المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

الأسترالي ريتشارد فلاناغان يحاور الصيني يو هوا:

لو تشابهت الكتب كلها، فإن الحقائق قد تستحيل أكاذيب

بواسطة | مارس 1, 2021 | ثقافات

أجرى الكاتب ريتشارد فلاناغان الفائز بجائزة البوكر والكاتب الصيني يو هوا مناقشات معمقة حول السرد والتراث الإبداعي وغيرها من الموضوعات في الروايات التاريخية. وذلك ضمن سلسلة لقاءات أسبوع الأدب الأسترالي التي أجريت بمشاركة مجموعة من الأدباء الأستراليين، وجابت العديد من المدن الصينية من 16 مارس إلى 24 مارس 2018م. ومن تلك الحوارات هذا الحوار:

يو هوا: قدم أسبوع الأدب الأسترالي اليوم أربعة من الكُتَّاب، غير أنني للأسف لم أقرأ سوى رواية ريتشارد فلاناغان «الطريق الضيق لعمق الشمال»، ورواية «كاربنتريا» للكاتبة أليكسس رايت، بعد قراءة رواية مدهشة، إذا كنت تريد إعادة سرد بعض من محتواها، ستجد أن الأشياء الرائعة قد تراجعت، وبات من الصعب إعادة روايتها، رواية «الطريق الضيق لعمق الشمال» هي مثل هذا العمل. الزمن في هذه الرواية متشابك، حيث تتأرجح الأحداث فيها ما بين الحاضر والماضي، كما أن الماضي يحتوي على أزمنة متفاوتة؛ لذا تحتوي الرواية على شخصيات حديثة وكذلك شخصيات مختلفة في أزمنة مختلفة في الماضي، في حين تظهر الشخصيات الرئيسة في الفصل الأول على هيئة ذكريات، أو كنوع من الومضات المشوشة التي تتخلل الذكريات.

عندما قرأت الفصل الأول انجذبت بشدة لرصانة السرد وفهم الإيقاع الذي يتمتع به فلاناغان والذي كان جميلًا جدًّا. وكمؤلف، فإنه دائمًا ما يرغب في فتح أفق لهذه الرواية، بحثًا عن أي مكان يؤدي إليه مسلكه. وبعد الفصل الثاني انفرط عقد أحداث الرواية وتلاحقت دفعة واحدة. كان الفصل الثالث هو الفصل الأثير بالنسبة لي، فمن منظور الكتابة، كان هو الأصعب، حيث كتب فلاناغان عن أستراليا، وتجاوزها ليكتب عن بناء خط السكة الحديد، وانتشار الجوع، والمرض والطاعون وجميع أشكال الحياة في جنوب شرق آسيا… وبالنظر لاختيارات فلاناغان في الكتابة، وكيفية تعبيره عن هذه الأشياء، تدرك أن هذا الرجل كاتب عظيم.

ريتشارد فلاناغان: لقد صُدمت بشدة عندما قرأت أعمال يو هوا للمرة الأولى.

فقد شعرت أن أعماله تتمتع بعدد من السمات الممتازة للأدب المعاصر، وهذه السمات لا تتوافر في كثير من الأعمال الأدبية الغربية، ولا سيما قصصه. تتسم قصصه بحبكة جذابة ومتواترة للغاية، بحيث يمكنها أن تجذب القارئ من البداية لمواصلة قراءة هذه القصة، وغالبًا ما تُشعِر القارئ بعد الفراغ من القراءة بمهاراته العميقة في الكتابة وبراعته المتفردة. إن ما يعجبني في يو هوا من خلال أعماله هو أنه يتمتع بنوع من التقمص العاطفي يفتقر إليه الكُتاب الغربيين الآن. أتذكر أن تشيخوف قال ذات مرة: إنه يجب على الكتاب الجيدين حقًّا أن يعيشوا في الظلام، ويجب عليهم أن يتوافقوا ويتعايشوا مع أولئك الأشخاص سَيِّئِي الحظ ليفهموا مشاعرهم، وهكذا يمكنهم كتابة أعمال جيدة.

الأمر أشبه بالقول إن البائسين لا بد أن يكون لديهم ما يكرهون، ولكونك كاتبًا جيدًا، ينبغي أن تفهم أوضاع هؤلاء الأشخاص، من أجل كتابة أفضل الأعمال الرائعة. كانت رواية «على قيد الحياة» بمنزلة أول عمل قرأته ليو هوا، وكان العمل الثاني هو «الصين في عشر كلمات»، حيث تمكن من خلال ذكريات طفولته ووصف الأمور الصغيرة من الانتقال من الصغير إلى الكبير، مستعرضًا أوضاع التنمية والتحول العميق في الصين خلال الخمسين سنة الماضية. ثمة سؤال أود طرحه على يو هوا، أعلم أن لويليام فوكنر تأثيرًا عميقًا في كتاباتك، وفي الواقع، له أيضًا تأثير كبير في تشكيل أسلوبي في الكتابة، فأين تتبدى مواضع تأثير فوكنر فيك؟

صعوبات وصف الشعور

يو هوا: يعد ويليام فوكنر معلمي الثالث. لقد شرعت في الكتابة في سن صغيرة، وفي كل مرحلة من مراحل الكتابة كنت أواجه صعوبات مختلفة، إحدى أكبر الصعوبات التي أرقتني كانت تتمثل في وصف الشعور، فلم أكن أعرف كيفية وصفه وما يتعلق به. عندما يشعر المرء بالسلام النفسي، يمكن حينها وصف شعوره، لكن النفسية الهادئة المطمئنة لا تستحق الوصف؛ أما الشعور بالاضطراب النفسي وعدم الأمان فجدير بأن يُوصف، يمكنك أن تكتشف أنك قد تكتب آلاف الكلمات من دون أن تدرك وصف ذلك. وفي وقت لاحق، قرأت قصة قصيرة لويليام فوكنر، وفي القصة قتل شخص شخصًا آخر، وقد شاهد الجسد وهو يهوي على تراب جنوب الولايات المتحدة الأميركية، والدماء تتدفق أسفل أشعة الشمس، وكذلك منظر الابنة وقد أنجبت طفلها للتو، ما ماهية الشعور الذي يشعر به هذا الرجل، كتب ويليام فوكنر فقرة طويلة بشكل سلس، حيث سرد ما رأته عينا القاتل وهما في حالة من الخدر.

لقد وجدت أنه قد عبر عن الحالة الشعورية للقاتل بدقة شديدة. وتحقيقًا لهذه الرغبة، فقد أعدت قراءة رواية «الجريمة والعقاب» لفيودور دوستويفسكي، وفيها عدة صفحات يتطرق فيها لوصف حالة راسكولنيكوف بعد قتل السيدة العجوز، لم تحتوِ على جملة واحدة واصفة للشعور بل كانت كلها حركات، غير أنها أظهرت ذلك التوتر والذعر الشديديْنِ. لقد علمني ويليام فوكنر كيف أتعامل مع ما يسمى الوصف النفسي، فمصطلح الوصف النفسي هذا غير موجود، بل لفَّقَه الأساتذة الذين لا يكتبون الروايات لتخويف من يكتبونها، هنا تكمن مساعدة ويليام فوكنر لي.

كلنا جنوبيون

ريتشارد فلاناغان: تمثلت صدمتي الكبرى من ويليام فوكنر في تصويره الشخصيات الصغيرة العادية، حتى أكثر الشخصيات ضآلة والشخصيات المنسية غالبًا، حيث أظهر المشاعر الداخلية الثرية والعواطف المعقدة، ففي أعماله، كان يحفظ للشخصية كرامتها بغض النظر عن كونها شخصية عادية أو صغيرة. أنا من ولاية تسمانيا في أستراليا، وهي جزيرة تبعد 100 كم من أقرب مكان لها في أستراليا. أعيش في بلدة صغيرة في الغابات الاستوائية المطيرة، يوجد فيها تقريبًا 200 شخص فحسب؛ يعيشون على التعدين بشكل رئيس، ومعظمهم لاجئون فرُّوا إليها بعد الحرب العالمية الثانية. وخلال مراحل نموي المختلفة، لم يكن ثمة كاتب بالقرب مني، ولم أعرف أحدًا مما يسمون بالكُتَّاب، في ذلك الوقت، كنا جميعًا نشعر أنه لا يمكن إلا للكُتاب من أوربا وأميركا أن يكونوا كُتابًا.

وبعد قراءة كثير من الأعمال الأدبية الأوربية والأميركية، شعرت كأن حياة هؤلاء الأوربيين والأميركيين في الرواية هي المهمة فحسب، في حين يبدو أن حياتنا ليست على قدر الأهمية، ذلك أنه لم يتطرق أحد لوصف الحياة في تسمانيا، ولم يذهب أحد لتصوير أفراحنا وأحزاننا وكذلك لحظات نشوتنا وانكساراتنا. ثمة شيء مشترك يجمعني أنا وويليام فوكنر وكذلك يو هوا، ألا وهو أننا كلنا جنوبيون. ففوكنر من ولاية ميسيسبي، وهي منطقة لم تكن ذات أهمية كبيرة في الولايات المتحدة الأميركية آنذاك. وعندما قرأت أعمال فوكنر الذي له خلفية مماثلة لخلفيتي، اكتشفت أن بإمكاني وصف حياتي مثله.

يقدم فوكنر في أعماله حالات مختلفة لشخصيات مختلفة من خلال لغة موجزة، وهذه النقطة تلمستها أيضًا في أعمال يو هوا. ففي رواياته، يمكن التمييز بسهولة ومعرفة أي جملة نطقتها أي شخصية، وما السمات التي تتمتع بها كل شخصية على حدة، فيكون من السهل جدًّا قراءتها، في حين يكون من الصعب كتابتها، حيث يتطلب إنجازها مهارات عميقة جدًّا.

قال يو هوا آنفًا: إن لديه ثلاثة معلمين، من هما المعلمان الآخران؟

يو هوا: معلمي الأول هو الياباني ياسوناري كواباتا. فقد قرأت قصته القصيرة «راقصة آيزو» وأنا في العشرين من عمري، التي تركت لدي انطباعًا عميقًا، ربما كنت عاطفيًّا جدًّا آنذاك، وفيما بعد صرت مغرمًا بياسوناري كواباتا، وقد داومت على قراءة أعماله وتعلم الكتابة منه. وبعد قراءة أعماله ودراستها مدة أربع سنوات أو خمس سنوات، اكتشفت أن رواياتي تزداد سوءًا، فقد باتت تفتقر للذاتية، لم يعد كواباتا بمنزلة جناحين أحلق بهما، بل أغلال تُكَبّلني. لقد وقعت في فخ ياسوناري كواباتا، ولكن لحسن حظي، وبينما كنت في غياهب الفخ أصرخ طلبًا للمساعدة، فإذا بكافكا يمرّ بجانبي ويسحبني، فقد كان معلمي الثاني.

لم يكن عمله الأشهر «التحول» هو أول ما قرأت له، بل كان المجموعة القصصية «طبيب ريفي». وبعد الانتهاء من القراءة شعرت بحماقتي، وفكرت، إن الحصان في الكتاب ينال ما يرغب في نيله، ويرفض ما لا يرغب فيه، إنها الحرية، هنا أدركت كيف ينبغي عليّ أن أكتب. لم يعلمني كافكا مهارة الكتابة، بل علمني أن الكتابة حرية، وهذا أكثر أهمية من أي شيء آخر، ومن حينها، صرت أكتب بحرية أكثر فأكثر. لكنني ما زلت للآن ممتنًّا جدًّا لياسوناري كواباتا، فعندما شرعت في الكتابة، استغرق الأمر مني أربع سنوات أو خمس سنوات للتدريب على وصف التفاصيل. والتفاصيل مهمة جدًّا، بغض النظر عن كبر أو صغر هيكل الرواية، ورقة الخطوط أو سماكتها، فجميعها لا تعوزها التفاصيل. تنتقل الحيوية وهي العنصر المهم في الرواية من خلال التفاصيل. غالبًا ما نقرأ مثل هذه الروايات، حيث الحبكة المبالغ فيها، ولكن بعد الانتهاء من القراءة ينعدم الشعور بأي شيء؛ وذلك لأنها تفتقر للتفاصيل.

أذكر أمرًا شائقًا جدًّا، كان تقريبًا عام 2008م، حين ذهبت لليابان للترويج لرواية «الإخوة»، حيث قلت للصحفيين: إن ياسوناري كواباتا هو معلمي. يعتقد هؤلاء الصحفيون اليابانيون أن روايات ياسوناري كواباتا جميلة جدًّا، فعلقوا قائلين: إن رواياتك…، قلت: أتقصدون ما بها من ابتذال، إن الابتذال كذلك أسلوب للرواية، لكنهم لم يعرفوا كيف يمكنني أن أكون تلميذًا لكواباتا. لقد اعترفوا بأن الابتذال أسلوب في الرواية، في حين لم يدركوا كيف أكون تلميذًا له. أخبرتهم أنه عندما يكون لكاتب تأثير في كاتب آخر، فإنه يكون أشبه بتأثير أشعة الشمس في الأشجار. الشيء المهم، هو أن الأشجار بعدما تتعرض لأشعة الشمس، تنمو على طريقتها وليس على طريقة الشمس؛ لذا فقد علمني كواباتا لأصبح تلميذه على المنوال ذاته.

عوامل أكثر أهمية في الكتابة

ريتشارد فلاناغان: عندما شرعت في الكتابة أول مرة، شعرت بضرورة أن أتمتع بمهارة جيدة في الكتابة وكذلك قدرة على الكتابة المتعمقة. لكنني اكتشفت فيما بعد أن ثمة عوامل أكثر أهمية في الكتابة. فكل الكُتاب الناجحين لا بد أن يتمتعوا بالقدرة على نقل مكنونات صدورهم من خلال اللغة في أعمالهم. من السهل قول ذلك، لكن من الصعب القيام به في الواقع، فكثير من الكتاب يعجزون حقًّا عن التعبير عما يعتمل في صدورهم بخط أيديهم. أعتقد أن كل الكُتَّاب سيخوضون مثل هذه التجربة، والمتمثلة في محاولة استكشاف كيفية التعبير الحقيقي عن الأصوات القابعة في نفوسهم.

وفي الواقع، كم من الكُتاب على اختلافهم كان لهم تأثير في الكُتاب الآخرين. أذكر قول بورخيس: إنه سيكون لكل كاتب تأثيره الخاص. وقد كان لكافكا تأثير كبير فيّ، فقد قرأت العديد من رواياته، إحداها رواية «في مستعمرة العقاب». وتسمانيا حيث أعيش جزءٌ من المستعمرات البريطانية تاريخيًّا، وقد كانت في السابق منفًى للسجناء السياسيين والمعارضين للمملكة المتحدة؛ لذلك، فإن سكان تسمانيا ومن يعيشون على أرضها هم أحفاد المنفيين أو أحفاد السكان الأصليين، حيث تعرض السكان الأصليون تاريخيًّا للمذابح أيضًا على هذه الأرض. لقد عانى هذان الصنفان المختلفان تمامًا من البشر ويلاتٍ مختلفةً، وتأثروا هم وأبناؤهم وأحفادهم تأثرًا شديدًا على مدار مئة العام اللاحقة، وقد عشت في ظل هذا التاريخ منذ أن كنت طفلًا.

لقد أحببت رواية كافكا «في مستعمرة العقاب»، ففي هذه القصة، يلج رجلٌ مستعمرة، يُغطى جسد الشخص الذي يصل لهذا المكان بكثير من الأوشام والأنماط التي تخبرك بالجرائم التي اقترفها، لكنك لا تعرف أي جريمة قد ارتكب. عند قراءة هذا العمل، رأيت الشخصية المحورية في القصة وقد امتلأ جسده بأوشام الجرائم التي ارتكبها، بينما هو ذاته لا يفهم هذه الاتهامات، لم يسعني إلا التفكير في رقعة الأرض هذه التي عشنا عليها من الصغر للكبر وكل التجارب التي مررنا بها. أوحى إليَّ كافكا بأنه عندما تريد أن تكشف الحقيقة، فإنك لا تحتاج بالضرورة إلى الانطلاق من منظور الواقع، بل إن الكتابة أحيانًا من منظور غير واقعي تمكن من كشف الحقيقة بشكل أكثر عمقًا.

عادات الكتابة الخاصة

يو هوا: ثمة سؤال أود طرحه. بما أن رواية «الطريق الضيق لعمق الشمال» لم تكتب عن تسمانيا التي نشأت فيها، بل تناولت قصة الحرب العالمية الثانية. فأي الكتب قد تناولت من خلالها المكان الذي نشأت فيه؟

ريتشارد فلاناغان: بخلاف هذا الكتاب، فإن كتبًا أخرى مثل روايتي الأولى «موت دليل النهر»، و«صوت يد تصفق وحدها»، و«الرغبة» وغيرها من الأعمال تدور جميعها حول تسمانيا. أود أن أشرح أسلوب أو عادات الكتابة الخاصة بي أولًا. عندما أنهي عملًا وأكتب عملًا جديدًا، آمل دائمًا أن أتجاوز نفسي، حيث لا أرغب في تكرار نفسي. لكنني أعلم أن بعض الكتاب يتبعون المسار نفسه بعد كتاب أو نجاح ما. أعتقد أن كل كلمة أو عبارة نكتبها لا بد أن تنقل أفكارنا، وبطبيعة الحال فالكاتب يتمتع بمهارات كتابة رائعة لنقل صوت الحقائق، ولكن لو تشابهت الكتب كلها، فإن الحقائق الأصلية قد تستحيل أكاذيب؛ لذلك، إذا شعر الكاتب بأن الكتابة عمل سهل، فإن ما يكتبه قد لا يكون بالضرورة حقيقيًّا.

لم أكن أرغب في كتابة رواية «الطريق الضيق لعمق الشمال» في البداية.

ولكن خلال الحرب العالمية الثانية وقع أبي للأسف في أسْر القوات اليابانية، وسِيق إلى بورما لإصلاح خط سكة حديد تايلاند – بورما «سكة الموت»، ومن ثَمّ صرنا «أطفال سكة الموت». أثرت تجربة سكة حديد الموت هذه في طفولتي تأثيرًا كبيرًا، حيث سنستمع إلى والدي وهو يروي قصصه السابقة، وسيتخذ والدي جراء هذه التجربة بعض السلوكيات الغريبة، التي ينعدم على إثرها اهتمامه بالنجاحات المادية تمامًا. كنت أخشى بشدة كتابة هذه الرواية، فقد كان من الصعب كتابتها جيدًا. ولكن فيما بعد، كان ثمة صوت يتردد في أعماقي بقوة تتزايد مع مرور الوقت، فمن دون كتابتها لَمَا أمكنني كتابة عمل آخر. لقد أمضيت 12 عامًا أكتبها، وفي النهاية أنجزتها، وقد كتبت خمس مسودات للعمل، اختلفت شخصيات القصص الخمس، وكذلك تفاوتت الحبكة ومهارات الكتابة فيها جميعًا.

وعند الكتابة كان هناك صوت يتردد في داخلي ويخبرني بضرورة أن أنجز العمل في حياة أبي، حيث كان أبي طاعنًا في السن حينها، وقد صار الوقت في جَعْبته قليلًا لي وله، وهو ما أمَدَّني بدفعة جديدة للمُضيّ قدمًا في كتابة هذه الرواية.

تولَّدت لدي فكرة كتابة هذه الرواية في سيدني. كان الطقس يومها جيدًا جدًّا، وكنت أسير على جسر في ميناء سيدني، وصفحة البحر تمتد أمامي بمياهها المتلألئة، تذكرت قصة رواها لي أبي. ثمة رجل من لاتفيا، عاش في بلدتنا الصغيرة بعدما وضعت الحرب أوزارها. أُجبر هذا الرجل على مغادرة مسقط رأسه خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد الحرب وجد أن مسقط رأسه قد سُوِّيَ بالأرض، وكذلك ماتت زوجته. في البداية رفض الرجل تقبُّل حقيقة موت زوجته، وقد أمضى عامين يجول في مناطق اللاجئين المختلفة في أوربا الشرقية بحثًا عن زوجته. وفي نهاية المطاف صار مضطرًّا لتقبل حقيقة موتها، فعاد إلى بلدتنا وتزوج منها. وفي عام 1957م، جاء هذا اللاتفي إلى سيدني، وفي أحد الأيام، وفي واحد من الشوارع المزدحمة رأى زوجته التي اعتقد أنها قد ماتت بالفعل، كانت الزوجة تحمل طفلة على كل يدٍ، في تلك اللحظة، كان بحاجة ليقرر ما إذا كان سيتعرف عليها أم لا…

كان انطباعي أن هذه القصة هي أكثر قصة حب مؤثرة سمعتها منذ الطفولة، فمن خلالها، أدركت أن الحب مشروط بالفعل، ويلزم المرء دفع أثمان باهظة للحصول عليه، وغالبًا لا يُكافأ على ذلك.

وبينما كنت أسير على جسر ميناء سيدني ذلك اليوم، سار بطل القصة التي تصورتها كذلك على ذات الجسر، ليجد زوجته التي فقدها لسنوات طويلة. تخيلت وضع هذه الشخصية في ذلك الوقت، وبمجرد أن لمعت الفكرة في عقلي، ركضت مسرعًا إلى أقرب بار بجانب الجسر، لم يكن معي ورقة وقلم، فاستعرتهما من النادل، وكتبت أول مسودة على بسطة البيرة، وشكلت هذه المسودة نصًّا كان جزءًا من نسيج الرواية لاحقًا. وعلى امتداد الكتابة، كنت مرتبكًا، ومع مثل هذه الفكرة التي لمعت في عقلي، تشبثت بقصة الحب كخط أساسي، فأمكنني حقًّا كتابة القصة. بعد أن انتهيت من مسودة الكتاب، وأرسلتها للناشر، ذهبت لرؤية أبي البالغ من العمر 98 عامًا آنذاك. سألني أبي: ماذا عن كتابة الرواية؟ وفي اليوم اللاحق بعدما أخبرته بانتهائي من الكتابة، مات أبي.

معالجة كاتب كبير

يو هوا: كتب فلاناغان في نهاية الكتاب، أن عبارات الحب ليست كثيرة في نسيج الرواية، لكنها لا تُنسى. الشخصية المحورية إيفنز هو طبيب عسكري، لدية زوجة تدعى إيلا، لكن حبه الحقيقي لزوجة عمه إيمي. كانت الرسالة الوحيدة التي تلقاها إيفنز في معسكر أسرى الحرب في بورما هي صحيفة قديمة أرسلتها إليه زوجته إيلا، كُتب فيها أن النيران قد التهمت حانة عمه وفندقه، كما خدعته إيلا وادّعت أن إيمي قد ماتت مع عمه. ظل إيفنز على الاعتقاد بأن المرأة التي أحبها من شغاف قلبه قد ماتت؛ كما خُدعت إيمي وأُخبرت بأن إيفنز قد مات في الحرب. عاد إيفنز لأستراليا بعد غياب طال لسنوات، وأصبح بالفعل بطل حرب وطبيبًا مشهورًا، ليعقب ذلك مشهد جسر سيدني الذي حكاه فلاناغان، وكتبه بشكل رائع جدًّا. رأي إيفنز ذلك الرجل متوسط العمر وقد اكتنز بدنه إيمي تسير وهي تحمل بكل يد طفلة، واستقبلها. كُتبت هذه الفقرة في كلمات كثيرة، وعالجها فلاناغان جيدًا. مر الاثنان بجانب بعضهما. تأكد إيفنز تمامًا أنها إيمي، لكنه اعتقد أن الطفلتين هما ابنتاها، غير أنهما كانتا ابنتي أخيها، فقد كانت إيمي مريضة بالفعل.

لقد أحببت على وجه الخصوص استخدام فلاناغان المساحة الكبيرة والتنوع اللغوي في الوصف والتمهيد للإثارة التي انتابت إيفنز برؤية إيمي، ذلك الشعور الذي يصعب التحكم فيه، حيث سار مستقبلًا إياها تجاوزها على غير المتوقع. وتلك معالجة كاتب كبير.

ريتشارد فلاناغان: تختلف الكتابة الروائية كثيرًا عن كتابة الأخبار أو الكتابة الوثائقية. حيث يختلف الغرض من الكتابة وكذلك الغرض من القراءة. فعند الكتابة أو القراءة، نعلم جميعًا أن الرواية هي مجرد قصص، وبعض من أفكار المؤلف. على الرغم من أن الكُتَّاب يمكن أن يقدموا من خلال الروايات بعض الأجزاء المعقدة والغامضة من الحياة والمجتمع البشري، لكن الشيء الأكثر أهمية يكمن في أننا نطرح من خلالها التساؤلات من دون أن نقدم أجوبة.


المصدر: نقلًا عن «جريدة الأدب والفن 1949م»، بتاريخ 13 إبريل 2018م.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *