى تغيير الموضوعات والرؤى السائدة في القراءات النقدية العربية.
لقد واصل حسن المودن، خاصة في كتابه: «الرواية والتحليل النصي»، وكتابه: «الرواية العربية من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي»، تجريب منهج نفسي يختلف عن النقد النفسي التقليدي في مقاصده وآلياته، وفي إجراءاته وتحديد مفاهيمه، يتعلق الأمر في الكتاب الأول «بمنهج التحليل النصي»؛ الذي يجمع في القسم الأول منه بين المقاربة النفسانية والموضوعاتية، رغبة في كشف الموضوعات المهيمنة في الرواية العربية، ويجمع في القسم الثاني منه، بين المقاربة النفسانية والأسلوبية، سعيًا إلى الإجابة عن سؤال: كيف يقول النص الروائي العربي، النفسي؟ ولا يختلف الكتاب الثاني في مقاربته عن الأول؛ التي وصفها الناقد بكونها محاولة نقدية تستند إلى مفهومات نفسانية ونقدية(٧)، وتهدف إلى تجديد مفهوماتنا وتصوراتنا للسرد والكتابة وتطويرها، وتوسيع دائرة اختبار إجرائية المفاهيم النفسانية في القراءة(٨) بعيدًا من التطبيق الحرفي المتعسف للمفهومات.
إن الكتابين، إضافة إلى اعتقادنا بأن المقال الأخير من الكتاب الأول «بلاغة الرواية العائلية، رواية المنبوذ نموذجًا» يشكل تمهيدًا، أو بداية تفكير في الكتاب الثاني، يبحثان معًا في «العلائق والروابط المعقدة بين السردي والنفسي بين الكتابة واللاشعور»(٩).
من تطبيق التحليل النفسي على الأدب إلى تطبيق الأدب على التحليل النفسي:
ينطلق الكتاب الأول في مدخله من إشكال جديد على النقد الروائي العربي يتحدد في سؤال: هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي؟ وما الذي يمكن أن يقوله الأدب للتحليل النفسي؟(١٠) وإذا كانت الغاية الكلية المؤطرة لمشروع المودن تتمثل في تقديم الإجابة عن السؤالين السابقين من خلال قراءات تحليلية للنصوص السردية العربية والإنسانية، فإن مدخل الكتاب يؤطر مسار تطور الأسئلة التي تبحث العلاقة بين التحليل النفسي والأدب ضمن مرجعيتها النظرية المعرفية(١١)، أما أسئلة قسمي هذا الكتاب فيمكننا حصرها في سؤالين عامين: ماذا يقول النص الروائي؟ وكيف يقول ما يقوله عن الإنسان؟
وللإجابة عن السؤالين المتقدمين، تناول الناقد متنًا روائيًّا يتألف من اثنتين وعشرين رواية، تغطي أربعة عقود من تاريخ الرواية العربية (1972- 2008م) تناولًا نقديًّا خلص إلى أن الأدب هو الصيغة والمجال الذي تعبر فيه/ وبه الذات (ذات الآخر والذات الكاتبة والقارئة) عن عالمها الداخلي، إذ تصبح الكتابة فعلًا انتهاكيًّا مدمرًا في «الخبز الحافي» وتلذذًا بالتدمير وتكسير الحدود، ويتحول ألم الراوي في «لعبة النسيان» وشعوره بالإحباط واليأس والرغبة في الخروج من دائرة التوجع والتفجع والكآبة إلى لعبة، وتصير الكتابة فعلًا نفسيًّا بنيويًّا، وصيغة لمحو الألم ونافذة على الماضي والداخل حيث تقبع ذكريات ملأى بالحب والحياة، وتتعدى الكتابة في سوق النساء «لجمال بوطيب» الوظيفة الانعكاسية التسجيلية لتصير عبر سرد للألم والجرح، فعلًا تظهيريًّا تعويضيًّا، وتقوم مقام المرأة (زوجًا، أو أمًّا)؛ مقام الحب والغياب والفقدان، وهكذا يغوص حسن المودن في روايات أخرى عربية ومغربية محللًا العوالم الداخلية للشخصيات، وللأشكال والصيغ والأساليب التي عبرها يتحقق الخطاب الداخلي (المحكي النفسي/ المنولوج الداخلي– المستقل-الأوتوبيوغرافي التذكري- المسرود/ محكي الأنشطة النفسية…) ليكشف أن الكتابة في الرواية العربية المعاصرة فعل «استنطاق لذاتية الإنسان العربي ولأحلامه وانهزاماته وإحباطاته… والتغلغل في المناطق المعقدة والغامضة التي تتصادم فيها العوالم الداخلية النفسية للشخصيات الروائية بالعوالم الخارجية وتتكلم لغات متعددة»(١٢).
من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي
يسجل حسن المودن في هذا الكتاب انتقالًا واضحًا على مستويين؛ مستوى اعتماده لمفهومين نفسانيين جديدين في قراءة الرواية العربية؛ مفهوم الرواية العائلية، ومفهوم محكي الانتساب العائلي. ومستوى قراءته؛ بالوقوف على التحول الذي عرفته الرواية العربية من حيث أشكالها وموضوعاتها من رواية عائلية إلى رواية محكي الانتساب العائلي، وإذا كان المستوى الأول يكشف عن أهمية التجديد في مفاهيم نقد النص الأدبي وقراءته، فإن المستوى الثاني يسعى إلى الكشف عن التطور الذي عرفه مفهوم الأدب من خلال قراءة نقدية لأعمال روائية عربية.
ماذا عن العلاقة بين الروائي والعائلي؟ أليس السرد الروائي هو هذا البحث الدائم في المسألة العائلية؟ وهل الوجود ممكن من دون رواية عائلية تسند وجودنا نفسه؟ أسئلة وأخرى كثيرة يلج بها حسن المودن عوالم النص الروائي العربي، منتقلًا من مقاربة الموضوعة بوصفها عنصرًا من عناصر الرواية، مثلما نجد في كتاب الرواية والتحليل النصي، إلى الموضوعة بوصفها بنية أساس في الحكاية التي «تؤلفها الذات في علاقتها بعالمها العائلي، وتتقدم هذه الحكاية/ البنية كأنها بنية لا شعورية»(١٣).
ولأن مقاربة «موضوعة العائلة باعتبارها بنية (لا شعورية) أساس في الرواية»، تقتضي طرح سؤال الحكاية، مثلما تقتضي طرح سؤال الكتابة، فإن المودن يطرح السؤال الأول من منظور التحليل النفسي: ماذا عن حكايتنا العائلية في نصوصنا الأدبية والروائية خاصة؟ ويطرح الثاني من منظور النقد النفسي الذي يهتم أكثر بسؤال الكتابة: كيف تقال حكايتنا العائلية وكيف تكتب في الرواية المكتوبة باللغة العربية؟ وهل عرفت تحولات، وما خصائصها الشعرية والجمالية؟
إن هذه الأسئلة إضافة إلى منهج التناول، هو ما يمنح هذه الدراسة جدتها وفرادتها وأهميتها؛ ذلك أن أغلبية النصوص التي قاربها الناقد نال بعضها حظًّا وافرًا من القراءة والتحليل، والأهم من كل ذلك ما خلص إليه الناقد من خلاصات لا يكتفي فقط بتجاوز ما قدمته قراءات نقدية قبله، بل يُسائل بعض الخلاصات التي خلص التحليل النفسي إلى تأكيدها، يقول المودن في خاتمة كتابه «لماذا يحتفي الأبناء بآبائهم والبنات بأمهاتهم في الروايات العربية المعاصرة عكس ما يريد التحليل النفسي أن يقنعنا به؟»(١٤).
ماذا يعني أن تكون ناقدًا نفسيًّا؟
لا أجانب الصواب إن قلت: إن من أهم الأسئلة المطروحة في النقد الأدبي العربي اليوم؛ سؤال ما معنى أن تكون ناقدًا نفسيًّا؟ ومن دون شك يتضمن هذا السؤال سؤالًا آخر أعمّ هو سؤال: ماذا يعني أن تكون ناقدًا؟ وحسن المودن إذ يطرح هذا السؤال فلأنه يرمي إلى التنبيه إلى أن مفهوم الناقد والممارسة النقدية وتبعًا لذلك الإنتاج النقدي يحيطه غموض من حيث التحديد وكذلك الممارسة، وفي الوقت ذاته، يرمي إلى الخروج بالنقد النفسي من دائرة التحديدات التي تجعل منه نقدًا نفسيًّا بيوغرافيًّا يستند إلى سير الكتاب والشعراء في تسويغ نتائج التحليل النفسي، أو في أحسن أحواله تنزيلًا حرفيًّا للمفاهيم على النصوص الإبداعية.
استدعت الإجابة عن سؤال: ما معنى أن تكون ناقدًا نفسيًّا؟ من الناقد البحث عن مدخل آخر تمثل في استشكال العلاقة بين التحليل النفسي والأدب، والتحولات التي عرفتها هذه العلاقة، وما نتج عنها من تطور لمفاهيم القراءة، وتقتضي معالجة هذه الإشكالية العودة إلى متابعة التحولات التي عرفتها الممارسة النقدية التحليلية النفسية، منذ بداياتها مع فرويد ويونغ ولاكان مرورًا بالمحاولات النقدية التي رفضت الاستعانة ببليوغرافيا المبدع لقراءة أعماله الإبداعية، وبخاصة رولان بارت، وصولًا إلى اقتراح مقاربات نقدية نفسية جديدة؛ مع جان بيلمان نويل بداية من سبيعنيات القرن الفائت، الذي سعى إلى تجاوز النقد النفسي في صوره التقليدية السائدة، والسعي إلى التخلص من قبضة المؤلِّف والوفاء لعنصرين أساسين هما: النص والقارئ في دراسات تنفتح على حقول وتصورات معرفية علمية أخرى في قراءة النص الأدبي. ومع بيير بيار وخاصة في كتابه الصادر مطالع الألفية الجديدة: هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي؟ (2004م) الذي سيفتح طريقًا آخر للنقد النفسي بوصفه محاورة وتأويلًا مستمرين للنصوص الإبداعية.
وانطلاقًا من الوقوف على الحوار بين اللسانيين والنفسانيين وبين هؤلاء ونقاد الأدب (الفصل الأول والثاني)، ومن إشكالية العلاقة بين الأدب والتحليل النفسي وما نتج عنها من قلبٍ للأدوار بين الطرفين في شكل سؤال عمَّنْ يقرأ مَنْ؟ (الفصل الثالث والرابع)، يحاول الكتاب الإجابة عن أسئلة كيف نطوِّر آلياتنا ومفاهيمنا النقدية؟ وكيف نوسع من طاقتها التحليلية؟ «كيف الخروج من التحليل النفسي، لا بالرجوع إلى الوراء، بل بالتوجه نحو المستقبل؟»(١٥).
وفي متابعة تفاصيل هذا الكتاب، يكشف حسن المودن من خلال التحليل والمحاورة للتصورات والنصوص النقدية قيد التناول أن «وظيفة المحلل النفسي هي أن يفك اللغز، وأن يبحث عن الحقيقة»(١٦)، وبذلك فالمحلل النفسي للأدب لم يعد مالكًا لمعرفة تستطيع الإحاطة بالنص، «بل إنه يمنح الفرصة للأعمال الأدبية من أجل أن تحاوره، وأن تسائل معرفته الجامدة»(١٧)؛ مما قد يجعل من نصه النقدي نصًّا جامعًا بين التخييل والتنظير وإنتاج للمعنى بأدوات وصيغ مغايرة.
يخلص الناقد في نهاية هذا الكتاب الذي لسنا في حاجة إلى التذكير بأهميته البحثية، تحت عنوان: هل نعود من جديد إلى فرويد؟ إلى أن فرويد، واستنادًا إلى العديد من الدراسات النقدية التي واكبت إنتاجه المعرفي العلمي، وإلى العِشرة الطويلة والخبرة الواسعة للمودن بمؤلفات فرويد، قد كان كاتب رواية ضخمة اسمها التحليل النفسي، ولا يخفى على القارئ أن إحدى مرامي هذا القول وأهمها بيان التداخل القائم بين التحليل النفسي والأدب، وعدم استقرار وثبوت العلاقة القائمة بينهما لكونهما معًا «أرض غرائزنا وأحلامنا، أسرارنا ورغائبنا، جراحاتنا وآلامنا الدفينة، وحميميتنا السرية»(١٨). وإذا كان ما تقدم من كون هذه العلاقة المتوترة والمتغيرة بين الأدب والتحليل النفسي يؤكد بدايتها مع فرويد، فهو كذلك تأكيد مضمر من نويل وبيار والمودن لقول فرويد: «إن الشعراء والروائيين حلفاء كرام… ومن الواجب تقدير شهاداتهم حق قدرها؛ لأنهم يعرّفون، فيما بين السماء والأرض، بأشياء كثيرة لا تجرؤ حكمتنا المدرسية على أن تحلم بها بعد، وهم، في معرفة النفس البشرية، معلمونا وأساتذتنا»(١٩).
خلاصة
إجمالًا يمكن القول: إن حسن المودن سعى من خلال دراساته النقدية متوسلًا آليات منهج النقد النفسي ومفاهيمه، إلى الكشف عن العلاقة بين الكتابة واللاشعور؛ وقد اتخذت مقارباته النقدية أشكالًا تتغير نتيجة جعل النص الإبداعي منطلق التحليل وبؤرته، ومنح هذا الأخير (التحليل) إمكانية توسيع المفهوم وتطويره؛ وهكذا جاءت المقاربات نفسية؛ مفهومية وأسلوبية وموضوعاتية، ركزت على بحث علاقة الموضوعات بكاتب النص، وبحث علاقة شخصيات النص بأساليبه وتقنياته ولغاته، وعلاقة النص بعوالمنا العائلية الواقعية والمتخيلة، وبأسئلة حاضرنا ومستقلبنا، وبحكايتنا في العصر الراهن.
ومن خلال هذه الأشكال المتعددة للمقاربة النفسية التي تعكس التطور والتجديد المستمرين اللذين يحكمان المقاربة النفسية في دراسات المودن، وتعكس قدرته على الإصغاء للنص، وجعله محاورًا للممارسة النقدية؛ نخلص مع المودن إلى خلاصات منها:
• أن النص الإبداعي شكل غير مسبوق للعلاقة بالذات، وبآخر الذات: فالأدب لا يجعلنا نكتشف الآخرين فحسب، بل يدفعنا إلى اكتشاف هذا الآخر في داخل ذواتنا.
• أن نقد النص الروائي في المقاربة النقدية النفسية هو توريط لا للذات الكاتبة فحسب، بل للذات القارئة أيضًا.
• أن النقد النفسي ينظر إلى النص الإبداعي كذات، وهي ذات مستقلة لا تعكس بالضرورة ذاتية كاتبها، أو لا وعيه، فللنص لا وعيه، والقصيدة قد تعرف أكثر مما يعرفه الشاعر نفسه.
• أن النقد النفسي تفكير في العلاقة بين الكتابة والألم، بين الكتابة والحداد: تفكير في جماليات محكي اليتيم الذي يكاد يميز السرد المغربي الحديث (التهامي الوزاني، عبدالمجيد بن جلون، عبدالله العروي، محمد برادة…).
• أن الناقد النفسي هو المحلل القارئ، الذي يقرأ باستمرار ليجدد «معرفته الأدبية ومعرفته النفسانية انطلاقًا من قراءته المتواصلة، بالشكل الذي يخلق حوارًا داخليًّا بين الأدب والتحليل النفسي، بين النص والمنهج والنظرية، من أجل فهم متجدد للإنسان ولغته وأدبه»(٢٠).
• أن دور الناقد المحلل لم يعد هو دراسة العمل الأدبي، أو كاتبه بل مهمته أن يقوم بتحقيق مضاد يسهم في إعادة بناء حقائق أخرى للنص الإبداعي المقروء والتشكيك في الحقائق المصرح بها، ومهمته كذلك «التأمل بهدوء وعمق، ومساءلة الحدود بين فضاء الكتابة وفضاء الواقع»(٢١).
هوامش:
(١) قدم حسن المودن سبعة كتب في نقد السرد (الروائي والقصصي) من منظور التحليل النفسي إضافة إلى كتابه في البلاغة.
(٢) أصدر حسن المودن في الترجمة كتاب: التحليل النفسي والأدب لجان بيلمان- نويل، إضافة إلى ما تضمنته كتاباته النقدية في مقدماتها ومتونها وهوامشها من تحديدات دقيقة لمفاهيم، مثل: مفهوم الرواية العائلية، ومفهوم محكي الانتساب العائلي، ومحكي الأنشطة النفسية، والغرابة المقلقة، والتكثيف (…)، ولا تخلو مقالات المودن المنشورة في مجلات علمية مختلفة كذلك من تحديدات مفهومية، مثل: مفهوم الجهاز النفسي، والكبت، والوعي، وما قبل الوعي،… انظر مثلًا مقال: التحليل النفسي للأدب، ضمن مجلة البيان، مجلة أدبية ثقافية شهرية محكمة- الكويت العدد 338 سبتمبر 1998م. ص17 وما بعدها.
(٣) تعبر مجموع كتابات المودن منذ بداياتها عن رؤية تتجاوز هدف تقديم قراءة للنص، نحو محاورة النص إبداعيًّا كان أو نقديًّا؛ نظريًّا أو تطبيقيًّا؛ وتقديم إضافات في قراءات النصوص وقلب زوايا النظر إليها وتعدادها؛ انظر تمثيلًا لا حصرًا مقال: قراءة نفسانية في قصة النبي يوسف عقدة الأخوّة أولى من عقدة أوديب، ضمن مجلة «تبيُّن» للدراسات الفكرية والثقافية، فصلية محكمة، العدد 10، المجلد الثالث، خريف 2014م، ص37 وما بعدها. وانظر كذلك حسن المودن: سؤال الإخوة في الرواية النسائية فاطمة يوسف العلي «غرف متهاوية» أنموذجًا، ويطرح المقال بدل سؤال الأخ في المقال المشار إليه آنفًا، سؤال الأخت، مجلة نزوى ع 97، مايو 2019م. وانظر أيضًا: حسن المودن: من أجل تجديد التحليل النفسي الأنثروبولوجي: من عقدة أوديب إلى عقدة قابيل، مجلة أبوليوس، ع 12، يناير 2020م، ص 23-36.
(٤) صدر أول كتاب تأليف للمودن عن منشورات اتحاد كتاب المغرب: الكتابة والتحول سنة (2001م)، وآخر كتاب: الأدب والتحليل النفسي سنة (2020م)، وصدرت له أول ترجمة عن منشورات المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة سنة 1997م، وآخر ترجمة كانت عن منشورات دار رؤية بالقاهرة سنة 2015م، بعد أن كان قد ناقش رسالته لنيل دكتوراه السلك الثالث سنة 1996م في موضوع: لا وعي النص في روايات الطيب صالح، تحت إشراف الناقد المغربي محمد برادة.
(٥) حسن المودن: الكتابة والتحول، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى، نوفمبر 2001م، ص135.
(٦) حسن المودن: قراءة نفسانية في قصة النبي يوسف، مجلة تبيُّن، م- س، ص38.
(٧) حسن المودن: الرواية العربية، من الرواية العائلية إلى محكي الانتساب العائلي، قراءات نقدية من منظور التحليل النفسي (دراسة)، الطبعة الأولى 2017م، ص10.
(٨) م- ن، ص22.
(٩) حسن المودن: الرواية والتحليل النصي، قراءات من منظور التحليل النفسي، منشورات الاختلاف والدار العربية ناشرون، دار الأمان، الطبعة الأولى 2009م، ص9.
(١٠) حسن المودن: القصة القصيرة والتحليل النفسي، منشورات مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، ص6.
(١١) حسن المودن: الرواية والتحليل النصي، م- س، ص ص11-24.
(١٢) م- ن، ص 223.
(١٣) حسن المودن: الرواية العربية، م- س، ص7.
(١٤) حسن المودن: م- ن، ص145.
(١٥) حسن المودن: الأدب والتحليل النفسي، كتاب الدوحة، أغسطس2019م، ص102.
(١٦) م- ن، ص 109، والعبارة نفسها وردت في كتابه: القصة القصيرة والتحليل النفسي، م- س، ص5.
(١٧) حسن المودن: القصة القصيرة والتحليل النفسي، م- س، ص8.
(١٨) حسن المودن: الأدب والتحليل النفسي، م- س، ص136.
(١٩) سيغموند فرويد: الهذيان والأحلام في غراديفا [ترجمة جورج طرابيشي] دار الطليعة، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة 1986م، ص7.
(٢٠) حسن المودن: الأدب والتحليل النفسي، م- س، ص 103.
(٢١) م-ن، ص 126.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق