كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
العلم والزمن.. اتساق أم تعارض؟
كان السؤال الأكثر رواجًا في الأشهر الأخيرة من عام 2020م ومطلع عام 2021م في وسائل الإعلام، وفي المنتديات، وبين الأشخاص هو الآتي: كيف يمكن أن نثق بلقاح ضد كوفيد 19 هذا الوباء الذي اجتاح العالم وعطّل الاقتصاد وتصاعدت فيه الوفيات، وقد جهز كثير من هذا اللقاح في غضون أشهر منذ اكتشاف الوباء؟ في الوقت الذي تأخذ فيه اللقاحات سنوات طوالًا حتى تثبت فاعليتها؟
لكثيرين كان هذا السؤال ملحًّا ونابعًا من خوف وقلق على فاعلية اللقاح والخشية من سرعة تصنيعه وتطعيم الجمهور به، زاد من ذلك القلق هجمة من الأخبار المضادة من بعض من يدعي التخصص ومن غيرهم، بأن هذا اللقاح أو بعضه، على الأقل، سوف يغير تركيبة الجسم البشري، بل ذهب بعضهم إلى عمق نظرية المؤامرة المحاطة بالشك، بالقول: إن اللقاح صنع من أجل التخلص من طائفة من البشر، في حالنا هم (العرب المسلمون)، وعلى الرغم من ظهور عدد من المختصين العرب والأجانب لنفي تلك الآراء، وأنها لا تعدو أن تكون أخبارًا كاذبةً، إلا أن الشك استمر ليس لدى العامة، لكن حتى لدى بعض المتعلمين.
الإجابة الصحيحة عن ذلك السؤال المركزي لم يتطرق إليها كثيرون ممن نشروا رأيهم أو تحدثوا في هذا الملف الحرج، وهي كيف يمكن تفسير (الزمن القصير) الذي أخذه تصنيع اللقاح حتى يوزع للناس! نظرية المؤامرة في الشأن الإنساني العام ليست قاصرة على ثقافة بعينها، فهي تظهر في ثقافات مختلفة وفي مجتمعات متقدمة ونامية وتحت النامية، مجتمعات فيها تقدم علمي وأخرى ينقصها ذلك، مجتمعات بدائية وأخرى درجت في التقدم، إنه شعور إنساني يخضع لمعادلة «كلما اتسعت المعرفة ضاقت الخرافة» و«كلما ضاقت المعرفة اتسعت الخرافة»، يجاريها عدم ثقة في السلطات العامة ويغذيها بعض السياسيين المستفيدين منها وتنشر في أجواء الجهل.
التقدم العلمي الهائل
سبب السرعة في الحصول على لقاح ضد الوباء المدمر هو سبب عقلاني وبسيط، وفي الأساس، بجوار عوامل أخرى، يرجع إلى تقدم العلم الهائل في عصرنا، وطبعًا العوامل المساعدة التي دفعت بالتسريع هي تعطل الاقتصاد العالمي، والخوف الاجتماعي والعزلة، وأيضًا ضخ مبالغ خرافية من المال من أجل التسريع في البحث العلمي عن لقاح وتكثيف الجهود العلمية من خلال مؤسسات وعقول وازنة، ولكن الأساس هو سرعة التقدم العلمي؛ لذلك وجدنا أن اللقاحات تقريبًا ظهرت في وقت متقارب لا يزيد على عام!
التقدم العلمي هو تدريجي ولعلنا نذكر هنا المقولة المشهورة المنسوبة للعالِم إسحاق نيوتن، التي يقول فيها: «إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين، فذلك لأني أقف على أكتاف عدد كبير من العمالقة»، والنص يشرح نفسه. ففي تاريخ العلم الحديث لا يأتي أي شيء من فراغ، بل هناك جهود تبذل وتراكم في كتاب المعرفة الإنسانية، ومن ثم تنضج تلك المعرفة عندما تصل إلى نقطة هي التحول من الكمي إلى كيفي. فالتقنية التي استخدمت في اللقاحات إما هي قديمة (كلاسيكية) كما يقال استخدمت في لقاحات سابقة أخرى مثل اللقاح الصيني أو الروسي، أو هي تقنية جربت لمعالجة أمراض أخرى أو كانت مصممة لعلاج أمراض أخرى كمرض السرطان.
هذا لا يعني أن تقدم العلم سهل وميسور، لو قرأنا تاريخ أحد العلوم الحديثة التي أثر اكتشافها في العالم ولا يزال وهي المُعرَّفة بـ«انشطار الذرة» وهي عملية «انقسام نواة ذرة ثقيلة إلى قسمين أو أكثر، وبهذا يتحول عنصر معين إلى عنصر آخر، وينتج من عملية الانشطار طاقة» التي هي اليوم تستخدم في الطب وإنتاج الكهرباء والعلاج وغير ذلك من عشرات الاستخدامات، لَعَرَفْنا أن ألبرت آينشتاين المعروف أنه مكتشف «الانشطار الذري» كانت قد سبقته محاولات من عدد من العلماء، ومن ثم وصل إلى نتيجة سبقته تجارب علماء آخرون مهّدوا الأرضية، هو بنى عليها، ولو قيل لطالب في امتحان الثانوية عام 1920م مثلًا: هل تنشطر الذرة؟ وقال: نعم في إجابته لسقط في الامتحان! لم تقف أبحاث الذرة هناك في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كما اكتشفها آينشتاين، بل زاد عليها وطوَّرها عدد من العلماء من بعده، وهناك هامش من التطوير لا شك قادم في هذا الملف الخطير، كما هو قادم في ملفات العلم المختلفة.
الإنسان يسابق نفسه
لم يكن أحد في ثلاثينيات القرن الماضي يعتقد أن الطائرة سوف تطير بسرعة أكبر من الطائرات المروحية المعروفة وقت ذاك، ولم يكن أحد يرى أن هناك جهازًا يمكن أن يكشف طائرة قادمة من بعد، لكن بعد سنوات أصبحت الطائرة تطير بسرعة الصوت، وأصبح الرادار يكتشف الطائرة بمجرد أن تحلّق من مطارها، بل أصبح اليوم هناك طائرات لا يكتشفها الرادار التقليديّ، وسباق يجري في العالم اليوم بين طائرة لا تُكتشَف، ورادار يُكشّف!
قبل سنوات قليلة كان الشخص الذي يريد أن يصور صورة ما، عليه أن يحمل جهاز تصوير، وإن أراد أن يستمع إلى الإذاعة في الوقت نفسه عليه أن يحمل مذياعًا ( كبر أو صغر)، أو إن أراد أن يكلم آخرين كان عليه أن يستعمل تليفونًا مرتبطًا بخط أرضي، اليوم ليس له حاجة إلى كل هذه الأجهزة، ففي جهاز واحد صغير جدًّا، تستطيع أن تصور وتستمع إلى أي إذاعة في العالم، وفي الوقت نفسه تتصل بمن تريد في العالم أجمع، وربما ليس بعيدًا في الزمن أن يستطيع هذا الجهاز نفسه أن يكشف عن حالتك الصحية (سرعة نبضك ونسبة السكر في دمك) وينبه طبيبك في الحال، الذي يرسل لك الدواء بطائرة صغيرة تحمله حتى أمام البيت، وينبهك الجهاز إلى وصولها؛ كي تستلم شحنة الدواء. حتى مذيعك المفضل أو مذيعتك المفضلة سوف يُستبدَل بهما جهاز (روبوت) يقرأ لك الأخبار ويناقش المختصين، وإن لم يعجبك (بدّلته أو بدّلتها) فقط بضغطة زر، بل تستطيع أن تبدل ألوان ملابسها أو ملابسه، بل تشارك في الأسئلة المطروحة.
الزمن يفرض التقدم العلمي، والأخير يقفز قفزات هائلة إلى الأمام، فقد دخل جهاز (الفاكس) قبل ربع قرن أو يزيد في حياتنا، وأصبح كل مكتب لا بد أن يكون مجهزًا بذلك الجهاز السحري، الذي يرسل ورقة من (لندن) مثلًا لتصل في ثوانٍ إلى (المنامة)، هذا الجهاز السحري لم يعد مفيدًا أو لازمًا اليوم، لقد انتهى أو كاد بوصول (البريد الإلكتروني) الذي أرسل من خلاله مثلًا هذا النص وفي لحظات يكون ماثلًا أمام هيئة تحرير الفيصل، بل إن النص نفسه (في بعض اللغات) يصحح نفسه من الأخطاء المطبعية واللغوية وسوف تكون هذه الخدمة متوافرة في اللغة العربية قريبًا، بل إن الجهاز الذي أعمل عليه كان مثله قبل سنوات تبقى بطاريته صالحة لبضع ساعات من دون اتصال كهربائي، أما جهازي الحديث فإن بطاريته تبقى عاملة ومنتجة لمدة 14 ساعة متواصلة قبل أن تطلب إعادة شحنها.
بعض الدراسات تتحدث الآن عن سيارات تقود نفسها ولا تحتاج إلى وقود تقليدي، وهي تقريبًا قادمة خلال سنوات قلائل، بل طائرات تقود نفسها، وهي أكثر أمنًا حتى من السيارات التي تقود نفسها!! وقد تختلف الأرقام والإحصائيات ولكن يتفق خبراء الطيران على أن الخطأ البشري هو السبب الأكبر في حوادث الطائرات (النادرة أصلًا)؛ قام موقع PlaneCrash.com بتحليل ألف حادث طيران مميت في جميع أنحاء العالم في المدة بين 1950 – 2010م فوجد أن خطأ الطيار عاملًا في الحادث بنسبة 53% في تلك المدة المدروسة، النتيجة أن طائرة من دون طيار هي آمَنُ من تلك التي يقودها بشر، ولكن مع (رهاب الطائرات) كيف تقنع المتخوف بذلك ولو أنه قادم في المستقبل.
ليس بالضرورة أنه متصاعد
لا يستطيع متابع أن يجزم بأن تقدم العلم هو بالضرورة متصاعد ويراكم الإيجابيات، فهو كأي عمل بشري آخر يعمل (في آلية صعود وهبوط) المثال المشهور من بين عدد من الأمثلة هو (البنسلين) الذي اكتشفه ألكسندر فليمنغ عام 1928م، وكان فتحًا مبينًا للبشرية في مجال الطب واستخدم كعلاج فعّال لأنواع من العدوى البكتيرية، وبعد نجاح كبير في البشر والحيوانات وظهرت له تأثيرات جانبية سلبية على مر الزمن، تغلبت عليه أنواع من البكتيريا واستطاعت مقاومة نجاعته بعد أقل من مئة عام من اكتشافه، ولم يَعُدْ دواءً ناجحًا كما كان في السابق، إلا أنه خدم البشرية لعقود، ومثله كمثل أدوية أخرى واختراعات كثيرة تخدم البشرية، ثم يستعاض عنها بأخرى لعدم الفاعلية أو لفقدها للجدوى الاقتصادية.
الاكتشافات الحديثة، حتى فيما بعد البنسلين، اعتمدت على أبحاث متتالية تمت في السابق، فالعلم عامة محصّلته دائمًا متصاعدة، فبعض العمليات الجراحية تُجرى اليوم عن بعد بسبب التطور في الاتصال (شبكة 5G) الحديثة، ويستطيع أي مواطن اليوم أن يحول مبلغًا من المال لشخص آخر في (آخر الدنيا) بمجرد لمسة زر، ومن دون أن يغادر مكتبه أو حتى منزله!
الخلاصة
يمكن أن نجيب عن السؤال المركزي الذي طُرح في أول المقالة، إن سرعة تصنيع اللقاح لوباء كوفيد 19 هو أمر طبيعي جدًّا، ولا يثير القلق المثار حوله من بعض، فالعلم يتقدم وأيضًا لا يقتصر تقدم هذا العلم على بلد أو مجتمع، فلقد أصبحت براءات الاختراع متاحة في جوانب عدة من خدمة البشر، تظهر في مكان ويستفيد منها ملايين في مكان آخر. ولقد ساهمت جامعات عربية في الآونة الأخيرة (وبخاصة في دول الخليج) بحصد عدد من براءات الاختراع في مجالات حيوية عدة تقدم للجمهور العام خدمات لم تكن متاحة في السابق، فلم يعد (الاختراع أو الاكتشاف) محصورًا على بلد أو ثقافة.
وإذا كان لكل (أزمة فرصة) كما يقول المثل الصينيّ الشائع، فإن وباء كورونا جعل الدول والأفراد والمؤسسات تتسابق في استخدام وتشجيع الكثير من المبادرات الخاصة، التي تُعنَى بتسهيل الخدمات للجمهور اعتمادًا على العلم، هذه المبادرات سوف تبقى بعد انتهاء الوباء وتتطور إلى الأفضل. فالثقة في العلم البحت والتطبيقي حتى الاجتماعي ثقة تتزايد بين البشر، فالعلم قد يخلق مشكلاته ولكنه في الوقت نفسه يُقدّم حلولًا لتلك المشكلات؛ لذلك فإن الدول اليوم يقاس تقدمها بدرجة اهتمامها بتطوير العلوم، وبنسبة ما تخصصه من ميزانيتها لما يُعرَف بـ«البحث والتطوير»، وبعدد الأوراق العلمية التي ينتجها أبناؤها والمقبولة علميًّا، وبعدد براءات الاختراع التي يحصل عليها مواطنوها والمؤسسات العلمية التي ترعاها، في هذا المجال، وبناءً عليه نقول: إن الاقتصاد المعرفيّ في دول الخليج مُعتنًى به كثيرًا، وصانع القرار يَعِي أهميته في مجالات الحياة المختلفة؛ لذلك لدينا في دول الخليج مؤسسات أصبحت تضاهي المؤسسات العالمية وعلماء حققوا نجاحات في مجتمعاتهم واعترفت بهم المؤسسات الدولية، وكل الجهد اليوم مبذول لبناء «الكتلة الحرجة» من رأس المال البشري للمساهمة في التقدم.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق