المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

كيف تعرف الأدب العربي إلى فرجينيا وولف:

أيقونة «النسوية» في العالم؟

بواسطة | مارس 1, 2021 | بواكير الحداثة العربية

لطالما حظيت فرجينيا وولف (1882- 1941م)، ربما أكثر من أي كاتبة أخرى، بالاهتمام والانتشار العالمي؛ ولا سيما عبر كتاباتها النقدية ومقالاتها حول المرأة، والسيرة الذاتية، والأزياء، التي كانت وما زالت مصدرًا موحيًا لدارسي الأدب والنسوية والفلسفة؛ وكذلك مذكراتها، ورسائلها، وصداقاتها، وصحتها النفسية، والطريقة التي اختارت أن تنهي بها حياتها؛ إذ مثّلَ كل ذلك مادةً خصبة ومغرية بالاستلهام والمقاربة الإبداعيّة للعديد من صنّاع المسرح والسينما والمسلسلات التلفزيونية. أما نصوصها السردية، فكثيرًا ما بدت صعبة ومعقدة، رغم اعتراف أبرز كتّاب القرن في العالم بتأثرهم بها.

ومع ذلك، لا يسعى هذا المقال إلى إعادة سرد أو تدوير قصة حياتها وشهرتها؛ فذلك معلوم وشائع، وإن تزامن مع الذكرى الثمانين لرحيلها (28 مارس)، بل يحاول حفر طريق جديد في حقل المعرفة العربية المتصلة بها، من خلال استكشاف جانب من مسار رحلتها إلى الشرق؛ عبر السؤال التالي: كيف تعرف العرب إلى هذه الكاتبة التي يكاد يندر ذكرها من دون وصفها بـ«العظيمة» و«الأيقونة» و«المنارة»؟

هذا السؤال غائب في مقدِّمات ما تُرجم لهذه الكاتبة، وفيما كُتب عنها من مقالات ودراسات باللغة العربية، وما كان لغيابه هذا أن يثير الاستغراب أو التفكير لولا القدر الكبير من الاهتمام الذي ظفرت به فرجينيا وولف لدى كاتبات وكتّاب لغة الضاد؛ فلقد كتبوا عنها وحولها وتحت تأثيرها لنحو قرن من الزمان، ويمكن القول بشيء من المبالغة: إن ما كتبوه عنها فاقَ، في كمه وأنواعه ونبرته التبجيلية، سائر ما كُتب عن الأديبات العربيات منذ بدأ استخدام المطبعة في المنطقة!

ويغامر هذا المقال بطرح السؤال، ليس للإجابة عنه بالضرورة، إنما لرسم إطار أوَّليّ لما يمكن عدّه المدخل الأول لفرجينيا وولف إلى ذاكرة الأدب العربي، وذلك من خلال تسليط الضوء على ما رافق حضورها من أسئلة في الصحافة الثقافية العربية.

ولعل ما يثير العجب، أن هذا السؤال سيعود بنا إلى الثلث الأول من القرن العشرين، ففي ذلك الوقت وصل اسم هذه الكاتبة إلى المشهد الأدبي العربي، وحينذاك -وهنا مكمن العجب- لم يكن قد وقع أيٌّ من تلك الأحداث التي يُشار إليها دائمًا لتفسير شهرتها العالمية، مثل واقعة مرضها، أو «رسالة» وحادثة انتحارها، أو نشر مذكراتها… ولم تكن صورتها قد زينت غلاف مجلة «التايم» (حدث ذلك في 12 إبريل 1937م)، ولم يكن إدوارد ألبي (1928- 2016م) كتب بعدُ مسرحيته «من يخاف فرجينيا وولف» (كُتبت عام 1962م) التي تحولت إلى فِلْم (1966م) وذاعت أكثر؛ كما لم يكن الحراك النسوي الغربي الذي وجد في كتاباتها بذوره الفلسفية، قد بلغ ذروته التي عرفها في حقبة ستينيات وسبعينيات ذلك القرن!

لا شيء من كل ذلك كان قد حدث، ولكن تجربة هذه الكاتبة شقّت طريقها إلى المشهد الأدبي العربي؛ وهذا بقدر ما يعكس التأثير القوي لطاقتها الإبداعية أو النقدية، ومن ثم عدم حاجتها إلى أحداث مدوية حتى يتخطى صيتها حدودها الجغرافية؛ فهو أيضًا يبين الحيوية العالية التي اتسم بها تواصل الأدباء العرب، وتفاعلهم مع الثقافة الغربية وقتذاك، أو انبهارهم بها ووقوعهم تحت سطوتها إن شئت.

ترجمات نسوية

لكن، وعلى الرغم مما يمكن أن يقال عن بلاغتها الإبداعية، ورصانتها النقدية؛ يبدو صعبًا تجنب الربط بين شهرة «وولف» ورمزيتها النسوية، سواء أكان في الشرق أم في الغرب، اليوم أم الأمس. وبالتركيز على الصعيد العربي، نجد أن الاهتمام بها بات ملحوظًا في عقدي الستينيات والسبعينيات أكثر من أي وقت مضى، وبنظرة سريعة إلى صفحات المجلات الثقافية التي كانت تصدر في بيروت والقاهرة وبغداد والكويت، يمكن ملاحظة أن هذا الاهتمام العربي بهذه الكاتبة صدر في معظمه عن أقلام نسائية؛ إذ من بين أهم الدراسات العربية حول تجربتها الإبداعية، كانت تلك التي أنجزتها فاطمة موسى لمجلة «الآداب» البيروتية، تحت عنوان: «المؤثرات الفلسفية في قصص فرجينيا وولف» (مارس، 1962م). من ثم، كان أول ما نُقل من مؤلفاتها إلى اللغة العربية، كتابها النقدي «القارئ العادي» وترجمته عقيلة رمضان (1971م).

وفي السنوات التالية، أضحى ملحوظًا اتجاه المترجمات العربيات إلى نقل نصوص «وولف» إلى اللغة العربية، فجاءت ترجمة سمية رمضان لـ«غرفة تخص المرء وحده» (1999م)، ثم ترجمت فاطمة ناعوت «جيوب مثقلة بالحجارة» (2004م)، و«أثر على الحائط» (2009م)، وترجمت ليلى محمد عثمان نجاتي «يوم الإثنين أو الثلاثاء» (2008م)، وترجمت إيزابيل كمال «إلى الفنار» (2015م)، وترجمت سناء عبدالعزيز «غرفة يعقوب» (2019م)، وهناك ترجمات أخرى لبعض هذه العناوين، لمترجمات عربيات أخريات صدرت في مواقيت وبلدان مختلفة.

مصاير مشتركة

معاوية محمد نور

وبخلاف ما حصل في الستينيات وما بعدها، لم يظهر اسم الكاتبة الإنجليزية في منابر الأدب العربي خلال ثلاثينيات القرن الماضي، بوساطة الأقلام الناعمة؛ إذ لا ذكر لها مثلًا فيما خلفته الكاتبة اللبنانية مي زيادة (1899- 1941م)، على ما بين الكاتبتين من أمور مشتركة، مثل: الانشغال بالأدب والصحافة الثقافية وقضايا المرأة، إضافة إلى أن زيادة -مثل وولف- أصيبت باضطراب عصبيّ، وأدخلت المصحة العقلية، ثم ماتت في السنة نفسها التي انتحرت فيها الكاتبة الإنجليزية، كما بيّنت أخيرًا سعاد العنزي في كتابها «نساء في غرفة فرجينيا وولف» (2021م)، وكما فعل قبلها الكاتب سامي الجمعان حين قارب هذه المشتركات بين الكاتبتين عبر نص مسرحي عنوانه: «انتحار معلن» (2020م).

جاء ذكر صاحبة رواية «الأمواج» في تلك المرحلة الباكرة، عبر قلم الكاتب والناقد السوداني معاوية محمد نور (1909- 1941م)، ومع أن مجرد ذكره اسمها، حتى لو جاء عابرًا، يستحق الوقوف عنده، بالنظر إلى ما بات يعنيه اسم فرجينيا وولف اليوم؛ إلا أن معاوية لم يأتِ على ذكرها عرضًا لمرة واحدة أو مرتين، إنما مرات عدة، وبقدر لافت من الإعجاب والاحترام.

والأهمّ من ذلك، أن ذِكْره إياها جاء مرتبطًا بأسئلة حيوية، لعله كان رائدًا في طرحها، وفي اتخاذه تجربة هذه الكاتبة سببًا لإثارتها ومناقشتها، بينما خطابه كان موجهًا إلى القراء والأدباء العرب. تطرقت تلك الأسئلة إلى أثر الحرب العالمية الأولى في مضامين وأساليب الأجناس الإبداعية، واستجلَتْ مفاهيم القصة القصيرة والتراجم والسير الذاتية، وكما هو معلوم كان الوعي بهذه الأجناس الكتابية ضعيفًا في الساحة الثقافية العربية وقتذاك.

وقبل التفصيل في هذا المنحى، قد يكون مهمًّا لأولئك الذين يهتمون بمثل هذه الظواهر، أن نشير إلى أن معاوية هو الآخر -مثل مي زيادة- كان يلتقي فرجينيا وولف في كثير من الاهتمامات؛ فهذا الكاتب الحداثي الذي وصفه محمود عباس العقاد بـ«الأديب النابغ»، كان يماثلها في التأثر بفلسفة هنري برغسون (1859- 1941م)، والافتتان بالأدب الروسي، وكان إعجابه كبيرًا بفيودور دوستويفسكي (1821- 1881م)، وكما حدث معها أصيب هو أيضًا في عقله وحُجِزَ في مشفى الأمراض العقلية، ثم مات -بطريقة غامضة- في السنة نفسها التي رحلت هي فيها!

مي زيادة

إضافة إلى كل ذلك، كان معاوية -مع أن ذلك ليس من أبرز ما عُرف عنه- مدافعًا عن حقوق النساء في العمل والتعليم والمناصب العليا، وفي رأيه أن «البلاد تكون عظيمة بنسائها عظمتها برجالها»، كما كتب في مقال له بجريدة «مصر» (5 سبتمبر 1931م) متخذًا تجربة الشاعرة والخطيبة الهندية ساروجيني نايدو (1879- 1949م) نموذجًا لإبراز المكانة التي بلغتها المرأة في العالم، لافتًا إلى أن ساروجيني «احتملت آلام السجن ونصب النضال والجهاد الذي لا يطيقه كثير من الرجال»، كما أشار إلى الروائية والأكاديمية التركية خالدة أديب (1884- 1964م)، وقال: إنها «تكتب الكتب وتمتطي صهوة الجواد، وتفعل ما لا يفعله كبار الجنود»، واستغرب كيف يحدث ذلك للمرأة في بلدان قريبة، بينما الناس في مصر ما زالوا «يعادون تعليم المرأة ويحرّمون عليها الاختلاط بالرجال في معاهد الثقافة والتعليم، ويبيدون تلك المعاهد إذا هي تأسست وفُرغ من تأسيسها»، وهو يقصد هنا أول معهد للتمثيل تأسس في القاهرة (1930م) وأُغلق في السنة التالية؛ لأنه أباح الجمع بين الطلاب والطالبات في فصله الدراسي!

هواء بلومزبري: الاستعمار والحضارة

ولئن كان صعبًا القول: إن ذِكْره «وولف» جاء استجابةً لنزعته النسوية، فمما لا شك فيه أنه لم يكن يفوت مناسبة للحديث عن السرد من دون الإحالة إليها؛ فهي له «أعظم فنانة تكتب في الوقت الحاضر»، وهي الرمز الحيّ لـطائفة من الكتاب والفنانين والمفكرين البريطانيين جمعتهم «مجموعة بلومزبري» التي شُغل بها معاوية، وربما كان يتطلع إليها ويحلم بالانتساب إلى عضويتها، بينما كان يعرّف القراء العرب بأعلامها، إذ كتب عن ليونارد وولف (1880- 1969م) زوج فرجينيا ورفيقها في المجموعة، وكذلك عن كاتب السيرة والناقد الذي تزوجها مدة قصيرة، ليتون ستراتشي (1880- 1932م)، وعن ألدوس هكسلي (1894- 1963م) الذي انفصل لاحقًا عن المجموعة، وكذلك كتب عن القاصّة النيوزيلندية كاترين مانسفيلد (1823- 1923م) التي عاشت في إنجلترا وكانت صديقة حميمة للزوجين وولف، وعُدَّت من أعضاء المجموعة،… إلخ.

الانتماء والاستلاب

ولفهم ما كان على معاوية اختباره، فيما هو يرنو إلى تجربة «وولف» وتجارب رفاقها في بلومزبري، لا بد من الإشارة إلى ما سجله الروائي والمؤرخ اللبناني -البريطاني إداورد عطية (1903- 1964م) في كتابه «عربي يروي قصته: دراسة في الولاءات»، الذي صدرت نسخته الإنجليزية عام 1946م، حيث ذكر أن معاوية الذي درس في الجامعة الأميركية ببيروت «وجد في الأدب الإنجليزي مأواه الروحي» ولكن ثمة هوة هائلة كانت تفصل «بين مأواه الروحي ومسقط رأسه، بين البلاد والأسرة والعادات التي ينتمي إليها من ناحية، والعالم النائي وغير البادي للعيان الذي يتطلع إليه بكل شغف وحميمية من ناحية أخرى، وإذا شئت أن ترى صورة التباين وتتخيل الهوة التي كان يجتازها عابرًا، فتصوره وهو في أحضان أسرته في أم درمان، تحيط به والدته وخالاته وأخواته […] نساء أميات ليس في عقولهن سوى الحقائق الأولية البيولوجية والعائلية، كالولادة والخفاض […] ثم تصوره في هذا الإطار وهو يتجول في داخل حجرات الرسم الإنجليزية المصقولة من طراز القرن الثامن عشر، ويستنشق هواء بلومزبري في القرن العشرين».

كاترين مانسفيلد

عطية، وهو أحد أساتذة معاوية في كلية غردون (1926م)، ثم صار صديقه، كان نظيره في التوله بلغة وثقافة وأدباء الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، وفي النظر إلى الإمبريالية كفرصة لنهوض العرب وتحضرهم، وقد ظفر بمعركته الشخصية مع هويته، وصار إنجليزيًّا، وحاز كل ما اشتهاه من إنجلترا: إجازة في التاريخ من أكسفورد، زوجة أسكتلندية، ووظيفة مجزية ومستقرة. وقال في كتابه «الآن، أستطيع أن ألتقي أي رجل إنجليزي ندًّا لند، لم أعد أشعر بالعار من نفسي، ولا أنني دونيّ، فلقد ورثت كل ما يمكن للإنجليزي أن يتباهى به عدا الدماء التي تجري في عروقي».

أما معاوية فلم يُكافأ على حبه ومعرفته العميقة بثقافة وتاريخ وحضارة المملكة، بل على العكس، خسر كل شيء: الفرصة الوحيدة التي أُتيحت له لشغل وظيفة في الخرطوم فقدها، حين لم يكبح حسه النقدي في معاينة التوظيف، فدخل في جدل مع مسؤول التوظيف الإنجليزي… حول ماذا؟ حول الكاتب والشاعر الدكتور جونسون (1708- 1784م) وعلاقته بعصره؛ فتأمل!

وفي وقت سابق، كانت السلطات الاستعمارية حرمت معاوية حق استصدار جواز سفر، ووقفت ضد رغبته في استكمال دراسته، ليس في أكسفورد أو كمبردج كما تمنى له أستاذه وصديقه عطية، بل حتى في القاهرة القريبة! ولكن ما كان لكل ذلك أن يخمد تعلقه بلغة الإنجليز وأدبهم وأدبائهم إلى آخر أيام حياته، بيد أن غضبه مما وقع له، دفعه إلى شن حملة قلمية شرسة ضد سياسات ساستهم الاستعمارية في البلاد العربية والإفريقية، عبر سلسلة من المقالات، من دون أن يجد حرجًا في الاستنصار بـ«الإنتلجنسيا الحرة» في مجموعة بلومزبري، وفي غيرها من الجمعيات الثقافية الأوربية والأميركية، مرددًا قول أفلاطون: «لا تصلح الممالك إلا حين يكون ساستها فلاسفة وفلاسفتها ساسة»!

السير والتراجم: زواج الصوان وقوس قزح

لعل أول مرة كتب فيها معاوية عن فرجينيا وولف، جاءت في إطار بحث أعده عن فن السيرة الذاتية وفق المنهج الغربي، أي الكتابة عن الذات بما يشمل محاسنها ومعايبها، قوتها وهشاشتها. كان قد قرأ بتركيز واضح العديد من السير الذاتية الخاصة بالمبدعين والمفكرين، وفحصها وكتب عنها. وكان يود، كما ذكر ذات مرة، أن يرى نفسه «في تراجم عظماء الإنسانية، فيتطلع إلى مثلهم العليا، ويجول معهم في عوالم الفكر والإنشاء، ويشعر بمثل ما يشعرون… يرى مظاهر القوة ودلائل الضعف ومواطنه، فلا يعيبه أن يكتشف نفسه في هذه المرآة السحرية، تطلعه على صورتين في صقال واحد، أو على صورة واحدة ذات أوجه متعددة!».

في دراسة نشرها بمجلة الهلال (إبريل 1931م) بعنوان: «فن التراجم الجديد…»، تحدث معاوية عن انتعاش ورواج هذا اللون من الكتابة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، متناولًا تجارب بعض مبدعيه، مبرزًا خصائصه التقنية، ومتكلمًا عن وجوه الشبه بينه والدراما، وغير ذلك. وفي جزء متقدم من بحثه هذا، تطرق إلى إشكالية المزج بين التخييلي والحقيقي في كتابة السيرة، ومن هنا كانت وقفته عند مقال رائد كتبته فرجينيا وولف تحت عنوان: «السيرة الجديدة» (1927م)، وبخاصة عند قولها الذي وصفه بالعميق قبل أن يترجمه ويعرضه: «إن الشخصية كقوس قزح في تلونها وتعدد وجهاتها، وإن الحق صلب متين متانة حجر الصوان، فأي سبيل إلى تزاوج هذين العنصرين المتنافرين؟».

وفي تعليقه كتب معاوية: «السبيل عندنا هو محك قدرة الفنان، فإذا قال لنا قائل كما تقول الكاتبة الفاضلة، قلنا: إن نحاتي الإغريق قد تمكنوا في براعة ولباقة من إظهار الحركة الدافقة في الحجر الصامد الجامد، ألا يستطيع المترجم الحديث ما هو أسهل من ذلك». وهو اتفق في قوله هذا مع ما قاله سابقًا الكاتب الفرنسي أندريه موروا (1885- 1967م) حول سؤال الكاتبة الإنجليزية، الذي تحول إلى عنوان لكتاب ضم مجموعة من مقالاتها حول السرد والسيرة «Granite and Rainbow» صدر للمرة الأولى سنة 1958م.

الموحي والممل

وكانت فرجينيا وولف ضمن المحاور التي تطرق إليها معاوية في الحوار الذي أجراه مع أندريه موروا حين جاء إلى القاهرة. حيث اختلفا في المقابلة التي نشرتها مجلة الهلال (6 مايو 1932م) عندما قارنا بين فرجينيا وولف والكاتب الفرنسي مارسيل بروست (1871- 1922م). قال موروا: إن صاحب رواية «البحث عن الزمن الضائع» هو رائد القصة الحديثة، فكان رد معاوية عليه: «بروست فيما يتضح لي من مطالعته -التي لم أقو عليها طويلًا- يقتل دنيا أحلامه التي يصورها بالتحليل والإسهاب في الوصف والتحليل العقلي، وإنني أجد كتّاب إنجلترا المحدثين أمثال فرجينيا وولف وكاترين مانسفيلد أسهل على الفهم وأخف في القراءة؛ لأنهم يستعملون الإيحاء بدلًا من التحليل المملّ».

القصة وتيار الوعي

وكان معاوية قد طور فهمه لتجربة فرجينيا وولف وتعمق في مساراتها قبل سنة من ملاقاته موروا شخصيًّا، في فندق صموئيل شبرد في العاصمة المصرية، ويتضح ذلك في المقدمة التي وضعها لنصه القصصي «المكان»، الذي نشره في جريدة مصر (11 نوفمبر 1931م). وقال: إنه اراد بتلك المقدمة القصيرة إعانة «القارئ العربي» على فهم هذا النوع من التأليف القصصي حديث العهد، حتى في أوربا، ولكنه في الواقع سجل من خلالها أول أو أعمق تفاعل عربي خلّاق مع ما عُرف لاحقًا في الخطاب السرديّ وعلى نطاق واسع بـ«تيار الوعي»؛ وعُدّت فرجينيا وولف رائدته وعميدة كُتّابه.

سمية رمضان

وسنكتفي بعرض جزء مما قاله معاوية معرفًا بهذا الاتجاه الأدبي في مقدمته: «هذا النوع من الفن القصصي ليس مهمته تصوير المجتمع، ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الإحساس والعطف القوي على الخلائق… وليس مهمته أن يحكي حكاية، إنما هو يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير […] ويربط كل ذلك بموسيقا الروح واتجاه الوعي، كما يعرض لمسائل الحياة العادية المبتذلة، ويشير عن طريق الإيحاء إلى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى، هو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الإحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان […] كما أنه يصور ما يثيره شيء تافه من ملابسات الحياة، في عملية الوعي وتداعي الخواطر، وقفز الخيال، وتموجات الصور […] هذا النوع عرف في أَتَمِّهِ وأَحسَنِهِ عند كاترين مانسفيلد وفرجينيا وولف من كتاب الإنجليز».

وبالطبع لا يمكن فهم وتثمين هذه المقدمة الشارحة التي قدمها معاوية من دون إدراك ما كان يعنيه ويعانيه فن «القصة القصيرة» في المجتمع الثقافي بالقاهرة في ذلك العصر. ولْنقُلْ في اختزال: كان فنًّا محتقرًا حتى لدى كاتب حداثي مثل محمود عباس العقاد (1889- 1964م)، حتى بعد مرور سنوات على كتابة معاوية عن هذا الفن كانت الصحف الثقافية في القاهرة تستطلع الأدباء بسؤال كهذا: «القصة والدراما؛ هل خُلُوُّ الأدبِ منهما برهانُ نقصٍ؟». كما فعلت مجلة «المجلة الجديدة» (مايو 1934م).

الكاتبة النابهة وأدب ما بعد الحرب

وقبل شهرين من نشر حواره مع موروا، كان معاوية كتب مقالًا ونشره في مجلة المقتطف (مارس 1932م) أعطى فيه فرجينيا وولف مكانة عالية في أدب ما بعد الحرب العالمية. جاء المقال تحت عنوان: «الاتجاهات الحديثة في الفنون والآداب المعاصرة»، تطرق فيه إلى ما لوحظ من توجه إلى الاعتناء بالقالب والشكل على حساب الموضوع والعاطفة في مختلف الأجناس الإبداعية (النحت والتصوير والموسيقا والقصة)، ولفت إلى مدرسة التكعيبية، وكذلك إلى ما أحدثه جاكوب أبشتين في النحت من انقلاب على القواعد والأصول الراسخة، إضافة إلى ما فعله الموسيقيّ إسترافنيسكي الذي كان يوصف بـ«إقليدس الموسيقا»؛ لِمَا في موسيقاه من تأثر بالأفكار الرياضية والهندسية وحيوية آلية.

في الجزء الأخير من المقال، ذكر معاوية أنه يعتقد أن هذا الدور في تطور الآداب والفنون سوف يعقبه دور آخر «يجمع بين جلال الموضوع الإنساني وبين الابتكار في القالب والإبداع فيه»، ثم قال: «نرى بوادر هذا الطور عند الكاتبة الإنجليزية النابهة فرجينيا وولف، أعظم فنانة تكتب في الوقت الحاضر». ثم استعرض منهجها في التفكير والكتابة، كما لو أنه يكتب عنها قصيدة: «هذه المرأة مفكرة عنيفة التفكير، وقالبها الأدبي يصعب تتبعه للقارئ الحديث، وهي لا تخاطب مشاعرنا المعروفة، ولكنها في واقع الأمر تتناول أكبر مسائل الحياة الشعورية وتعرضها في أسلوب كله الدقة والشعور والتفنن. فهي تتناول مثلًا مشكلة عواطف الإنسان وتغيرها، واستمرار الوقت وعدم تغيره، وتؤلف كل ذلك في قوالب جديدة، بارعة الرمز شديدة الإيحاء، وهي لا تؤثر في قارئها مع أنها تستعمل الكلم، عن طريق المنطق والتفكير، ولا تحكي قصتها كما يحكي القصاصون بالطريقة الزمنية المكانية، وإنما قصصها تترك جوًّا خاصًّا في وعي القارئ الدقيق الشعور، يحمل إليه كل ما تريد التعبير عنه، جوًّا هو مزيج من الأصوات والألوان والأنوار المختلفة، جوًّا يقرب في فعله وأثره من فعل الموسيقا… فهذه المرأة هي أقدر النساء اللائي كتبن في الأدب على وجه الإطلاق، وعمق إحساسها بالحياة ليس له من قرار، وخيالها القوي النشيط لا يتتبعه إلا من كان قوي الخيال نشيطه، وإيحاؤها الفني يترك حلقات من الموج في وعي القارئ، تنفذ رويدًا رويدًا إلى مناطق من الروح غير مكتشفة… غامضة مليئة بالحقائق المجهولة… نرى إذن أن فرجينيا وولف بادرة طيبة من بوادر الطور القادم الذي يجمع صرامة التفكير، ودقة القالب، ومشاعر الإنسانية الكبرى، وقيم الروح العليا في الفنون الأدبية».

خاتمة

هكذا، يتبين أن حضور فرجينيا وولف إلى المشهد الأدبي العربي في تلك البدايات، إذ جاء مرتبطًا بتجربة كاتب ومثقف عربي واحد، لكنه لم يكن حضورًا عابرًا أو واهنًا، بل كان عميقًا ومؤثرًا، سواء فيما أَثارَه من أسئلة جمالية وثقافية، أو فيما تقاطع معه من قضايا سياسية واجتماعية.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *