كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«حياة البالغين الكاذبة» لإيلينا فيرَّانتي
مونولوغ طويل تتخلله أصوات عدة
رواية «حياة البالغين الكاذبة»، للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرَّانتي، بترجمة معاوية عبدالمجيد، أصدرتها أخيرًا مكتبة «تنمية» بالتعاون مع دار الآداب البيروتية، علمًا أنها صدرت بالإيطالية عام 2019م عن دار «إيديزوني إي/ أو». تخرج فيرَّانتي في هذه الرواية من فضاء ميلانو، الذي شغل رباعية روائية شهيرة لها، بعنوان «صديقتي المذهلة»، إلى فضاء مدينة إيطالية أخرى، هي مدينة نابولي، حيث تعيش «جوفانَّا»، التي تبدأ الأحداث وهي في الثالثة عشرة من عمرها، مع والديها، في حي راقٍ في نابولي العليا. لكنها تُصعَق عند سماع حديث بين والديها، وفيه يقارنها بـ«فيتوريا»، العمَّة؛ «القبيحة والحقيرة»، ومن ثم تهتز ثقتها بنفسها تمامًا، وقد كانت تستمدها من إطراء والدها الدائم لجمالها، وتنقلب حياتها المنظمة إلى حالة فوضى لا تدري -بحسب استهلال يسبق سرد ملابسات ذلك التحول الدراماتيكي ومآلاته على مدى نحو ثلاث سنوات من مرحلة مراهقتها- إن كانت تحتوي على الخيط الناظم لحكاية ما، أم إنها مجرد ألمٍ مشتَّتٍ لا شفاء منه.
وتمتلك فيرَّانتي، التي لا يعرف أحدٌ مَن تكون حقيقةً، أسلوبًا مميزًا، وهي بحسب الأستاذ في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو وائل فاروق، استثناءٌ في موجة «البيست سيللر»؛ «لأن كتابتها رغم بساطتها وعدم اشتباكها مع قضايا كبرى، جميلة وتثير حنين عدة أجيال تمثل اليوم جمهور القراءة الرئيس في الغرب». وعلى الرغم من نجاحها عالميًّا، فما زالت فيرَّانتي؛ المولودة في نابولي عام 1943م، تخفي هويتها الحقيقية منذ نشرها لأول أعمالها سنة 1992م. ومع ذلك فإنها تعدّ باسمها المستعار هذا، الروائية الإيطالية الأشهر في وقتنا الحاضر، فقد بِيعَ مليونا نسخة من مؤلفاتها في أكثر من 39 بلدًا حول العالم. تتمسك فيرَّانتي بسرية هويتها وتعدّها عاملًا أساسيًّا في عملها ككاتبة.
ازدواج لغوي
تشير «جوفانا» كثيرًا إلى ازدواج لغوي ما بين أهل نابولي العليا حيث تعيش مع أبويها، ونابولي السفلى حيث تعيش عمتها «فيتوريا» بقية أسرة والدها، وفي ذلك يقول وائل فاروق: «اللغة الإيطالية المعاصرة لغة حديثة جدًّا ولم تصبح لغة الحياة اليومية إلا مع انتشار السينما والتليفزيون في الخمسينيات. كل مقاطعة في إيطاليا عندها «لغة» مستقلة لا يمكن لأبناء المقاطعات الأخرى فهمها رغم أن جذورها ترجع إلى اللاتينية وعامياتها التي كان يطلق عليها الفرانكا».
تصر «جوفانا» على أن تتعرف إلى عمتها: «لم أكن أعرف عنها سوى القليل، أو لا شيء، وما رأيتُها إلا نادرًا، لكنني –وهذا هو المهم– لم أكن أذكر من تلك المناسبات سوى الخوف والنفور» (الرواية صـ11، 12). يضطر والداها إلى الرضوخ لرغبتها تلك، ومن هنا ستعيش تجربة ثرية في عالم يتجنبه والداها تمامًا، تمسكًا بالفضيلة المفتقدة هناك، بحسب زعمهما الذي سيتبين لاحقًا أنه كاذب، بما أن انعدام الفضيلة أو افتقادها هو أمر وارد في الأوساط الراقية وتلك السافلة على حد سواء، بحسب ما ستذهب إليه الرواية. ستبوح لها أمها بأن عمتها تعمل خادمة؛ «لأنها تركت التعليم وهي في الصف الخامس الابتدائي». وصارحها والدُها وهما في الطريق إلى العمَّة قائلًا: «كانت عائلتي فقيرة لدرجة أنهم كانوا بلا أعين تذرف الدموع».
وحين رأت الفتاة عمتها قالت لنفسها، أو بالأحرى لقارئ مذكراتها التي تشكل قوام تلك الرواية: «بدت لي فيتوريا ذات جمال لا يحتمل لدرجة أن اعتبارها قبيحة كان أمرًا ضروريًّا». أبوها اسمه «أندريا ترادا»، مدرس للتاريخ والفلسفة في أرقى المدارس المتوسطة في نابولي. الوالدة كانت تدرس اللاتينية والإغريقية في إحدى تلك المدارس، وتصحح روايات رومانسية، وأحيانًا تعيد كتابة بعضها.
ولدت جوفانا في 3 يونيو 1979م؛ (أي أن الأحداث وقعت بدءًا من عام 1992م تقريبًا). لها صديقتان شقيقتان؛ «أنجيلا» في عمرها نفسه، و«إيدا» تصغرها بعامين. والدهما «ماريانو»؛ أستاذ تاريخ في الجامعة، ويتعاون دائمًا مع إحدى المجلات المرموقة في نابولي. وأمهما «كوستانسا»، ستُفاجَأ «جوفانَّا» بأنها متورطة في علاقة عاطفية مع والدها بدأت قبل 15 عامًا، وسيُحدِث ذلك صدمةً نفسية لها ولأمها وكذلك لصديقتيها «أنجيلا» و«إيدا» وأبيهما، ومن ثم لن تعود العلاقة الحميمية بين الأسرتين إلى ما كانت عليه قبل الكشف عن تلك الخيانة، التي لن نعرف أبدًا ملابسات اكتشافها.
من أين يأتي الشر؟
جوفانا مولعة بالقراءة، مثل والديها. في البداية كانت تودّ أن تصبح مثلهما، لكنها سرعان ما ستصدم فيهما وتقرر أن تنأى بنفسها تمامًا عما يمثلانه من دون أن تتخلى عن الشغف بالقراءة والمعرفة. عبرت من دهشة الطفولة إلى صدمة البلوغ. تلك الصدمة التي لا بد منها في الطريق نحو النضوج، على ما يبدو. وجاء التحول الأبرز في حياتها الهادئة عندما سمعت أباها يقول لأمها عنها: إنها باتت تشبه عمتها فيتوريا «القبيحة الحقيرة»… «جاءني الحيض منذ عام تقريبًا، وصار نهداي مرئيين إلى حد يشعرني بالحياء» (الرواية صـ11).
في تلك الأثناء لم تكن تعرف عن عمتها سوى القليل أو لا شيء، وما رأتها إلا نادرًا، «لكنني –وهذا هو المهم– لم أكن أذكر من تلك المناسبات سوى الخوف والنفور». سؤال الرواية الذي تطرحه بطلتها المراهقة: من أين يأتي الشر؟ من هنا سيسيطر على «جوفانا» فضول لمقابلة عمتها، ثم في ضوء ما جرى في المقابلة، ستقول «جوفانَّا» لأبيها: إنها لم تعد ترغب في رؤية عمتها. عمتها كانت قد قالت لها في تلك المقابلة: «خير لك أن تخافي مني. ينبغي للمرء أن يخاف حتى إذا انعدمت الضرورة، فالخوف يبقينا متيقظين». لكن «جوفانا» لن تذكر شيئًا عن ذلك؛ لا لأبيها ولا لأمها.
لا يبرز من عائلة «أندريا ترادا»، سوى العمة «فيتوريا»، مع أن له شقيقًا يدعى «نيكولا»، وهو عامل في قطاع السكك الحديدية، وشقيقتين أخريين: «روزيتا»، و«أنَّا». ومن خلال العمة «فيتوريا»، ستتعرف «جوفانا» إلى أسرة «إنزو»، الذي مات في ريعان شبابه بعدما وشى «أندريا» به لدى زوجته «مرغريتا»، كاشفًا عن علاقته السرية بشقيقته. ولـ«إنزو» و«مرغريتا» ثلاثة أبناء: «تونينو»، «كورادو»، و«جوليانا».
ستشك جوفانا أولًا في أن «ماريانو» على علاقة سرية بأمها، لكنها ستكتشف أن والدها هو الذي يخون زوجته مع زوجة أعز أصدقائه، وأن ذلك بدأ قبل 15 سنة. وأخيرًا تقول عن حصيلة ثلاث سنوات من الاقتراب الحميم من عوالم البالغين: «عندما أجتهد في تصنيف المراحل التي مرَّت بمجرى حياتي المتواصل، حتى اليوم، أقتنع بأنني أصبحت شخصًا آخر نهائيًّا» صـ148. قالت لها أمها: «إن لأبيك زوجة أخرى (تقصد عشيقة) منذ 15 عامًا»، فردَّت عليها وهي غير قادرة على صرف شكها في أن أمها على علاقة حميمة بـ«ماريانو»: «وأنتِ أيضًا لك زوج آخر».
قال الأب: «لا جدوى يا جوفانَّا، فأنتِ مثل شقيقتي تمامًا»، ثم خرج من منزل الأسرة، ليعيش مع «كونستاس» وابنتيها في منزل فخم تملكه، ومن ثم أخذت علاقة «جوفانا» بالشقيقتين «أنجيلا» و«إيدا» تفتر متجهة نحو قطيعة حتمية.
هذه الرواية هي أشبه بمونولوغ طويل، ومع ذلك تتخلله أصوات عدة، لكن عبر «جوفانَّا»، التي تنتهي إلى القول لنفسها: «لستُ جميلة ولن أكون كذلك يومًا». ثقتها في نفسها مهتزة، كما يليق عمومًا بفتاة بلغت للتو السادسة عشرة من عمرها. هي أيضًا في ارتياب دائم، تجاه نفسها والآخرين… «أحتاج أن أعرف مَن أنا حقًّا، وأي شخص سأصبح». تبدأ الرواية وبطلتها على أبواب البلوغ، وتنتهي غداة احتفالها بعيد ميلادها الـ16، لكن الحكي هنا يأتي بصيغة التذكر. امرأة ناضجة، ربما تكون هي فيرَّانتي نفسها، تتذكر ملابسات دخولها عالم البالغين الذي تصفه بالكاذب، بما يعني أن ما سبقه كان عالمًا من البراءة، وكان لا بد من عبوره، فليس متاحًا -للأسف- أن نبقى ببراءة الأطفال إلى الأبد.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق